البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الفصل الثالث: الفتوى وقضايا نظام الحكم

تمهيد :أهمية منصب ولي الأمر ودور العلماء في تحقيق واجباته الشرعية:

189 views

عندما نعلن ونقرر أن مساندة العلماء لولي الأمر والتعاون معه هو أمر واجب في الشريعة فإننا لا نفعل ذلك لمجرد الهوى، بل إن ذلك ينطلق من فهم مقاصد هذا الدين وأهدافه.. لماذا أتى وإلى أي شيء تهدف هذه الشريعة في حياة الناس؟

إن أهل العلم بعد أن درسوا نصوص الشريعة وفهموا معانيها ومراميها وجدوا أنها تهدف إلى تحقيق جملة من المقاصد وتسعى للحفاظ عليها، وهذه المقاصد هي مقصود الله من خلقه، وقد عرفت عند العلماء باسم المقاصد الخمس، يقول الإمام الغزالي رحمه الله: «ومقصود الشَّرع من الخلق خمسةٌ: هو أن يحفظ عليهم دينَهم ونفسَهم وعقلَهم ونسلَهم ومالَهم، فكلُّ ما يتضمَّن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحةٌ، وكلُّ ما يُفَوِّت هذه الأصول فهو مفسدةٌ ودفعها مصلحةٌ»([1]).

ويقول الشاطبي رحمه الله: «فقد اتَّفقت الأمة بل سائر الملل على أنَّ الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس، وهي الدين والنفس والنسل والمال والعقل، وعلمُها عند الأمة كالضروري، ولم يثبت لنا ذلك بدليل معين، ولا شهد لنا أصلٌ معينٌ يمتاز برجوعها إليه، بل عُلمت ملاءمتها للشريعة بمجموع أدلَّةٍ لا تنحصر في بابٍ واحدٍ»([2]).

وعن طبيعة هذه المقاصد الشرعية يقول الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله: «ومَن تتبَّع مقاصد الشرع في جلب المصالح ودرءِ المفاسد حصل له من مجموع ذلك اعتقادٌ أو عرفان بأن هذه المصلحةَ لا يجوز إهمالها، وأن هذه المفسدةَ لا يجوز قربانها، وإن لم يكن فيها إجماع ولا نصٌّ ولا قياسٌ خاصٌّ، فإنَّ فهمَ نفسِ الشرع يوجب ذلك»([3]).

هذه المعاني والغايات هي مقاصد الشريعة الإسلامية، والتي تدعو وتوجب المحافظة على نفوس الناس وحياتهم ودينهم وعقيدتهم ونسلهم، واستمرار وجودهم على هذه الأرض، ومالهم وما يمتلكون، وأعراضهم وعقولهم، وهذه الغايات الكلية وما يتفرع عنها تشمل كل النشاط الإنساني على وجه الأرض.

وبعد أن تقررت هذه المعاني الشرعية، هناك سؤال يطرح نفسه: كيف يمكن لنا أن نحقق هذه المقاصد والغايات الكلية الضرورية في مجتمعاتنا؟ والإجابة تأتي من استقراء الواقع، حيث وجدنا أن هناك طائفتين يقع عليهما في المقام الأول عبء تحقيق هذه المقاصد في المجتمع وهما: العلماء وولاة الأمور.

فالعلماء هم لسان الشرع وترجمانه، المبينون لحقيقة أوامر الله ونواهيه وتشريعه وإيصال ذلك للناس، وولاة الأمور هم اليد الفاعلة التي تترجم وتحقق مقاصد التشريع وأحكامه على أرض الواقع، ومن خلفهم أجهزة الدولة ومؤسساتها، فهذه علاقة تكاملية يصعب تصور انفصالها، ولابد منها لتحقيق المقاصد الشرعية.

ولذلك أعطت الشريعة الإسلامية مكانة رفيعة لأهل العلم، يقول الله عز وجل: { وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ إِلَّا رِجَالٗا نُّوحِيٓ إِلَيۡهِمۡۖ فَسۡ‍َٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ} [النحل: 43] وقال النبي ﷺ: «من سلك طريقًا يطلب فيه علمًا، سلك الله به طريقًا من طرق الجنة، والملائكة تضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن العالم يستغفر له من في السماوات، ومن في الأرض، والحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وأورثوا العلم، فمَن أخذه، أخذ بحظٍّ وافرٍ»([4]).

وقد أكَّدت الشريعة كذلك على أهمية وظيفة ولي الأمر ودوره الشرعي، حيث إنه هو الذي يحمل راية المقاصد الشرعية ويعمل على تحقيقها وتنفيذها على أرض الواقع؛ ولذلك أوجب الإسلام علينا طاعته قال الله عز وجل: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡ} [النساء: 59].

إن كل مجتمع يحتاج إلى قيادة يلتف حولها تحمي وجوده وكيانه وتحفظ مقوماته، وتمنع عنه أهل الشر والفساد والطغيان حتى لا تتفرق كلمته، وتذهب ريحه، وينقلب عزه ذلًّا، ويطمع فيه الأعداء، وتكثر فيه الفتن والأهواء، ومن هنا انطلق أهل العلم في بيان أهمية دور ولاة الأمور والقادة:

يقول الإمام الجويني: «الإمامة رياسة تامَّة، وزعامة عامَّة، تتعلَّق بالخاصة والعامة، في مهمات الدين والدنيا، مهمتها حفظ الحوزة، ورعاية الرعيَّة، وإقامة الدعوة بالحجة والسيف، وكف الخيف والحيف، والانتصاف للمظلومين من الظالمين، واستيفاء الحقوق من الممتنعين، وإيفاؤها على المستحقين»([5]).

وقال رحمه الله: «ولا يرتاب مَن معه مسكة من عقل أن الذب عن الحوزة، والنضال دون حفظ البيضة محتوم شرعًا، ولو تُرك الناس فوضى لا يجمعهم على الحق جامع، ولا يزعهم وازع، ولا يردعهم عن اتباع خطوات الشيطان رادع، مع تفنن الآراء، وتفرق الأهواء لانتثر النظام، وهلك العظام، وتوثبت الطغام والعوام، وتحزبت الآراء المتناقضة، وتفرقت الإرادات المتعارضة، وملك الأرذلون سراة الناس، وفضت المجامع، واتسع الخرق على الراقع، وفشت الخصومات، وتبددت الجماعات، ولا حاجة إلى الإطناب بعد حصول البيان، وما يزع الله بالسلطان أكثر مما يزع بالقرآن»([6]).

ويقول الإمام الماوردي: «موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا، وعقدها لمن يقوم بها في الأمة واجب بالإجماع»([7]).

ويقول ابن خلدون: «ثم إنَّ نصبَ الإمام واجب قد عرف وجوبه في الشرع بإجماع الصحابة والتابعين؛ لأن أصحاب رسول الله ﷺ عند وفاته بادروا إلى بيعة أبي بكر رضي الله عنه وتسليم النَّظر إليه في أمورهم، وكذا في كل عصر من بعد ذلك، ولم تُترَكِ الناس فوضى في عصر من الأعصار، واستقر ذلك إجماعًا دالًّا على وجوب نصب الإمام»([8]).

ويقول الإمام اللقاني: «فإن نعلم علمًا يقارب الضرورة أن مقصود الشارع من المعاملات والمناكحات والجهاد والحدود والمُقَاصَّات، وإظْهار شعار الشرع في الأعياد والجمعات، إنما هو مصالح عائدة إلى الخلق معاشًا ومعادًا، وذلك لا يتمُّ إلا بإمام يكون من قبل الشرع، يرجعون إليه فيما يَعِنُّ لهم»([9]).

ويقول الطاهر بن عاشور: «أنبأنا استقراء الشريعة من أقوالها وتصرُّفاتها بأن مقصدها: أن يكون للأمة ولاةٌ يسوسون مصالحَها، ويقيمون العدل فيها، وينفِّذون أحكام الشريعة بينها؛ لأن الشريعة ما جاءت بما جاءت به من تحديد كيفيات معاملات الأمة، وتعيين الحقوق لأصحابها إلا وهي تريد تنفيذَ أحكامها وإيصالَ الحقوق إلى أربابها إن رام رائم اغتصابها منهم، وإلا لم يحصل تمام المقصود من تشريعها؛ لأن الحقوق معرَّضةٌ للاغتصاب بدافع الغضب أو الشهوة، ومعرَّضةٌ لسوء الفهم وللجهل وللتناسي، فلا جَرَم أنْ كان من أهم مقاصد الشريعة بعد تبليغها إقامتُها وحراستُها وتنفيذُها؛ ولذلك لزم إقامةُ علماء للشريعة لقصد تبليغها وإقامتها، وتعين إقامة ولاة لأمورها، وإقامة قوة تُعين أولئك الولاة على تنفيذها، فكانت الحكومة والسلطان من لوازم الشريعة، لئلا تكون في بعض الأوقات معطَّلةً»([10]).

ويقول الإمام الجويني رحمه الله: «ثم لم ينحجز معظم الناس عن الهوى بالوعد والوعيد، والترغيب والتهذيب، فقيض الله السلاطين وأولي الأمر وازعين، ليوفروا الحقوق على مستحقيها، ويبلغوا الحظوظ ذويها، ويكفوا المعتدين، ويعضدوا المقتصدين، ويشيدوا مباني الرشاد، ويحسموا معاني الغي والفساد، فتنتظم أمور الدنيا، ويستمد منها الدين الذي إليه المنتهى.

وما ابتعث الله نبيًّا في الأمم السالفة حتى أيده وعضده بسلطان ذي عدة ونجدة، ومن الرسل عليهم السلام من اجتمعت له النبوة والأيدي والقوة كداود وموسى وسليمان صلوات الله عليهم أجمعين»([11]).

وبناء على ما مرَّ فإن مساندة العلماء لولي الأمر ودعمه والتعاون معه من الواجبات الشرعية؛ لأنها هي الطريق إلى تفعيل مقاصد الشرع في حياة الناس وعلى أرض الواقع.

– ففي مجال تحقيق حفظ النفوس وأمن الناس وحياتهم وما يلتحق بها:

حرَّم الله سبحانه وتعالى الاعتداء على النفوس بالقول أو الفعل وعظَّم سبحانه حرمة الدماء، وتوعد من يقدم على سفكها بأشد العذاب، بل وقصدت شريعة الإسلام إلى تحقيق أعلى درجات العصمة للنفس البشرية. وقال النبي ﷺ: «لزوال الدُّنيا جميعًا أهون على الله من دم يسفك بغير حقٍّ»([12]).

وقال ﷺ: «أكبر الكبائر الإشراك بالله وقتل النَّفس…»([13]). ولم يفرق النبي ﷺ بين نفس المسلم ونفس غير المسلم من حيث العصمة، وقال تنبيهًا على عظم حق الدم: «أوَّل ما يقضى بين النَّاس بالدِّماء»([14]).

ويقول الله عز وجل: { أَنَّهُۥ مَن قَتَلَ نَفۡسَۢا بِغَيۡرِ نَفۡسٍ أَوۡ فَسَادٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعٗا وَمَنۡ أَحۡيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحۡيَا ٱلنَّاسَ جَمِيعٗا} [المائدة: 32] لقد أرسى الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة مبدأ إنسانيٌّ عالميٌّ في حفظ النفس البشرية، فجعل إحياء النفس الواحدة كإحياء كل الناس، وجعل قتل النفس الواحدة كقتل كل الناس.

قال مجاهد عن معاني هذه الآية: «من قتل نفسًا محرمة يصلى النار بقتلها، كما يصلاها لو قتل الناس جميعًا، ومن أحياها من سلَّم من قتلها فقد سلَّم من قتل الناس جميعًا»([15]). قال ابن حجر الهيتمي: «وجَعْل قتلِ النفس الواحدة كقتل جميع الناس مبالغةً في تعظيم أمر القتل الظلم وتفخيمًا لشأنه، أي كما أن قتل جميع الناس أمر عظيم القبح عند كل أحد فكذلك قتل الواحد يجب أن يكون كذلك»([16]).

وبالنظر إلى واقع الحياة وأحداثها وطبيعة العلاقة يتبيَّن لنا أن حفظ هذه النفس يأتي من طريقين:

الطريق الأول: جهود علماء الشريعة في بيان المرجعيَّة الشرعية لحرمة النفس.

الطريق الثاني: جهود ولي الأمر وما يتبعه من مؤسسات الدولة العاملة لتحقيق هذا الهدف.

فإذا نظرنا إلى هذين الطريقين لتبين لنا أنه لا غناء لأحدهما عن الآخر، فكيف يستقيم أمر المجتمع وأمن أفراده إذا تقاعس العالم عن مساندة ولي الأمر الذي يفرض هذا المقصد الشرعي على الأرض ويقوم بتنفيذه واقعيًّا، فقوة الدولة ومؤسساتها هي المعتمد في تنفيذ أوامر الشريعة في حفظ النفس البشرية، فكيف يكون الحال إذا خشي العالِم من رميه بالنفاق أو أنه من علماء السلطان إذا سكت عن بيان الحق ومساندة الحاكم فيما يقوم به من الإجراءات لحماية أمن المجتمع، وقد مر بالأمة أوقات سكت فيها بعض أهل العلم عن بيان الحكم الشرعي في أقوال وأفعال التيارات المنحرفة التي قامت بسفك الدم تحت شعائر تطبيق الشريعة ونصرة الإسلام، خوفًا من رميهم بالتهم، فماذا كانت النتيجة؟

النتيجة كانت هي سفك الدم وانعدام الأمن وهتك الأعراض وإحداث التفجيرات باسم الشريعة وأوامر الدين من قبل جماعات الخوارج والتيارات المتشدد، وصدرت الفتاوى الضالة من أدعياء العلم تصف هذه الأعمال بالشرعية.

فقد رأينا جماعة الإخوان الضالة منذ نشأتها وهي تمارس نقض مقاصد الشريعة تحت ستار الدين.

فهذا حسن البنا يؤسِّس النظام الخاص الذي يهدف إلى تصفية كل معارض لمنهج جماعته، ويقوم بالتفجيرات في قلب القاهرة ويقتل الوزراء والقضاة، بل ويعد المليشيات المسلحة لتحقيق أهداف جماعته، ويصرح بذلك في كتبه واجتماعاته فيقول: «وفي الوقت الذي يكون فيه منكم معشر الإخوان المسلمين ثلاثمائة كتيبةٍ قد جُهِّزت كلٌّ منها نفسيًّا ورُوحيًّا بالإيمان والعقيدة، وفكريًّا بالعِلم والثَّقافة، وجسميًّا بالتَّدريب والرِّياضة في هذا الوقت، طالِبوني بأن أخوضَ بكم لجج البحار، وأقتحم بكم عنان السَّماء، وأغزو بكم كلَّ جبارٍ عنيدٍ فإني فاعل إن شاء الله»([17]).

وهذا سيد قطب يعترف بنفسه عن طبيعة الخطط والأهداف التي كان يدبر لها هو وتنظيم الإخوان المسلمين وذلك في قضية تنظيم 1965م، فقد نص باعترافه على تخطيطهم إلى تغيير نظام الحكم القائم بالقوة باغتيال رئيس الجمهورية والقائمين على الحكم، وإثارة الفتنة في البلاد، وتفجير القناطر الخيرية، وتدمير المنشآت الحيوية، ومحطات الكهرباء، ورسموا طريقة تنفيذ ذلك، وتهيؤوا للتنفيذ الفعلي، وعينوا الأفراد الذين سيقومون به، ولكن حالَ ضبطُهم دون تمام مؤامراتهم، وكان المتهمون السبعة الأول هم المتولين زعامة التنظيم([18]).

فكيف يسكت أهل العلم عن بيان ضلال هؤلاء الناس وانحرافهم عن الشريعة، وبيان الحكم الشرعي فيمن يعتنق منهجهم خوفًا من أن يرموا بأنهم من علماء السلطان أو المتملقين له، أو خوفًا من شهرة هؤلاء وانخداع بعض الطوائف بهم؟!

فعلى العلماء أن يتكلَّموا ويُبيِّنوا الحقَّ في المسألة، وخاصة أن بلاد المسلمين شهدت في السنوات الأخيرة تغول هذه الجماعات وقتلهم للناس باسم الشرع وسفكهم للدماء بصور وحشية وإلصاق ذلك كله بالإسلام، فمحاربة الإرهاب لابد له من قاعدة فكرية شرعية تتأصل في نفوس الناس، وذلك حتى لا يظن الناس أن هذا الإفك والضلال هو حقيقة دين الإسلام.

وبالمقابل كيف يكون الحال إذا عجز ولي الأمر عن القيام بواجبه في باب حفظ أمن الناس وحياتهم نتيجة لانتشار المفاهيم التكفيرية وسط جموع الناس، أليس في ذلك ضياع لمجتمعات المسلمين؟ وكيف يكون الأمر إذا تخلف أهل العلم عن بيان الحكم الشرعي في هؤلاء الخوارج الضالِّين الذين حوَّلوا بلاد المسلمين إلى ساحات للحرب والتفجير وسفك الدم؟!

فمساندة العلماء لولي الأمر في هذا الباب وحشد الناس خلف ولي الأمر من الواجبات الشرعية، وبيان الحكم في جماعات الخوارج وأفعالهم من القربات إلى الله فهي الطريق لحفظ النفوس، ويتأكد هذا الأمر أوقات الأزمات التي تهدد أمن المجتمع القومي ووجوده، فعلى أهل العلم التحذير من مبدأ الانتماء للجماعات الإرهابية والتيارات المنحرفة ومقاومة التأثر بأفكارها، وبيان أن هذه الجماعات هي من طائفة الخوارج التي حذرنا النبي ﷺ من الانخداع بقولهم أو حالهم وعبادتهم، مع التأكيد على أن انتماء المسلم هو لأمته ووطنه وليس لهذه التيارات المنحرفة.

– وفي مجال تحقيق حفظ الدين والعقائد وإقامة شعائر الإسلام وما يلتحق به:

إذا نظرنا إلى حفظ دين الناس وعقائدهم لوجدنا أن ولي الأمر وأهل العلم هما من يقع على عاتقهما هذا الأمر، فطائفة العلماء تقوم ببيان أصول الدين وفروعه وحدوده وشرائعه وشعائره وتنشر ذلك بين الناس، وولاة الأمور ومؤسسات الدولة تعمل على تفعيل معاني الدين وملامحه على أرض الواقع وتسهل إقامة شعائر دين الإسلام، وتتصدى لمن يريد تبديل عقائد الناس أو تحريف معاني الشريعة أو نشر الفساد والأفكار المنحرفة عن طريق القيام بالإجراءات القانونية اللازمة لتحقيق ذلك، وكما ذكرنا سابقًا فالعلماء هم لسان الشريعة وترجمانها المبيِّنون لحقيقتها ومعانيها، وولي الأمر ومؤسسات الدولة هما اليد الفاعلة التي تعمل على تحقيق هذه المعاني في حياة الناس.

فلا يكفي بيان العالم وحده، ولا يكفي عمل ولي الأمر وحده، بل لابد من التعاون في هذا المجال، وهذا يفرض على العلماء المساندة الكاملة لولي الأمر وتقديم النصح له حتى يستطيع أن يقوم بمهمته، فليس هناك دين يتحقق إلا من خلال عمل ولي الأمر.

قال الإمام الحسن البصري -رحمه الله- في الأمراء: «هم يلون من أمورنا خمسًا: الجمعة والجماعة، والعيد، والثغور، والحدود، والله لا يستقيم الدين إلا بهم وإن جاروا وظلموا، والله لما يصلح الله بهم أكثرُ مما يفسدون، مع أن طاعتهم والله لغبطة، وأن فُرقتهم لكفر»([19]).

ومن أوجب الواجبات في العصر الحالي على أهل العلم هو بيان الحكم الشرعي في جماعات الخوارج التي خرجت بالسلاح على أمة الإسلام، فقتلت وهتكت الأعراض وسبَتِ النساء ونادتْ بهدم مجتمعات المسلمين تحت المسميات المختلفة، فولي الأمر يقوم بتنفيذ الحكم الشرعي في هؤلاء البُغاة من خلال بيان العلماء، وعمل مؤسسات الدولة ينطلق من القاعدة الشرعية التي يؤصلها العلماء ببيان حال هؤلاء المعتدين وحكمهم الشرعي.

وأهل العلم إذا تخلفوا عن بيان ذلك فستفشو أفكار هؤلاء بين الأمة وتحرف الشريعة الإسلامية.

وقد رأينا بأنفسنا كيف ألصقت هذه الجماعات بالإسلام تهم الوحشية وعدم التعايش والتعطش للدماء، وقد حذَّرنا من الانخداع بأقوالهم وأفعالهم رسول الله ﷺ فقال: «إن ما أتخوف عليكم رجل قرأ القرآن حتى إذا رئيت بهجته عليه وكان ردءًا للإسلام غيره إلى ما شاء الله فانسلخ منه ونبذه وراء ظهره وسعى على جاره بالسيف ورماه بالشرك» قال: قلت: يا نبي الله أيهما أولى بالشرك المرمي أم الرامي؟ قال: «بل الرامي»([20]). وأهل العلم هم المنوط بهم تكوين الحصانة العلمية لدي المسلمين حتى لا ينخدعوا بمنهج هذه التيارات، ولا يتركوا الأمر للحاكم فقط، فمساندته في بيان ضلال هذه الطوائف هو من أوجب الواجبات عليهم.

– وفي مجال حفظ العقول والهوية المجتمعية وما يلتحق به:

إن من أهم مقاصد الشريعة الإسلامية الحفاظ على العقل وعلى مكونات الشخصية الإسلامية واستقامتها، وعدم الانحراف الفكري، وعلى ذلك فعمل ولي الأمر ومؤسسات الدولة من أهم سبل تحقيق هذا المقصد، ذلك أننا نعيش في عالم اختفت فيه الحدود بين الحضارات المختلفة والمجتمعات المتنوعة، بحيث تتعرَّض المجتمعات المسلمة إلى سيل جارف من التيارات الثقافية والأطروحات الفكرية التي منها ما يتوافق مع شريعتنا وهويتنا ومنها ما يخالفها.

ومن أهم مجالات عمل ولي الأمر في أيامنا هذه المحافظة على هويتنا وجوهر وجودنا، ولن تستطيع أجهزة الدولة القيام بعملها في هذا المجال إذا تخلَّف أهل العِلم عن مساندتها ببيان مكونات الشخصية المسلمة وحدودها في تلقي المعلومات والأطروحات الفكرية المعاصرة.

فعلى سبيل المثال أطروحات الجماعات التكفيرية وجماعات الخوارج وما ينتج عنها من الأعمال الخارجة عن الشريعة، لا يمكن الوقوف بوجهها إلا إذا وجدت عند شبابنا الحصانة الفكرية الشرعية والعقل المرتَّب والتفكير المنظم، وأهل العلم هم المنوط بهم القيام بتشكيل هذه الحصانة عند أبناء الأمة، وهذا العمل يتكامل مع عمل ولي الأمر وأجهزة الدولة والتي تتعامل واقعيًّا مع النتائج المادية لهذا الفكر.

فإذا غاب دور أهل العلم في هذا المجال فلن تستطيع أي دولة أو أجهزة مهما بلغت إمكانياتها الماديَّة أن تقضي على مظاهر هذا الفكر ونتائجه في المجتمع، فدور العلماء في بيان فساد هذا الفكر هو المنطلق لعمل ولي الأمر، وهو المرجعية التي يعمل من خلالها، فهي عملية تعاونية متكاملة إذا نقص أحد عناصرها تنهار كلها، وقد رأينا في العقود الماضية كيف قلبت الحقائق الشرعية عندما تسللت مفاهيم تلك الجماعات إلى مجتمعات المسلمين، فظهر التكفير والتبديع ورمي المسلمين بالشرك واستحلال الدماء، والفوضى التي عمَّت البلاد الإسلامية تحت الشعارات الخداعة.

– وفي مجال حفظ العرض والنسل وكرامة الإنسان وما يلتحق به:

لو نظرنا إلى قضية حفظ النسل واستمرار الإنسان ووجوده في شريعتنا الإسلامية لوجدنا أن هذا المقصد شرع الله له نظامًا اجتماعيًّا متكاملًا، وكفل له الضمانات اللازمة، فجعل النسل لا يتم في الشريعة إلا بواسطة الزواج، وحثَّ عليه ورغَّب فيه، والزواج لا يتم إلا بالعقد بشروطه الشرعية، مع توفُّر وسائل إثباته، وتحديد واجبات وحقوق كل من الزوجين، وبيان هذه الأمور من مهمات العلماء يتلوها دور ولي الأمر ومؤسسات الدولة في تقنين هذا النظام وإقراره في المجتمع ومنع خرقه أو تجاوزه، فلو تصورنا غياب دور العلماء في هذه المسألة لحدث اللغط بين الناس واشتبه عليهم الأمر، وبعد فترة من الزمن سيصيبنا ما أصاب المجتمعات الأخرى من انتشار ظاهرة الأطفال خارج نطاق الزواج والأسرة، فالعالِم يبين الإطار الشرعي، وولي الأمر يفرضه كنظام مجتمعي شرعي ولا يسمح بخلافه، فلا غنى لعمل أحدهما عن الآخر وإلا لحدث الخلل في هذا المقصد الشرعي، ويلتحق بهذا المثال جميع ما يحفظ كرامة الإنسان من الأوامر الشرعية التي تكفل صيانة عرض الفرد وإنسانيته.

وقد رأينا كيف تعدَّت الجماعات الإرهابية على هذا المقصد الشرعي، فسعت في الأرض فسادًا واستهانت بكرامة الإنسان ولم تقم لها وزنًا، بل وادَّعت أن ذلك هو التطبيق الصحيح للشريعة، فإذا غاب دور العلماء في مساندة ولاة الأمور في التصدي لهذا التيار فسنجد أنفسنا أمام تحريف كامل لمعاني الشريعة الإسلامية، واختفاء مظاهر السماحة والرحمة والرفق والتي هي أصل التشريع الإسلامي.

– وفي مجال حفظ المال والملك والنشاط الاقتصادي في المجتمعات وما يلتحق به:

بيَّن الإسلام أهمية المال والنشاط الاقتصادي بصوره المختلفة، لما يمثله من كونه وسيلة مهمة لتحمل أعباء الحياة ودوران معيشة الخلق، وعلى ذلك فقد وضع الإسلام الإطار الشرعي للتعامل الاقتصادي، وبيان الحصول على المال من المصادر الشرعية، وكيفية إنفاقه وأفضل السبل لذلك، وحذر من الحصول على المال بالطرق غير الشرعية أو إنفاقه في المحرمات، كما بينت الشريعة الإسلامية حدود النشاط الاقتصادي، وأمرت بالعمل، وجعلت المساهمة في النشاط الإنساني وصنع الحضارة والسعي في الأرض من أوجه البر والقربات إلى الله، كما حرمت التبذير والإسراف والتقتير، ودعت إلى الاقتصاد والتدبير في أمور المعيشة، وبيَّنت الشريعة حقوق الفقراء في المال، كل هذه المعاني تقود المجتمع إلى تحقيق مقصد الشريعة في الحفاظ على المال وصيانته وتفعيله على أرض الواقع.

ويقع على ولي الأمر تطبيق هذه المعاني الشرعية في أرض الواقع من خلال أجهزة الدولة ومؤسساتها، ولكن لابد قبل هذا من وجود المرجعية الشرعية، التي توجه المجتمع لمراد الشرع، وعليه فعمل ولي الأمر في هذا الباب لا يكتمل إلا بعمل العالِم ولا يؤتي الثمار المرجوة إلا من خلاله.

حتى أجاز الشرع لوليِّ الأمر -تحقيقًا لهذه المقاصد- أن يستعمل الإجبار كحقٍّ مُخوَّلٍ له من الشارع دفعًا لظلم أو تحقيقًا لمصلحة عامة، ومن ذلك ما قالوه من جبر المدين المماطل على دفع ما عليه من دين للغير ولو بالضرب مرة بعد أخرى والسجن، وإلا باع عليه القاضي جبرًا. كما قال جمهور الفقهاء خلافًا للإمام أبي حنيفة الذي رأى جبره بالضرب والحبس حتى يقضي دينه دون بيع ماله جبرًا عنه([21])، كما قالوا: إذا امتنع أرباب الحرف الضرورية للناس، ولم يوجد غيرهم، أجبرهم ولي الأمر استحسانًا([22]).

وقد شهدنا في بلادنا كيف عملت التيارات المتطرفة على نقض هذا المقصد الشرعي، حيث  حرمت العمل في أجهزة الدولة ومؤسساتها، وحاربت كل مظاهر الرقي والتقدم، وأدخلت التعاون الدولي لتحقيق الرخاء في باب موالاة الكفار، وفتحت الباب أمام استحلال الأموال المحرمة، وما يخص الدولة من الحقوق المالية والاعتداء على مرافقها، ونسبت ذلك كله للشريعة، وإذا ترك هذا الأمر من غير البيان الشرعي من أهل العلم في هذه الأعمال فسوف يؤدي ذلك بلا شك إلى ضياع الحقوق وإهمال الواجبات، وتهديد الكيان الاقتصادي للمجتمعات المسلمة على مستوى الأفراد والمجموع.

وعلى الإجمال والتفصيل لا يتم تحقيق مقاصد الشريعة الإسلامية إلا من خلال منظومة متكاملة يشترك فيها أهل العلم مع ولاة الأمر، وعلى ذلك فمن أوجب الواجبات الشرعية على أهل العلم القيام بدورهم في هذه الشريعة، وعدم التخلف عن مواصلة الإسهام البنَّاء هذا الأمر النبيل، خاصة وأن أمتنا قد تعرضت لتحريف المفاهيم الشرعية نتيجة لانتشار أفكار المتطرفين بين طوائف من أبنائها، مما يستلزم تكاتف جهود أهل العلم مع ولاة الأمور لإزالة هذا الضلال الفكري وإظهار الوجه السمح لشريعتنا الإسلامية.

وفي هذا الفصل الذي نحن بصدده سنبين مفهوم ولي الأمر، وأنواع السلطات وأنظمة الحكم المعاصرة من مَلَكي وجمهوري، والسلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية في الدولة.

 

 ([1]) انظر: المستصفى في علم الأصول (1/ 417) أبو حامد محمد بن محمد الغزالي، تحقيق محمد بن سليمان الأشقر، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1417هـ/ 1997م.

 ([2]) انظر: الموافقات (1/ 38) إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي، تحقيق: أبي عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، دار ابن عفان، الطبعة الأولى 1417هـ/ 1997م.

 ([3]) انظر: قواعد الأحكام في مصالح الأنام (2/ 189) أبو محمد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن السلمي الدمشقي، تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة.

([4]) أخرجه أبو داود (3641)، والترمذي (2682)، وابن ماجه (223)، وأحمد (21763)، وابن حبان (88). وقال الترمذي: لا نعرف هذا الحديث إلا من حديث عاصم بن رجاء بن حيوة، وليس هو عندي بمتصل. ثم أورد له إسنادًا وقال: هذا أصح، وقال ابن عساكر في (تاريخ دمشق) (25/ 247): له طرق كثيرة، وحسنه ابن حجر في تخريج مشكاة المصابيح (1/ 151) كما أشار إلى ذلك في المقدمة.

([5]) انظر: غياث الأمم في التياث الظلم (ص22) عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني، أبو المعالي، ركن الدين، الملقب بإمام الحرمين- تحقيق عبد العظيم الديب، مكتبة إمام الحرمين، الطبعة الثانية، 1401هـ.

([6]) انظر: المصدر السابق (ص24).

([7]) الأحكام السلطانية، لأبي الحسن الماوردي (ص15).

([8]) انظر: مقدمة ابن خلدون (1/ 366) عبد الرحمن بن محمد بن خلدون ولي الدين، تحقيق عبد الله محمد الدرويش، دار يعرب، الطبعة الأولى، 2004م.

([9]) انظر: هداية المريد لجوهرة التوحيد (2/ 1277) تأليف: إبراهيم اللقاني، تحقيق: مروان البجاوي، دار البصائر، القاهرة، الطبعة الأولى، 2009م.

([10]) انظر: مقاصد الشريعة الإسلامية (2/ 518) محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطر، 2004م.

([11]) انظر: غياث الأمم في التياث الظلم (ص182).

([12]) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (4960) من طريق عبدان -يعني الأهوازي- عن هشام بن عمار، وسليمان بن أحمد الواسطي، عن الوليد، عن روح بن جناح، عن أبي الجهم الجوزجاني، عن البراء بن عازب رضي الله عنه به مرفوعًا.

([13]) أخرجه البخاري في كتاب الديات، باب قول الله تعالى: {وَمَنۡ أَحۡيَاهَا} (6871) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

([14]) متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب القصاص يوم القيامة (6533)، ومسلم في كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب المجازاة بالدماء في الآخرة، وأنها أول ما يقضى فيه بين الناس يوم القيامة (1678) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

([15]) انظر: معالم التنزيل في تفسير القرآن (2/ 42) أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي الشافعي- تحقيق عبد الرزاق المهدي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1420هـ.

([16]) انظر: الزواجر عن اقتراف الكبائر (2/ 144، 145) أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي السعدي الأنصاري، دار الفكر، الطبعة الأولى، 1407هـ- 1987م.

([17]) انظر: رسائل الإمام الشهيد حسن البنا (ص165) دار الفتح للإعلام العربي، 2012 م.

([18]) انظر: كتاب لماذا أعدموني؟ (ص43) سيد قطب.

([19]) جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثًا من جوامع الكلم (2/ 768) زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب بن الحسن، السلامي، البغدادي، ثم الدمشقي، الحنبلي، تحقيق د. محمد الأحمدي أبو النور، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 1424هـ- 2004م.

([20]) أخرجه البخاري في التَّاريخ الكبير (4/ 301) والبزَّار في مسنده (2793)، وابن حبَّان في صحيحه (81) واللَّفظ له، وقال البزَّار: «إسناده حسن».

([21]) ينظر: كشف الأسرار (4/ 1494)، وحاشية ابن عابدين (5/ 200)، ومقدمات ابن رشد (2/ 200).

([22]) ينظر: الشرح الصغير (4/ 39)، ونهاية الرتبة في طلب الحسبة (ص23، 87).

اترك تعليقاً