البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الفصل الأول: التعريف بالسياسة الشرعية وأسسها ومجالاتها

المبحث الرابع: مجالات السياسة الشرعية

94 views

مجالات السياسة الشرعية كثيرة، ويمكن إجمالها على النحو الآتي:

المجال الأول: الولاية العامة:

من مجالات السياسة الشرعية الولاية العامة وما يتفرع عنها من شؤون الحكم وإدارته وإجراءات تطبيقه وآليات تنفيذه.

فالسياسة الشرعية تبحث الوقائع المتعلقة بعلاقة الحاكم بالمحكومين، وبتحديد سلطة الحاكم، وبيان حقوقه وصلاحياته وواجباته، وحقوق الأفراد وواجباتهم، وبيان السلطات المختلفة في الدولة من قضائية وتنفيذية وغيرها، وهذه المباحث يطلق عليها اسم نظام الحكم في الإسلام، ويطلق عليها بعض العلماء المعاصرين: السياسة الدستورية الشرعية، ويقابلها في القوانين الوضعية القانون الدستوري([1]).

ونظام الحكم في الإسلام هو النظام الذي يبين شكل الدولة وصفتها وقواعدها وأركانها وأجهزتها، والأساس الذي تقوم عليه، والأفكار والمفاهيم والمقاييس التي ترعى الشؤون بمقتضاها، والدستور والقوانين التي تطبقها([2]).

وتطبيق السياسة الشرعية في نظام الحكم لا بد أن يكون قائمًا على تحقيق مصالح الرعية، فللإمام ولاية النظر في الأمور العامة على الرعية، كأن يكون تصرفه منوطًا بالمصلحة العامة، ولهذا وجب أن تكون أوامره موافقة لمصلحة الرعية؛ لأن الحاكم إنما أُعطي السلطة لمصلحة العباد وما فيه صيانة دمائهم وأعراضهم وأموالهم، فمن يلي من أمور الناس شيئًا فعليه أن يتصرف التصرف الذي يحقق المصلحة لهم وإقامة العدل والخير لهم.

ومن السياسة الشرعية في نظام الحكم أنه لا يجوز لولي الأمر أن يُعَيِّن في الوظائف العامة إلا الكفء الأمين، والضابط الذي يجب أن يراعيه الإمام في إسناد الوظائف والولايات كلها هو ألَّا يقدم فيها إلا أقوم الناس بجلب المصالح ودرء المفاسد، فلا يقدم في ولاية الحرب مثلًا إلا أشجع الناس وأعرفهم بمكائد العدو والقتال، وإن ندرت الشروط فعليه أن يختار الأمثل فالأمثل([3]).

وكذلك نظام وضع رجال الشرطة في الطرقات للمحافظة على الأمن، وتنفيذ أوامر الحكومة، ونظام اتخاذ الهويات الشخصية داخل البلاد تُعد من السياسة الشرعية وإن لم يرد بهذه النظم نص خاص؛ لأنها تتفق مع غرض تهدف إليه الشريعة، وهو تحقيق الأمن والأمان للدولة والأفراد، وقطع دابر المفسدين([4]).

ومن الأمثلة على السياسة الشرعية في الولاية العامة:

1- ما فعله أبو بكر الصديق رضي الله عنه في حرب المرتدين، فإن بيان الدين وحفظه أجلُّ مقصد من مقاصد الحكم في الإسلام، وهذا يقتضي أن يأخذ الإمام بشدة على كل من يريد الخروج عليه، أو كل من لا يقر بشيء مما فرضه الله تعالى في كتابه، وبيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم في سنته، ولهذا نجد أبا بكر رضي الله عنه قد بدأ حياته في الخلافة في محاربة المرتدين عن الإسلام بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم([5]).

2- إنشاء أبي بكر رضي الله عنه مبدأ ولاية العهد، حيث عهد إلى عمر، ووافقه عليه كبار الصحابة بعد استشارتهم، وردُّه على من نقد عمر بالشدة بأنه كان يراه رفيقًا لينًا فلعله رأى الشدة ضرورة تتوازن معها تلك الرقة، وواضح أنه عهد بها إلى عمر؛ لأنه رآه أفضل من غيره([6]).

وما حدث في عهد أبي بكر رضي الله عنه، عندما قُسِّمت جزيرة العرب إلى ولايات أو عمالات كمكة والمدينة والطائف وصنعاء، وقسمت الحجاز إلى ثلاث ولايات، واليمن إلى ثمان، والبحرين وتوابعها ولاية([7]).

3- ما قام به عمر بن الخطاب رضي الله عنه من منع كبار الصحابة الذين يتألف منهم مجلس الشورى الذي استحدثه من مغادرة المدينة، وذلك لما تقتضيه مصلحة البلاد والعباد، ولمساعدته في تصريف وتدبير شؤون الدولة، وهي بلا شك مصلحة عظمى راجحة على مصلحتهم الخاصة في حرية التنقل([8]).

 

المجال الثاني: المجال الإداري:

يُعد المجال الإداري بكل ما يحويه ويدخل في نطاقه أحد مجالات السياسة الشرعية، وذلك بالنظر الفقهي السديد فيما يستجدُّ من وقائع وأحكام تتعلق بشؤون الدولة وتنظيمها.

والإدارة بمعناها العام تعني العمليات المتعلقة بأهداف الحكومة بأكبر مقدار من الكفاءة، وبما يحقق الرخاء لأفراد الشعب، أو هي عملية تنظيم وإدارة الأفراد والموارد لتحقيق الأهداف الحكومية([9]).

ومن السياسة الشرعية في الإدارة تدخل ولي الأمر في شؤون الأفراد في كل ظرف يغلب على الظن فوات مصلحة شرعية عامة لعدم تدخل الدولة فيه، سواء كان التدخل في أصل حق التملك، كما في منع الاحتكار والإلزام بالتسعير.

وكذلك فإن المرافق العامة والملكية العامة تستدعي تدخل الدولة حتى لا يختص أفراد دون غيرهم بالاستئثار بها، فالطرق مثلًا من مرافق الجماعة يحتاج المرور بها إلى تنظيم، فللإمام أن يسن قانونًا للمرور يحدد كيفية السير والإشارات الضوئية كوسائل لذلك([10]).

ومن الأمثلة على السياسة الشرعية في الإدارة:

1- إنشاء عمر رضي الله عنه الدواوين لضبط أعمال الدولة وترتيب نظام بيت المال، وغيرها من النظم الإدارية التي لم يأتِ بإنشائها واتخاذها نص معين، وقد سمى الفقهاء فعل عمر ذلك سياسة شرعية، فدلَّ ذلك أيضًا على أن السياسة الشرعية تجري في التنظيم الإداري([11]).

2- أحدث عمر رضي الله عنه العمل بالتاريخ الهجري، حيث لم يكن قد عمل به في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أو في عهد الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وذلك لما فيه من مصلحة للمسلمين، ولا يتنافى مع تعاليم الدين، بل كان لهذا العمل عظيم الفائدة في معرفة تاريخ الأحداث والوقائع وصحة تسجيلها وضبطها([12]).

3- أمر عثمان بن عفان رضي الله عنه بالتقاط ضوال الإبل لمصلحة أهلها مع أن النص جاء آمرًا بتركها، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم لما سأله أعرابي: كيف ترى في ضالة الإبل؟ فقال: «دعها فإن معها حذاءها وسقاءها، ترد الماء، وتأكل الشجر حتى يجدها ربها»([13]).

فقد جاء النص بتركها إلا أن عثمان أمر بالتقاطها لمصلحة أهلها، وذلك لتغير المصلحة التي بُني عليها المنع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ففي زمن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحقق المصلحة غلبة الصلاح والتقوى في الناس، حيث تترك ضالة الإبل حتى يجدها ربها، أما في زمن عثمان رضي الله عنه فقد تغيرت الذمم، وأورث هذا التغير خوفًا على أموال الرعية، فرأى عثمان أن المصلحة في التقاطها وتعريفها كسائر أموال اللقطة، فإذا جاء صاحبها أُعطي ثمنها([14]).

فقد فهم عثمان رضي الله عنه هذا الحكم على ضوء القواعد الكلية الآمرة بحفظ المال، ولم يقف عند ظاهر اللفظ، فلما تغير الزمان في عهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه عالج الأمر بطريقة مغايرة شكلًا لكنها تحفظ لصاحب المال قيمة ماله.

المجال الثالث: العلاقات الدولية:

من مجالات السياسة الشرعية الشؤون المتعلقة بالعلاقات الدولية، ومن مصطلحاتها العصرية النظام الدولي في الإسلام أو العلاقات الدولية في الإسلام، وهو يشمل موضوعات ما يُعرف في القانون المعاصر بالقانون الدولي العام، والقانون الدولي الخاص.

إن من أنظمة القانون الدولي الحديث التي يشترطها لنشوء الدولة بعد استكمال عناصرها المادية المكونة لها هو إصدار اعتراف دولي بوجودها، والاعتراف بالدولة هو من جملة الأحكام السلمية في العلاقات الدولية، والاعتراف بوجود الدولة الأخرى غير المسلمة أمر لا مانع منه، فإذا تمت المعاهدة السلمية بين الدولة الإسلامية وغيرها من الدول، أو التزمت هذه الدول كلها ميثاقًا واحدًا ينص على احترام السلم والأمن الدوليين كان ذلك اعترافًا ضمنيًّا من الدولة الإسلامية بغيرها([15]).

إن وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم للجيوش الإسلامية، ووصايا الخلفاء الراشدين من بعده تؤكد على سلمية هذا الدين، وتبيِّن ركيزة من ركائز هذا الدين في تعامله مع الدول الأخرى وإن كانت محاربة.

قال صلى الله عليه وسلم: «اغزوا ولا تَغُلُّوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال -أو خِلال- فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك، فاقبل منهم، وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين»([16]).

يقول عبد الوهاب خلَّاف: إن غاية الشرع إنما هي المصلحة، وحيثما وُجِدت المصلحة فثم شرع الله([17]).

لذلك فإن السياسة الشرعية هي ملاذ الحكام والعلماء لتحديد طبيعة العلاقة بين الدولة الإسلامية وغيرها من الدول، حيث إنها تحدد للحاكم متى يبدأ الحرب؟ وما يجوز في الحرب وما لا يجوز؟ وتحدد كذلك متى يجوز له أن يلجأ إلى الهدنة مع أعدائه، وعقد الصلح معهم كذلك؟ ومتى ينهي الحرب، وعمليات تبادل الأسرى بين الدولة الإسلامية وغيرها من الدول؟ وتحدد كذلك طبيعة التعامل مع الدول غير المسلمة من تبادل السفراء والدبلوماسيين، وكذلك تبادل الخبرات الاقتصادية والتجارية والعلمية والطبية التي تحقق مصلحة للإنسانية، شريطة ألا تخالف النصوص العامة والقواعد الأساسية في الشريعة الإسلامية.

المجال الرابع: المجال الاقتصادي:

إن موضوع التنمية في المفهوم الإسلامي هو الإنسان بكل مقوماته، بما فيها عنصر الأموال، فالمستهدف هو ترقية هذه المقومات الإنسانية وتحسينها وحمايتها التي جمعها علماء الإسلام في خمس: الدين والنفس والعقل والنسل والمال. والوسيلة لتحقيق ذلك هي نفسها أي الإنسان بما لديه من مقومات، والمفهوم الإسلامي للتنمية يتميز عن المفهوم الوضعي لها الذي هو موضوعها الأموال والأشياء، ووسيلتها في المقام الأول هي أيضًا الأموال والأشياء([18]).

فالإنسان وفق المنهج الرباني هو أهم وأسمى مَنْ ما في هذا الوجود، ومن ثم فهو بحق الوسيلة الرئيسية لعملية التنمية، وهو في الوقت ذاته غايتها، قال تعالى: {يَٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُۥۖ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَٱسۡتَعۡمَرَكُمۡ فِيهَا} [هود: 61].

وبناءً على ذلك فإنَّ السياسة الشرعية لها علاقة واضحة بالتنمية والمجال الاقتصادي الذي يُعد من أهم مجالاتها، فالتعمير أو التنمية الاقتصادية جزء لا يتجزأ من الإسلام، الذي قضى باستخلاف الله للإنسان في الأرض، أو يقتضي واجب الخلافة تحقيق التقدم للأفراد والمجتمع بالسيطرة على الموارد المتاحة في الكون، والتي سخَّرها الله لخدمته.

ويتضمن المجال الاقتصادي ما يُعرف بالشؤون المالية العامة أو المعاملات المالية المعاصرة، من حيث تنظيم التداول والاستثمار وقيم النقود وسبل رفعها والمحافظة عليها، وما تقتضيه المصلحة الشرعية من تقييد الحاكم لبعض التعاملات المالية، وما يُستحدث في ذلك من أمور مشروعة نافعة([19]).

ومن الأمثلة على السياسة الشرعية في مجال الاقتصاد ما فرضه الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه من ضريبة الخراج على الأراضي الزراعية التي فُتحت عنوة بدلًا من تقسيمها بين الفاتحين لكي يكون هذا الخراج موردًا دوريًّا للدولة يؤدَّى كل عام إلى بيت المال، وذلك للإنفاق منه لما فيه صلاحها وصلاح المحتاجين من الفقراء والمساكين، عملًا منه رضي الله عنه بمقاصد الشريعة في اعتبار المصلحة العامة للمسلمين، إذ الدولة الإسلامية قد اتسعت رقعتها في الأمصار والآفاق، وتحتاج إلى ميزانية رسمية لتوطيد دعائمها([20]).

ولقد وُفِّق عمر بن الخطاب رضي الله عنه في اجتهاده بوضع سياسات اقتصادية توجه الاقتصاد وتقيد الملكية الفردية؛ لأن توزيع الأرض على الفاتحين سيؤدي إلى أزمة اقتصادية في قادم الأيام تجعل الدولة عاجزة عن الوفاء بتلبية الحاجات المطلوبة منها، لعدم وجود موارد للدولة، وللتوسع في الاستهلاك.

ومن السياسة الشرعية في عالم الاقتصاد اليوم ما نراه من تشريعات تشجع الاقتصاد الوطني، بحيث تُمنح المصانع ميزات تشجعها وتدعمها، مثل الإعفاءات الضريبية التي تقدَّم لهم، والقروض الحسنة التي تقدم لدعم المشاريع الصغيرة، وفرض ضريبة على البضائع المستوردة، وكذلك تقديم النصح والإرشاد من أصحاب الخبرات للقطاع الزراعي بحيث يوجه المزارع التوجيه الصحيح في اختيار نوعية مزروعاته وكيفية تنميتها لتعود عليه بالربح الوفير.

وبالإضافة إلى ذلك تدخل الدولة في تحديد سعر صرف العملات الأجنبية، وإلزام التجار والمصارف بها، وعدم السماح ببيعها بطرق غير قانونية، وترتيب عقوبة بحق المخالفين، وذلك لحماية الاقتصاد الوطني.

المجال الخامس: المجال القضائي:

المجال القضائي يشمل الشؤون القضائية، وما يتعلق بها من تنظيمات وطرق إثبات ونحوها، ومن مصطلحاتها العصرية عند أهل الإسلام «السياسة القضائية في الإسلام»، «علم القضاء»، وهو يشمل موضوعات ما يُعرف بقانون المرافعات([21]).

وقانون المرافعات أو أصول المحاكمات هو: «مجموعة الأحكام التي تنظم السلطة القضائية، وتبين الإجراءات الواجب اتباعها لتطبيق الأحكام الموضوعية في القانون المدني والقانون التجاري»([22]).

وكذلك يشمل المجال القضائي الشؤون الجنائية والجزائية، من حيث تنظيم إجراءات تنفيذ ما يثبت من أحكام مقدرة شرعًا، أو تقدير جزاءات شرعية ملائمة لما يرتكب من جرائم تقتضي التعزير شرعًا.

ومن السياسة الشرعية في القضاء وضع التدابير لوضع استقلال القضاء، والحكم بالقرائن التي تفيد الاقتناع بالحكم الذي يحقق العدالة، واستخدام القاضي الحيل التي يستعين بها على استخراج الحق، ومن ذلك ما رواه ابن القيم من قصص القاضي إياس بن معاوية أنه استودع رجل لغيره مالًا، فجحده، فرفعه إلى إياس، فسأله فأنكر، فقال للمدعي: أين دفعته إليه؟ فقال: في مكان في البرية، فقال: وما كان هناك، قال: شجرة، قال: اذهب إليها فلعلك دفنت المال عندها ونسيت، فتذكر إذا رأيت الشجرة، فمضى، وقال للخصم: اجلس حتى يرجع صاحبك، وإياس يقضي وينظر إليه ساعة بعد ساعة. ثم قال له: يا هذا، أترى صاحبك بلغ مكان الشجرة؟ قال: لا، قال: يا عدو الله، إنك خائن، قال: أقلني، قال: أقالك الله، فأمر من يحتفظ به حتى جاء الرجل، فقال له إياس: اذهب معه فخذ حقك([23]).

فإن هذه الأحكام اقتضتها مصلحة الأمة ولم يرد فيها نص خاص، وقد عدَّها الفقهاء من باب السياسة الشرعية، فدل ذلك على أن السياسة الشرعية تجري في طرق القضاء.

ومن السياسة العادلة في باب القضاء وتحقيق الجنايات ألَّا يُخلَى سبيل الشرير المعروف بالإجرام إذا اتهم بجريمة لم تسعف فيها البينة الكافية للحكم عليه، بل يحبس حتى يظهر وجه الحق في تهمته، ولا يخلى سبيله بمجرد إنكاره وعدم توافر البينات([24]).

ومثال ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينزل العقوبة بالمنافقين الذين أظهروا النفاق وآذوه وآذوا جماعة المسلمين، وخشي عليه الصلاة والسلام أن يقع بسبب ذلك نفور كثير من الأعراب عن الدخول في الإسلام لعدم إدراكهم الحكمة من قتل أو عقوبة الرسول للمنافقين فإنهم قد يأخذون فعله على الظاهر ويقولون: إن محمدًا يقتل أصحابه.

روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: كنا في غَزاة -قال سفيان: مرة في جيش- فكسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا لَلأنصار، وقال المهاجري: يا لَلمهاجرين، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما بال دعوى الجاهلية؟» قالوا: يا رسول الله، كسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار، فقال: «دعوها فإنها منتنة» فسمع بذلك عبد الله بن أُبَي، فقال: فعلوها، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فبلغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقام عمر فقال: يا رسول الله: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «دعه، لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه»([25]).

المجال السادس: مجال الأحوال الشخصية:

إن للسياسة الشرعية دورًا كبيرًا في مجال الأحوال الشخصية؛ وذلك لأن هناك أمورًا مستجدة لا يوجد فيها نص شرعي، وكذلك لِما حصل من اختلاف في الأعراف والعادات، ولقلة الوازع الديني صار لا بد من تشريع أحكام خاصة بالزواج والطلاق وغيرها من مواضيع الأحوال الشخصية، تضبطها وتجعلها متناسبة مع وقتنا الحالي وما فيه من مستجدات ومتغيرات.

ومن الأمثلة على العمل بالسياسة الشرعية في الأحوال الشخصية زمنَ الصحابة ما فعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه ووافقه عليه مستشاروه من إنفاذ الطلاق الثلاث على من نطق به في كلمة واحدة، سواء ادعى المطلِّق أن غرضه تأكيد الطلاق أو لم يدَّع ذلك، بعد أن كان يصدَّقُ المطلِّقُ في ادعائه التأكيد في عصر الرسول عليه الصلاة والسلام وعصر أبي بكر رضي الله عنه، وأنفذه عمر لما فيه من المصلحة، وهي إلزام الناس بالأناة في إيقاع الطلاق، وذلك بإيقاعه واحدة، وكذلك فإن فيه زجرًا لهم وتأديبًا، وهو اجتهاد من عمر، ولم يكن من باب تغيير الأحكام([26]).

فقد روي عن ابن عباس، قال: «كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وسنتين من خلافة عمر، طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم»([27]).

وقد سمى الفقهاء ذلك الفعل من عمر بن الخطاب رضي الله عنه سياسة شرعية، فدل ذلك على أن السياسة الشرعية تجري في الأحوال الشخصية أيضًا([28]).

ومن الأمثلة في زمننا المعاصر تقسيم المهر إلى معجل ومؤخر، وذلك لاختلاف الأعراف والأحوال عن السابق، وكذلك التعويض عن الطلاق التعسفي، والطلاق التعسفي هو استعمال ألفاظ الطلاق من أجل إلحاق الضرر قصدًا دون حاجة؛ لأن الطلاق إنما شرع من أجل صيانة المصلحة، وأيضًا شرع من أجل دفع الضرر، فلا يجوز أن يُستعمل هذا الحق من أجل إلحاق الضرر بالآخرين([29]).

ومنها أيضًا: إلزام الزوج الغائب عن زوجته أو الممتنع أو المعسر بنفقتها بالإنفاق عليها أو طلاقها، وهذا فيه رفع للضرر الواقع على الزوجة، ودرء للمفسدة المتوقعة من بقائها على عصمة زوج لا ينفق عليها؛ لأن النفقة من الأمور الضرورية للحياة البشرية ولا يقوم البدن دونها عادة، والمرأة محبوسة بالاشتغال بمصالح نفسها متفرغة للاشتغال بمصالح الزوج، فهو ملزم بنفقتها مقابل هذا الاحتباس، كما أنها محبوسة عن الزواج بغيره حتى يطلقها، وأمام هذا الواقع لا بد من التدخل لوضع حل يوافق مقاصد الشريعة ويحقق المصلحة والعدل([30]).

المجال السابع: مجال الأوقاف وشؤون المساجد:

فالتعليمات التي تضعها وزارات الأوقاف ودواوين الوقف في البلاد العربية والإسلامية، والتي من بين اختصاصاتها العناية بالمساجد وتنظيم العمل فيها إنما هي مبنية على السياسة الشرعية، حيث لا نص فيها لكنها تحقق المصلحة وتتفق مع مقصود الشارع، ولا تخالف نصًّا شرعيًّا. ومن هذه التعليمات:

1- فتح وإغلاق المساجد حسب ما تقتضيه المصلحة، وبما يتناسب مع أوقات الصلوات، وبناء على هذا يفتح المسجد قبل الصلاة بوقت قصير ويُغلق بعد الصلاة، ولا شك أن هذه التعليمات نظمت عمل المساجد، وحافظت على مقتنيات وأموال المساجد من العبث بمحتوياتها أو تعرضها للسرقة، ومنعت من استخدام المساجد لأية أغراض دنيوية تخالف مقصد الشارع من بناء المساجد.

2- عدم السماح لأي شخص بالخطابة والتدريس في المساجد إلا لمن يحمل تصريحًا من وزارة الأوقاف، يخوِّله حق الخطابة والتدريس والوعظ والإرشاد، وهذا التصريح لا يُمنح إلا لمن تنطبق عليه الشروط التي وُضِعت للوعظ والإرشاد، ومنها حصوله على مؤهل شرعي يخوله الحديث في الوعظ والإرشاد والدعوة، وغاية هذه التعليمات منع الأشخاص غير المؤهلين من إلقاء الدروس والخطب، وعدم السماح لهم باستغلال المساجد لنشر الأفكار المنحرفة أو المتشددة.

3- عدم السماح بجمع التبرعات المالية إلا لمن يحمل تصريحًا رسميًّا، وعادة ما تكون هذه التصاريح للجان الزكاة ولجان بناء المساجد، وذلك للحد من جمع الأموال وذهابها إلى غير مستحقيها، ولغير ما جُمعت له.

4- تشكيل لجان لتنظيم بناء المساجد والإشراف عليها، ولجان رعاية المساجد بحيث تنحصر عملية جمع التبرعات لبناء المساجد ورعايتها بهذه اللجان فقط.

5- عملية تنظيم بناء المساجد، حيث إنه لا يجوز بناء المساجد بطريقة عبثية، بل لا بد من انطباق الشروط والمواصفات التي وضعتها وزارة الأوقاف لذلك، ويكون البناء تحت إشراف الوزارة من قِبَل مهندسين مختصين بما يحقق المصلحة العامة.

6- ومن أهم الأعمال التي تقوم بها وزارة الأوقاف وتعتمد على السياسة الشرعية كونها تحقق مصلحة كبيرة وتتفق مع مقصود الشارع ولا تخالف نصًّا شرعيًّا -عملية تنظيم شؤون الحج ورعايته، فكما هو معلوم للجميع أن لكل بلد مسلم عددًا محدودًا من الحجاج بالنسبة إلى عدد السكان، ولا يُسمح بزيادة هذا العدد، وعدد المتقدمين الراغبين بالحج كل عام أضعاف أضعاف هذا العدد المسموح به، واعتمادًا على السياسة الشرعية وضعت وزارة الأوقاف تعليمات خاصة لتنظيم تسجيل الحجاج ورعايتهم طوال فترة الحج، ومن هذه التعليمات تكليف المتقدم للحج بحلف اليمين على أنه لم يسبق له الحج باستثناء بعض الحالات، كالمحرم والمرافق.

 

 

 

 

 ([1]) انظر: المدخل إلى السياسة الشرعية لعبد العال أحمد عطوة (ص59، 60)، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية- الرياض، الطبعة الأولى، 1993م، المشاركات السياسية المعاصرة في ضوء السياسة الشرعية للدكتور محمد يسري إبراهيم (ص16، 17)، دار اليسر، 2011م.

 ([2]) نظام الحكم في الإسلام لعبد القديم زلوم (ص17)، منشورات حزب التحرير- فلسطين، الطبعة السادسة، 2002م.

 ([3]) انظر: العلاقة بين السياسة الشرعية ومقاصد الشريعة لعبد الملك الجبوري (ص390)، بحث بمجلة جامعة تكريت، العدد (6)، المجلد (14)، يونيو 2007م.

 ([4]) المدخل إلى السياسة الشرعية (ص81).

 ([5]) انظر: نظام الحكم في الإسلام لمحمد يوسف موسى (ص137)، دار الفكر العربي.

 ([6]) انظر: المدخل إلى السياسة الشرعية (ص38، 39).

 ([7]) انظر: الفقه الإسلامي وأدلته للدكتور وهبة الزحيلي (8/ 6217)، دار الفكر- دمشق، الطبعة الثانية عشرة.

 ([8]) انظر: السياسة الشرعية وصلتها بالتخطيط الجنائي الإسلامي دراسة تأصيلية لعبد الرحمن بن صالح اليحيى (ص43)، رسالة ماجستير، جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية- الرياض، 2007م.

 ([9]) مدخل إلى الإدارة العامة بين النظرية والتطبيق لزيد منير عبوي وسامي محمد هشام (ص15)، دار الشروق- عمان، الأردن، 2006م.

 ([10]) السياسة الشرعية وعلاقتها بالتنمية الاقتصادية وتطبيقاتها المعاصرة للدكتور فؤاد عبد المنعم أحمد (ص89)، منشورات البنك الإسلامي للتنمية- المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب، 2001م.

 ([11]) انظر: المدخل إلى السياسة الشرعية (ص38).

 ([12]) السياسة الشرعية وصلتها بالتخطيط الجنائي الإسلامي دراسة تأصيلية (ص43).

 ([13]) أخرجه البخاري، رقم (2428).

 ([14]) انظر: السياسة الشرعية مفهومها مصادرها مجالاتها للدكتور إبراهيم عبد الرحيم (ص66)، دار النصر للتوزيع والنشر، الطبعة الأولى، 2006م.

 ([15]) الفقه الإسلامي وأدلته (8/ 6343).

 ([16]) أخرجه مسلم، رقم (1731).

 ([17]) السياسة الشرعية في الشؤون الدستورية والخارجية والمالية لعبد الوهاب خلاف (ص14)، دار القلم.

 ([18]) السياسة الشرعية وعلاقتها بالتنمية الاقتصادية وتطبيقاتها المعاصرة (ص54).

 ([19]) أضواء على السياسة الشرعية للدكتور سعد بن مطر العتيبي (ص122).

 ([20]) انظر: السياسة الشرعية وصلتها بالتخطيط الجنائي الإسلامي دراسة تأصيلية (ص45).

 ([21]) انظر: أضواء على السياسة الشرعية (ص123).

 ([22]) انظر: مبادئ القانون للدكتور عبد المنعم فرج الصدة (ص50)، دار النهضة العربية- بيروت، 1982م.

 ([23]) انظر: الطرق الحكمية في السياسة الشرعية (1/ 69، 70)، دار عالم الفوائد- مكة المكرمة.

 ([24]) انظر: السياسة الشرعية لإبراهيم بن يحيى خليفة المشهور بدده أفندي (ص114)، مؤسسة شباب الجامعة- الإسكندرية.

 ([25]) أخرجه البخاري، رقم (4905).

 ([26]) انظر: المدخل إلى السياسة الشرعية (ص36).

 ([27]) أخرجه مسلم، رقم (1472).

 ([28]) انظر: المدخل إلى السياسة الشرعية (ص36، 37).

 ([29]) الوافي في شرح قانون الأحوال الشخصية الأردني لمحمد أحمد القضاة (2/ 231)، كلية الشريعة- الجامعة الأردنية، الطبعة الثانية، 2014م.

 ([30]) انظر: السياسة الشرعية في الأحوال الشخصية للدكتور عبد الفتاح عمرو (ص250)، دار النفائس- الأردن، الطبعة الأولى، 1998م.

اترك تعليقاً