البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الفصل الأول: التعريف بالسياسة الشرعية وأسسها ومجالاتها

المبحث الأول: التعريف بالسياسة الشرعية

79 views

المطلب الأول: تعريف السياسة الشرعية باعتبار مفرداتها.

يتكون مصطلح السياسة الشرعية من لفظتين: الأولى: السياسة، وهي مــشتقة مــن مــادة (ســوس) يقــال: سُسْتُ الرَّعِيَّةَ سِياسَةً، وسُوِّسَ الرجلُ أُمور النَّاسِ، على ما لم يسم فاعله إذا ملك أمرهم، ويروى قول الحطيئة:

لقد سُوِّسْتَ أَمرَ بَنِيك حتى ….. تركتَهُمُ أدَقَّ من الطحين.

ويقال: سَوَّسَه القومُ، أي: جعلوه يـسوسهم، سُوِّسَ فلانٌ أَمرَ بَنِي فُلَانٍ أَي كُلِّف سِياستهم.

وفي الحـديث: «كانت بنـو إسـرائيل تـسوسهم الأنبيـاء»: أي تتـولى أمـورهم كما يفعل الأمراء والولاة بالرعية.

والــسياسة: فعــل الــسائس، يقــال: هــو يــسوس الــدواب إذا قــام عليهــا وراضــها، والوالي يسوس رعيته، قال أبـو زيـد: سـوس فـلان لفـلان أمـرًا فركبـه كمـا يقـول: سـول لــه وزيــن لــه، وقــال غيــره: ســوس لــه أمــرًا، أي: روَّضــه وذلَّلَه([1]).

وقــال الزبيــدي: السياسة: القيام على الشيء بما يصلحه([2]).

فــالملاحظ مــن المفهــوم اللغــوي للــسياسة أنهــا غيــر منحــصرة علــى الدولــة أو أمور الحكم بل شاملة لكل شيء فيه إصلاح للناس.

واللفظة الثانية: هي «الشرعية»، وهي الجزء الثاني من العنوان، وهذه الكلمة مادتها الأصلية (شرع)، وهي وما يشتق منها من مصطلحات الشرع والشريعة والشِّرعة ونحوها تطلق في اللغة على معنيين:

أحدهما: الطريق المستقيمة، ومن ذلك قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلۡنَٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ فَٱتَّبِعۡهَا} [الجاثية: 18].

والثاني: مورد الناس للاستسقاء، سمي بذلك لوضوحه وظهوره وحاجة الناس إليه.

وتجمع الشريعة على شرائع، والشرع مصدر شَرَع أو شرَّع بمعنى وضَّح وأظهر، وقد غلب استعمال هذه الألفاظ في الدين وجميع أحكامه.

قال تعالى: {۞شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِۦ نُوحٗا وَٱلَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ} [الشورى: 13]، وقال: {لِكُلّٖ جَعَلۡنَا مِنكُمۡ شِرۡعَةٗ وَمِنۡهَاجٗا} [المائدة: 48].

ويراد بالشريعة الإسلامية كل ما شرعه الله للناس، سواء أكان بالقرآن الكريم أم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير؛ لأن ذلك راجع إلى الوحي، فقد قال تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلۡهَوَىٰٓ٣ إِنۡ هُوَ إِلَّا وَحۡيٞ يُوحَىٰ} [النجم: 3، 4]، وقال: {مَّن يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدۡ أَطَاعَ ٱللَّهَ} [النساء: 80]. والنصوص الدينية من القرآن والسنة في هذا المعنى كثيرة.

وعلى ذلك فلفظة «الشرعية» تعني ما كان مطابقًا لمقتضيات الشرع.

 

 

 

المطلب الثاني: تعريف السياسة الشرعية باعتبارها مصطلحًا ولقبًا لعلم معين.

إن السياسة الشرعية التي نتحدث عنها هنا والتي ذكرها علماؤنا قديمًا وحديثًا وصنفوا فيها المصنفات ووضعوا لها الأحكام نقصد بها على البديهة تلك السياسة القائمة على قواعد الشرع وأحكامه وتوجيهاته، إذ ليست كل سياسة متبعة عبر العصور والبيئات تكون شرعية، فالكثير منها قد يعادي الشرع أو على أقل تقدير لا يبالي به، وإنما تمضي في طريقها وفق تصورات أصحابها وأهوائهم دون التفات لقبول الشرع لها أو رفضه، فمنهم من يحكِّم فلسفات وأفكارًا أو أيديولوجيات بعينها يستند إليها، ومنهم من يحكم تقاليد ورثها عمن سبقه من آباء أو زعماء دون أن يسأل نفسه إذا كانت موافقة للشرع أم مخالفة، فمثل هذه السياسات لا يمكن أن تعتبر سياسة شرعية، إنما السياسة الشرعية هي التي تتخذ من الشرع منطلقًا لها ترجع إليه وتستمد منه.

ومن يدقق في الدراسات ذات الصلة بمصطلح السياسة الشرعية في القديم والحديث يلحظ بوضوح أنه من المصطلحات التي لم تُستعمل للدلالة على أمر واحد، بل مرَّ بمدلولات عدة نتيجة تطور مفهومه عند الفقهاء تبعًا لمعاناة نقله من التطبيق إلى التنظير، ونتيجة إطلاقه على أنواع من العلوم عند من كتبوا في غير الأحكام الشرعية، فضلًا عن أن لفظ السياسة قد استعمل في اللغة على أكثر من معنى، ولذلك وجدنا في نهاية الأمر مفهوم السياسة الشرعية يطلق على معنيين:

الأول: المعنى العام، الذي يراد به تدبير أمور الناس وشؤون دنياهم لشرائع الدين، حتى لقد عرف علماؤنا القدامى الخلافة أو الإمامة بأنها: نيابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حراسة الدين وسياسة الدنيا به.

وبهذا المفهوم يكون مصطلح السياسة الشرعية مرادفًا لمصطلح الأحكام السلطانية أو مساويًا له في المعنى؛ لأنها اسم للأحكام والتصرفات التي تُدبَّر بها شؤون الدولة الإسلامية في الداخل والخارج وفق الشريعة الإسلامية، سواء كان مستند هذه الأحكام نصًّا جزئيًّا متعينًا أو إجماعًا أو قياسًا، أو كان مستنده قاعدة شرعية عامة، وعليه فالسياسة الشرعية بالمعنى العام تشمل: الأحكام والتصرفات التي تُدبَّر بها شؤون الأمة في حكومتها وتنظيماتها وقضائها وسلطتها التنفيذية والإدارية وعلاقتها بغيرها من الأمم في البلاد الإسلامية وخارجها، سواء كانت هذه الأحكام مما ورد به نص تفصيلي جزئي خاص، أو مما لم يرد به نص تفصيلي جزئي خاص، أو كان من شأنه التبدل والتغير تبعًا لتغير مناط الحكم في صور مستجدة.

والثاني: معنى خاص، مندرج في السياسة الشرعية بالمعنى العام (الأحكام السلطانية)، واندراجه فيها من جهة طبيعة الأحكام وأصول تشريعها، إذ يُلمَح في أفراد مسائلها عدم ثبات الحكم تبعًا لاختلاف مناطه.

وقد تختص بعض المذاهب الفقهية بمدلولات أخص، كإطلاق السياسة الشرعية على الطرق الحُكمية في القضاء عند الحنابلة، وإطلاقها على التعازير عند الحنفية، وهذا يمكن وصفه بالمعنى الأخص للسياسة الشرعية لكنه في حقيقة الأمر لا يخرج عن المعنى الخاص هنا([3]).

وباستقراء خاص لجملة تعريفات السياسة الشرعية التراثية وتعريفات أهل العلم من المعاصرين، واستقراء مضامين كتبها التراثية استخلص بعض المعاصرين تعريف السياسة الشرعية بأنها: «كل ما صدر عن أولي الأمر من أحكام وإجراءات منوطة بالمصلحة فيما لم يرد بشأنه دليل خاص متعين دون مخالفة للشريعة»([4]).

وهذا تعريف يحتاج إلى شرح، وبيان لمحترزاته، وذلك على النحو التالي:

فقوله: (ما صدر عن أولي الأمر): تعريف للسياسة الشرعية ببيان جهة الاختصاص بالنظر في مسائلها والحكم بها، وهم (أولو الأمر): العلماء والأمراء. قال ابن القيم رحمه الله: «والتحقيق أنَّ الأمراء إنَّما يُطاعون إذا أمروا بمقتضى العلم، فطاعتهم تبع لطاعة العلماء، فإنَّ الطاعـة إنما تكون في المعـروف وما أوجبه العلم، فكما أن طاعة العلمـاء تبع لطاعـة الرسول فطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء»([5]). فذكْرُهم هنا لبيان جانب السلطة في السياسة الشرعية، وعلى فرض بلوغ الأمير درجة الاجتهاد تبقى السياسة في جانب الشورى وما يتفرع عنها من أحكام.

وعليه: فالسياسة الشرعية ليست محصورة فيما يصدر من حاكم، بل تشمل بعض فتاوى المفتين من غير أهل الولاية المنصوبين، فإنها قد تكون من باب السياسة الشرعية، كما أشار إلى ذلك بعض العلماء، ومن ذلك قول عبد الواحد بن الحسين الصيمري رحمه الله (ت 386هـ): «إذا رأى المفتي المصلحة أن يفتي العامي بما فيه تغليظ، وهو مما لا يعتقد ظاهره، وله فيه تأويل، جاز ذلك زجرًا له»([6])، وهذا من لُب السياسة بمعناها الخاص.

– وقوله: (من أحكام وإجراءات) تعريف للسياسة ببيان شمولها لناحيتين: نظرية، وتطبيقية.

فالأولى: ما يلزم سياسةً من فِعْلٍ أو تَرْكٍ، سواء كانت في شكل أنظمة وقوانين، أو فتوى، أو غيرها، وهي المعبَّر عنها بـ(الأحكام).

والثانية: ما كان محل فعل وتنفيذ، وحركة وتدبير، وهي المعبَّر عنها بـ(الإجراءات) أو الآليات.

– وقوله: (منوطة بالمصلحة) بيان لارتباط السياسة الشرعية بمراعاة المصلحة على اختلاف مستنداتها شرعًا، وأنَّ مجالها: الأحكام المعَلَّلَة، ومن ثمَّ فلا بد أن تصدر عن اجتهاد شرعي، وعليه فهو قيد يخرج به ما يلي:

1) أحكام العبادات والمقَدَّرات، ومن باب أولى مسائل الاعتقاد؛ فليست مجالًا للسياسة الشرعية من حيث هي.

2) الأحكام والإجراءات الصادرة عن جهل وهوى، فليست من أحكام السياسة الشرعية، لكنها لو وافقت أحكام السياسة الشرعية جازت نسبتها إليها، مع إثم مُصدِرهـا؛ لتصرفه عن جهـل وهوى.

– وقوله: (فيما لم يرد بشأنه دليل خاص مُتَعَيِّن) قيد يُخرج الأحكام التي ورد بشأنها دليل خاص مُتَعَيِّن، فكلمة (دليل) تشمل النص والإجماع والقياس، فالدليل هنا يقابل (الاستدلال بطرائق الاستنباط أو ما يعرف بالأدلة المختلف فيها).

وكلمة (خـاص) أي: بحكم المسألة محل النظر بأن يثبت في حكمها دليل جزئي تفصيلي، فما كان شأنه كذلك فليس من مسائل السياسة الشرعية.

وكلمة (مُتَعَيِّن) تُخرج المسائل الثابتة اللازمة التي لا تتغير أحكامها بحال، إذ إنَّها مُتَعَيِّنة الحكم، ليس أمام أولي الأمر سوى تنفيذها. كما يدخل بهذه نوعان من المسائل هما:

1) المسائل التي ثبت في حكمها أكثر من وجه؛ لوجود دليل خاص لكل وجه، بحيث يُخَيَّر أولو الأمر بينها، تبعًا للأصلح، كالقتل والمنِّ والفداء في مسألة الأسرى.

2) المسائل التي ورد في حكمها دليل خاص، لكنَّ مناط الحكم فيها قد يتغيَّر، ومن ثم تتغير الأحكام تبعًا لذلك، كالمسألة التي يجيء حكمها موافقًا لعرف موجود وقت تَنَزُّل التَّشريع، أو مرتبطًا بمصلحة وعلَّة مُعَيَّنة، فيتغيَّر العرف أو تنتفي المصلحة، ومن ثم يتغير الحكم تبعًا لذلك، لا تغيُّرًا في أصل التشريع، كانتفاء علة التأليف في حال قوة الدولة الإسلامية وانتفاء وجود المصلحة في التأليف عن بعض من كانوا من المؤلفة قلوبهم في حال الضعف ووجود مصلحته.

– وقوله: (دون مخالفةٍ للشريعة) قيد مهم، يُخرج جميع أنواع السياسات المنافية للشريعة، فليست من السياسة الشرعية في شيء.

وعُبِّرَ بنفي المخالفة؛ لأنَّه المعنى الصحيح لموافقة الشريعة، فإنَّ ما جاءت به الشريعة وما ثبت عدم مخالفته لها هو في الحقيقة موافق لها، الأول من جهة النصوص، والثاني من جهة القواعد والأصول. فعدم مناقضة روح التشريع العامة والمقاصد الأساسية، والأصول الكليَّة -ولو لم يرد بها نص خاص بعينه- هو ضابط السياسة الشرعية، الذي يميزها عن غيرها من السياسات([7]).

 

 

 ([1]) انظر: لسان العرب لابن منظور (6/ 108)، مادة «سوس».

 ([2]) انظر: تاج العروس لمرتضى الزبيدي (16/ 157)، مادة «سوس».

 ([3]) انظر: أضواء على السياسة الشرعية للدكتور سعد بن مطر العتيبي (ص17- 20)، دار الألوكة للنشر-الرياض.

 ([4]) انظر: السابق (ص20).

 ([5]) إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن قيم الجوزية (1/ 8)، دار الكتب العلمية- بيروت.

 ([6]) المجموع شرح المهذب للنووي (1/ 50)، دار الفكر.

 ([7]) أضواء على السياسة الشرعية (ص21- 23).

اترك تعليقاً