البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الفصل الأول: التعريف بالسياسة الشرعية وأسسها ومجالاتها

المبحث الثالث: أدلة اعتبار السياسة الشرعية

196 views

تمهيد:

إنَّ السياسة الشرعية وإن كان لا يدل على أحكامها الجزئية أدلة خاصة من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس إلا أنها مستقاة من منابع الشريعة الأصلية، وقائمة على مبادئها الأساسية، وإذا كانت شيئًا غير الفقه الاصطلاحي المدوَّن الذي استنبطه الفقهاء، فإنها من الفقه الحقيقي الذي يحقق مقاصد الشريعة في رعايتها مصالح العباد، والذي تستقيم به الشؤون العامة في أبوابِ القضاء والفتيا وسَنِّ القوانين وغير ذلك من مرافق الأمة.

فأحكام السياسة ليست من الفقهِ العامِّ الثابت الذي لا يتحول ولا يختلف باختلاف الأزمنة والأحوالِ، ولكنها من الفقه المرن أو المتحرك -إن صحَّ هذا التعبير- يراعى فيه مسايرة الزمن، ويحقق المطالب التي تتجدد وتتنوع حسب تطورات الأمم وأحوال الأفراد.

والآن نسوق بشيءٍ من التفصيل طرفًا من الوجوه التي تشهد باعتبار السياسة الشرعية، وصحة أحكامها، ووجوبِ الأخذِ بها في مواطنها، غير أن هذه الوجوه منها ما يدل على الاعتدادِ بالسياسةِ الشرعية جملة، ومنها ما يدل على الاعتدادِ بأنواع هي مبادئ ومراجع لأحكامِ السياسة الشرعية الجزئية.

فمن الأول ما يأتي:

أولًا: أنا عهدنا في الشرائع السماوية السابقة أنها كانت تراعي مصالح الأمم وحاجاتِ كل زمن، فكانت تُغيَّرُ في شريعةٍ أحكامٌ من شريعة سابقة من أجل تغير الظروف والأحوال، فقد كان محرَّمًا على بني إسرائيل العمل يوم السبت، وكان محرَّمًا عليهم بعض شحوم الحيوان، بعد أن كان ذلك حلالًا لمن قبلهم، ثم عاد إلى الحلِّ لمن بعدهم، وكان حلالًا أول عهد الإنسان أن يتزوج الرجل بأخته أو عمته، ثم حرم ذلك لما تعدد النسل وتكاثرت أفراد النوع، وإذا كان الأمر كذلك وجب أن تكون الشريعة الإسلامية التي هي ختام الشرائع مسايرة لأحوالِ الناسِ محققة لمطالبِ الحاجاتِ المتجددة، وإنما يفي بذلك قسم السياسة الشرعية.

وقد عُهد في الشريعة الإسلامية نفسها أنها راعت اختلاف الأحوال فيما شرعته ابتداءً من الأحكامِ، ولذلك شُدِّد في الشهادة ما لم يُشدَّد في الرواية، فاشتُرِط في الأولى ما لم يُشترَط في الثانية، نظرًا إلى ما يكون بين الناس عادة من التنافس والعداوة التي قد تدفع صاحبها إلى الشهادة ولو بغير الحق. وكذلك اشتُرط في الشَّهادةِ على الزنا ما لم يُشترط في الشهادةِ على القتل، واكتُفي في قذف الرجل زوجته بأيمان اللعانِ إذا لم تكن له بينة، ولم يُراعَ في ذلك ما روعي في قذفِ غير الأزواج، نظرًا لاعتبارات ومدارك مبينة في كتب الفقه وأسرار التشريع.

ثانيًا: أن الشريعةَ راعت أيضًا اختلاف الأحوال بما أنشأته من الرخص، فجوزت في حالاتِ الشدَّة أو المرض ترك كثير من أركان الصلاة وشروطها كما في صلاة الخوف، ووسَّعت على المرضع فأعفتها من تطهير بعض النجاسات التي تصيب ثوبها من رضيعها، كما أعفت أصحاب القروح والجراحات من تطهير كثيرٍ من النجاسات، وما ذلك إلا لقصد رفع الحرج والمشقة في الأحكام.

ثالثًا: أن حالة الناس في هذه العصور المتأخرة قد تغيَّرت عما كانت عليه في صدر الإسلامِ، فقد كثر الفساد، وانتشرت في الأممِ أمراض اجتماعية تتطلب من أنواع العلاجِ ما يصلح لهذه الأمم، ويتناسب مع حالها واستعدادها، ليكون أنجع في إزالة تلك العلل والأمراض شريطة ألا يخالف ذلك أصلًا من أصول الإسلام «تحدث للناس أقضيةٌ بقدر ما يُحدثون»، ومن أجل ذلك يقول العلماء في بابِ الشهادةِ: إنه إذا لم يوجد في بلدٍ إلا غير العدول فإنه يقام أصلحهم وأقلهم فجورًا للشهادةِ عليهم([1])، ومثل ذلك يقال في القضاةِ وغيرهم حتى لا تضيع المصالح وتتعطل الحقوق والأحكام، وإذا جاز إقامة الشهودِ وغيرهم من الفسقةِ بسبب عمومِ الفسادِ، جاز التوسع في الأحكامِ السياسيةِ بسببِ فساد الزمان([2]).

رابعًا: أن أحكام السياسة الشرعية ترجع في جملتها إلى قاعدةِ التيسير ورفع الحرج، ومبدأ الحكم بالعدلِ، والتواصي بالخيرِ، وأن أمر المسلمين بينهم شورى، يديرونه بما يحقق مصالحهم، ويكفل سعادتهم، وهذه المبادئ محكمة مقررة دلَّ على الاعتدادِ بها الكتاب والسنة: فإن الله تعالى يقول: { يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ} [البقرة: 185]، { مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجۡعَلَ عَلَيۡكُم مِّنۡ حَرَجٖ} [المائدة: 6]، {۞إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تُؤَدُّواْ ٱلۡأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهۡلِهَا وَإِذَا حَكَمۡتُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحۡكُمُواْ بِٱلۡعَدۡلِ} [النساء: 58]، { وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَ‍َٔانُ قَوۡمٍ عَلَىٰٓ أَلَّا تَعۡدِلُواْۚ ٱعۡدِلُواْ هُوَ أَقۡرَبُ لِلتَّقۡوَىٰ} [المائدة: 8]، {وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلۡحَقِّ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلصَّبۡرِ} [العصر: 3]، {وَٱلَّذِينَ ٱسۡتَجَابُواْ لِرَبِّهِمۡ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَمۡرُهُمۡ شُورَىٰ بَيۡنَهُمۡ} [الشورى: 38]، ويجمع النبي صلى الله عليه وسلم الدين كله في النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.

فرعاية هذه المبادئ العامة، وإجادة فهمها، ومعرفة مواطن تطبيقها كفيلة بأن تفتحَ على الناس أبوابًا واسعةً ينفذ منها كل من له شأن في سياسة الأمم، ومَنْ يَعْنِيه أن تقوم شؤونها على قواعد الصلاحِ والرشادِ.

هذه الوجوه تدل على اعتبار السياسة جملة، وعلى وجوب الرجوع إلى أحكامها في تدبير شؤون العباد، فهي من دينِ اللهِ وشرعه، وهي عدله وهُداه الذي أرشد إليه كتاب الله وسنة رسوله.

يقول ابن القيم: «ومن له ذوق في الشريعةِ واطلاع على كمالاتها، وأنها لغاية مصالح العباد في المعاش والمعاد، ومجيئها بغايةِ العدلِ الذي يفصل بين الخلائق، وأنه لا عدل فوق عدلها، ولا مصلحة فوق ما تضمنته من المصالح، عرف أن السياسة العادلة جزء من أجزائها، وفرع من فروعها، وأن من له معرفة بمقاصدها، ووضعها موضعها، وحسن فهمه فيها لم يحتج معها إلى سياسة غيرها ألبتة»([3]).

هذا هو النوع الأول من الأدلة التي تثبت اعتبار السياسة الشرعية.

أما النوع الثاني:

وهو ما يدل على اعتبارِ أنواعٍ هي مصادر لأحكام السياسة الشرعية، فإنا سنقتصر فيه على ما يفيد الاعتداد بقاعدة القياس والمصالح المرسلة وسد الذرائع، وقاعدة العرف، ومبدأ الاستحسان، وإنما اقتصرنا على تلك الأنواع لكثرة دورانها، ولرجوع أغلب الأحكام السياسية إليها. وسنفرد لكلٍّ منها مطلبًا خاصًّا.

 

 

المطلب الأول: القياس.

القياس مصدر قاس وقايس، وهو لغة: التقدير، والمساواة. ومنه يقال: قست الأرض بالقَصَبة، وقست الثوب بالذراع، أي قدرته بذلك. وهو يستدعي أمرين يضاف أحدهما إلى الآخر بالمساواة، فهو نسبة وإضافة بين شيئين، ولهذا يقال: فلان يُقاس بفلان، ولا يقاس بفلان،
أي: يساويه، ولا يساويه([4]).

وفي إطلاق الأصوليين والفقهاء يطلق القياس بمعنيين عام وخاص، أما المعنى العام: فهو القياس بمعنى القواعد الشرعية العامة أو الأصل، ومنه قولهم: “السَّلَم شُرِع على خلاف القياس”.

وأما المعنى الاصطلاحي الخاص: فهو القياس الأصولي الذي يستعمله الفقهاء والأصوليون، ويعتبرونه دليلًا شرعيًّا كالكتاب والسنة والإجماع، وهو المقصود هنا.

وقد عرَّف الأصوليون القياس بتعريفات عدة، من أجمعها أنه: إلحاق فرع بأصله لعلة جامعة بينهما ([5]).

آراء الأصوليين في حجية القياس:

يعتبر القياس دليلًا معتبرًا من أدلة الشرع تثبت به الأحكام ويُتَعبَّد الله تعالى به، وأن الرجوع إليه في التعرف على الأحكام الشرعية رجوع إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ وحكم بما فيهما، لأن الحكم بالقياس يرجع إلى الكتاب والسنة من ناحية أن القياس مُستنِد في حجيته إليهما.

وقد اتفق الأصوليون على حجية القياس في الأمور الدنيوية، وعلى حجية القياس الصادر من
النبي ﷺ، ثم اختلفوا في جواز التعبد به في الأمور الشرعية، والذي عليه جماهير الأصوليين سلفًا وخلفًا جواز التعبد بالقياس في الشرعيات عقلًا ووجوب العمل به شرعًا([6]).

وزاد القفال الشاشي من الشافعية وأبو الحسين البصري من المعتزلة أن العقل مع الأدلة النقلية يدلان على وجوب التعبد به([7]).

ويرى القاشاني والنهرواني وجوب العمل بالقياس في صورتين اثنتين ويحرم فيما عداهما، فالصورة الأولى أن تكون العلة منصوصة إما بصريح اللفظ أو بإيحائه. والصورة الثانية أن يكون الفرع أولى بالحكم من الأصل([8]).

ومذهب الظاهرية نفي حجية القياس شرعًا، وجوازه عقلًا، وتعللوا بأن الشرع ورد على وجوه لا يجوز القياس معه؛ لأن النصوص عندهم قد استوفت كل جوانب الحياة فلا حاجة معها إلى القياس([9]).

وشذ النَّظَّام فأنكر القياس جملة متعلِّلًا بأن الشرع جاء بالتفرقة بين المتساويين والتسوية بين المتفرقين، والقياس قائم على التسوية بين المتماثلين، فاعتبره النظَّام مصادمًا لقواعد الشرع([10]).

وقد فنَّد الجمهور أدلة منكري القياس بما لا يتسع المقام لذكره، والذي يهمنا هنا التركيز على استدلال الأصوليين بالمصلحة على حجية القياس وعلى أي وجه كان ذلك.

أثر القياس في السياسة الشرعية:

يمكن أن نتوصل إلى علاقة القياس بالسياسة الشرعية من خلال أحكام لوقائع مصلحية ليس عليها نص من الكتاب أو السنة أو الإجماع، ويتم التوصل إلى هذه الأحكام عن طريق تعدية حكم بعينه من محل النص إلى غير محل النص، وهو الواقعة غير المنصوص عليها، وذلك نظرًا للاشتراك بين الواقعة المنصوصة والواقعة غير المنصوصة (المستجدة) في علة الحكم (المصلحة) وهو القياس، وهذه الأحكام لا تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال والأشخاص إنما الذي يتغير هو مناط الحكم فيها.

ومن شواهدها نذكر الآتي:

1- قتال مانعي الزكاة قياسًا على تاركي الصلاة بجامع أن كلًّا منهما من أركان الإسلام، ثم كان هذا إجماعًا من الصحابة رضي الله عنهم، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر الخليفة ارتد من ارتد من العرب وامتنعوا عن أداء الزكاة، فقرر أبو بكر مقاتلتهم فاعترض عليه عمر بن الخطاب فقال له: كيف تقاتلهم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله»([11]). فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالًا كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم على منعه، فقال عمر: فوالله ما هو إلا أن شرح الله صدري فعرفت أنه الحق([12]).

وقد كان رأي أبي بكر بالفعل في حرب المرتدين رأيًا صائبًا، وهذا من السياسة الشرعية على أساس مصلحة الإسلام والمسلمين.

ومن هنا فإنه يمكن القول أن أبا بكر رضي الله عنه هو رجل المرحلة اختاره الله تعالى لهذه المهمة الصعبة فاستطاع بفضل الله ثم بحنكته السياسية أن يتخذ القرار الحاسم الصائب الذي أنقذ الإسلام والمسلمين، بل أنقذ الجزيرة العربية بأسرها من أن تعود فيها الجاهلية الفاسدة مرة أخرى([13]).

2- إجماع فقهاء الصحابة على خلافة أبي بكر رضي الله عنه كان سنده القياس على تقديم النبي صلى الله عليه وسلم إياه في الصلاة في مرض وفاته، لذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «إن النبي قدَّمه في الصلاة التي هي عماد الدين فارضَوْا لدنياكم ما رضيه رسول الله لدينكم».

وقال علي بن أبي طالب: «مرض النبي ليالي وأيامًا يأتيه بلال فيؤذنه بالصلاة، وهو يرى مكاني فيقول: ائت أبا بكر فليصل بالناس، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرت في أمري فإذا الصلاة عظم الإسلام وقوام الدين فرضينا لدنيانا مَنْ رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا فبايعنا أبا بكر»([14]).

وإجماع الصحابة هذا يُعد من السياسة الشرعية على أساس مصلحة الأمة من خلال الحفاظ عليها من الفرقة والفوضى([15]).

 

 

 

 

 

المطلب الثاني: المصالح المرسلة.

المرسَل لغةً: اسم مفعول من أرسلَ، يقال: أرسل الشيءَ إذا أطلقه وأهمله، فالإرسال هو الإطلاقُ والإهمال والتَّخلية([16]).

والمصلحة المرسلة اصطلاحًا: المصلحة التي لم يَشْرع الشارع حكمًا لتحقيقها ولم يدلَّ دليلٌ شرعي على اعتبارِها أو إلغائها([17])، ذلك أنَّ تشريع الأحكام قد قَصَدَ فيما يقصد لتحقيق مصالحِ الناس، أي: جلب نفعٍ لهم أو دفع ضررٍ أو رفع حرجٍ عنهم، ومصالحُ الناس لا تنحصر جزئياتُها ولا تتناهى أفرادُها، فهي تتجدَّد بتجدُّد أحوال الناس وتتطوَّر باختلاف البيئات، وتشريعُ الحكمِ قد يجلب نفعًا في زمن وضررًا في آخر، وفي الزَّمن الواحد قد يَجْلب الحكمُ نفعًا في بيئة، ويجلب ضررًا في بيئة أُخْرَى.

فالمصلحة المرسلة إذن هي المنفعة الملائمة لمقاصد الشارع من غير دليل لها بالاعتبار أو الإلغاء.

وهذا التعريف يحدد المنفعة والمفسدة، فكل منفعة ملائمة لمقاصد الشارع وتؤدي إلى المحافظة على مقصود الشارع هي منفعة مقبولة جلبها موافق وملائم لأحكام الشارع، وكل مفسدة دفعها يؤدي إلى المحافظة على مقصود الشارع، فدفعها موافق وملائم لأحكام الشارع.

حجية العمل بالمصالح المرسلة:

اختلف العلماء في اعتبار المصلحة المرسلة أو عدم اعتبارها كدليل شرعي، وما يُنسب إلى العلماء من الاضطراب في القول فيها مردُّه لأسباب كثيرة لخصها الدكتور البوطي فيما يلي:

أولًا: أنهم لم يحددوا المقصود باعتبار الاستصلاح أو عدم اعتباره عند نقلهم الخلاف والنزاع فيه.

ثانيًا: عدم التثبت والتأكد من الآراء المسندة إلى مالك، والتي قيل عنه بسببها: إنه أفرط واسترسل في الأخذ بالمصالح المرسلة حتى لم يلتفت فيها إلى ضرورة ملاءمتها لأصول ومقاصد الشارع.

ثالثًا: ما استفاض من إنكار الشافعي رحمه الله للاستحسان وقوله عنه: إنه أخذ بالتشهي وتشريع بمحض الرأي([18]).

اختلف العلماء في الأخذ بالمصالح المرسلة وعدم الأخذ بها على ثلاثة مذاهب:

الأول: منع التمسك بها مطلقًا، وإليه ذهب الجمهور.

والثاني: الجواز مطلقًا، وهو المحكي عن مالك. قال الجويني في «البرهان»: وأفرط في القول بها حتى جرَّه إلى استحلال القتل وأخذ المال لمصالح يقتضيها في غالب الظن، وإن لم يجد لها مستندًا، وقد حكي القول بها عن الشافعي في قوله القديم، وقد أنكر جماعة من المالكية ما نُسب إلى مالك من القول بها، ومنهم القرطبي. وقال: ذهب الشافعي، ومعظم أصحاب أبي حنيفة إلى عدم الاعتماد عليها، وهو مذهب مالك، قال: وقد اجترأ إمام الحرمين الجويني، وجازف فيما نسبه إلى مالك من الإفراط في هذا الوصل، وهذا لا يوجد في كتب مالك ولا في شيء من كتب أصحابه.

والثالث: إن كانت ملائمة لأصل كلي من أصول الشرع، أو لأصل جزئي جاز بناء الأحكام عليها، وإلا فلا. وحكاه ابن برهان في «الوجيز» عن الشافعي، وقال: إنه الحق المختار([19]).

ولكن المحققين من العلماء قد ذهبوا إلى أن جميع المذاهب قد أخذت بالمصلحة المرسلة ولكنها عملت بها تحت مسميات عدة، فهم وإن لم يعتمدوها في مصادرهم بهذا الاسم إلا أنهم أخذوا بها في فروعهم الفقهية العديدة، فهي قد ترد عند الحنفية باعتبارها نوعًا من الاستحسان، وعند الشافعية باعتبارها مسلكًا من مسالك العلة في القياس، وهو المناسبة أو المعنى المناسب. وقد قال الشوكاني في بيان هذا النوع من المناسب: «وهو ما لا يعلم اعتباره ولا إلغاؤه، وهو الذي لا يشهد له أصل معين من أصول الشريعة بالاعتبار، وهو المسمى بالمصالح المرسلة. وقد اشتهر انفراد المالكية بالقول به، قال الزركشي: وليس كذلك، فإن العلماء في جميع المذاهب يكتفون بمطلق المناسبة، ولا معنى للمصلحة المرسلة إلا ذلك»([20]).

ويقول الإمام القرافي: «إن المصلحة المرسلة في جميع المذاهب عند التحقيق؛ لأنهم يقيسون ويفرقون بالمناسبات ولا يطلبون شاهدًا بالاعتبار، ولا نعني بالمصلحة المرسلة إلا ذلك»([21]).

وقال ابن دقيق العيد: الذي لا شك فيه أن لمالك ترجيحًا على غيره من الفقهاء، في هذا النوع، ويليه أحمد بن حنبل، ولا يكاد يخلو غيرهما من اعتباره في الجملة، ولكن لهذين ترجيح في الاستعمال لها على غيرهما([22]).

ويقول إمام الحرمين: ذهب الشافعي ومعظم أصحاب أبي حنيفة إلى تعليق الأحكام بالمصالح المرسلة، بشرط الملاءمة للمصالح المعتبرة المشهود لها بالأصول([23]).

ومن الآراء الفقهية عند الشافعية والتي كان مستندهم فيها هو المصلحة المرسلة تجويزهم إتلاف الحيوان والشجر والنبات الذي يقاتل عليه الكفار، وذلك لحاجة الظفر على الأعداء، مع أنه ليس في هذا نص واضح وصريح، وكذلك جوَّز بعضهم أخذ نبات الحرم لعلف البهائم لما يلحق الحجيج من الحرج لو لم يبح لهم، ولا بأس عندهم بتضبيب الإناء بالفضة للحاجة دون ضرورة مع عموم النهي عن استعمال الفضة، ويفتون بالأكل من الغنيمة في دار الحرب مع ورود النهي عن الانتفاع بها قبل القسمة مستندين في ذلك إلى الحاجة، وقد أطلقوا الجواز فلم يقيدوه بحال الضرورة([24]).

وكذلك للإمام أبي حنيفة فتاوى كان مستنده فيها العمل بالمصلحة المرسلة، منها: قوله بحرق المتاع والغنائم إذا عسر نقلها إلى بلاد الإسلام، فقد روى أبو يوسف عن الإمام: «إذا أصاب المسلمون غنائم من متاع أو غنم فعجزوا عن حمله ذبحوا الغنم وحرقوا المتاع وحرقوا لحوم الغنم كراهية أن ينتفع بذلك أهل الشرك»([25]).

وهي فتوى ملحوظة فيها رعاية مصلحة المسلمين بدفع المفسدة التي تترتب على ترك هذه الغنائم في أيدي أعدائهم ينتفعون بها.

مجال العمل بالمصالح المرسلة:

لا تجري المصلحة المرسلة في باب العبادات؛ لأن الشارع قصد بها الامتثال ولا دخل لاعتبار المصالح فيها، فإن وجد شيء من ذلك فالوقوف عنده لازم، لا تعدية ولا قياس.

ثم إن العبادات حق الشارع خاص به، ولا يمكن معرفة حقه كمًّا وكيفًا وزمانًا ومكانًا إلا من جهته فيأتي به العبد على ما رسم له([26]).

ويجري العمل بالمصلحة المرسلة في باب المعاملات؛ لأن الشارع نظر إليها أولًا من جهة تحصيل المصالح للأنام، وهو الأصل فيها، وذلك أن الشارع توسع في بيان العلل والمصالح في تشريع هذا النوع -عكس العبادات- وهذا تنبيه منه سبحانه إلى أننا نسلك هذا الطريق ونسير بمعاملاتنا في وادي المصالح، ولا نجمد على المنصوص الذي ربما ورد لمصلحة خاصة وبطائفة خاصة وبإقليم خاص وفي زمن خاص.

وحاشا لشريعة الخلود أن تلزم الناس بهذا الإصر والأغلال التي صرحت في غير موضع بأنه رفع عنهم.

ثم إن أرباب العقل في زمن الفترات قد اعتبروا المصالح في كثير من العادات، فلما جاءت الشريعة أقرت منها الشيء الكثير، وعدلت ما انتابته عوامل متنازعة من الإصلاح والإفساد، ولم تبطل إلا ما كان منشؤه هوى النفوس وطغيان الشهوات، وأما عبادتهم فضلَّت فيها عقولهم، ولهذا هدمت الشريعة غالبها إلا ما نُقل لهم من شريعة الخليل عليه السلام([27]).

أدلة حجية المصالح المرسلة والعمل بها:

1- إن الشارع اعتبر جنس المصالح في جنس الأحكام، وهذا يوجب الظن باعتبار هذه المصلحة لكونها فردًا من أفرادها، فوجب العمل بهذا الظن([28]).

2- إن الاجتهاد عند عدم النص الذي أقرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه معاذ بن جبل حين قال: «أجتهد رأيي ولا آلو» كما يكون بقياس النظير على نظيره يكون بتطبيق مبادئ الشريعة والاسترشاد بمقاصدها العامة، والعمل بالمصالح المرسلة لا يخرج عن هذا؛ لأن العمل بها يحقق مصالح العباد من جلب نفع أو دفع ضرر، وهذه المصالح هي مقصود الشارع من شرع الأحكام([29]).

3- إن الصحابة رضي الله عنهم عملوا أمورًا لمطلق المصلحة، لا لتقدم شاهد بالاعتبار، وذلك نحو كتابة المصحف، ولم يتقدم فيها أمر ولا نظير، وكذلك تدوين الدواوين، واتخاذ السجن فعل ذلك عمر رضي الله عنه. وهدم الأوقاف التي بإزاء مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتوسعة فيه عند ضيقه، وتجديد الأذان الأول في الجمعة، فعل ذلك عثمان رضي الله عنه، كل ذلك لمطلق المصلحة([30]).

4- إن النصوص لا تراد إلا لمعانيها، والمعاني ليست جميعها منصوصة على سبيل التعيين؛ ولذا لا يمكن التمسك بالنصوص وحدها أو الأصول بمفردها؛ لأنها غير وافية من حيث الدلالة على حكم كل واقعة بعينها، ومعانيها الجزئية لا تفي بهذا أيضًا، وإذن فلا بد من الاستمساك بالمعاني الكلية التي لا ترجع إلى أصل معين ولا تستند إلى نص واحد، وهي المصالح المرسلة([31]).

5- إن مصالح الناس تتجدد ولا تتناهى، فلو لم تشرع الأحكام لما يتجدد من مصالح الناس، ولما يقتضيه تطورهم، واقتصر التشريع على المصالح التي اعتبرها الشارع فقط، لعطلت كثير من مصالح الناس في مختلف الأزمنة والأمكنة، ووقف التشريع عن مسايرة تطورات الناس ومصالحهم، وهذا لا يتفق وما قصد بالتشريع من تحقيق مصالح الناس([32]).

أثر المصالح المرسلة في السياسة الشرعية:

تهدف الشريعة الإسلامية إلى تحقيق مصالح الناس؛ لأنها لم توضع إلا لمصلحتهم، لقوله تعالى: {مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجۡعَلَ عَلَيۡكُم مِّنۡ حَرَجٖ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمۡ وَلِيُتِمَّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَيۡكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} [المائدة: 6]، وقوله تعالى: {يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ} [البقرة: 185]، وقوله تعالى: {لِيُنفِقۡ ذُو سَعَةٖ مِّن سَعَتِهِۦۖ وَمَن قُدِرَ عَلَيۡهِ رِزۡقُهُۥ فَلۡيُنفِقۡ مِمَّآ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُۚ لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا مَآ ءَاتَىٰهَا} [الطلاق: 7]، فهي شريعة صالحة لكل زمان ومكان.

ومصالح الناس وأحوالهم تتغير وتتجدد بتغير الزمان وتجدد الأحوال، فيلزم تبعًا لذلك تبدل الأحكام تبعًا لتبدل المصالح التي شُرعت لها.

فالمصالح المرسلة من أهم المصادر الشرعية، والذي يمكن أن يمدنا بالأحكام اللازمة لمواجهة وقائع الحياة المتجددة.

فبواسطة هذا المصدر يمكن للعلماء الذين لديهم دراية واسعة بروح الشريعة ومبادئها العامة أن يسنوا للأمة الأحكام والنظم التي تحقق مصلحتها وتلبي حاجاتها العارضة ومطالبها المتجددة إذا لم يجدوا لها دليلًا خاصًّا من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس.

ومن أمثلة هذه الأحكام: فرض ضرائب على الأغنياء إذا استدعت حاجة الدولة ذلك بأن لم يوجد في خزانتها مال يكفي لمواجهة النفقات الضرورية كحاجة الجند، وإصلاح المرافق العامة ونحو ذلك. وفي ذلك يقول الإمام الشاطبي المالكي: «إذا قدرنا إمامًا مطاعًا مفتقرًا إلى تكثير الجنود لسد الثغور وحماية الملك المتسع الأقطار، وخلا بيت المال وارتفعت حاجات الجند إلى ما لا يكفيهم، فللإمام أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافيًا لهم في الحال، إلى أن يظهر مال بيت المال، ثم إليه النظر في توظيف ذلك على الغلات والثمار أو غير ذلك، كيلا يؤدي تخصيص الناس به إلى إيحاش القلوب، وذلك يقع قليلًا من كثير بحيث لا يجحف بأحد ويحصل الغرض المقصود. وإنما لم يُنقَل مثل هذا عن الأولين لاتساع مال بيت المال في زمانهم بخلاف زماننا، فإن القضية فيه أحرى، ووجه المصلحة هنا ظاهر، فإنه لو لم يفعل الإمام ذلك لانحلَّ النظام وبطلت شوكة الإمام، وصارت ديارنا عرضة لاستيلاء الكفار»([33]).

ومن تطبيقات المصلحة المرسلة المعاصرة التي لها أثر في السياسة الشرعية: قضية تحديد الأجور وتحديد ساعات العمل، ورعاية العاملين صحيًّا واجتماعيًّا وما أشبه ذلك من الأنظمة اللازمة لضمان انتظام سير العمل، وصيانة حقوق العاملين وحمايتهم من الاستغلال.

ومنها: جواز التسعير إذا تعدَّى التجار ثمن المثل واستغلوا حاجة الناس إلى ما بأيديهم من السلع فإنهم يُجبَرون على المعاوضة للمصلحة الراجحة أو لدفع الضرر العام، فإن كان ارتفاع الأسعار بسبب ظروف العرض والطلب ولا دخل للتجار في الأسعار فلا حاجة حينئذٍ للتسعير.

ومن تطبيقات المصلحة المرسلة في مجال السياسة الشرعية كذلك: التنظيمات والأحكام التي تتعلق بشؤون الإدارة التي تنظم مصالح المجتمع، مثل: إنشاء المؤسسات اللازمة للمشاريع الاجتماعية كتخطيط الأراضي وبناء الجسور وتعبيد الطرق وإنشاء المستشفيات وغيرها، وكذلك استحداث أنظمة خاصة لتنظيم السير في الطرق الداخلية والخارجية، وذلك منعًا للدهس والاصطدام وصيانةً لأرواح الناس، وكذلك إلزام الناس بحمل الهويات الشخصية أو العائلية، والإلزام بقواعد خاصة في استخراج جواز السفر والخروج من البلاد ودخولها، وغير ذلك من الأمور التي سكت الشارع عنها، ولا يوجد لها أصل معين تقاس عليه، وكان في تشريع الحكم تحقيق مصلحة أو دفع مفسدة.

 

 

 

المطلب الثالث: الاستحسان.

الاستحسان لغةً: استفعالٌ من الحُسن، وهو عدُّ الشيء واعتقادُه حسنًا([34]).

أما الاستحسان اصطلاحًا فلم يختلف الفقهاءُ وأهل الأصولِ في شيء من القواعد مثلما اختلفوا في مسألة الاستحسان: اختلفوا في معناه، وفي حكمه، وتضاربت أقوالهم في ذلك تضاربًا واسعًا، كما أن أغلب ما ورد من تعريفاته -سواء ما يُنسب منها إلى الحنفية وما يعزى إلى المالكية- لا يخلو عن قصورٍ وإبهامٍ.

ومن تعريفات الاستحسان: أنه العدول عن موجب قياسٍ إلى قياسٍ أقوى منه([35]).

ويقرب من ذلك قول بعض الحنفية: قياس خفي في مقابلة قياس جلي لقوة علته([36]).

وعرفه بعض المالكية: بأنه العمل بأقوى الدليلين([37]).

وبعضهم قال: هو العمل بالمصلحة الجزئية في مقابلة القياس([38]).

وقيل: إنه هو العدول عن مقتضى الدليل إلى العادة للمصلحة، كما في مسألة دخول الحمام، والشرب من السقاءِ، من غير تعيين مدة المكث في الحمام، ولا قَدْر ما يُستهلك من الماء([39]).

وهي تعريفاتٌ قاصرةٌ لا تشمل جميع أنواع الاستحسان الذي يقول به الحنفية أو المالكية كما هو ظاهر.

وهناك تعريفات كثيرة، بعضها فيه قصور، وبعضها فيه إبهام، ونرى أن نقتصرَ على تعريفٍ لأبي الحسن الكرخي، جمع كل أنواع الاستحسان، إذ قال: «هو العدول في مسألةٍ عن مثل ما حكم به في نظائرها إلى خلافه لوجهٍ هو أقوى»([40]).

هذا التعريف يصور أصدق تصوير معنى الاستحسان، ويرشد إلى الفارق بينه وبين المصلحةِ المرسلةِ، فإنه نبه إلى أن الاستحسان في جميع أنواعهِ يقتضي أن يكون للمسألةِ التي يحكم به فيها نظائر محكوم فيها على خلاف ذلك، وأن قطع هذه المسألة عن نظائرها واختصاصها بحكمها إنما هو لمعنى يوجب ذلك، غير متحقق في تلك النظائر.

أما المصلحةُ المرسلةُ فليس لمحلها نظائر محكوم فيها على خلافِ ما تقتضيه المصلحة في ذلك المحل، فليس في مراعاة المصلحة استثناء من حكم قاعدة عامة، ولا عدول بمحلها عما يقتضيه قياس.

وقبل أن نتكلم على أنواعِ الاستحسانِ نشير إلى شيءٍ ينبغي التنبيه إليه، وهو أنه يرد دائمًا في كُتبِ الحنفية مقابلة الاستحسان بالقياس، فيقولون: إن حكم كذا ثبت استحسانًا على خلاف القياس، ثم لا يقررون في المسألة قياسًا يعينون فيه الأصل المقيس عليه على الوجه المعروف في القياس المصطلح عليه.

من أجل هذا نقول: إن هذا شيءٌ يختلف باختلاف المواطن، ففي بعضها يصح أن يكون المراد بالقياسِ ذلك القياس الاصطلاحي نفسه، وعدم تعيين الأصل المقيس عليه إنما هو للاكتفاءِ بظهور العلة، وكثرة المَحالِّ المحكوم فيها على وفق ما يقتضيه القياس في محل الاستحسان، وفي بعضٍ آخر يمكن أن يكون المراد بالقياس الحكم الكلي الذي عُلم ثبوته في المَحالِّ المختلفة، كالحكم بأن بيع المعدوم لا يصح، وبيع الغَرر لا يجوز.

فإذا تحقق أحد هذين المعنيين في جزئية عارضة، صح أن يقال فيها: إن القياسَ عدم جوازها، أي أن المعقول المعهود عن الشارعِ من تتبع أحكامه في الجزئيات الكثيرة، يقتضي عدم الجواز في تلك الجزئية العارضة.

أنواع الاستحسان:

يتنوع الاستحسان إلى الأنواع الآتية:

الأول: الاستحسان بالنص: وذلك بأن يقتضي القياس أو القاعدة العامة حكمًا في مسألة، فَيردُ النص فيها على خلافه، كما في السَّلم، فإن مقتضى القواعد والقياس فيه أنه لا يجوز لكون المبيع فيه معدومًا وقت العقد، لكن ورد النص بجوازه على خلاف ذلك، فإن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من أسلف في شيء، ففي كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم»([41]) يدل من غير شك على جواز السَّلَم.

الثاني: الاستحسان بالإجماع: ويمثل الفقهاء له بالاستصناع، فإن الأصل فيه عدم الجواز، للمعنى الذي قلناه في السَّلَم، لكنه قد جرى التعامل به في كل زمان، من غير أن ينكره أحدٌ من أهلِ العلمِ، بل أغلب الظن أنه قد تعامل به أهل العلم أيضًا. وهو إجماعٌ مبنيٌّ على مُراعاةِ الحاجة، ودفع الضرر اللازم على منعه.

وقد جاء في «البدائع» ما خلاصته: إن الاستصناع جائزٌ على خلافِ القياس، فإنه بيع ما ليس عند الإنسان لا على وجه السَّلَمِ، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان، ورخص في السَّلَمِ، أي فجواز الاستصناع ليس ثابتًا بالدليل الذي أجاز السَّلَم، إذ حقيقة السَّلَم مغايرة لحقيقة الاستصناع([42])، وإنما ثبوته بالإجماع بناءً على رعاية المصلحة، ودفع الضرر والحرج، فإن الحاجة تدعو إليه؛ لأن الإنسان قد يحتاج إلى خُفٍّ أو نعلٍ من جنسٍ مخصوص على صفة مخصوصة، وقلما يتفق وجود ذلك مصنوعًا، فيحتاج إلى أن يستصنع، فلو لم يجز لوقع الناس في الحرج.

وقال الكاساني أيضًا: «إن القياس يقتضي عدم جواز الاستصناع، وإنما جوازه استحسانًا لتعامل الناس»([43]).

ومن هذا يتبينُ أن جوازَ الاستصناع لم يكن إلا من طريقِ الاستحسان، وأن اقتناع المجتهد بجوازهِ مرجعه النظر إلى حاجةِ الناسِ، وأنها تتطلب هذا النوع من البيوع، لما يحصل من المصلحةِ أو يدفعُ من الضررِ، وأن جريان التعامل به بين الناس شاهدٌ قوي بهذه الحاجة، وأن إجماع المجتهدين عليه وتقريرهم إياه إنما كان بناءً على هذا المعنى، فهو جائز؛ لأن الناس تعارفوه، والحاجة ماسة إليه، مع عدم مصادمته أصلًا من الأصولِ العامة في الشريعة، بل هو محقق لهذه الأصول، فإن المقصود منها هو تحصيل المصالح، ودفع المضار والمفاسد.

وإذا كان المسلمون -فيما بعد العصر الذي استقرَّ فيه هذا الإجماع- يكتفون به في الاستدلال على جواز الاستصناع، فذلك لا يمنع أن نقول: إن الإجماع سبيله الاستحسان، وقائم على مراعاة المجتهدين حاجة الناس ورفع الحرج عنهم.

الثالث: الاستحسان بالقياس الخفي: وهذا القياس الخفي يترجح على القياسِ الظاهرِ الجلي، إذا كان أقوى منه أثرًا وأصح باطنًا، وذلك كما في سؤر سباع الطير، فإن القياسَ الظاهرَ يقتضي نجاسته، إلحاقًا له بسؤر سباع البهائمِ، بجامعِ أن كلًّا من سِباع الطير وسباع البهائم نجس اللحم، والسؤر معتبر باللحم الذي يتولد منه اللعابُ، فكل ما كان لحمه نجسًا كان سؤره كذلك، قالوا: والدليل على نجاسة لحم هذه السباع جميعها أنه محرم أكله، وتحريم ما هو صالح في ذاته للغذاء إذا لم يكن لمعنى التكريم كما في الإنسان، ولا بسببِ خبثهِ طبعًا كما في السلحفاة، فإنه يكون بسبب النجاسة، وحاصل هذا القياس الظاهر أن سؤر سباع الطير نجس، لنجاسة لحمه كسباع البهائم، لكن الاستحسان -وهو القياس الخفي- يقتضي طهارته، بالحملِ على سؤرِ الإنسان، بجامعِ أن كلًّا من سباع الطير والإنسان لا يلعق بلسانه الماء، ولا يختلط لعابه به حالة الشرب، فإن الطيرَ يتناول الماء بمنقارهِ، وهو عَظمٌ طاهر غير مجاورٍ لنجاسة، فلا ينجس الماء باتصالهِ به في الشربِ، وإذا كان السؤر معتبرًا باللحمِ طهارة ونجاسة فنجاسةُ سؤر سباع البهائم إنما هي بسبب لعابها ورطوبة أفواهها المتولدة من اللحم النجس، واتصال ذلك بالماء، فليست العلةُ في تحريمِ سؤر سباع البهائم هي مجرد أنها غير مأكولةِ اللحمِ، بل هي مخالطة الرطوبة واللعاب النجس بالماء، فإنها تلعق الماء بألسنتها، فالعلة الظاهرة اللائحة في القياسِ الأولِ -وبها كان هذا القياس جليًّا- قد تبين بالتأملِ فسادها أو قصورها في حكمِ الأصل، والعِلةُ الحقيقية في حكمه هي ما ذكرنا، وهي غير متحققة في المقيسِ، فيكون الحكمُ بطهارةِ سؤر سباع الطير لعدمِ تحقق علة النجاسة فيه، وليس من باب تخصيص علة القياس الذي اختلف فيه الفقهاء.

غير أنه قد يقال: إذا كان هذا القياس لا يقضي بنجاسةِ سؤر سباع الطير فهذا السؤر نجسٌ من حيث إن هذه السباع تقع غالبًا على الجيف، وتأكل النجاسات، فتتنجس مناقيرها التي تتصل بالماء في الشرب.

ويجاب عن هذا بأن شأنَ الطيورِ أيضًا أنها بعد الأكل تدلك مناقيرها بالأرضِ أو الشجر، فتطهر بذلك؛ لأنها عظم أملس لا تتخلله النجاسة.

ولاحتمال وجود أثر لما تأكل من النجاساتِ على مناقيرها، قيل بكراهة سؤرها، ولم يحكم بنجاسته، لعدم تحقق ذلك، كما قيل في الدجاجة المخلاة، حتى لو رؤي الطائر يقع على الماءِ من فور أكله النجاسةَ، فإنه يحكم بنجاسة سؤره من غير تردد.

هذا ويتبين مما قلنا هنا أن الاستحسانَ الذي يتمثل في قياسٍ خفيٍّ هو الراجح، وهو الذي يجب أن يُعملَ به، ويُترَك من أجلهِ القياس الجلي.

غير أنه ينبغي التنبيه إلى أن رجحانه ليس لخفاءِ علته وظهورها في القياس الجلي، وإنما ذلك لأنه أصح باطنًا، وأقوى أثرًا من ذلك القياس.

الرابع: الاستحسان بمراعاةِ الضرورةِ وعموم البلوى، ومن أجل هذا قال الفقهاء بطهارة آبار الفلوات، رغم ما يقع فيها من قليل بعر الحيوان أو روثه، مما لا يتساهل فيه هؤلاء الفقهاء في غير هذا الموطن، نظرًا للضرورةِ، وعدم إمكان التحرز منه إلا بحرجٍ ومشقةٍ عظيمة، فالحكم بطهارة هذه الآبار استحسان على خلافِ ما يقضي به القياس.

ومن ذلك أيضًا: ما قاله فقهاء الحنفية في تطهيرِ الآبارِ والحياض التي تقع فيها نجاسة مغلظة متفق على القولِ بنجاستها، فإن القياسَ يقتضي نجاسة تلك الآبار والحياض، وأنها لا تطهر أبدًا بنزح الماء، وذلك أن نزح بعض الماء الموجود في البئر أو الحوض لا يطهر الباقي فيهما كما هو واضحٌ، ونزح قدر جميع الماء المتنجس لا يفيد طهارة ما ينبع في أسفلِ البئر أو يلقى في الحوض من ماءٍ جديد، فإنه لا بد أن يلاقي نجسًا في قاع البئر والحوض وجدرانهما، فيتنجس بذلك، لكنه حكم بطهارتهما إذا نزح قدر ما فيهما من الماء للضرورة وعموم البلوى، على خلاف ما يقضي به القياس([44]).

قد يقال: إن هذا يرجع إلى الاستحسان بالإجماع، فإن المجتهدين أجمعوا على أن نزع ماء البئر المتنجسة يطهرها.

والجواب: أن ذلك لا يمنع من التمثيلِ به للاستحسانِ بمراعاةِ الضرورةِ أيضًا، والضرورة لها آثارها في الأحكام بشهادة الكتاب والسنة والإجماع، فيكون ذلك من باب تعدد الأدلة على طهارة الآبار والحياض.

على أن اجتهادَ المجتهدين الأولين، وحكمهم بطهارة هذه الآبار والحياض -قبل انعقادِ الإجماعِ- إنما كان بناء على مراعاة هذه الضرورة، فهي وحدها الدليل على الطهارة حينئذٍ.

وقد يتمثل الاستحسان في مراعاةِ العرفِ والعادة، كما يتمثل في مراعاة الحاجة التي لا تبلغ مبلغ الضرورة، وذلك مثل ما قدمناه من بيعِ الشِّربِ، والاستئجار على حمل شيءٍ أو نسج ثوب بجزء من المحمول والمنسوج، وكدخول الحمام والشرب من السقاء من غير تعيين مدة المكث في الحمامِ، ولا قدر ما يستهلك فيه، أو ما يشرب من الماء.

وهذان النوعان من الاستحسان يصح أن يمثل لكل منهما بجميع هذه الأمثلة كما هو ظاهر.

أقوال العلماء في حجية الاستحسان:

سبقت الإشارة إلى أن حجية الاستحسان تباينت فيها أقوال العلماء، فالإمام الشافعي يقرر في الرسالة أنه لا يجوز القول بغير خبر ولا قياس، وأن الاستحسان في مقابلةِ القياسِ كالاستحسان في مقابلةِ الخبرِ، لا يسوغ شيء منهما. ويصرح بأن الاستحسان تعسف وتلذذ([45]).

وكذلك ينكر ابن حزم الاستحسان، ويطنب في القول، ويشتد في الإنكار، فيقول: «ومن المحال أن يكونَ الحق فيما استحسنَّا دون برهان؛ لأنه لو كان كذلك لكان الله تعالى يكلفنا ما لا نطيق، ولبطلت الحقائق، ولتضادت الدلائل، وتعارضت البراهين، ولكان الله تعالى يأمرنا بالاختلافِ الذي قد نهانا عنه، وهذا محال؛ لأنه لا يجوز أصلًا أن يتفق استحسان العلماء كلهم على قولٍ واحدٍ، على اختلاف هممهم وطبائعهم وأغراضهم، ونحن نجد الحنفيين قد استحسنوا ما استقبحه المالكيون، ونجد المالكيين قد استحسنوا قولًا قد استقبحه الحنفيون، فبطل أن يكونَ الحق في دين الله عز وجل مردودًا إلى استحسان بعض الناس، وإنما كان يكون هذا -وأعوذ بالله- لو كان الدين ناقصًا، فأمَّا وهو تام لا مزيد عليه، مبين كله، منصوص عليه أو مجمع عليه، فلا معنى لمن استحسن شيئًا منه أو من غيره، والحق حق وإن استقبحه الناس، والباطل باطل وإن استحسنه الناس، فصح أن الاستحسانَ شهوة واتباع للهوى وضلال»([46]).

وإزاء هذا يقول «أصبغ بن الفرج» المالكي: «الاستحسان في العلمِ يكون أغلب من القياس»([47]).

وينقل ابن القاسم عن الإمام مالك قوله: «تسعة أعشار العلم الاستحسان»([48]).

ويحكي محمد بن الحسن أن الإمام أبا حنيفة كان يناظرُ أصحابه في المقاييس، فينتصفون منه ويعارضونه، حتى إذا قال: أستحسن، لم يلحقه أحد منهم، لكثرة ما يورد في الاستحسانِ من المسائلِ فيذعنون جميعًا ويسلمون له.

ويتلخص من ذلك ومما قاله العلماء في هذا الباب: أن الاستحسان يقول به الحنفية والمالكية، ويقول به الحنابلة أيضًا على ما حفظه الآمدي وتبعه فيه ابن الحاجب، وهو ما قرره الجلال المحلي في شرح جمع الجوامع، ووافقه عليه العطار فيما نقله في حاشيته، غير أن ابن السبكي يقصر القول به على الحنفية، ويصرح بأنه ينكره الباقون، ونحن لا نستطيع موافقته في هذا، ولا سيما ما يتصل منه بالمالكية، مع ما قدمناه عن أصبغ وعن ابن القاسم، ومع ما هو مشهور عن المالكية من القول به شهرة ليست محلًّا للإنكار أو الشك.

أما الإمام الشافعي فقد اشتهر عنه إنكار الاستحسان وعدم الاعتداد به، كما يدل على ذلك ما أوردناه آنفًا مما قرره في الرسالة، وما قاله في كتاب «الأم» مما هو في ذلك المعنى.

لكنه قد حُفظ عن الشافعي أيضًا أنه كان يستحسن في الأحكامِ، فيقول: أستحسن كذا وكذا… كما هو محفوظ عن الإمامِ مالك أنه كان يقول: أنا أحب كذا وأستحسن كذا. فما معنى هذا؟ وما حقيقة مذهبه في الاستحسان؟

يجعل الآمدي استحسانات الشافعي هذه مجرد إطلاق للفظ، واستعمال له في معناه اللغوي، ويقول: إن هذا الإطلاق ليس هو محل النزاع، وإنما النزاع في معنى الاستحسان وحقيقته.

وهذا هو نص عبارته قال: «الخلافُ ليس في نفسِ إطلاقِ لفظ الاستحسانِ جوازًا وامتناعًا، لوروده في الكتابِ والسنةِ وإطلاق أهل اللغة:

أما الكتاب فقوله تعالى:{ ٱلَّذِينَ يَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقَوۡلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحۡسَنَهُ} [الزمر: 18]، وقوله تعالى: {وَأۡمُرۡ قَوۡمَكَ يَأۡخُذُواْ بِأَحۡسَنِهَا} [الأعراف: 145]، وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم: «ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن»([49])، وأما الإطلاق فما نقل عن الأئمة من استحسان دخول الحمام من غيرِ تقدير عوضٍ للماء المستعمل، ولا تقدير مدة الكون فيه، وتقدير أجرته. واستحسان شرب الماء من أيدي السقائين من غير تقدير في الماءِ وعوضهِ، وقد نقل عن الشافعي أنه قال: أستحسن في المتعةِ أن تكون ثلاثين درهمًا، وأستحسن ثبوت الشفعة للشفيع إلى ثلاثةِ أيامٍ، وأستحسن ترك شيء للمكاتب من نجوم الكتابة، وقال في السارق -إذا أخرج يده اليسرى بدل اليمنى فقطعت-: القياس أن تقطع يمناه، والاستحسان ألا تقطع، فلم يبق الخلاف إلا في معنى الاستحسان وحقيقته»([50]).

وهكذا يورد الآمدي مسائل قد استحسن فيها الإمام الشافعي، ومسائل استحسن فيها غيره من الأئمة استحسانًا هو في جوهره ومعناه ولفظه من الاستحسانِ الذي هو محل الكلام، ثم يقول في ذلك: إنه من قبيلِ إطلاقِ اللفظ واستعماله لغة، وهذا ليس محل النزاع، وإنما محل النزاع هو حقيقة الاستحسان ومعناه.

ونحن لا ندري ما هو ذلك المعنى الذي يرمي إليه ويجعله محل النزاع بين الفقهاءِ، فقد استحسن الإمام الشافعي في مسألةِ الحمامِ والشربِ من السقاء كما استحسن غيره، وهو استحسانٌ روعيت فيه الحاجة وروعيت فيه العادة، على خلاف ما تقضي به القواعد في بابِ البيعِ وباب الإجارة.

واستحسن في مسألة قطعِ يد السارق في مقابلةِ القياسِ، وليس للاستحسانِ معنى غير هذا عند العلماء، فاستعمال كلمة الاستحسان في المسائل السابقة التي استحسن فيها الإمام الشافعي ما استحسن ليس إلا استعمالًا لها في المعنى الذي يريده الفقهاء أصحاب الاستحسان.

والقول بأن هذا مجرد إطلاق للفظ، واستعمال له في معناه اللغوي هو مجرد تأويل غير مقبول، ولا ندري موجبه ولا الباعث عليه.

أما ابن السبكي والجلال المحلي فقد صرحا في تأويلِ استحسانات الشافعي بشيء لا يجدي كثيرًا في مقام إنكار القول بالاستحسان، قالا: «أمَّا استحسان الشافعي التحليف على المصحف، والحط في الكتابة لبعض من عوضها ونحوهما، كاستحسانه في المتعة ثلاثين درهمًا فليس منه، أي ليس من الاستحسان المختلف فيه إن تحقق، وإنما قال ذلك لمآخذ فقهية مبيَّنة في محالها»([51]).

ثم يقول العطار: إن استحسان الشافعي هذا ليس من ذلك الاستحسان الذي هو محل الكلام، بل المراد منه المعنى اللغوي، وهو عَدُّه حَسنًا([52]).

وخلاصة هذا وذاك أن استحسان الشافعي في تلكَ المسائلِ وما إليها هو استحسان مستندٌ إلى مآخذ فقهية، فلا يكون من محل النزاع، وإذًا يكون لفظ الاستحسان فيه مستعملًا في معناه اللغوي، وليس في ذلك المعنى الاصطلاحي الذي هو مورد كلام العلماء.

ويُفهم من هذا أن الاستحسان الاصطلاحي الذي تكلم فيه الفقهاء لا يكون أبدًا مستندًا إلى مآخذ فقهية، ولا معتمدًا على شيءٍ من الاعتباراتِ الشرعية، فهل الأمر كذلك عند من يقول بالاستحسانِ واشتهر به من الحنفية والمالكية؟

الواقع أنه مهما اختلفت طرق العلماء وأساليبهم في تعريفِ الاستحسان والتعبير عن معناه، فهم جميعًا -سواء أكانوا من الحنفية أم من غيرهم- متفقون على أنه لا يصح العدول بمسألة عما يقتضيه القياس فيها أو غيره من الأدلةِ إلا لمقتض أقوى في الاعتبار، وأدق في إصابة المعاني التي تقصد إليها عمومات الشريعة، من تحقيقِ المصالحِ ودرء المفاسد، ورفع الحرج ودفع الضرر، فالحكم المستحسن عندهم لا بد أن يكون مستندًا إلى مأخذ فقهي صحيح، ومعتمدًا على دليل شرعي راجح في نظر من يعدل بالمسألة عن حكم النظائر، ويُحكِّم فيها الدليل الذي يسميه الاستحسان.

وبهذا يتبينُ أنه ليس هناك اختلافٌ حقيقي في أصلِ حجية الاستحسان والاعتداد به في الأحكام، وأن الإمامَ الشافعي لا ينكر ما ينكر إلا من جهةِ ما يدل عليه كلامه أنه تلذذ وتعسف وحكم بغير دليل.

ولكن هذا -كما قلنا- ليس هو الاستحسان الذي يقول به سائر الفقهاء المجتهدين.

فالنتيجة أن الأئمة جميعًا يقولون بالاستحسان، ويعتدون به في استخراجِ الأحكام، غير أنهم في ذلك متفاوتون، فمنهم المقل، ومنهم المكثر كما هو حالهم إزاء كثيرٍ من الأدلة الشرعية الأخرى.

 

أثر الاستحسان في السياسة الشرعية:

إن العلاقة التي تربط بين الاستحسان والسياسة الشرعية تبدو وثيقة، فبعد التعرف على أنواع الاستحسان وذكر بعض تطبيقاته تظهر هذه العلاقة من الوجوه التالية:

1- الاستحسان بأنواعه السابقة يعتمد على ترك قياس جلي إلى آخر خفي بدليل يقتضي هذا العدول، فهو يرجع إذن إلى الأدلة الأخرى، كالنص، والإجماع، والقياس، والمصلحة، ولا شك أن أوسع مقتضيات السياسة الشرعية هي تحقيق المصلحة العامة للمجتمع.

2- بما أن الاستحسان استثناء من القياس الكلي الذي فيه نوع مشقة وحرج، فهو بهذا الاعتبار يؤدي إلى رعاية مقاصد الشريعة التي تدعو إلى جلب المصلحة والتيسير ورفع الحرج والمشقة عن العباد، وكافة الأمثلة التي تم الاستشهاد بها مسبقًا كتجويز السلم بالنص، والاستصناع بالإجماع، وغيرها، كلها تدل على مراعاة حاجات الناس ورفع الضرر الحاصل عليهم في جواز التعامل بهذه المعاملات، وهذا من أجل المقاصد التي تسعى الشريعة إلى تحقيقها.

3- يعتبر النظر في مآلات الأفعال من القواعد المقاصدية المعتبرة شرعًا، إذ قد يؤدي التزام العموم في الدليل إلى الحرج والمشقة، والاستحسان في مضمونه يرجع إلى العدول عن العموم باعتبار مآله، وبذلك فإن العمل بدليل الاستحسان يعدُّ من الأدلة التي تسهم في مجال السياسة الشرعية.

4- يبرز مجال العمل بالاستحسان في جوانب السياسة الشرعية في الاستحسان بالقياس، والاستحسان بالضرورة، والاستحسان بالعرف والعادة؛ لأن في ذلك مجالًا للاجتهاد والنظر من قِبَل الحكام والفقهاء، فكثير من الحوادث والمستجدات تحتاج لنظر واستنباط، وما العمل بالاستحسان إلا رافد من تلك الروافد التي تفتح للناس مجالات من التيسير، ما دامت جاءت وفق الضوابط الشرعية التي رسمها الله تعالى لعباده، وسنَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

5- يظهر أثر الاستحسان في القوانين في عدة جوانب منها:

أ- إلزام الحجاج والمعتمرين بإصدار التصاريح الخاصة بأداء الحج والعمرة، إذ الأصل أن لا يُمنع أحد من أداء فريضة الحج والعمرة إلا أن كثرة الحجاج والمعتمرين قد تؤدي إلى عواقب غير محمودة مما جعل فرض قانون يخص فرض تصريح على مريد الحج والعمرة من الضرورة المخرَّجة على الاستحسان.

ب– إلزام المتقدمين للزواج بإجراء الفحص الطبي، مع أن الأصل أن ذلك ليس من أركان أو شروط الزواج، إلا أن مصلحة المجتمع ومصلحة المتقدمين للزواج تقضي بلزوم إجراء الفحص الطبي تفاديًا للعواقب المرضية، فكان الفحص الطبي لازمًا من باب الاستحسان بالمصلحة.

ج- أن المحجور عليه للسفه لا تصح تبرعاته، ويستثنى استحسانًا وقفه على نفسه مدة حياته؛ لأن في ذلك تأمينًا على عقاراته من الضياع، وهذا يتوافق مع الغرض من الحجر عليه، وهذا من باب الاستحسان بالعرف([53]).

 

 

 

المطلب الرابع: سد الذرائع.

الذرائع جمع ذريعة. والذريعة في اللغة: هي الوسيلة التي يُتوصل بها إلى الشيء، يقال: تذرع بذريعة: أي توسل بوسيلة([54]).

وفي اصطلاح الأصوليين: الذريعة هي الوسيلة التي ظاهرها الإباحة، ويُتوصل بها إلى فعل المحظور([55]).

وعرَّف القرافي في (فروقه) سد الذرائع بأنه: حسم مادة وسائل الفساد دفعًا لها([56]).

فعلى ذلك فالذريعة هنا ما يُتوصل به إلى الشيء الممنوع المشتمل على مفسدةٍ، وسدها هو الحيلولة دونها والمنع منها.

وقد تناول ابن القيم في (إعلام الموقعين)([57]) مبحث سد الذرائع، وأفاض القول فيه، وقد قسم ابن القيم الذريعة أربعة أقسام:

الأول: ما وُضع للإفضاءِ إلى المفسدة، كشرب المسكر المفضي إلى مفسدة السكر، والزنا المفضي إلى اختلاط الماء وفَسادِ الفراش.

الثاني: ما وُضع للإفضاءِ إلى مباح، ولكن قصد به التوصل إلى مفسدة، كعقد النكاح المقصود به التحليل، وعقد البيع الذي قصد به التوصل إلى الرِّبا.

الثالث: ما وُضع لمباحٍ لم يقصد به التوصل إلى مفسدةٍ، ولكنه يفضي إليها غالبًا، وهي أرجح مما قد يترتب عليه من المصلحة، وذلك مثل سب آلهة المشركين بين ظهرانيهم.

الرابع: ما وُضع لمباح، ولكنه قد يفضي إلى مفسدةٍ، ومصلحته أرجح من مفسدته، كالنَّظرِ إلى المخطوبةِ والمستامةِ والمشهودِ عليها.

وفيما قرر ابن القيم أيضًا أن كلا القسمين: الأول والرابع لا كلام فيه، فالشريعة قد جاءت بالمنعِ من

الأول، وجواز هذا الأخير إنما النظر في القسمين: «الثاني والثالث»، هل هما مما جاءت الشريعة بإباحته أو المنع منه؟

هكذا يأخذ ابن القيم الذريعة في معناها الواسع الشامل للأقسامِ الأربعة، ويقرر فقه الشريعة وحكمها في الذرائع، سواء منها ما كان مفضيًا بذاته إلى المفاسد، وما قصد به التذرع إليها، وإن كان في ذاته مباحًا جائزًا، وما كان مفضيًا غالبًا إلى المفسدةِ وإن لم يقصد به التوصل إليها.

غير أنه إذا كان القسم الأول قد جاءت الشريعة بمنعهِ منع كراهة أو تحريم على حَسبِ درجات المفسدة التي يفضي إليها كما يقرر ابن القيم، فالقسم الثالث وهو ما يغلب إفضاؤه إلى المفسدةِ مع كونِ المفسدة فيه أرجح من المصلحةِ ينبغي ألا يكون فيه كلام أيضًا وإن كان دون القسم الأول في قوة الإفضاء إلى المفسدة. فقد جاءت الشريعة بالمنعِ منه على درجاتٍ تخف وتشتد على حسبِ المفسدة التي يفضي إليها. ومَن الذي يجرؤ على المخالفةِ في هذا القسم، فلا يقول بمنعه مع قيام هذا المنع صريحًا في آياتٍ وأحاديث كثيرة واردة في مواطن متنوعة من مثل ما أوردناه آنفًا؟ فالحق أن هذا القسم الثالث ليس محل نظر أيضًا، ولا ينبغي أن يكون مما فيه خلاف بين العلماء، إنما الخلاف بينهم في القسم الثاني، وهو ما وُضع للمباح، ولكنه اتُّخذ وسيلة إلى مفسدة، وهذا هو السر في أن كثيرًا من علماءِ الأصول يُعرِّفون الذريعة بما يقصرها على هذا القسم؛ لأنه هو محل الخلاف، فيقولون: الذريعةُ هي الأمر المباح الذي يُتَّخذ وسيلة إلى مفسدة.

فسدُّ الذرائعِ الذي اشتُهر بالقول به الإمام «مالك» والذي نقل القرطبي في تفسيره رواية عن الإمام «أحمد» أنه يقول به أيضًا([58]) هو منع المباحات التي يُتذرَّع بها إلى مفاسد ومحظورات.

وفي هذا يقول القرافي: إن من الذرائع ما أجمع الناس على منعه، كَسَبِّ الأصنامِ عند من يُعلم أنه يسب الله تعالى حينئذٍ، وكحفر الآبار في طرق المسلمين إذا عُلم وقوعهم فيها أو ظُنَّ ذلك.

ومنها ما أجمعوا على عدم سده كزراعةِ العنبِ خشية أن يُتخذَ منه الخمر، والتجاور في البيوت خشية الوقوع في الزنا، فهذا ونحوه من الذرائع البعيدة التي اتفقوا على عدم منعها.

ومنها ما هو مختلف فيه، كبيوع الآجال، وذلك مثل أن يبيع البائع سلعة بعشرة دراهم إلى أجل ثم يشتريها من المشتري بخمسة نقدًا([59]).

هكذا يقرر القرافيُّ القول في الموضوعِ، ثم يقول: «ويحكى عن المذهب المالكي اختصاصه بسدِّ الذرائع، وليس كذلك، بل منها ما أُجمع عليه كما تقدم… وإنما النزاع في ذرائع خاصة، وهي بيوعُ الآجال ونحوها»([60])، أي من كل مباح تُذُرِّع به إلى مفسدة.

هذا ومتى حصرنا النظر هكذا في هذه الدائرة الضيقة، وهي قسم المباح الذي يُتذرَّع به إلى المفسدةِ كان لنا أن نسأل: كيف يكون في هذا القسم أيضًا خلاف بين العلماء؟ إن الشريعة ما جاءت إلا لتحصيلِ المصالحِ ودرء المفاسد، فكيف يُسَوِّغ الحنفية والشَّافعية والحنابلة -في بَعضِ الرواياتِ عن أحمد- أمورًا يَتذَرَّع بها أصحابها إلى مفاسد؟ وإذا قيل لأبي حنيفة والشافعي وأحمد: إن بيعًا من بُيوعِ الآجالِ قد قصد به المتعاقدان التحايل على التعامل بالرِّبا، فهل من الممكن أن يكون جوابهم بتجويز الذريعة في ذلك؟ لا نرى الأئمة إلا متفقين على منع هذه الذريعة أيضًا. وعلى هذا يكون إطلاق «القرافي» القول بأن الخلافَ إنما هو في ذرائع خاصة كبيوع الآجال ليس على ما ينبغي، فإنه -كما يقول الشاطبي في الموافقات- إذا ثبت صراحة أن المتعاقدَيْن قد قصدا بذلك التوصل إلى الربا أو تكرر منهما هذا التعامل الذي يدل على المراباة فلا خلاف أيضًا بين الأئمةِ أن ذلك ممنوعٌ([61]).

بقيت حالة واحدة من هذا القسم، وهي التي لم تنكشف فيها نية المتعاقدين، ولم يدل على قَصدِ الرِّبا فيها دَليلٌ من تَكرارٍ أو غيره، فهذه هي محل الخلاف بين العلماءِ:

فالإمام مالك يقول: إن ذلك ممنوع أيضًا، والبيعُ فاسدٌ، فإن العقدَ نفسه يحمل الدليل على قصدِ الربا، وذلك لأن مآل هذا التعاقد هو بيع خمسة نقدًا بعشرة إلى أجل، والسلعة فيما بين ذلك لغو لا معنى لها إلا الاحتيال على المراباةِ في صورةِ البيع الجائز([62]).

أما الشافعية فيقولون: إن كلا البيعين في ذاته جائز، يمكن أن يُحَصِّل المصلحةَ المقصودة من البيع، وينبغي حمل حال المسلم على الصلاحِ وعدم القصد إلى الرِّبا المحرَّم، فما لم يقم دليلٌ زائد على مجردِ العقدِ يدل على القصد إلى الممنوع كان العقدُ جائزًا([63]).

أما الحنفية فيرون أن العقدَ الأولَ جَائزٌ وصَحيحٌ بخلافِ العقدِ الثاني، فإنه فَاسدٌ من حيث إنه هو الذي يتحقق به معنى الربا([64]).

ومثل ذلك يقال في سائر أنواع الحيل التي تستلزم سقوط فريضة من فرائض الله تعالى، كحيلة هبة المال أو بيعه -قبيل تمام الحول- هبة صورية وبيعًا صوريًّا يحتال بعده على استرداد المال من الموهوبِ له أو المشتري، ليُستقبَل به حول جديد فرارًا من فريضة الزكاة، فإن الإمام مالك يمنعها بإطلاق، مكتفيًا بما يدل عليه التصرف نفسه من الفرار من ذلك الواجب، وتعطيل حكم من أحكامِ الشريعةِ. أما غيره ممن يرى جواز ذلك ونفاذه فيقول: إنه يلزم لمنعه أن يقومَ دليل آخر غير ماهية التصرف نفسه يدل على الفرار وقصد تعطيل أحكام الشريعة، فما لم يُعلَم هذا القصد ولم يقم عليه دليل فالأمرُ على الجوازِ.

ومذهب «مالك» في المسألةِ أسدُّ وأحكم، والعمل به أوجب وألزم، ولا سيما في الأوقاتِ التي يكثر فيها الفساد والتحايل والعمل على التحللِ من قيود الشريعةِ وأحكامها، فإن الشريعةَ إنما تنظر إلى غاياتِ الأشياءِ ومآلاتها، فإن كانت هذه الغايات والمآلات مفاسد وأضرارًا منعت من أسبابها، وسدت الوسائل والطرق التي يُتذرع بها إليها ولو كانت هذه الوسائل في نفسها مباحةً جائزةً.

أثر سد الذرائع في السياسة الشرعية:

سد الذرائع أصل مهم من أصول الشريعة الإسلامية، يقول ابن قيم الجوزية: وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف، فإنه أمر ونهي، والأمر نوعان، أحدهما: مقصود لنفسه، والثاني: وسيلة إلى المقصود، والنهي نوعان، أحدهما: ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه، والثاني: ما يكون وسيلة إلى المفسدة، فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين([65]).

وعلى ذلك فإن باب سد الذرائع هو من أعظم الأبواب التي تدخل منها السياسة الشرعية للعملِ على إصلاح شؤون الأمة، والأخذ بها في الجادة وطريق الاستقامة، والنهوض بها على الأسبابِ القوية القويمة من قواعد الشريعة وأحكامها، فعن طريق سد الذرائع يستطيع ولي الأمر في الدولة أن يمنع من بعض المباحات التي يتخذها الناس -عن قصد- وسائل إلى المفاسد في المجتمع والإضرار به وبأفراده، أو أنها تفضي إلى مفسدة أرجح مما تفضي إليه من مصلحة فيسد عليهم بابها ويمنعها، وينهى عنها بناءً على قاعدة سد الذرائع.

ومثال ذلك:

1- لولي الأمر أن يأمر بمنع استيراد البضائع الأجنبية التي لها نظير في الأسواق المحلية، لما يجره استيرادها من كساد البضائع المحلية الوطنية، مما يؤثر تأثيرًا بالغًا على الاقتصاد الوطني.

2- لولي الأمر أن يأمر بمنع المخدرات بأنواعها، لما تجره من أضرار ومفاسد على الأفراد والجماعات بدنيًّا ونفسيًّا وعقليًّا وخلقيًّا بشكل ينذر بالدمار والخراب للمجتمع بأسره.

 

 

 

 

المطلب الخامس: العرف.

العرف لغة: جاء في تهذيب اللغة: والعرف والعارفة والمعروف -في لغة العرب- واحد، وهو كل ما تعرفه النفس من الخير وتطمئن إليه([66]). ويقول الفيروزآبادي: «المعروف: اسم لكل فعل يُعرف بالشرع والعقل حُسنُه، والعُرْف: المعروف من الإِحسان»([67]).

والعرف اصطلاحًا: عرَّفه الجرجاني بقوله: «ما استقرت النفوس عليه بشهادة العقول، وتلقته الطبائع بالقبول»([68]).

فعلى هذا فإن العرف هو ما اعتاده الناس وألفوه من قولٍ أو فعلٍ تكرر مرة بعد أخرى، حتى تمكن أثره من نفوسِهم، واطمأنت إليه طباعهم، وصارت تتلقاه عقولهم بالقبول.

وليس المرادُ به كل ما عرفه الناس وألفوه، بل ما عرفه أهلُ العقولِ الرشيدةِ والطباع السليمة، فإن ما يعتاده فريق من الناسِ مما هو ضررٌ أو فسادٌ أو عبثٌ لا خير فيه ولا مصلحة، فليس من العرف الذي نقصده بالقول هاهنا.

وكذلك ليس المراد من العرف هنا ما اعتاده الناس مما نظرت إليه الشريعة بالفعل، ووضعت له حكمًا من الأحكام، فإن هذا يجري دائمًا على ما قررت الشريعة فيه من أمرٍ أو نهي، ولا يختلف باختلافِ الظروفِ والاعتبارات، ما دام يُعلم من تشريعه أن الشأن فيه الدوام والاستمرار.

وذلك مثل ستر العورة، وإزالة الخبث والنجاسةِ، والتجمل بالملابسِ الحسنة النظيفةِ عند العبادة والمناجاة، فإن الشريعةَ قد قررت في ذلك أحكامًا أقرت بها ما اعتاده الناس وعرفوه، وقد لُحِظَت في هذه الأحكامِ أسرار تقتضي دوامها وثباتها، فلا يختلف حالها باختلافِ العصورِ والأحوال. فكشفُ العورةِ قبيحٌ في العادات، وقد قررت الشريعة قبحه، فلا يتأتى أن ينقلبَ هذا القبح حُسنًا لاعتبارٍ من الاعتبارات، حتى لو تجدد لبعضِ الناس عرف على خلافه -كما هو الحال في مدن العراة التي استُحدثت الآن في بعض أقطار أوروبا-، فإنه لا يُعبأ به؛ لأنه عُرفٌ جاء يستحسن ما استقبحه العرف العام، وأكدت قبحه جميع الأديان.

ومثل هذا يُقال في كلِّ ما قررت الشريعة قبحه أو حسنه من العادات على ذلك الوجه، لا ينقلب القبيح حسنًا، ولا الحسن قبيحًا. فهذا النوعُ تعتبر أحكامه من الفقهِ الثابتِ، وليست من السياسةِ التي شأنها الاختلاف والتبدل على حسب الأحوال والمقتضيات.

وإذن لا يكون هذا من العرف الذي يعنينا هنا، فإننا نريد عُرفًا ليس للشريعةِ فيه أمرٌ ولا نهيٌ على وجهِ التفصيل، وعرفًا للشريعة فيه حُكمٌ عُلِم من سرِّ تشريعه أنه ليس من القانونِ الثابتِ الذي لا يختلف باختلاف الأزمانِ والأحوالِ.

أقسام العرف:

ينقسم العرف إلى عُرفٍ قولي وعرفٍ عملي.

فالأول: مثل أن يجري اصطلاح قوم على إطلاق لفظ الرؤوس في البيع والشراء والأيمان مثلًا على رؤوس الغنم خاصة، كالاصطلاح على إطلاق لفظ الطعام على خصوص البُرِّ، وإطلاق لفظ الركوب على ركوب الخيل، ولفظ الدابة على خصوص الفرس.

والثاني: كجريان العَادةِ بدخول الحمام والشرب من السقاء، نظير أجرٍ معين وثمن كذلك، من غير تعيين قدر الماء، ومدة المكث في الحمامِ، ولا تحديد قدر ما يُشرب من السقاء، ويُطلق على النَّوع الثاني اسم العادة.

وينقسم العرف من وجهٍ آخر إلى عرفٍ عام وعرف خاص.

فالعام هو ما يعرفه أهل البلاد خاصتهم وعامتهم في زمنٍ من الأزمنةِ، وهو بذلك يشمل العرف الحادث والعرف القديم. ويقابله العرف الخاص وهو الذي يكون عليه أهل بلدة مثلًا دون أخرى، فيثبت حكمه على تلك البلدة فقط([69]).

فليس يلزم في العُرفِ العام أن يكونَ قد جرى عليه الناس منذ عهد الصحابة، ثم تتابعوا عليه فيما بعد ذلك. فالذي يُلحظ في عموم العرف هو عمومه في جميع البلاد والمواطن، لا عمومه في جميعِ الأزمنةِ والأجيالِ منذ عصور المجتهدين الأولين.

هذا هو الذي استظهره «ابن عابدين» في بيانِ عموم العُرفِ وأيده، وقال: إن نصوص الفقهاء في مختلف الفروع تشهد له وتدل عليه([70]).

وذلك أن جمهور فقهاء الحنفية قالوا: إن العرف الخاص لا يخص به الأثر، وإنما الذي يقوى على ذلك هو العرف العام. ثم قالوا بجواز الشرطِ المتعارف والعمل به كشراء ثوبٍ خَلِق، على أن يرقعه البائعُ أو خف على أن يخرزه، وذلك على خلافِ عمومِ الأثر الوارد في النهي عن بيع وشرط. فهم قد أجازوا تخصيص الأثر بهذا العرف العام الذي لم يلحظوا في عمومهِ أنه قديمٌ منذ عصر الصحابة والتابعين([71]).

وأيضًا قد جاء في كتاب «الشِّرْب» -من ذخيرة الفتاوى للمرغيناني- أنه إذا باعَ إنسانٌ شِرْب يوم أو أكثر منه أو أقل فإنه لا يجوز، لجهالة المبيع، أو لأنه غير مملوك للبائعِ؛ لأن الماء إنما يُملك بالإحراز، وهذا هو القياس، وهو مذهب جمهور المشايخ، لكن بعض مشايخ بلخ قد أجازوه استحسانًا، نظرًا لتعامل أهل بلخ عليه. وقد رُدَّ عليهم بأن هذا تعامل أهل بلدة واحدة، ومثله لا يُترك به القياس([72]).

وقال الزيلعي: وكان مشايخ بلخ والنسفي يُجيزون حمل الطعام ببعض المحمول، ونسج الثوب ببعض المنسوج، لتعامُل أهل بلادهم بذلك، وقالوا: من لم يُجوِّزه إنما لم يجوزه بالقياسِ على قفيز الطحان، والقياس يُترك بالتعارف، ولئن قلنا إن النصَّ يتناوله دلالة، فالنصُّ يُخَصُّ بالتعامل، ألا ترى أن الاستصناع تُرِك القياس فيه، وخُصَّ عن القواعد الشرعيةِ بالتعامل؟

ومشايخنا رحمهم الله لم يجوزوا هذا التخصيص؛ لأن ذلك تعامل أهل بلدة واحدة، وبه لا يُخَصُّ الأثر، بخلاف الاستصناع، فإن التعامل به جرى في كل البلاد، وبمثله يُترك القياس ويُخَصُّ الأثر([73]).

فهذا ظاهرٌ كل الظهورِ في أن جمهورَ الفقهاء -حينما يشترطون في العرف الذي يُخَصُّ به الأثر أو يُترَك به القياس أن يكون عامًّا- لا يوجبون أن يكون هذا العموم قديمًا، فإنه لو كان قِدَم العرف لازمًا في عمومه لأشاروا إلى ذلك في الردِّ على مشايخ بلخ، ولقالوا: إن تعامل أهل بلخ عُرْفٌ حادث، فلا يُترك به القياس، فكلمتهم في الردِّ على مشايخ بلخ تفيد بمفهومها أنه لو كان ما تعارفه هؤلاء من بيع الشِّرب مثلا متعارفًا لغيرهم لكان البيع جائزًا؛ لأنه يكون حينئذٍ عرفًا عامًّا يُترَك به القياس.

هذا، ومثال العرف العام أن يحلفَ إنسانٌ أنه لا يضع قدمه في دار فلان، فإن العرف العام قاض أنه ليس المعنى على ظَاهرِ ما يعطيه اللفظ من وضع الجارحة المعروفة في الدار، وإنما هو على معنى الدخول فيها راجلًا أو راكبًا، واعتبار هذا العرف يقضي بأن ذلك الحالف يحنث بدخولِ الدارِ، ولو لم تمس أرضَهَا قدمُهُ، فإن المعنى الأصلي من وضع القدم نفسها في الدار قد قضى عليه العرف وألغاه، حتى لو وقفَ الحالف خارجها ومدَّ رجله حتى وضع قدمه داخلها لم يكن حانثًا في اليمين؛ لأنه لا يُعدُّ بهذا داخلا في الدار.

ومثال العرف الخاص أن يتعارفَ قومٌ إطلاق لفظ الطعام على خصوص البُرِّ، فإن هذا اللفظ -إذا روعي استعمال هؤلاء القوم- لا يصح حمله على ما يتناول غير البُرِّ ولو كان في ذاته صالحًا لذلك، ولو كان في استعمال غيرهم متناولًا لما عدا البُر من سائر أنواع الحَبِّ التي هي أصل طعام الإنسان.

ومن العرف الخاص أن تجري عادة أهل بلد بتعجيلِ صداق الأزواج قبل الزفاف، فاعتبار هذا العرف يقضي بأنه إذا اختلف الزوجان بعد الدخول في قبض المهر، وجب في الفتوى والحكم مراعاة جانب الزوج، فيُحكم ببراءة ذمته من الصداق، بشهادة العرف في ذلك، إلا أن يقوم دليلٌ أقوى على خِلافهِ. فإذا تبدل هذا العرف أو انتقل القاضي إلى بلدٍ عُرْفُ أهله تأجيل الصداق فإن الحكم يتغير، ويجبُ أن يحكمَ للزوجةِ التي تنكر قبض المهر، ويكون الحكم في الحالين صحيحًا تقره الشريعة العادلة التي تقضي قوانينها العامة بأن من تَرجَّح جانبه بمعهودٍ أو شهادة أصل كان القول قوله، لا يُحتَاج في ذلك إلى شيءٍ آخر من البينات.

وكذلك من العرف الخاص ما اعتاده أهل الغرب ومن شاكلهم من المشي في الطرقات عاري الرؤوس، حتى بعض أهل المروءات منهم لا يتحاشون ذلك، ولا يعدونه ماسًّا بالكرامة، على خلافِ المعهود عند جمهور أهل الشرق الذين يستنكرونه ويرون فيه مساسًا بوقارِ أهل المروءة، فيجب إذًا أن يُعطَى كلُّ فريقٍ ما يناسبه من الحكم، على ما يقضي به العرف الخاص، وإذا كان الفقهاء يشترطون في قبول الشهادة العدالة وعدم الإخلال بمواجب المروءة وجب أن يفرقوا في مسألة كشف الرأس بين أهل العادات المختلفة، فيرفضوا شهادة من كان عُرْفُ بيئَتِه أن ذلك مخلٌّ بالكرامةِ دون من لم يره كذلك.

وقد راعى العُرْفَ من قديمٍ فقهاءُ الإسلام، وحكموا بمقتضاه، ووضعوا لذلك كلمات جرت مجرى المبادئ العامة والقواعد الكلية، فقالوا: «العادة محكَّمة»، «الثابت بالعرفِ كالثابت بالنصِّ».

ويقول علماء الأصول: إن الحقيقةَ تُترَك بدلالة الاستعمال والعادة.

ومن أجل اعتبار العرف أجاز الفقهاء الأقدمون الاستصناع على خلاف ما تقضي به القواعد العامة التي لا تجيز بيع المعدوم، لما رأوا ذلك جاريًا في العادة، غير مفضٍ في الغالبِ إلى النزاع بين المتعاقدين.

وأجازوا -لذلك أيضًا- دخول الحمام والشرب من السقاء نظير ثمن معين، مع جهالة المبيع وتفاوت الناس فيما يستهلكونه من الماءِ في الشرب والاستحمام.

ومن أجل مراعاة العرف نجد كثيرًا من متأخري الفقهاء يخالفون أئمتهم المتقدمين في بعضِ ما حكموا فيه من فروع، فيفتون بجوازِ الاستئجار على تعليم القرآن، وعلى الإمامةِ والأذان، على خلاف ما كان يراه المتقدمون من أن هذه طاعاتٌ وعباداتٌ لا يجوز الاستئجار عليها، كسائر الطاعاتِ والعبادات. رأى المتأخرون أن الزمن قد تغير، وأصبح للناسِ عُرفٌ حادث ونظام للدولةِ جديد، انقطع به ما كان مخصصًا لمعلمي القرآن وللأئمة وغيرهم من العطاء في بيت المال، فإذا لم يُجَارَ هذا النظام الحديث لتعطلت هذه الشؤون الدينية العظيمة بسببِ شغل من هم أهل لها بضروبِ الكسب وما تتطلبه المعيشة.

ومن ذلك فتوى المتأخرين بمنعِ النساءِ من الخروج لصلاةِ الجماعة في المساجد، على خلاف ما كان معهودًا في صدرِ الإسلام لما رأوا من فساد الزمان، وتبدل العادات الصالحة بعادات أخرى فاسدة.

فهذا كله وما شاكله قضاء باعتبار العرفِ والعادة، وإرشادٌ إلى وجوب مجاراتهما بأحكامِ الشريعةِ.

وقد نبَّه «القرافي» إلى العرف ووجوب مراعاته في الفتيا والحكم، وأورد جملة من ألفاظِ الطلاقِ كقول الرجل لامرأته: «خلية- برية- بتة- بتلة- حبلك على غاربك»، وعرض لاختلاف العلماء فيما يقع بها من الطلاق، وذكر كذلك لفظ «حرام» الذي كان لا يزال معروفًا في التطليقِ في عَهدهِ، واشتهر في أصل إزالة العصمة، وقال: إنه يجب الحكم فيه بطلقةٍ واحدةٍ، ولا يصح الحكم فيه بوقوعِ الثَّلاث إلا إذا كان عرف أهل البلد قد جرى بذلك.

ثم قال: «وإياك أن تقول: «إنا لا نفهم منه إلا الطلاق الثلاث»؛ لأن مالكًا رحمه الله قاله، أو لأنه مسطورٌ في كتب الفقه؛ لأن ذلك غلط، بل لا بد أن يكون ذلك الفهم حاصلًا لك من جهةِ الاستعمال والعادة كما يحصل لسائر العوام».

وقال أيضًا: إذا تقرر ذلك فيجب علينا أمور: «أحدها» أن نعتقد أن مالكًا أو غيره من العلماءِ إنما أفتى في هذه الألفاظِ بهذه الأحكام؛ لأن زمانهم كان فيه عوائد اقتضت نقل هذه الألفاظ للمعاني التي أفتوا بها فيها.

و«ثانيًا»: أنا إذا وجدنا زماننا عريًّا عن ذلك وجب علينا ألا نفتي بتلك الأحكام في هذه الألفاظ؛ لأن انتقال العوائد يوجب انتقال الأحكام، كما نقول في النقود وفي غيرها، فإنا نفتي في زمانٍ معينٍ بأن المشتري تلزمه سَكَّة معينة من النقود عند الإطلاق؛ لأن تلك السَّكَّة هي التي جرت العادة بالمعاملة بها في ذلك الزمان، فإذا وجدنا بلدًا آخر وزمانًا آخر يقع التعامل فيه بغير تلك السَّكَّة تغيرت الفتيا إلى السَّكَّة الثانية، وحرمت الفتيا بالأولى لأجل تغير العادة.

وكذلك القول في نفقاتِ الزوجات والذرية والأقارب، وقبض الصداق عند الدخول أو قبله أو بعده، يفتى في ذلك لكل أهلِ بلد بما تجري به عاداتهم، ومن أفتى بغير ذلك كان خارقًا للإجماع، فإن الفتيا بغير مستندٍ مُجمَع على تحريمها، وإجماع المسلمين على أنه إذا تغيرت العادة تغير الحكم، وحرمت الفتيا بالحكم الأول.

وعلى هذا يجب على المفتي -في ألفاظِ الطلاقِ وما ماثلها مما يختلف فيه عرف الناس وعاداتهم- أن يكون عليمًا بعرف بلد المستفتي أو يسأل عنه إن جهله، ولا يصح تحكيم عرف بلد المفتي نفسه، ومثله الحاكم في جميع ذلك([74]).

أدلة اعتبار العرف:

هذا ويشهد لاعتبار العرف -فوق ما تقدم- ما صحَّ من الآثار والسنن: فمن ذلك ما روي عن عبد الله بن مسعود موقوفًا من قوله: «ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن»([75]).

ومنها: ما أخرجه البخاري ومسلم عن عائشة، أن هند بنت عتبة، قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي، إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، فقال: «خذي ما يكفيكِ وولدكِ بالمعروف»([76]).

وسواء أكان هذا قضاء أم فتيا، فقد أباح لها الرسول صلى الله عليه وسلم أن تأخذ من مال زوجها -ولو لم يأذن لها– ما جرى العرف بمثله، وما ألفه الناس في هذا الباب.

كما أجمع العلماء على اعتبار العرف في الأحكام الشرعية حتى قال الإمام القرافي المالكي: «نُقل عن مذهبنا أن من خواصه اعتبار العوائد والمصلحة المرسلة وسد الذرائع، وليس كذلك، أما العرف فمشترك بين المذاهب، ومن استقرأها وجدهم يصرحون بذلك فيها»([77]).

ويشهد لاعتبار العرف من الكتاب: قوله تعالى: {خُذِ ٱلۡعَفۡوَ وَأۡمُرۡ بِٱلۡعُرۡفِ}([78])، فالآية تدل على اعتبار العرف. قال السيوطي: «قال ابن الفرس: المعنى: اقض بكل ما عرفته النفوس مما لا يردُّه الشرع، وهذا أصل القاعدة الفقهية في اعتبار العرف»([79]).

بيان مدى اعتبار العرف وتأثيره على القياسِ وعموم النص:

قد تبين مما سبق أن العرفَ إن نظر إليه الشارع واعتبر أحكامه وقررها على وجهٍ يُشعِر بأنها شريعة عامة دائمة، وذلك كأن يُلحَظ فيها من أسرار التشريع ما يقتضي ذلك الدوام، فلا شأن للسياسةِ به، وأحكامه تكون إذًا من الفقهِ الثابت الذي لا يتغير ولا يتبدل، فإن العُرفَ الذي تعتمد عليه السياسة وتجد فيه مجالها هو العرف الذي ليس للشريعةِ في موضوعهِ حكم يدل عليه دليل تفصيلي على نحو ما قدمناه.

وهنا نريد أن نبين: هل يصح اعتبار العرف حين يخالف دليلًا من الأدلةِ التفصيلية؟ وهل يصح أن يُتركَ به القياسُ أو يُخَصَّ به عموم النص؟ وعلى ضوءِ ما قدمناه يصح أن نقولَ عن السؤال الأول: إن الدليل التفصيلي إن كان مثبتًا حكمًا يفهم من إنشائه أنه من النظامِ العامِّ والقانونِ الثابت لم يصح اعتبار العرف الذي يجري على خلافه، وذلك كما في الربا والخمر والميسر، فإن النصَّ قد ورد فيها على وجهٍ يفيد أن حرمتها ثابتة لمعان فيها أنفسها، لا تختلف باختلافِ الظروفِ والعادات، فاعتياد بعض الناس تعاطيها لا يؤثر مطلقًا على الدليل الشرعي.

أما إذا عُلم أن ما أثبته الدَّليل ليس من النظام العام -وذلك كأن يُعلم أنه شيءٌ ثبت مجاراةً لعرفٍ كان قائمًا- فحدوث عرف آخر على خلافِ الأول الذي وافقه الدليل لا تكون مجاراته مخالفة لذلك الدليل.

وعلى هذا جاز -كما هو الحال في زماننا- التبادل في النقودِ الذهبية والفضية بمثلها عددًا وقيمة، وإن كان ذلك مخالفًا في الظاهر، لما رواه مسلم عن أبي هريرة من قوله صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب، وزنًا بوزن، مثلًا بمثل، والفضة بالفضة، وزنًا بوزن، مثلًا بمثل»([80]).

ولما رواه مسلم عن أبي سعيد من قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق إلا وزنًا بوزن، مثلًا بمثل، سواء بسواء»([81])، فإن السرَّ في اشتراط الوزن في بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة إنما هو ضبط نظام التعامل، وتحقيق المساواة في البدلين، تحرزًا من الربا، وقطعًا لمادة الشغب والنزاع بين الناس، فإذا كانت قطع الذهب أو الفضة مضبوطة القيمة والعيار لم يكن هناك سبيلٌ إلى النزاعِ في بيع بعضها ببعض عددًا، فإنا نحكم حينئذ بتحقق ذلك التساوي فيها.

ومن هنا يتبين قوة نظر الإمامِ أبي يوسف في اعتبارهِ العرف في بَيعِ الربويات بمثلها، مخالفًا في ذلك ما يحكيه الفقهاءُ عن غَيرهِ من الأئمةِ من أن كلَّ شيء نصَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على تَحريمِ التَّفاضلِ فيه كيلًا فهو مكيل أبدًا، وإن تَركَ الناس الكيل فيه، مثل الحِنطة والشعير والتمر والملح، وكل ما نصَّ على تَحريمِ التفاضل فيه وزنًا فهو موزون أبدًا، وإن ترك الناس الوزن فيه مثل الذهب والفضة([82]).

نَظرَ أبو يوسف إلى أن اعتبارَ الْكيلِ في النوعِ الأولِ، والوزن في الثاني ليس له معنى إلا تحقيق التساوي في البدلين على ما جرى به عرف أهل الصدر الأول في التعامل، فلم ينص على الكيلِ مثلًا لمعنى في ذاته، بل لأنه معيار التسوية فيما جرى ذلك العرف بكيله، حتى لو كان عرف الناس في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم يكيلون التبر، ويَزِنُون الشعير والحنطة والتمر لَنَصَّ على اعتباره. وكذا لو بقي الرسول صلى الله عليه وسلم حيًّا حتى طرأ العرف ببيع تلك المكيلات وزنًا، والموزونات كيلًا لاعتبره ونصَّ على وفقه([83])، فالعرف الطارئ في مثل هذا الموطن إذا خالفَ النص ظاهرًا فهو موافق له روحًا ومعنى، وليس كعرفٍ يحدث بشرب الخمر، والتعامل بالرِّبا والميسر، فإن النهي عنها لِمضارَّ اجتماعية ملازمة لها، فلا يختلف الحكم فيها باختلاف العرف والعادة.

وليس أيضا كعرفٍ يحدث ببيع تلك الربويات بعضها ببعض جزافًا، فإن ذلك يكون مخالفًا لروح النصِّ ومعناه من وجوب التسوية، وتحريم التفاضل في بيعِ أفراد الجنس الواحد الربوي بعضها ببعض.

هذا هو جواب المسألة الأولى.

أما عن المسألة الثانية: وهي الخاصة بمدى تأثير العرفِ على القياسِ وعموم النصِّ، فقد نقل ابن عابدين([84]) أن الحنفية يقولون: إن العرف يقوى على تخصيص عموم النصِّ، وأنهم يُسوُّون في ذلك بين العرف العملي والعرف القولي.

أما الشافعية فيقولون: إن الذي يقوى على تخصيص العام إنما هو العرف القولي.

ولا يظهر وجه قوي للتفرقةِ بين العرفين في ذلك على ما هو مذهب الشافعية، وإلا فما الفرق بين أن يجري عرف الناس في لفظ «الطعام» مثلًا على إطلاقه على خصوص البُرِّ -وهو العُرفُ القولي- وبين أن يكون الربا المعروف عندهم في التعاملِ هو خصوص ربا النسيئة مثلًا حتى يقبلَ تأثير العرف على العموم في الحالةِ الأولى ولا يقبل في الحالة الثانية؟

إن لفظ الطعام في اللغة يتناول البُرَّ وغيره، فإذا قصره اصطلاح الناس وعرفهم على البُرِّ وحده، حُمل على هذا المعنى لفظ الطعامِ حين يرد في استعمالات الشارع كما هو مذهب الشافعية، إلا أن يدلَّ دليلٌ على خلافِ ذلك، فلو فرضنا أن ربا الفضل لم يرد تحريمه في صحيح السنة، وكان ما يعرفه الناس في باب الربا إنما هو ربا النسيئة كان لازمًا أن تُحملَ الآيات القرآنية الواردة في النهي عن الربا على ما هو معروف من ربا النسيئة.

هذا وإذا كان الحنفيةُ يُسوُّون بين العُرفينِ في جوازِ التخصيص بكلٍّ منهما، فهل ذلك ثابتٌ لكلِّ عُرف، سواء أكان عامًّا أو خاصًّا، أو هو مقصور على العرف العام؟

الذي يظهر مما نقله ابن عابدين عن الأشباهِ وعن الذخيرةِ البرهانية أن العرفَ العام لا خلاف لأحدٍ في المذهب أنه يُخَصُّ به العموم ويُترَك به القياس. أما العرف الخاص فإن المذهب على أنه لا يُخصِّص عامًّا ولا يُترَك به قياس.

لكن بعض مشايخ بلخ أجازوا تخصيص العام بالعرف الخاص، وقالوا أيضًا: إنه يُترَك به القياس، فإنهم أجازوا ما تعارفه أهل بلدهم من استئجار صاحب الغزل حائكًا ينسجه له ثيابًا بالثلثِ، قالوا: تعامل الناس هذا، وفي منعهم منه حرج، فلزم تخصيص العموم الثابت بدلالةِ النصِّ الوارد في قفيز الطحان، فإن مسألة الحائك في معناها([85]).

وفي الحقِّ أنَّا لا نفهم معنًى للتفرقة بين العرف العام والعرف الخاص، وشأنها في ذلك شأن التفرقة بين العرف القولي والعرف العملي عند الشافعية، فإنه إذا جاز تخصيص العام وترك القياس بالعرف العام للحرج والمشقة اللازمين للعموم والقياس، واللذَيْن دلَّ عليهما التعامل على خلاف العموم ومقتضى القياس، فلماذا يمنع ذلك في العرف الخاص؟

مفهوم جدًّا أن يُمنعَ تخصيص العام ويُمنَع تركُ القياس بعرف خاص إذا أريد أن يكون الحكم المستفاد من هذا العرف حكمًا عامًّا يجري على أهلهِ وعلى غيرهم ممن لم يتعارفوا ذلك، فأما إذا كان الحكم خاصًّا بهم ومقصورًا عليهم فهذا هو الذي لا يظهر فيه وجه المنع.

وهذا الذي نقرره يشهد له ما في البزازية، ونصه: «الحكم العام لا يثبت بالعُرف الخاص في المذهب، وقيل: يثبت»([86])، فإنها تفيد أن اختلاف الفقهاء إنما هو في إثبات حكم عام بعرف خاص، وأن جمهور علماء المذهب على منعه، وبعض العلماء على جوازه.

ويوضحه أيضًا ما جاء في الذخيرة -كما نقله ابن عابدين- من أن جمهور المشايخ لم يجوزوا تخصيص العام بالعرف الخاص، «لأن ذلك تعامل أهل بلدة واحدة، وتعامل أهل بلدة واحدة لا يُخَصُّ به الأثر؛ لأن تعامل أهل بلدة واحدة إن اقتضى أن يجوزَ التخصيص، فترك التعامل من أهل بلدةٍ أخرى يمنع التخصيص، فلا يثبت التخصيص بالشك، بخلاف التعامل في الاستصناع، فإنه وجد في البلاد كلها»([87]).

فإن هذا ظاهر في تخصيصٍ يراد به إثبات حكم عام يجري على أهل التعامل وغيرهم. وهذا هو الذي يستقيم معه حديث ترك التعامل في بلدةٍ على وفق التعامل في بلدةٍ أخرى، وأنه لا يثبت التخصيص بالشك.

أما إذا كان الحكم الخاص مقصورًا على البلدةِ التي تعامل أهلها على خلاف العام بسبب ما في العموم من حرجٍ ومشقةٍ لم يكن التخصيص ثابتًا مع الشك، وإنما هو ثابتٌ مع اليقين. ولا مانع أن يكون العام مخصوصًا بالنظر إلى قوم، باقيًا على العموم بالنظر إلى آخرين، تبعًا لتحقق الحرج وعدمه.

شروط اعتبار العرف:

وقد قرر الفقهاء لاعتبار العرف عدة شروط، وهي:

1- ألا يخالف العرف نصًّا من كتاب أو سنة أو أصل قطعي في الشريعة الإسلامية: كتعارف الناس التعامل بالربا وتبرج النساء، فإن هذا العرف يسمى بالعرف الفاسد أو الباطل، ولا اعتبار له لأن في مراعاته معارضة دليل شرعي أو إبطال حكم شرعي، والقول باعتبار هذا العرف فيه إهدار للنصوص وإلغاء لها.

ولم تأتِ أحكام الشريعة الإسلامية لتكون خاضعة لأعراف الناس ورغباتهم الفاسدة في مثل ما ذكرنا، بل جاءت لِتُخضع المكلفين لأحكامها مراعاة لحاجتهم، وتحقيقًا لمصالحهم بما يحقق لهم النفع ويدفع عنهم الضرر.

2- أن يكون العرف مطردًا أو غالبًا، بمعنى أن يكون العمل به مستمرًّا في كل الحوادث أو أغلبها. كما قال ابن نجيم: «إنما تعتبر العادة إذا اطَّردت أو غلبت»([88]).

فإذا جرت عادة أهل بلد على أن يتعامل بأمرها في بعض الحوادث، ويترك التعامل به في البعض الآخر فلا يكون العرف حينئذٍ معتبرًا، ولا يصلح دليلًا لتعارض العمل به مع الترك.

3- أن يكون العرف قائمًا عند إنشاء التصرف، بأن يكون سابقًا للتصرف أو مقارنًا له، وإلا فلا يُعتبر، كما قال السيوطي: «العرف الذي تحمل عليه الألفاظ إنما هو المقارن السابق دون المتأخر»([89])، ولا عبرة بالعرف الطارئ؛ لأن القاعدة أن ما له عرف أو عادة في لفظ إنما يُحمل لفظه على عرفه السائد، أما العادات الطارئة بعد النطق فلا يُقضى بها على النطق، فإن النطق سالم من معارضتها فيُحمل على اللغة، كما إذا وقع العقد في البيع فإن الثمن يُحمل على العادة الحاضرة في النقد، وما يطرأ بعد ذلك من العوائد في النقود لا عبرة به في هذا البيع المتقدم([90]).

4- ألا يعارض العرفَ شرط للعاقدين أو أحدهما بعدم العمل به، فيُشترط لاعتبار العرف ألَّا يصدر تصريح بخلافه، فإذا صرَّح العاقدان بخلاف العرف فلا اعتبار للعرف؛ لأنه لا عبرة للدلالة في مقابلة التصريح. قال العز بن عبد السلام: «كل ما يثبت في العرف إذا صرح المتعاقدان بخلافه بما يوافق مقصود العقد صح»([91])، فعلى سبيل المثال: إذا كان العرف جاريًا على أن يدفع المستأجر أجرة البيت مقدمًا في أول كل شهر فاتفقا على دفع الأجرة في آخر الشهر جاز([92]).

أثر العرف في مجال السياسة الشرعية:

إن العرف مصدر خصب في التشريع والقضاء والفتوى، واعتبار الشريعة الإسلامية له دليل على أنها صالحة لكل زمان ومكان.

ومراعاة العرف وتحكيم ما يقضي به أمر واجب في سياسة الأمة وتدبير شؤونها على وفق مبادئ الشريعة التي لم تقصد إلا إلى النظام وتحقيق مصالح العباد([93]).

فللعرف قيمته التشريعية، وتقوم عليه أحكام السياسة الشرعية من حيث قدرته على الاستجابة لمتطلبات الحياة ومسايرة الأحداث المتجددة.

والعرف مرجع القاضي لمعرفة ما يريده الناس بأقوالهم في العقود والألفاظ والتصرفات والشروط التي يشترطونها فيها، وكذلك للعرف دور كبير في المعاملات التجارية التي تتجدد على مر الأيام والأزمان تبعًا لتجدد أحوال الناس وعاداتهم التجارية.

يقول القرافي: «فمهما تجدد في العرف اعتبره ومهما سقط أسقطه ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك لا تُجْرِه على عُرْف بلدك واسأله عن عرف بلده وأَجْرِه عليه وأَفْتِه به دون عرف بلدك والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين»([94]).

وعلى ذلك فلولي الأمر تقييد الفتاوى بأعراف المستفتين زمانًا ومكانًا وحالًا؛ لأن في هذا الزمان قد تصل مع انتشار وسائل التواصل الحديثة فتوى أهل بلد غير مقيدة به إلى بلد لا تشملهم الفتوى فيظن شمولها، فيقع بذلك على من لا تشملهم الفتوى حرج كبير، أو على العكس ربما يقع توسع غير مشروع في حقهم، كما قد يقع بذلك استغلال وتوظيف للفتاوى، أو سبَّة بها على أهل الإسلام من أهل الباطل المتربصين([95]).

وفي جميع ما ذكرنا دليل واضح على مسايرة السياسة الشرعية لركب الحياة ووفائها بكل ما تتطلبه الأمة من أحكام فيما يجدُّ لها من وقائع وحوادث لم تكن معروفة لها في الأزمنة الماضية ببنائها على العرف إذا تحقَّقت فيه شروط اعتباره على نحو ما ذكرنا.

 

 ([1]) انظر: الذخيرة للقرافي (10/ 46)، دار الغرب الإسلامي- بيروت.

 ([2]) انظر: تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام لابن فرحون (2/ 154)، مكتبة الكليات الأزهرية.

 ([3]) انظر: الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن القيم (1/ 7).

([4]) ينظر: انظر: لسان العرب لابن منظور (6/ 187)، والقاموس المحيط للفيروزآبادي (ص733).

([5]) ينظر: قواطع الأدلة لابن السمعاني (2/ 285)، والمستصفى للغزالي (2/ 228)، والإحكام للآمدي (2/ 246)، (3/ 183)، التعريفات للجرجاني (ص26)، ومعجم لغة الفقهاء لمحمد قلعجي (ص115).

([6]) ينظر: المستصفى للغزالي (2/ 266)، والإحكام للآمدي (4/ 9)، وشرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 259)، وكشف الأسرار لعبد العزيز البخاري (3/ 427).

([7]) ينظر: المحصول للرازي (5/ 22)، والإحكام للآمدي (4/ 5)، وشرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 246)، وبيان المختصر للأصفهاني (3/ 135)، وتحفة المسؤول للرهوني (4/ 123).

([8]) ينظر: المستصفى للغزالي (ص299)، والمحصول للرازي (5/ 22)، ونفائس الأصول للقرافي (7/ 3094)، والفائق في أصول الفقه لصفي الدين الهندي (2/ 221).

([9]) ينظر: الإحكام لابن حزم (3/ 322)، والتبصرة للشيرازي (ص423).

([10]) ينظر: المعتمد لأبي الحسين البصري (2/ 746).

([11]) أخرجه البخاري، رقم (25)، ومسلم، رقم (22).

([12]) انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر (12/ 276).

([13]) أثر المصلحة في السياسة الشرعية للدكتور صلاح الدين النعيمي (ص153، 154)، دار الكتب العلمية- بيروت.

([14]) انظر: التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد لابن عبد البر (22/ 129)، وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية- المغرب.

([15]) أثر المصلحة في السياسة الشرعية (ص154).

([16]) انظر: مقاييس اللغة لابن فارس (2/ 392)، والقاموس المحيط للفيروزآبادي (1/ 1006) مادة (أرسل).

([17]) انظر: شرح تنقيح الفصول للقرافي (ص393)، والاعتصام للشاطبي (3/ 12)، وعلم أصول الفقه لعبد الوهاب خلاف (ص74).

([18]) انظر: ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي (ص399- 406)، مؤسسة الرسالة.

([19]) انظر: نهاية السول شرح منهاج الوصول للإسنوي (ص364)، دار الكتب العلمية- بيروت، البحر المحيط للزركشي (8/ 83- 86)، دار الكتبي، البرهان في أصول الفقه للجويني (2/ 161)، دار الكتب العلمية- بيروت، إرشاد الفحول للشوكاني (2/ 184).

([20]) إرشاد الفحول للشوكاني (2/ 134).

([21]) شرح تنقيح الفصول للقرافي (ص446)، شركة الطباعة الفنية المتحدة.

([22]) انظر: البحر المحيط للزركشي (8/ 84).

([23]) انظر: البرهان للجويني (2/ 161)، إرشاد الفحول للشوكاني (2/ 185).

([24]) انظر: الأشباه والنظائر (ص84)، دار الكتب العلمية.

([25]) الرد على سير الأوزاعي للإمام أبي يوسف (ص83)، لجنة إحياء المعارف النعمانية- حيدر آباد الدكن- الهند.

([26]) انظر: تعليل الأحكام لمحمد مصطفى شلبي (ص296)، مطبعة الأزهر، 1947م.

([27]) انظر: السابق (ص296، 297).

([28]) تعليل الأحكام لمحمد مصطفى شلبي (ص273).

([29]) المدخل للفقه الإسلامي للدكتور حسن علي الشاذلي (ص489)، دار الكتاب الجامعي- القاهرة، 1988م.

([30]) انظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (3/ 213)، مؤسسة الرسالة.

([31]) نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي للدكتور حسين حامد حسان (ص356، 357)، 1981م.

([32]) علم أصول الفقه وخلاصة تاريخ التشريع لعبد الوهاب خلاف (ص81)، مطبعة المدني «المؤسسة السعودية بمصر».

([33]) الاعتصام للشاطبي (3/ 22، 23)، دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع- المملكة العربية السعودية.

([34]) ينظر: مختار الصحاح لأبي بكر الرازي (ص73)، والمعجم الوسيط (1/ 174) مادة (حسن).

([35]) الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (4/ 157)، المكتب الإسلامي، بيروت- دمشق.

([36]) تشنيف المسامع بجمع الجوامع للزركشي (3/ 57)، مكتبة قرطبة للبحث العلمي وإحياء التراث- توزيع المكتبة المكية.

([37]) الذخيرة للقرافي (1/ 155)، دار الغرب الإسلامي- بيروت.

([38]) انظر: الفروق للقرافي (4/ 146)، عالم الكتب.

([39]) انظر: تشنيف المسامع (3/ 439).

([40]) كشف الأسرار شرح أصول البزدوي لعبد العزيز البخاري (4/ 3)، دار الكتاب الإسلامي، الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (4/ 158).

([41]) أخرجه البخاري، رقم (2240).

([42]) يفرق الفقهاء بين السَّلمِ والاستصناع بأن الأول لا بد فيه من ذكر الأجل، وتعجيل الثمن بخلاف الاستصناع، وأيضًا أن الاستصناع عقدٌ على مبيعٍ في الذمة يكون من صنع الصانع بناءً على هذا العقد، حتى لو أحضر الصانع شيئًا ليس من صُنعهِ، أو كان مما صنعه قبل العقد، ورضي به المستصنع لم يكن ذلك استصناعًا، بل ينقلب بيعًا حاضرًا بالتعاطي، فأما السَّلَم فيما يصنع فلا يلزم فيه أن يكونَ المبيع من صنعة البائع.

([43]) انظر: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني (5/ 2، 3)، دار الكتب العلمية.

([44]) انظر: العناية شرح الهداية للبابرتي (1/ 98)، دار الفكر، مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر لشيخي زاده (1/ 33)، دار إحياء التراث العربي.

([45]) انظر: الرسالة للإمام الشافعي، تحقيق الشيخ أحمد شاكر (ص504- 507)، مكتبه الحلبي- القاهرة، الطبعة الأولى.

([46]) الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (6/ 17)، دار الآفاق الجديدة- بيروت.

([47]) السابق (6/ 16).

([48]) السابق نفسه.

([49]) هكذا يقول الآمدي، ولكن الصحيح أن هذا الأثر موقوف على ابن مسعود، وليس مرفوعًا، [أخرجه مالك في الموطأ (1/ 91، رقم 241، وأحمد في مسنده (6/ 84، رقم 3600)، والطيالسي في مسنده (1/ 199، رقم 243)، والطبراني في الأوسط 4/ 58 رقم 3602.

([50]) الإحكام للآمدي (4/ 156، 157).

([51]) حاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع (2/ 395، 396)، دار الكتب العلمية.

([52]) حاشية العطار (2/ 396).

 ([53]) الاستحسان وأثره في السياسة الشرعية للدكتور حافظ محمد حكمي (ص69، 70)، بحث بالمجلة العربية للنشر العلمي الأردنية، العدد (48)، أكتوبر 2022م.

 ([54]) انظر: لسان العرب لابن منظور (8/ 96)، مادة «ذرع»، دار صادر- بيروت.

 ([55]) إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول للشوكاني (2/ 193)، دار الكتاب العربي.

 ([56]) الفروق للقرافي (2/ 32)، عالم الكتب.

 ([57]) انظر: إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم، تحقيق: محمد عبد السلام إبراهيم (3/ 108- 126)، دار الكتب العلمية- بيروت.

 ([58]) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (2/ 57)، دار الكتب المصرية- القاهرة.

 ([59]) انظر: الفروق للقرافي (2/ 32).

 ([60]) انظر: السابق (3/ 266).

 ([61]) انظر: الموافقات للشاطبي (5/ 182- 185)، دار ابن عفان- السعودية.

 ([62]) انظر: كفاية الطالب الرباني لعلي بن خلف المنوفي، مطبوع مع حاشية العدوي (2/ 183)، دار الفكر- بيروت.

 ([63]) انظر: الأم للشافعي (3/ 75)، دار المعرفة- بيروت.

 ([64]) انظر: الهداية في شرح بداية المبتدي للمرغيناني (3/ 47)، دار إحياء التراث العربي- بيروت.

 ([65]) إعلام الموقعين عن رب العالمين (3/ 126).

([66]) انظر: تهذيب اللغة للأزهري (2/ 208)، مادة «عرف».

([67]) انظر: بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز للفيروزآبادي (4/ 57)، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية- القاهرة.

([68]) التعريفات للجرجاني (ص149)، دار الكتب العلمية- بيروت.

([69]) انظر: مجموعة رسائل ابن عابدين (2/ 114- 116، 132).

([70]) انظر: السابق (2/ 124، 125).

([71]) انظر: مجموعة رسائل ابن عابدين (2/ 116، 125)، وانظر: البحر الرائق شرح كنز الدقائق لابن نجيم، مطبوع مع حاشية منحة الخالق لابن عابدين (6/ 95)، دار الكتاب الإسلامي.

([72]) انظر: الذخيرة البرهانية لابن مازه المرغيناني (13/ 177، 178)، دار الكتب العلمية- بيروت.

([73]) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق للزيلعي (5/ 130)، دار الكتاب الإسلامي.

([74]) انظر: الفروق (1/ 40) وما بعدها بتصرف.

([75]) أخرجه أحمد في مسنده، رقم (3600)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/ 854)، رقم (1618).

[76]) أخرجه البخاري، رقم (5364)، ومسلم، رقم (1714)، واللفظ للبخاري.

[77]) شرح تنقيح الفصول للقرافي (ص448)، شركة الطباعة الفنية المتحدة، الطبعة الأولى، 1393هـ- 1973م.

[78]) سورة الأعراف، من الآية (199).

[79]) الإكليل في استنباط التنزيل للسيوطي (ص132)، دار الكتب العلمية- بيروت.

[80]) أخرجه مسلم، رقم (1588).

[81]) أخرجه مسلم، رقم (1584).

[82]) المبسوط للسرخسي (12/ 142)، دار المعرفة- بيروت، المحيط البرهاني في الفقه النعماني لابن مازه البخاري (6/ 354)، دار الكتب العلمية- بيروت.

[83]) انظر: فتح القدير للكمال بن الهمام (7/ 15)، دار الفكر، رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين (5/ 176، 177)، دار الفكر- بيروت.

[84]) انظر: مجموعة الرسائل لابن عابدين (2/ 115) وما بعدها.

[85]) انظر: مجموعة الرسائل (2/ 116).

[86]) انظر: الأشباه والنظائر لابن نجيم (ص88)، دار الكتب العلمية- بيروت.

[87]) انظر: مجموعة الرسائل (2/ 116).

[88]) الأشباه والنظائر لابن نجيم (ص81).

[89]) الأشباه والنظائر للسيوطي (ص96).

[90]) انظر: شرح تنقيح الفصول للقرافي (ص211).

[91]) قواعد الأحكام في مصالح الأنام للعز بن عبد السلام (2/ 186).

[92]) انظر: القواعد الكلية والضوابط الفقهية في الشريعة الإسلامية للدكتور محمد عثمان شبير (ص245- 247).

 ([93]) السياسة الشرعية والفقه الإسلامي (ص83).

 ([94]) الفروق (1/ 176، 177).

 ([95]) أضواء على السياسة الشرعية للدكتور سعد بن مطر العتيبي (ص95).

اترك تعليقاً