![البرنامج الموسوعي الجامع](http://www.ifatwa.org/wp-content/uploads/2023/07/pre.png)
فضيلة الشيخ بكري الصدفي
- أعلام الفتوى
نبذة عنه..
ولد رحمه الله بمحافظة أسيوط، وشبَّ في أسرة كريمة بصدفا، وكان أبوه الشيخ محمد عاشور الصدفي مشهورًا بالتقوى والصلاح والعلم ومن خيرة رجال العلم المشهود لهم بسعة العلم والاطلاع، فتأثر فضيلة الشيخ بكري بأبيه، وأخذ عنه الكثير من علمه وفضله، وبعد أن حفظ القرآن الكريم، وأتقن تجويده التحق بالأزهر الشريف، واستمر يدرس حتى نال الشهادة العالمية من الدرجة الأولى سنة 1389ه.
المنهج الإفتائي
تميز الإمام رحمه الله بسمات أصيلة أثرت في تراثه الإفتائي، فعند استقرائنا للكثير من فتاويه، والبالغة (1180) فتوى مسجلة بسجلات دارالإفتاء المصرية يتبين لنا ولكل مَن طالع تراثه الإفتائي تلك السمات بوضوح وهي:
من السمات الغالبة على الشيخ رحمه الله أنه كان يقتصر في إجابته على الفتوى على بيان الحكم الشرعي وفقًا للمذهب الحنفي مجردًا عن الأدلة، والأمثلة على ذلك من فتاويه كثيرة جدًّا، ومنها:
- فتواه عن صحة نكاح بوكيل وهذا نص الفتوى:
تزوج رجل على يد مأذون شرعي بحضور الشهود ببكر عاقل بالغ، ولم يحضر العقد أحد من أولياء أمورها الموجودين على قيد الحياة (أخوة لأب) وحضر زوج أمها وكيلا عنها كما أن الزوج المذكور كفء لها وبمهر المثل، فهل هذا النكاح صحيح أم لا؟
فأجاب رحمه الله: إذا صدر هذا النكاح بإيجاب وقبول شرعيين وكان من كفء وبمهر المثل وبحضور شهود شرعيين كان صحيحًا شرعًا؛ فنفذ نكاح حرة مكلفة توقف على رضا ولي، ففي التنوير وشرحه ما نصه بلا رضا ولي انتهى. والله تعالى أعلم.
وفتواه في الاختلاف بين الورثة وزوجتين على الأثاث الذي اشتراه الزوج لمنزل الزوجية وهذا نص الفتوى:
جدد رجل لزوجته مفروشاتها وزاد عليها من نحو كتب وأبسطة وستائر وخلافه، وقد توفي هذا الزوج وعليه دين من ثمن المفروشات التي جددها وحصل نزاع بين أولاده الكبار وبين زوجة أخرى وبين زوجته في الأشياء المذكورة فأولاد الزوج يدعون أنها ملك لمورثهم والزوجة تدعي بأنها ملك لها. فهل تعتبر الأشياء المذكورة جميعها تركة عن الزوج يقضى منها دينه الذي في ذمته أو تكن ملكًا للزوجة خاصة؟
فأجاب رحمه الله: حيث كان الأمر كما ذكر تكون دعوى الزوجة أن زوجها المذكور ملكها بهذا الأشياء على وجه ما ذكر متضمنة للاعتراف منها بأنها كانت ملكا له ثم ملكها لها.
وفي هذه الحالة يكون ذلك من قبيل دعواها انتقال الملك لها بعد وقوعه للزوج فلابد من إقامة البينة على ذلك عند التجاحد على يد الحاكم الشرعي “انظر: الدر المختار للحصكفي (3 / 55) ولا تكون هذه الحادثة من فروع مسألة ما إذا اختلف ورثة أحد الزوجين مع الحي منهما حتى يأتي ما جاء في ذلك من البيان والتفصيل.
ففي رد المحتار عن البدائع عند الكلام على مسألة الاختلاف في متاع هذا كله إذا لم تقر المرأة أن هذا المتاع اشتراه فإن أقرت: البيت ما نصه بذلك سقط قولها لأنها أقرت بالملك لزوجها ثم ادعت الانتقال إليها فلا يثبت الانتقال إلا بالبينة” انتهى. هذا ما فهمته وظهر لي في جواب هذه الحادثة. والله تعالى أعلم.
فمن السمات الغالبة على الشيخ رحمه الله أنه كان يكثر من الاستشهاد بنقول من كتب المذهب الحنفي تشهد للحكم المذكور، والأمثلة على ذلك من فتاويه كثيرة جدًّا، ومنها:
فتواه عن الحلف بغير الله وهذا نص الفتوى: –
من حضرة أحمد أفندي حمدي بنظارة الداخلية في أميرة تغيرت على إحدى السيدات المتصلات بها، فحلفت يمينًا بالصيغة الآتية: وحياة النبي والبخاري لا ترى وجهي بعد الآن. فهل هذه اليمين تمنع الأميرة من أن ترى السيدة المحلوف عليها كما كانت من قبل، وإذا كانت اليمين تمنع فما كفارتها إن رضيت الأميرة عن المحلوف عليها وتريد التكفير عن يمينها، أفيدوا الجواب ولكم الثواب؟
فأجاب: في رد المحتار عن الهداية ما نصه من كان منكم يكن حالفًا كالنبي والكعبة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام حالفًا فليحلف بالله أو ليذر.
ومن ذلك يعلم أن ما صدر من هذه الأميرة في حادثة السؤال لا يمنعها من أن ترى المحلوف عليها كما كانت من قبل؛ لأن ذلك ليس يمينًا شرعًا. والله تعالى أعلم.
كان الشيخ رحمه الله يراعي العرف ما لم يعارض نصًّا شرعيًّا، ومن الأمثلة على ذلك:
فتوى وردت إلى فضيلته من الشيخ بشري عبد القادر في واقف وقف على طائفة معلومة، وهم الجبرتية المجاورون بالمدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، وشرط في وقفه المذكور ثمانية عشر نفرًا من حملة القرآن من الطائفة المذكورة، يقرأ كل منهم جزءًا من القرآن العظيم كل يوم، ويهدون ثواب ذلك لروح الواقف، وأطلق ولم يقيد القراءة بالنظر في المصحف الشريف ولا بمن يقرأ غيبًا، ومضى على ذلك تعامل النظار عصرًا بعد عصر يقرءون في المصحف، وبموت واحد منهم يتوظف الآخر من الطائفة المذكورة من تاريخ وقف الواقف، ولا سمعنا معارضًا ولم نرَ إلى وقتنا هذا باطلاع المسلمين والقضاة ومدير الحرم الشريف، وذلك يطلع على المحاسبة يقرأ الثمانية عشر نفرًا المذكورون بالنظر في المصحف على التعامل القديم في البلدة الشريفة كما يقرءون الختمات الموجودة في الحرم الشريف، ختمة السلطان وغيرها، يقرءون بالنظر لا بالغيب، وذلك هو ما كان عليه العمل زمن الواقف وعرفه، وكانت القراءة بالمصاحف وبعده في بلادنا حتى الآن، فإذا جاء معترض على الطائفة المذكورة وقال: المراد بحملة القرآن من يقرأ بالغيب بشرط أن يكون حافظًا للقرآن كله، وغرضه من ذلك حرمان طائفة الجبرتية من وقفية الواقف وإعطاؤه لآخرين، فهل تسمع دعواه بعد هذه المدة الطويلة ويجوز للقاضي أن يحكم بذلك أم لا؟
فأجاب رحمه الله: متى كان عُرف الواقف في هذه الحادثة أن حملة القرآن من يقرءون القرآن مطلقًا ولو بالنظر في المصحف اتبع ذلك ولا يجوز مخالفته، والله تعالى أعلم.
وفتواه حين سئل عن رجل من أرباب الأملاك كان مرتبا لأحد أولاده مبلغا في كل شهر فمن مدة حصل من أبيه حقد وغضب على ابنه بسبب اقترافه ما لا يليق به ولا بأبيه المذكور وحلف بالطلاق ثلاثا ألا يدفع له ما كان مرتبا إلا بحكم قهري فهل لو ح ا ك م الرجل المذكور وابنه رجلا مستوفيا شرائط التحكيم وحكم بعد تحكيمها له لابنه المذكور يبر الرجل المذكور في يمينه المذكور إذا استوفى التحكيم والحكم شرائطهما الشرعية أو ما الحكم أفيدوا الجواب.
والأصل أن الأيمان عندنا مبنية على العرف.
فأجاب: في شرح الدر لم ينو ما يحتمله اللفظ إذا علمت ذلك ظهر لك أن قاعدة بناء الأيمان على العرف معناها أن المعتبر هو المعنى المقصود في العرف من اللفظ المسمى وإن كان في اللغة أو في الشرع أعم من المعنى المتعارف انتهى. وعليه فيقال في حادثة هذا السؤال إن نوى الحالف بالحكم القهري ما يشمل حكم المحكم أو لم تكن له نية واقتضاه العرف لا مانع من العمل بمقتضاه ويبر الحالف المذكور في يمينه بدفع المرتب المذكور بحكم المحكم متى كان مستوفيا شرائط الصحة الشرعية فإن حكم المحكم ملزم كما صرحوا به والله تعالى أعلم.
كان الشيخ رحمه الله يستند في عدد من الفتاوى إلى القواعد الفقهية، ومن هذه القواعد:
“الضرر يزال”، وأنه “يرتكب أخف الضررين لدفع أشدهما”.
ومن الأمثلة على ذلك:
فتوى وردت إلى فضيلته من الشيخ يوسف سليمان من طلبة رواق الأتراك بالأزهر في رجل بنى بيتًا مشرفًا على دار جاره الملاصقة، وفتح للبيت نوافذ وشبابيك تطل على قصر حرم جاره ونسائه، حتى تعذر على أهل الجار وحريمه إدارة حركات البيت وشئونه.
فهل يسوغ الشرع الشريف لذلك الجار أن يجبر صاحب البيت المشرف على سد نوافذ بيته وشبابيكه المطلة على مقر حرمه وأهله أفيدوا الجواب؟
فأجاب: في فتاوى تنقيح الحامدية ما نصه سئل في رجل أحدث في داره طبقة وقصرًا لهما شبابيك وباب، وأحدث مشرفة أيضًا، وصار يشرف من ذلك كله على حريم جاره ومحل جلوسهن وقرارهن إذا صعد لذلك، وطلب الجار س ا د الشبابيك والباب ومنعه من الصعود للمشرفة، فهل يجاب الجار إلى ذلك؟ الجواب: نعم. انتهى.
ولا يمنع الشخص من تصرفه في ملكه إلا إذا كان الضرر بجاره ضررًا بينًا، فيمنع من ذلك، وعليه الفتوى. بزازية. واختاره في العمادية، وأفتى به قارئ الهداية حتى يمنع الجار من فتح الطاقة، وهذا جواب المشايخ استحسانًا.
ومن ذلك يعلم أنه متى كان الأمر كما ذكر في هذا السؤال يجبر ذلك الرجل على سد نوافذه وشبابيكه المذكورة بالطريق الشرعي حيث كان الضرر بينًا، والضرر البين يزال. والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.
ومن أمثلة ذلك:
فتوى وردت إلى فضيلته عن شخص تعاقد في حال حياته مع إحدى شركات التأمين على مبلغ يدفع إن توفي لولد وابنتين له مثالثة بينهم، وذلك في مقابل مبلغ كان يدفعه للشركة من ماله الخاص، ولما مات كانت وفاته عن أولاده الثلاثة المذكورين، وبنت رزق بها بعد التعاقد، وزوجة هي أمهم، فهل المبلغ يعتبر تركة توزع على الورثة بحسب الفريضة الشرعية، أو يكون المبلغ لمن تعاقد مع الشركة على إعطائه لهم فقط؟
فأجاب: الذي يقتضيه الحكم الشرعي في ذلك: أن التعاقد المذكور ليس من التصرفات الشرعية حتى يترتب عليه أن يعتبر ذلك المبلغ تركة توزع بين الورثة بحسب الفريضة.
نعم المقدار الذي كان يدفعه المتوفى المذكور سنويًّا باسترداده من الشركة يقسم بين الورثة بالفريضة الشرعية، وأما ما زاد على ذلك فإن حصل اتفاق من الشركة والورثة على قسمته بين الورثة بحسب الفريضة الشرعية أيضًا بصرف النظر عن ذلك التعاقد ويعتبر كأنه مبلغ تبرع ابتداء فليس في الشرع ما يمنعه.
هذا وفي تنقيح الحامدية ما نصه: سئل فيما إذا كان زيد يدفع لعمرو في كل سنة مبلغًا من الدراهم ظانًّا أن ذلك حق عمرو المدفوع له، ومضى لذلك سنون وهما على ذلك، ثم تبين أن ذلك لم يكن حق عمرو بل حق زيد الدافع، ويريد زيد الرجوع على عمرو بنظير ما دفعه له في المدة بعد ثبوت ما ذكر بالوجه الشرعي، فهل له ذلك؟ الجواب: نعم والله سبحانه وتعالى أعلم. انتهى هذا ما ظهر في الجواب.
السيرة الذاتية
كلف فضيلته بالتدريس في الأزهر من فضيلة الشيخ/ محمد المهدي العباسي شيخ الأزهر وقتها، بالإضافة إلى حلقات الدروس التي كان يلقيها على تلاميذه في منزله المجاور للجامع الأزهر، ثم عُين موظفًا بالقضاء، وأخذ يتدرج في المناصب القضائية حتى شغل معظمها.
وبدأ حياته الوظيفية من باب الإفتاء عندما صدر قرار من الداخلية لمجلس حسبي مصر في الرابع من جمادى الآخرة سنة 1295 ه بتعيين الشيخ بكري مفتيًا للمجلس الحسبي ومصلحة بيت المال للنظر فيما يتوقع من المسائل.
وقد ترك هذه الوظيفة عندما صدر الأمر العالي بإلغاء أقلام بيت المال في 13 جمادى الآخرة سنة 1314 ه/ 19 نوفمبر سنة 1896 م، وتشكيل مجالس حسبية في الأقاليم؛ فكان هو آخر من شغل منصب الإفتاء ببيت المال والمجالس الحسبية.
وفي 18 رمضان سنة 1323 ه / 15 نوفمبر 1905 م عُين فضيلته مفتيًا للديار المصرية بعد فضيلة الإمام الشيخ محمد عبده، واستمر يشغل هذا المنصب حتى 4 من صفر سنة 1333 ه/ 21 ديسمبر 1914 م، أصدر خلالها (1180) فتوًى مسجلةً بسجلات دار الإفتاء.
وكان الشيخ الصدفي رحمه الله ممن لا يتأثر برأي حاكم أو سلطان ولا يخاف إلا الله، فقد حدث في يوم 20 فبراير عام 1910 م أن قام شابٌّ يدعى إبراهيم الورداني بأولى عمليات الاغتيال السياسي لرموز الحكم في الدولة منذ عملية اغتيال الجنرال كليبر في يونيو عام 1800 م حيث اغتال بطرس غالي رئيس وزراء مصر. وقد حقق عبد الخالق باشا ثروت الذي كان يشغل في ذلك الوقت منصب النائب العام في القضية، وأمام المحكمة طالب بالإعدام للورادني، ثم أرسلت أوراق القضية إلى المفتي الذي كان وقتها هو لإبداء رأيه فيها، لكن المفتي أخذ بوجهة نظر الدفاع » بكري الصدفي « الشيخ القائلة باختلال قوى المتهم العقلية وضرورة إحالته إلى لجنة طبية لمراقبته.
لكن لم تأخذ المحكمة برأي المفتي، وكانت سابقة من نوعها أن يعترض وفي “دولبر وجلي” المفتي على حكم محكمة الجنايات برئاسة الإنجليزي يوم 18 مايو 1910م أصدرت محكمة الجنايات حكمها بالإعدام على الورداني، وفي صباح يوم 28 يونيو 1910 م تم تنفيذ الحكم.
نظرًا لانشغاله بالتدريس والقضاء لم يترك إلا عددًا من الأبحاث التي لم تنشر حتى الآن.
انتقل فضيلته إلى رحمة الله تعالى في شهر مارس سنة 1919م.