البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الباب الخامس: الفتوى واجتماعيات الأسرة.

الفصل الأول: صلة الرحم.

108 views

معنى الرحم من حيث اللغة، وشمولها لكل قرابات الفرد من جهة الأب أو الأم، وإليه ذهب الاصطلاح الشرعي؛ ويدل عليه ما رواه عبد الله بن دينارٍ عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رجلًا من الأعراب لقيه بطريق مكة، فسلم عليه عبد الله بن عمر، وحمله على حمار كان يركبه، وأعطاه عمامة كانت على رأسه، قال ابن دينارٍ: فقلنا له: «أصلحك الله إنهم الأعراب وهم يرضون باليسير، فقال عبد الله بن عمر: إن هذا كان ودًّا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أبر البرِّ صلة الرجل أهل ودِّ أبيه»([1]).

ومعنى صلة الرحم في اصطلاح الشرع: «هي إسداء البر والخير والمعروف وأداء الحقوق والواجبات والمندوبات لذوي القربى قبل غيرهم من سائر الناس»، فـ«صلة الرحم»: كناية عن الإحسان إلى الأقربين من ذوي النسب والأصهار، والتعطّف عليهم والرفق بهم والرعاية لأحوالهم، حتى وإن بعدوا وأساءوا، وقطع الرحم قطع ذلك كله؛ ويدلّ عليه حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال فذلك»، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرءوا إن شئتم: {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم}[محمد: 22، 23]» ([2]).

وصلة الرحم واجبة في الجملة، وقطيعتها حرام باتفاق وكبيرة عند بعض الفقهاء، والصلة درجات بعضها أرفع من بعض، وأدناه صلتها بالكلام ولو بالسلام، وصلة الرحمن بالنسبة للأبوين واجبة وصلة غيرهما من الأقارب سنة، وصلة الأم مقدمة على صلة الأب بالإجماع، وصلة الابن المسلم لأبويه الكافرين مندوبة لقوله تعالى: {وصاحبهما في الدنيا معروفًا} [لقمان: 15].

ودرجات الصلة تتفاوت بالنسبة للأقارب، فهي في الوالدين أشد من المحارم، وفيهم أشد من غيرهم، وليس المراد بالصلة أن تصلهم إن وصلوك؛ لأن هذا مكافأة، بل أن تصلهم وإن قطعوك.

وتحصل صلة الأرحام بجميع أنواع الإحسان مما تتحقق به الصلة ومنها: الزيارة، والمعاونة، وقضاء الحوائج، والسلام، وتحصل الصلة بالكتابة إن كان غائبًا، وهذا في غير الأبوين، أما ما فلا تكفي الكتابة إن طلبا حضوره. وكذلك بذل المال للأقارب، فإنه يعتبر صلة لهم، والغني لا تحصل صلته بالزيارة لقريبه المحتاج بل يبذل المال له بقدر استطاعته.

وقطع الرحم يكون بالإساءة إلى الأرحام، أو بترك الإحسان، فقطع المرء ما ألفه قريبه منه من سابق الصلة والإحسان لغير عذر شرعي يصدق عليه أنه قطع رحمه، وقد عده بعضهم كبيرة. والأعذار تختلف بحسب نوع الصلة([3])

ويدل على هذه الأحكام الكثير من النصوص الشرعية ومنها: قال الله تعالى: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا وبالوالدين إحسانًا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالًا فخورًا} [النساء: 36]، وقال تعالى: {واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبًا} [النساء: 1]، وقال تعالى: {والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب} [الرعد: 21]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليصل رحمه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمت»([4])، وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أحب أن يبسط به في رزقه، ويُنسأ([5]) له في أثره، فليصل رحمه»([6])، وعنه رضي الله عنه قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالًا من نخلٍ، وكان أحب أمواله بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها، ويشرب من ماءٍ فيها طيبٍ، فلما نزلت هذه الآية: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [آل عمران: 92]، قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا رسول الله، إن الله تبارك وتعالى يقول: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}، وإن أحب مالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله تعالى، أرجو برها وذخرها عند الله تعالى، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله»، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بخٍ، ذلك مالٌ رابحٌ، ذلك مالٌ رابحٌ، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين»، فقال أبو طلحة: «أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه»([7])، وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الرحم معلقةٌ بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله»([8])، وعن أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث -رضي الله عنها- أنها أعتقت وليدةً ولم تستأذن النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه، قالت: «يا رسول الله، إني أعتقت وليدتي؟» قال: «أو فعلت؟» قالت: «نعم» قال: «أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك»([9])، وعن أبي سفيان صخر بن حربٍ رضي الله عنه في حديثه الطويل في قصه هرقل أن هرقل قال لأبي سفيان: «فماذا يأمركم به؟» يعني النبي صلى الله عليه وسلم قال: قلت: يقول: «اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة، والصدق، والعفاف، والصلة»([10])، وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ستفتحون مصر وهي أرضٌ يسمى فيها القيراط، فاستوصوا بأهلها خيرًا، فإن لهم ذمة ورحمًا»، وفي روايةٍ: «فإذا افتتحتموها، فأحسنوا إلى أهلها، فإن لهم ذمةًّ ورحمًا»، أو قال: «ذمة وصهرًا»([11])، قال العلماء: الرحم التي لهم كون هاجر أم إسماعيل صلى الله عليه وسلم منهم، «والصهر»: كون مارية أم إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم، وعن أبي أيوب خالد بن زيدٍ الأنصاري رضي الله عنه أن رجلًا قال: «يا رسول الله، أخبرني بعملٍ يدخلني الجنة، ويباعدني من الناء»، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتُؤتي الزكاة، وتصل الرحم»([12])، وعن سلمان بن عامر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الصدقة على المسكين صدقةٌ، وعلى ذي الرحم ثنتان: صدقةٌ وصلةٌ»([13]).

من هنا تُعلم أهمية صلة الرحم وضرورة إحسان هذه الصلة، والتحذير الشديد من قطعها؛ قال الله تعالى: {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم ، أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم} [محمد: 22، 23]، وقال تعالى: {والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يُوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار} [الرعد: 25]، وعن أبي محمد جبير بن مطعم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة قاطعٌ([14])»([15]).

وقد جعل الإسلام لصلة الرحم أولوية في التكافل الاجتماعي وأنها أساس البناء الاجتماعي، واعتبرها أعمق وأهم الروابط المجتمعية التي تعمل على تماسك المجتمع واستمراريته، فكان من الضروري الإبقاء على قدر مناسب من أواصر المودة وحسن الصلة والمعاشرة بالمعروف، وعدم التنكر لصلة الرحم مهما بلغت أسباب التنازع واختلاف المذهب والمعتقد، قال الله تعالى: {ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنًا على وهنٍ وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير ، وإن جاهداك على أن تُشرك بي ما ليس لك به علمٌ فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفًا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون} [لقمان: 14، 15].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلًا قال: «يا رسول الله، إن لي قرابةً أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي»، فقال: «لئن كنت كما قلت، فكأنما تسفهم المل([16])، ولا يزال معك من الله ظهيرٌ عليهم ما دمت على ذلك»([17])، وعن أسماء بنت أبي بكرٍ الصديق -رضي الله عنهما- قالت: قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: قدمت علي أمي وهي راغبةٌ([18])، أفأصل أمي؟ قال: «نعم، صلي أمك»([19]).

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها»([20]).

 

([1]) أخرجه مسلم (2552).

([2]( تقدم تخريجه.

([3]) ينظر: ميثاق الأسرة في الإسلام (ص364).

([4]) تقدم تخريجه.

([5]) ومعنى «ينسأ له في أثره»: أي: يؤخر له في أجله وعمره.

([6]) متفق عليه؛ أخرجه البخاري (2067)، ومسلم (2557).

([7]) متفق عليه؛ أخرجه البخاري (1461)، ومسلم (998).

([8]) متفق عليه؛ أخرجه البخاري (5989)، ومسلم (2555).

([9]) تقدم تخريجه.

([10]) تقدم تخريجه.

([11]) تقدم تخريجه.

([12]) متفق عليه؛ أخرجه البخاري (1396)، ومسلم (13).

([13]) أخرجه الترمذي وحسنه (658).

([14]) يعني: قاطع رحم.

([15]) متفق عليه؛ أخرجه البخاري (5984)، ومسلم (2556).

([16]) و«تسفهم»: بضم التاء وكسر السين وتشديد الفاء، و«المل»: بفتح الميم وتشديد اللام وهو الرماد الحار: أي كأنما تُطعمهم الرماد الحار وهو تشبيهٌ لما يحلقهم من الإثم بما يلحق آكل الرماد من الإثم، ولا شيء على المحسن إليهم، لكن ينالهم إثمٌ عظيمٌ بتقصيرهم في حقه، وإدخالهم الأذى عليه، والله أعلم.

([17]) أخرجه مسلم (2558).

([18]) وقولها: «راغبة» أي: طامعةٌ عندي تسألني شيئًا.

([19]) متفق عليه؛ أخرجه البخاري (2620)، ومسلم (1003).

([20]) أخرجه البخاري (5991).

اترك تعليقاً