البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الفصل الأول: التعريف بالسياسة الشرعية وأسسها ومجالاتها

المبحث الثاني: أهمية السياسة الشرعية

92 views

إن الإسلام هو دين الله تعالى الذي أمر بإقامته في الأرض، والذي جاء به الرسل والأنبياء الذين اصطفاهم الله سبحانه لهداية الناس وإرشادهم، قال تعالى: {۞شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِۦ نُوحٗا وَٱلَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ وَمَا وَصَّيۡنَا بِهِۦٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰٓۖ أَنۡ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ} [الشورى: 13].

والإسلام بهذا المعنى عبارة عن عقيدة ونظام، تلك العقيدة التي تقتضي الإيمان الخالص بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر خيره وشره، ولقد انبثقت عن هذه التعاليم العقدية أنظمة الإسلام في الحكم والسياسة والاقتصاد والاجتماع والمعاملات… إلخ.

ولقد راعى الإسلام -بما يحمل من تعاليم ربانية- جميع تلك النظم، وعمل على صيانتها وحمايتها بما يحقق مصالح الناس في شؤونهم العامة والخاصة.

ومن المعلوم أن أحوال الناس في المجتمعات المختلفة منذ عهد آدم عليه السلام وحتى وقتنا الحاضر في تغير مستمر نظرًا لاختلاف الأزمنة والأمكنة وما يستجد من أمور الحياة وشؤونها، وقد أشار اللهُ تعالى لذلك في قوله: {لِكُلّٖ جَعَلۡنَا مِنكُمۡ شِرۡعَةٗ وَمِنۡهَاجٗا} [المائدة: 48]، وقوله تعالى: {مِّثۡلُهُۥۚ وَتِلۡكَ ٱلۡأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيۡنَ ٱلنَّاسِ} [آل عمران: 140]. ذلك الأمر الذي يتطلب ضرورة مواكبة ومسايرة تلك التطورات والمتغيرات في جميع المجالات الاجتماعية والسياسية والاجتماعية والحضارية بما تتحقق معه مصالح الناس في كل حال وزمان، على الوجه الذي يتفق مع مبادئ الإسلام وتعاليمه.

ومن هذا المنطلق كانت الحاجة ماسَّة للعمل بمقتضى السياسة الشرعية في تدبير الشؤون العامة للناس في الدولة الإسلامية، والذين تعددت احتياجاتهم وتعقَّدت أحوالهم خاصة في هذا العصر الذي تتسارع أحداثه وتتقلب أحواله.

ومن خلال ذلك فإنه يمكن إيجاز أهمية وفوائد العمل بالسياسة الشرعية فيما يلي:

أولًا: إقامة الدين وتحقيق العبودية لله تعالى: فإقامة الدين مقصد أساسي من مقاصد السياسة الشرعية، فالحاكم ونوابه مسؤولون عن تحقيق هذه الغاية. يقول الشيخ ابن تيمية: المقصود الواجب بالولايات إصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسرانًا مبينًا، ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا([1]).

ويقول الإمام الشوكاني: الغرض المقصود للشارع من نصيب الأئمة أمران:

أولهما وأهمهما: إقامة منار الدين وتثبيت العباد على صراطه المستقيم ودفعهم عن مخالفته والوقوع في مناهيه طوعًا وكرهًا.

وثانيهما: تدبير المسلمين في جلب مصالحهم ودفع المفاسد عنهم([2]).

قال تعالى: {۞شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِۦ نُوحٗا وَٱلَّذِيٓ أَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡكَ وَمَا وَصَّيۡنَا بِهِۦٓ إِبۡرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰٓۖ أَنۡ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ} [الشورى: 13] أي كما يقول أبو السعود: أي أقيموا دين الإسلام الذي هو توحيد الله تعالى وطاعته والإيمان بكتبه ورسله وبيوم الجزاء وسائر ما يكون الرجل به مؤمنًا، والمراد بإقامته تعديل أركانه وحفظه من أن يقع فيه زيف أو المواظبة عليه والتشمير له([3]).

ثانيًا: إقامة العدل: فالنظام السياسي الإسلامي يهدف إلى تحقيق العدالة بأوسع معانيها، وفي شتى مجالاتها الاجتماعية والقضائية والإدارية والسياسية والدولية، ويتضمن ذلك حماية الحقوق والحريات والمساواة.

وإقامة العدل في الأرض هي الغاية التي تستهدفها رسالة الإسلام، إذ قال تعالى: {۞إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تُؤَدُّواْ ٱلۡأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهۡلِهَا وَإِذَا حَكَمۡتُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحۡكُمُواْ بِٱلۡعَدۡلِ} [النساء: 58]، فالآية تأمر بالعدل بين جنس الناس، لا بين أمة دون أمة أو جنس دون جنس أو لون دون لون.

وكذلك قال تعالى: {وَأُمِرۡتُ لِأَعۡدِلَ بَيۡنَكُمُ} [الشورى: 15]، وقال تعالى: {وَإِذَا قُلۡتُمۡ فَٱعۡدِلُواْ وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰ} [الأنعام: 152] يقول ابن كثير: يأمر تعالى بالعدل في الفعال والمقال، على القريب والبعيد، والله تعالى يأمر بالعدل لكل أحد، في كل وقت، وفي كل حال([4]).

وحذَّر سبحانه من ترك العدل أبدًا فقال: {فَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلۡهَوَىٰٓ أَن تَعۡدِلُواْ} [النساء: 135] قال ابن كثير: أي: فلا يحملنكم الهوى والعصبية وبغضة الناس إليكم، على ترك العدل في أموركم وشؤونكم، بل الزموا العدل على أي حال كان([5])، كما قال تعالى: {وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَ‍َٔانُ قَوۡمٍ عَلَىٰٓ أَلَّا تَعۡدِلُواْۚ ٱعۡدِلُواْ هُوَ أَقۡرَبُ لِلتَّقۡوَىٰ} [المائدة: 8].

وهذه العدالة لا تقوم إلا بترسيخ مفهوم المساواة بين الناس، قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡ} [الحجرات: 13].

فالتفاضل بين الناس إنما يكون بطاعة الله تعالى ورسوله، وهذا ما قرره النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»([6]).

ثالثًا: إصلاح دنيا الناس: وينبع هذا الهدف من رسالة الإسلام، فليس الحكم مجرد إمامة تجمع شمل المسلمين، بل هو مسؤول عن إصلاح دنيا الناس في عالم الاقتصاد والاجتماع والثقافة والتعليم والدفاع إلى جانب الإصلاح السياسي، وهذا هو المراد بالرسالة الإصلاحية للإسلام.

فغاية التشريع الإسلامي هي الإصلاح؛ لأنه ليس لله تعالى من تشريعه إرادة بالناس أو غاية إلا صلاحهم وهدايتهم ورفع الحرج عنهم، كما قال تعالى: {يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمۡ وَيَهۡدِيَكُمۡ سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَيَتُوبَ عَلَيۡكُمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ٢٦ وَٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيۡكُمۡ وَيُرِيدُ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلشَّهَوَٰتِ أَن تَمِيلُواْ مَيۡلًا عَظِيمٗا} [النساء: 26- 28].

كذلك تستهدف الدولة الإسلامية في سياستها الاقتصادية عمارة الأرض وتحقيق سبل العيش الكريم لمواطني الدولة مع تحقيق تكافؤ الفرص والعدالة في توزيع إنفاق الدولة وخدماتها استرشادًا بقوله تعالى: {ٱلسَّبِيلِ كَيۡ لَا يَكُونَ دُولَةَۢ بَيۡنَ ٱلۡأَغۡنِيَآءِ مِنكُمۡ} [الحشر: 7]، ومن هنا كان النظام المالي في الإسلام مليئًا بكثير من التكاليف الشرعية الواردة على الملكية.

رابعًا: مسايرة الأحداث الاجتماعية المتجددة في المجتمع، والقدرة على الوفاء بمتطلبات الحياة المتطورة وشؤونها العامة، وذلك باستنباط الأحكام لكل ما يجدُّ من الوقائع التي ليس لحكمها نص أو إجماع، ولا نظير لمحلها ثبت حكمه بنص أو إجماع، فنقيسه عليه على النحو الذي يحقق مصالح الأمة في كل حال وزمان ومكان بما يتفق ومبادئ الإسلام العامة.

وأحكام الفقه الإسلامي وافية بجميع ما يحتاج إليه العالم في تدبير شؤونه وتنظيم حياته باعتبار الشريعة الإسلامية شريعة عالمية جاءت للناس كافة على اختلافهم وتنوعهم في كل عصر إلى قيام الساعة.

وأحكام الشريعة ثابتة على مر الزمن غير قابلة للتبديل والتغيير، وفي نصوصها من العموم والمرونة ما يحكم الحالات المستجدة لكل جماعة بحيث تتماشى مع اختلاف أحوال الناس وظروفهم، وهذا ما يؤكده قوله تعالى: {ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗا} [المائدة: 3]. وقوله صلى الله عليه وسلم: «تركت فيكم أمرين، لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة نبيه»([7]).

فالشريعة الإسلامية أحاطت بكل شيء؛ لأنها من لدن حكيم خبير، وتحمل في طياتها كل أسباب التقدم والتطور الدائم للعالم في جميع الأحوال والأزمان، وهي الأقدر على تنظيم وسد حاجات الأفراد والجماعات، والأحفظ على أمنهم وسعادتهم واستقرارهم.

لذا فمن الواجب على من يبحث في علم السياسة الشرعية أن يكون عالـمًا بأدلة الأحكام الشرعية وأصولها، واقفًا على عللها المعقولة ومصالحها التي شُرعت من أجلها، وأن تكون لديه القدرة العلمية الكاملة على الموازنة والترجيح عند تعارض الأدلة بحيث يكون صحيح الفهم حسن القصد ليميز بين الصحيح والفاسد([8]).

يقول الشيخ عبد الرحمن تاج رحمه الله: «فباسم السياسة الشرعية يستطيع ولاة الأمر أن يسنوا من النظم والقوانين ما يحقق مصلحتها ويستجيب لداعي حاجاتها العارضة ومطالبها المتجددة مما لا نجد له دليلًا خاصًّا من الكتاب أو السنة أو الإجماع، ولا نظيرًا سبق لبعض هذه الأدلة الحكم فيه حتى يمكن أن نربطه به ونقيسه عليه»([9]).

 

 

 

 

 

([1]) مجموع الفتاوى لابن تيمية (28/ 262)، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف- المدينة النبوية.

([2]) السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار للشوكاني (ص646، 647)، دار ابن حزم.

([3]) إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود (8/ 26)، دار إحياء التراث العربي- بيروت.

 ([4]) تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/ 365)، دار طيبة للنشر والتوزيع.

 ([5]) السابق (2/ 433).

 ([6]) أخرجه مسلم، رقم (2564).

 ([7]) أخرجه مالك في الموطأ (2/ 899)، رقم (3) بلاغًا.

 ([8]) انظر: الأسس التي تقوم عليها السياسة الشرعية للدكتور نبيل الشاذلي (ص8- 10)، بحث بمجلة البحوث القانونية والاقتصادية الصادرة عن كلية الحقوق- جامعة بني سويف، السنة (17)، العدد (1)، يناير 2003م.

 ([9]) السياسة الشرعية والفقه الإسلامي للشيخ عبد الرحمن تاج (ص29)، مطبعة دار التأليف، الطبعة الأولى، 1953م.

اترك تعليقاً