البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الفصل الثاني: ضوابط الفتوى في السياسة الشرعية

المبحث الثاني: موجبات تغير الفتوى في السياسة الشرعية

87 views

تتعلق الفتوى في مجال السياسة الشرعية غالبًا بما لم يرد فيه نص خاص، وذلك لتدبير شؤون الرعية، ودفع المظالم، وردع أهل الفساد، وتستند في الغالب إلى قواعد الشرع العامة ومقاصده الكلية ومصالح العباد المرعية، وهذا يدل على أصل الكمال في هذه الشريعة.

وقد بقي الفقه السياسي الإسلامي أقلَّ أبواب الفقه تطوُّرًا بالقياس إلى فقه الأحوال الشخصية والمعاملات، بل إنه يكاد يكون متوقفًا عند ما قرره فقهاء السياسة الشرعية في القرن الرابع الهجري حينما كان يطلق على هذا الباب: الأحكام السلطانية، وتنفَّس قليلًا بعد ذلك في مباحث السياسة الشرعية عند بعض فقهاء القرنين السابع والثامن كالقرافي وابن القيم، ومن ثَمَّ لم يواصل الفقهاء بشكلٍ مستمر واجبَ تنمية البحث في شؤون المواطنة وحقوق الرعية والأمن السياسي والاجتماعي، ونصيحة الحكام ومحاسبتهم بطريقِ المعروفِ من مجالس الحل والعقد بلا شغبٍ ولا تخريب، وظلَّت المؤلفات في كل قرنٍ تجترُّ ما ألفه أولئك المتقدمون في هذا الباب مع إضافات قليلة لا تنهض لتكوين رؤيةٍ كاملةٍ لما ينبغي أن يكون عليه منهج الفتيا في السياسة الشرعية بشكلٍ كاملٍ يؤسس لكبريات مسائله المتجددة الدائمة كالمواطنة والتعامل مع غير المسلمين والعلاقات الدولية وسياسة العقوبات وإجراءات الحكم والإدارة ونحو ذلك، حتى فطن إلى ضرورة تدارك هذا النقص الباحثون المعاصرون، فطوروا في أسلوب عرض مسائل هذا الباب وحرروا مصطلحاته، وراجعوا أحكامه بنظرٍ اجتهادي مقاصدي يراعي القواعد العامة للشريعة ويحقق مصالح البلاد والعباد بقدر ما يمكن، ورغم ذلك لم يكتمل مجهودُهم بعدُ ليتناول جوهر القضايا السياسية باجتهادٍ شرعي متجدد يبني هذا العلم الخطير بناءً جديدًا([1]).

ولهذا بدأت المؤسسات الدينية والإفتائية الكبرى في العالم الإسلامي في القرنين الرابع عشر والخامس عشر الهجريَّيْنِ بالتنبه إلى ضرورة إنشاء المجامع الفقهية العالمية، والتي تُعنَى بالقضايا السياسية التي لها أثر على عموم الأمة بالإضافة لاهتماماتها الفقهية الأخرى، فأثْرَت بذلك الأبحاث الناظرة في مسائل السياسة الشرعية من جديد، كنُظُم الحكم، والشورى، ومشاركة المرأة في العمل، والعلاقات الدولية، ونحو ذلك، لكن مع مراعاة تغير الزمان والمكان والأحوال وفي ظل النظام العالمي الجديد.

ولذلك كان من الضروري هنا الوقوف على موجبات تغير الفتوى في باب السياسة الشرعية بالنظر إلى اختلاف أوضاع السياسة والإدارة في العالَم اليوم عما كانت عليه الأحوال من قبل.

ومن أهم موجبات تغير الفتوى في باب السياسة الشرعية:

أولًا: تغير الزمان.

من المعلوم من الدين بالضرورة أن هذا الدين قد قام على أسس من الواقعية، وقراءة واقع المكلفين، والتيسير عليهم، ورفع الحرج عنهم، والذي يستقرئ النصوص الشرعية يرى تضافرها حول قضية التيسير ورفع العنت والمشقة عن المكلفين.

وتغير الفتوى يكون بأن تختلف الفتوى في بيان حكم المسألة الواحدة من حال إلى حال أو شخص لآخر أو زمان عن زمان.

ويلزم لتغير الحكم أن يكون هذا التغير وفقًا لمقاصد التشريع، فإن التغير إنما يكون في ظاهر الحكم، وأما في باطن الأمر وحقيقته فإنه موافق لمقاصد الشريعة.

كان لعمل أمير المؤمنين عمر نصيب كبير في تأصيل هذه القاعدة، فمن ذلك أن عمر لم يعط المؤلفة قلوبهم مع وروده في القرآن، ورأى أن عز الإسلام موجب لحرمانهم.

وكذلك إلغاؤه للنفي بتغريب عامٍ في حد الزاني البكر خوفًا من فتنة المحدود والتحاقه بدار الكفر؛ لأن إيمان الناس يضعف مع الزمن.

وأمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه يأمر بالتقاط ضالة الإبل وبيعها وحفظ ثمنها لصاحبها كما رواه مالك رحمه الله تعالى عن ابن شهاب الزهري مع نهيه صلى الله عليه وسلم عن التقاط ضالة الإبل، وذلك لما رأى من فساد الأخلاق وخراب الذمم، وورَّث تماضر الأسدية لمَّا طلقها عبد الرحمن في مرض موته.

وأمير المؤمنين علي رضي الله عنه يُضَمِّنُ الصُنَّاعَ بعد أن كانت يدُ الصانعِ يدَ أمانةٍ قائلًا: “لا يُصْلِحُ الناسَ إلا ذاك”. هذه القاعدة وردت في مجلة الأحكام العدلية بعنوان: “لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان”.

نموذج فتوى أخذ الأجرة:

قال ابن عابدين: “الأصل أن كل طاعة يختص بها المسلم لا يجوز الاستئجار عليها عندنا، لقوله عليه الصلاة والسلام: ((اقرؤوا القرآن ولا تأكلوا به)). وفي آخر ما عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمرو بن العاص: ((وإن اتخذت مؤذنًا فلا تأخذ على الأذان أجرًا))، ولأن القربة متى حصلت وقعت على العامل، ولهذا تتعين أهليته، فلا يجوز له أخذ الأجرة من غيره كما في الصوم والصلاة. هداية. مطلب تحرير مهم في عدم جواز الاستئجار على التلاوة والتهليل ونحوه مما لا ضرورة إليه.

(قوله: ويفتى اليوم بصحة أخذ الأجرة لتعليم القرآن… إلخ) قال في الهداية: وبعض مشايخنا رحمهم الله تعالى استحسنوا الاستئجار على تعليم القرآن اليوم لظهور التواني في الأمور الدينية، ففي الامتناع تضييع حفظ القرآن وعليه الفتوى. اهـ. وقد اقتصر على استثناء تعليم القرآن أيضًا في متن الكنز ومتن مواهب الرحمن وكثير من الكتب، وزاد في مختصر الوقاية ومتن الإصلاح تعليم الفقه، وزاد في متن المجمع الإمامة، ومثله في متن الملتقى ودرر البحار”([2]) اهـ.

ومن التطبيقات على هذه القاعدة في باب السياسة الشرعية: جواز إقامة المسلم في البلاد الأجنبية التي لا تمنعه من إقامة شعائر دينه في نفسه؛ لأن الزمان الذي كانت تنقسم فيه الديار إلى دار حربٍ ودار سلم قد انقضى، وصارت الاتفاقيات الدولية كافلةً لحقوق الإنسان في أي دولةٍ من الدول.

ثانيًا: تغيُّر الأعراف والعادات.

أجمع العلماء على اعتبار العرف في الأحكام الشرعية حتى قال الإمام القرافي المالكي: «نُقل عن مذهبنا أن من خواصه اعتبار العوائد والمصلحة المرسلة وسد الذرائع، وليس كذلك، أما العرف فمشترك بين المذاهب، ومن استقرأها وجدهم يصرحون بذلك فيها»([3]).

ويشهد لاعتبار العرف من الكتاب: قوله تعالى: {خُذِ ٱلۡعَفۡوَ وَأۡمُرۡ بِٱلۡعُرۡفِ}([4])، فالآية تدل على اعتبار العرف. قال السيوطي: «قال ابن الفرس: المعنى: اقض بكل ما عرفته النفوس مما لا يردُّه الشرع، وهذا أصل القاعدة الفقهية في اعتبار العرف»([5]).

والعرف مصدر خصب في التشريع والقضاء والفتوى، واعتبار الشريعة الإسلامية له دليل على أنها صالحة لكل زمان ومكان.

ومراعاة العرف وتحكيم ما يقضي به أمر واجب في سياسة الأمة وتدبير شؤونها على وفق مبادئ الشريعة التي لم تقصد إلا إلى النظام وتحقيق مصالح العباد([6]).

فللعرف قيمته التشريعية، وتقوم عليه أحكام السياسة الشرعية من حيث قدرته على الاستجابة لمتطلبات الحياة ومسايرة الأحداث المتجددة.

وعلى ذلك فلولي الأمر تقييد الفتاوى بأعراف المستفتين زمانًا ومكانًا وحالًا؛ لأن في هذا الزمان قد تصل مع انتشار وسائل التواصل الحديثة فتوى أهل بلد غير مقيدة به إلى بلد لا تشملهم الفتوى فيظن شمولها، فيقع بذلك على من لا تشملهم الفتوى حرج كبير، أو على العكس ربما يقع توسع غير مشروع في حقهم، كما قد يقع بذلك استغلال وتوظيف للفتاوى، أو سبَّة بها على أهل الإسلام من أهل الباطل المتربصين([7]).

وفي جميع ما ذكرنا دليل واضح على مسايرة السياسة الشرعية لركب الحياة ووفائها بكل ما تتطلبه الأمة من أحكام فيما يجدُّ لها من وقائع وحوادث لم تكن معروفة لها في الأزمنة الماضية ببنائها على العرف إذا تحقَّقت فيه شروط اعتباره على نحو ما ذكرنا.

ثالثًا: عموم البلوى.

من القواعد الفقهية المعتبرة عند الفقهاء والتي تعد من أبرز موجبات تغير الفتوى في باب السياسة الشرعية على وجه الخصوص: قاعدةُ عُموم البلوى، وهي قاعدةٌ فقهيةٌ يَستشهِد بها فقهاء المذاهب وغيرهم عند بيانهم للأحكامِ الطارئة، في ظروفٍ زمانيةٍ ومكانيةٍ معينةٍ عند حصول بلاءٍ عامٍّ، ومعنى قاعدة: “عموم البلوى” أن العموم هو الشمول، والبلوى بمعنى الاختبار والامتحان، أو الامتحان الذي ينتج عنه مشقةٌ زائدةٌ.

ويذكر علماء الأصول أن عموم البـلوى هو ما تمس الحاجة إليه في عموم الأحوال. وفي الاصطلاح يفهم من عبارات الفقهاء أنَّ المراد بعموم البلوى: الحالة أو الحادثة الَّتي تشمل كثيرًا من النَّاس ويتعذَّر الاحتراز عنها، وعبَّر عنه بعض الفقهاء بالضَّرورة العامَّة، وبعضهم بالضَّرورة الماسَّة، أو حاجة النَّاس. وفسَّره الأصوليُّون بما تمسُّ الحاجةُ إليه في عموم الأحوال([8]).

قال الزركشي: “قال الشيخ أبو حامد الإسفراييني في تعليقه: ومعنى قولنا: “تعمُّ به البلوى” أن كلَّ أحدٍ يحتاج إلى معرفتها”([9]) اهـ.

جعل الفقهاء عموم البلوى من المخففات، ولكن اعتبارها من المخففات إنما يكون في الأحكام المختلف فيها، لا الأحكام المقطوع بحرمتها، ومن أمثلة ذلك أن بعض الفقهاء كانوا يفتون بعدم قبول شهادة من يكشف رأسه ومن يأكل في الطرقات، ولكن الفقهاء غيروا فتواهم لما رأوا الناس تأثروا بغيرهم وكشفوا رؤوسهم.

الأدلة على اعتبار قاعدة “عموم البلوى” كثيرةٌ منها: ما ورد أن امرأة أرسلت بِهَرِيسَةٍ إِلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَوَجَدَتْهَا تُصَلِّي فَأَشَارَتْ إِلَيَّ أَنْ ضَعِيهَا، فَجَاءَتْ هِرَّةٌ فَأَكَلَتْ مِنْهَا، فَلَمَّا انْصَرَفَتْ أَكَلَتْ مِنْ حَيْثُ أَكَلَتِ الْهِرَّةُ، فَقَالَتْ: إِنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ، إِنَّمَا هِيَ مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ، وَقَدْ رَأَيْتُ النبي صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ بِفَضْلِهَا))([10]) اهـ.

وفي رواية أخرى عَنْ كَبْشَةَ بِنْتِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ -وَكَانَتْ تَحْتَ ابْنِ أَبِي قَتَادَةَ- أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ دَخَلَ فَسَكَبَتْ لَهُ وَضُوءًا، فَجَاءَتْ هِرَّةٌ فَشَرِبَتْ مِنْهُ، فَأَصْغَى لَهَا الْإِنَاءَ حَتَّى شَرِبَتْ، قَالَتْ كَبْشَةُ: فَرَآنِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: أَتَعْجَبِينَ يَا ابْنَةَ أَخِي، فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ، إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَات))([11]) اهـ.

فوجود القطط في البيوت وملامستها للأغراض والمأكولات مما تعمُّ به البلوى، فشبهها النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالخدم الذين يخدمون الناس في منازلهم، فلا يمكن أن يتحرزوا منها، فجاء التخفيف في ذلك.

وعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ: أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ أُمَّ سَلَمَةَ، فَقَالَتْ: إِنِّي امْرَأَةٌ أُطِيلُ ذَيْلِي، وَأَمْشِي فِي الْمَكَانِ الْقَذِرِ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((يُطَهِّرُهُ مَا بَعْدَهُ))([12]) اهـ.

وجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر تكرر ملابسة ثياب المرأة للمكان القذر أمرًا يخفف عنده، إذ تعتبر ملابسة الثياب للمكان الطاهر بعد ذلك مطهرًا لها، ولو قيل بعدم طهارة ثياب النساء حينئذ لأدَّى إلى إلحاق المشقَّة بعموم النساء.

وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلْيَنْظُرْ فَإِنْ رَأَى فِي نَعْلَيْهِ قَذَرًا أَوْ أَذًى فَلْيَمْسَحْهُ وَلْيُصَلِّ فِيهِمَا))([13]) اهـ.

فالنبي صلى الله عليه وسلم أذن بإزالة القذر بالتراب، مع أن التراب ملوث، ولكن جاز لأن التصاق القذر بالنعال مما تعم به البلوى.

وقد ذكر العلماء صورًا طبقوا عليها قاعدة عموم البلوى من باب تخفيف الأحكام على الناس، أهمها:

(1) صعوبة التخلص من الشيء، ويعبر عنه الفقهاء بما لا يمكن الاحتراز منه، أو ما يشق الانفكاك منه، كالعفو عمَّا يصيب الثياب من طين الشوارع.

(2) تكرار الأمر على الشخص في حياته اليومية بحيث يتصف هذا التكرار بالمشقة؛ ولذلك جاء في السنة النبوية قوله صلى الله عليه وسلم: ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء))، فقد امتنع النبي صلى الله عليه وسلم عن إيجاب ذلك الفعل لوجود المشقة لوجود تكرار للفعل عند كل وضوء، ومثل المسح على الخفين، فتكرار نزع الخف أو الجورب خفف الحكم من الغسل إلى المسح، وهذا هو لب قاعدة التيسير لعموم البلوى، ولكن يشترط في هذا السبب أن يكون التكرار كثيرًا، ويُعتمد في ذلك على العرف إذا لم يكن هناك نصٌّ شرعي أو نظامي يحدد الشيء الكثير والقليل.

(3) انتشار الشيء بحيث يصعب على الناس البعدُ عنه لانتشاره وتفاقم الحاجة إليه، ويمثل له الفقهاء قديمًا باختلاط الناس بالهرة، ولو قيل بنجاسة ما تلامسه الهرة لشقَّ ذلك على الناس، ويمثل لذلك في الفقه والقانون التجاري استخدام التجار للدفاتر في إثبات حقوقهم، فلو لم تعتبر تلك الدفاتر حجة في إثبات الديون لشق ذلك على التجار مشقة عظيمة، إذ سيؤدي ذلك إلى ضياع حقوقهم، فتعتبر الدفاتر إذًا حجة في إثبات الديون وفقًا لتلك المشقة، وقد يكون انتشار هذا الأمر لجميع الناس أو لفئةٍ معينة أو لأهل بلدٍ معين، وكل بقدر حسب الظروف.

(4) كثرة الشيء وامتداد زمانه، بحيث يصعب على الشخص التعامل معه في مثل الظروف الاعتيادية فيأخذ حكمًا من باب التخفيف، مثل الأشخاص الذين يعانون سلس البول، فهؤلاء يستمر منهم الحدث ولا يمكنهم الاستمرار على طهارتهم؛ ولذلك يكتفى بوضوئهم قبل الصلاة، ويعفى عن نزول شيء منهم أثناء الصلاة.

(5) تفاهة الشيء وقلته، ومعنى ذلك أن تكون بعض الأشياء التافهة قد تلاحق بعض الحالات مثل قطرات الدم في ثوب المصلي، ومثل الغرر والجهالة اليسيرة في البيوع والمعاوضات في أحكام المعاملات، والتي يصعب الانفكاكُ منها، وتعظم حاجةُ الناس لها، فهذه تمَّ التخفيف في حكمها من أجل عموم البلوى بها.

كما أن الفتوى على التجاوز عما لا يمكن الاحتراز عنه من النجاسات.

قال الحصني: “ومنها: عموم البلوى، كالصلاة مع لطخات القروح والدماميل والبراغيث، وكذا الصلاة في شدة الخوف مع القتال والحركات الكثيرة إِلى غير ذلك من الأسباب”([14]) اهـ.

ومن المسائل المتعلقة بالسياسة الشرعية مما يمكن فيها إعمال قاعدة عموم البلوى مسألة حضور المؤتمرات الدولية التي ربما تكثر فيها المحرمات كالخمور وغيرها، ولا يأثمُ الحاضرُ المسلمُ هنا بسبب شرب غيره لتلك المحرمات طالما أنه كارهٌ بقلبه لذلك، خصوصًا وأن كثيرًا من حاضري تلك المؤتمرات يكونون من غير المسلمين.

رابعًا: تغير المصلحة.

تغير الفتوى بتغير المصلحة في الأحكام التي تقبل التغيير هو من أسباب قوة الفتوى وحياتها، ومناسبتها لكل أنواع النوازل والقضايا، خاصة تلك القضايا المتعلقة بالسياسة الشرعية مما ينتجه التعامل مع الدول الأخرى أو التعامل مع رعايا تلك الدول.

والمصلحة مأخوذة من الفعل صلح، ومنه الصلاح، ضد الفساد، يقال: أصلح الشيء يصلحه أتى بالصلاح وهو الخير والصواب، والمصالح أمور اعتبارية تختلف بحسب اختلاف الناس وعاداتهم وأخلاقهم([15]).

وعرفها الغزالي فقال: “أما المصلحة: فهي عبارة في الأصل عن جلب منفعة أو دفع مضرة”([16]) اهـ.

ومن المقرر أن أحكام الشریعة لم تأت على شكل قوالب جامدة لا یراعى فیها الظروف التي تحیط بالمكلفين، بل جاءت مرنة واسعة تراعي أحوال المكلفين، وهو ما يجعل الفتوى الشرعیة قابلة للتغيير حسب هذه الظروف والملابسات، ومن جملة الأمور المؤثرة في تغیر الفتوى هو تغیر المصالح، فلاختلاف المصالح اعتبار في الفتیا، بل هي مؤثرة فیها تأثیرًا واضحًا، إذ جلب المصالح ودرء المفاسد أحد أهم المقاصد الشرعیة، والمصالح تختلف من زمان إلى زمان، ومن شخص لآخر، ومن مكان لآخر، فالشریعة الإسلامیة مرنة تسع بنصوصها وأحكامها وفتواها جمیع المكلفین.

ومعنى تغير الفتوى بتغير المصلحة أن تختلف الفتوى في بيان حكم المسألة الواحدة من حال إلى حال، أو شخص لآخر، أو زمان عن زمان، فإن من أهم مظاهر التيسير على المكلفين مراعاة الفروق الفردية بينهم، واختلاف الملابسات والظروف المحيطة بكل واحد منهم، وعلى هذا الأساس تتغير الفتوى لتلائم أحوال المكلفين المتعددة وأزمانهم وأماكنهم المختلفة.

وقد قرر الشاطبي أنه ينبغي على المجتهد: “النظر فيما يصلح بكل مكلف في نفسه بحسب وقت دون وقت، وحال دون حال، وشخص دون شخص، إذ النفوس ليست في قبول الأعمال الخاصة على وزان واحد… فهو يحمل على كل نفس من أحكام النصوص ما يليق بها بناء على أن ذلك هو المقصود الشرعي في تلقي التكاليف”([17]) اهـ.

قال ابن القيم: “فصل في تغيير الفتوى: واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد.

هذا فصل عظيم النفع جدًّا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى البعث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها، وهي نوره الذي به أبصر المبصرون، وهداه الذي به اهتدى المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل، وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام”([18]) اهـ.

وقد طلب الناس من النبي صلى الله عليه وسلم أن يسعر لهم فلم يفعل، وقال: ((إن الله هو المسعر القابض الباسط)) وعلى ذلك فمقتضى العمل بهذا الحديث الشريف عدم جواز التسعير عمومًا، لكن الناظر إلى هذا الحديث يدرك حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في عدم التسعير تكمن في أن المصلحة في هذا الوقت كانت في عدم التسعير، إذ التسعير كان سيؤدي إلى قلة العرض وزيادة الطلب، فلما كان عصر التابعين، وتغيرت أحوال الناس، وصارت هناك حالات الغلاء غير المبرر والخارج عن السيطرة، أجاز علماء التابعين التسعير دفعًا للضرر وتحقيقًا للمصلحة المستجدة التي تتطلب تغير الفتوى.

والمصالح منها ما هو واقع تحت دلالة الدليل، وهو ما يسمى بالمصالح المعتبرة.

ومنها المـصالح التي لم يقـم دليـل شرعي خـاص علـى اعتبارهـا ولا علـى إلغائهـا، ولكـن دلـت الأدلــة العامــة علــى اعتبارهـا، وإنمــا سميــت مرســلة؛ لأن الــشارع لم يشهد لها باعتبــار ولا بإلغاء.

وليس معنى كون هذه المصالح مرسلة أي خالية تمامًا من الاعتبار الشرعي لهـا، بـل المقـصود أن هـذه المـصالح خاليـة عـن اعتبـار عينهـا، فلـم يـرد دليـل خـاص بمـصلحة مـن هـذا النـوع، ولكـن وردت الأدلـة الـشرعية علـى اعتبـار جـنس المـصالح، وقـد قـصد بوصـفها بالإرسـال التفرقـة بينهـا وبين القياس، فهي معتبرة جملة، بينما دليل القياس وشاهده يكون تفصيليًّا.

وعرفهــا الشاطبي بأنها: “المــصالح التي ســكتت عنهــا نــصوص الــشريعة، فلــم تــصرح باعتبارهــا ولا بإلغائهـا، إلا أنها لابـد وأن تكـون ملائمـة لتـصرفات الـشارع، بحيـث تكـون نـصوص الـشريعة دالة عليها في الجملة، دون دليل خاص عليها” اهـ([19]).

وعلى المفتي في مسائل السياسة الشرعية على وجه الخصوص أن يكون على إلمام بالمصالح التي قصدها الشارع في هذا الباب من الحكم والإدارة وتوابعهما، سواء كان ذلك فيما يتعلق بالحالة الداخلية للمجتمع من ضبط المعاملات والعقوبات وشؤون العمل والمرافق ووجوه المعيشة المختلفة، أو كان فيما يتعلق بعلاقة الدولة بغيرها من الدول.

ومن التطبيقات على ذلك في باب السياسة الشرعية:

– أنه قديمًا كان الامتناع عن المشاركة في انتخاب رئيسٍ أو حاكمٍ أو مجلسٍ سياديٍّ أمرًا مباحًا، حيث كانت الأنظمة القديمة غالبًا ما تتحاشى التعرض لمسألة اختيار الأغلبية كما في الأنظمة الديمقراطية الحديثة، وإنما كان الاختيار يتم إما بترشيح القوى العسكرية القابضة على زمام الأمور في بلدٍ ما، أو بترشيح أهل الحل والعقد من رؤوس الساسة والاقتصاديين والعلماء ونحوهم.

أما في النظام العالمي الحديث فقد تغيرت صور الانتخاب والترشيح بما يناسب حالة وثقافة كل مجتمع، وإن كانت معظم الدول لاسيما الجمهوريات تخضع لنظام الانتخاب بالتصويت ونتيجة الفوز تتعلق باختيار الأغلبية من المنتخِبين.

ولما كان الأمر هكذا لم يعد الامتناع عن التصويت في الانتخابات على ما كان عليه من الإباحة المطلقة في حق الجميع، وإنما صار مقيدًا بما يحقق مصلحة البلد والناس، فربما يؤدي امتناع عدد كبير من المواطنين عن التصويت إلى إفساح المجال للأصوات المأجورة من قِبل التيارات المشبوهة والجماعات المتطرفة فتكون النتيجة فوز ممثليهم من المتطرفين، وتُجر الدولة بذلك إلى مهالك جسيمة.

ولذلك جاءت فتوى دار الإفتاء المصرية في هذا الشأن، وهي الفتوى الواردة في حكم الامتناع عن التصويت في الانتخابات، والتي استندت إلى ضرورة مراعاة المصلحة في فتاوى السياسة الشرعية، وكان نصها كما يلي:

“حث الإسلام المسلمين في كل زمان ومكان على التحلي بالصدق والأمانة والتخلي عن الكذب والخيانة، وأمر المسلم بأداء الأمانة بكل أنواعها وأشكالها، فقال تعالى: {۞إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تُؤَدُّواْ ٱلۡأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهۡلِهَا} [النساء: 58]، ولا شك أن الشورى هي الديمقراطية التي يجب أن يتربى عليها أبناء المجتمع ليكونوا أمناء صادقين، والشورى لازمة وواجبة بين أفراد الأمة لاختيار عناصر سلطتهم التشريعية، ويجب على من توافرت فيه الصلاحية لأداء هذه الأمانة أن يدلي بصوته الانتخابي ولا يتأخر عن القيام بهذا الواجب بصدق وأمانة ونزاهة وموضوعية.

وعلى ذلك: فالممتنع عن أداء صوته الانتخابي آثمٌ شرعًا، ومثله من يدفع صاحب الشهادة إلى مخالفة ضميره أو عدم الالتزام بالصدق الكامل في شهادته بأيِّ وسيلة من الوسائل، وكذلك من ينتحل اسمًا غير اسمه ويدلي بصوته بدل صاحب الاسم المنتحل يكون مرتكبًا لغشٍّ وتزويرٍ يعاقب عليه شرعًا”([20]).

[1]) تجديد فقه السياسة الشرعية، د. عبد المجيد النجار، بحث مقدم للدورة السادسة عشرة للمجلس الأوربي للإفتاء والبحوث، يوليو 2006م، (ص2، 3).

([2]) رد المحتار على الدر المختار (6/ 55).

[3]) شرح تنقيح الفصول، للقرافي (ص448).

[4]) سورة الأعراف، من الآية (199).

[5]) الإكليل في استنباط التنزيل للسيوطي (ص132)،

 ([6]) السياسة الشرعية والفقه الإسلامي (ص83).

 ([7]) أضواء على السياسة الشرعية، د. سعد العتيبي (ص95).

([8]) الموسوعة الفقهية الكويتية 31/ 6.

([9]) البحر المحيط 4/ 347 دار الكتبي.

([10]) المعتصر من المختصر من مشكل الآثار (1/ 18) عالم الكتب- بيروت.

([11]) رواهما أبو داود والترمذي وصححهما البخاري والدارقطني كما في التلخيص الحبير 1/ 15.

([12]) الشافي العي على مسند الشافعي ط- أخرى (ص200).

([13]) سنن أبي داود (1/ 175) المكتبة العصرية، صيدا- بيروت.

([14]) القواعد، للحصني (1/ 317) مكتبة الرشد للنشر والتوزيع، الرياض.

([15]) القاموس المحيط، مجد الدين الفيروزآبادي (١/ ٤٧٣)، الرسالة للطباعة والنشر.

([16]) المستصفى، للغزالي (ص174) دار الكتب العلمية.

 

([17]) الموافقات 5/ 55.

([18]) إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم (3/ 11).

([19]) ينظر: الاعتصام للإمام الشاطبي ٢/ ٣٦٧، ط. مطبعة عمرو الحلبي.

([20]) ينظر: الموقع الرسمي لدار الإفتاء المصرية، تاريخ الفتوى: 09 أكتوبر 2000م، رقم (3190).

 

اترك تعليقاً