البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الفصل الثاني: ضوابط الفتوى في السياسة الشرعية

تمهيد في العلاقة بين الفتوى والسياسة الشرعية

123 views

عرَّف الفقهاء الفتوى بتعاريف متقاربة تؤكد كلها على أن الاجتهاد الصادر من المفتي يسمَّى بالفتوى، ويطلق على الفقيه الذي يبين الحكم الشرعي للسائل (المفتي)، والسائل الذي يوجه السؤال (المستفتي)، والجواب الذي يذكره الفقيه (الفتوى).

وفي وجوب العمل بفتوى المفتي أقوال، منها الوجوب، ولكن هذا الوجوب ليس وجوبًا قضائيًّا، بل الوجوب وجوب أخروي.

أما الحكم السياسي فهو عبارة عن الحكم الصادر من الحاكم بوصفه حاكمًا من باب السياسة الشرعية، فهو حكم واجب التنفيذ على الأفراد، وهذا الوجوب من باب الوجوب القضائي بحيث يُعاقَب الفرد على المخالفة.

وذكرنا فيما تقدم أن كثيرًا من الفقهاء يعنون بالسياسة استصلاح أمور الناس، أو فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها، فيكون هناك تقارب كبير بين الفتوى والحكم السياسي، حيث أن كلًّا منهما يراعي مصلحة الناس ويقضي حوائجهم، إلا أن عمل المفتي مشروط بعدم مخالفة الشرع، وإلا يخرج عمله من حد السياسة الشرعية إلى السياسة الوضعية، ومن هنا جاء الفرق بين الفتوى والحكم السياسي([1]).

فالحاكم السياسي حينما يصدر حكمه يصدره بوصفه حاكمًا سياسيًّا، فيكون حكمه واجب التنفيذ، ويعاقب الفرد على مخالفته في الدنيا، أما فتوى المفتي فإنها ليست ملزمة، ولكن إذا تبنَّى الحاكم السياسي من باب المصلحة فتوى المفتي فحينئذٍ يكون لهذه الفتوى قوة التنفيذ، لا لصدور هذه الفتوى عن المفتي، بل لتبني الحاكم لها ويكون من باب السياسة الشرعية([2])، وكذلك لا تُعد فتوى الحاكم كحكمه؛ لأن الفتوى ليست حكمًا منه، فلو حكم غيره بخلاف ما أفتى به لم يكن نقضًا لحكمه ولا هي كالحكم.

ومن المعلوم أن الفتوى تتناول جميع أفعال المكلفين التي يفعلونها حينما يبحثون عن معرفة حكم الله فيها، ودور المفتي يكمن في بيان ذلك الحكم إما بالحل أو بالحظر أو بالندب أو بالكراهة، والسياسة تتعلق بتدبير أمور الناس وإصلاح حالهم في جميع الأمور التي يحتاجونها، وهذا يقودنا إلى القول بأن العلاقة بين الفتوى والسياسة علاقة قوية، فالإفتاء يبين الحكم والسياسة تبين طريقة العمل بالحكم بما يتفق مع الشريعة وإزالة الحرج على المكلف، سواء نزل في ذلك الأمر وحي أو لم ينزل.

ومن الجدير بالذكر هنا أن نشير إلى أن الشريعة الإسلامية هي الشريعة الوحيدة التي جعلت الالتزام بأوامر السلطة واجبًا دينيًّا، إضافة لكونه واجبًا دنيويًّا قضائيًّا.

والعلاقة بين الفتوى والسياسة كانت محصورةً قديمًا فيما يسمى بالسياسة الشرعية، والسياسة الشرعية جزء من علم الفقه، وبينهما عموم وخصوص؛ لأن الفقه ينقسم إلى عبادات ومعاملات وأحوال شخصية وسياسة شرعية، فالفقه أعم من السياسة الشرعية، وكذلك مجالات السياسة من حيث مسائلها المختلفة لا تخرج في إطارها العام عن الجوانب العملية التي تقبل التغيير، وذلك لكونها مبنيةً على مناط متغير يتغير الحكم الشرعي لمسألته تبعًا لتغير المناط، وعلى هذا فإن الثوابت في ذاتها لا تدخل في إطار الأمور السياسية([3])، وكذلك الأحكام الشرعية التي تتضمن قواعد الدين وأسسه وجميع الأحكام الشرعية العملية التي لم تبن على العرف أو المصلحة أو التي لم تُنَط بعلة، أو التي لم تصحبها ضرورة فإنها ثابتة ولا يصح جعلها محل نظر وتغيير، فعماد السياسة الشرعية عند جمهور الفقهاء قائم على المصلحة المرسلة، فالحديث عن السياسة هو في مضمونه حديث عن أمور أغلبها اجتهادية تتعدد فيها وجهات النظر وتختلف من وقتٍ لآخر ومكانٍ لآخر وشخصٍ لآخر، وهنا تكمن أهمية الفتوى السياسية التي بدأت تظهر خطورتُها في الوقت الراهن، لظهور كثير من المستجدات التي تستلزم من الفقيه أن يجد لها ما يتوافق معها في الشريعة.

ومن جهة أخرى فإن الفتوى في مجال السياسة الشرعية من الخطورة بمكان، لما يترتب عليها من آثار وعواقب تمس المجتمع والدولة بأكملها؛ لذلك حذَّرت النصوص الشرعية من الجرأة على الفتيا والتساهل في شأنها، فروى الدارمي بسنده عن عبيد الله بن أبي جعفر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار»([4]).

ولذلك كان الصحابة رضوان الله عليهم يتركون الفتيا لمن يرون أنهم أهل الفقه، فعن أبي المنهال قال: سألتُ البراء بن عازب عن الصرف، فقال: سل زيد بن أرقم فإنه خير مني وأعلم، فسألت زيدًا فقال: سل البراء فإنه خير مني وأعلم([5]).

وروي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: “أدركتُ عشرين ومائةً من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول”.

وعن الشعبي والحسن وأبي حَصين التابعيِّينَ قالوا: “إن أحدكم ليفتي في المسألة ولو وردت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر”([6]).

وذلك لأن المفتي خليفةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم في البيان والتوقيع عن الله تعالى، قال محمد بن المنكدر: «إن العالم بين الله وبين خلقه، فلينظر كيف يدخل بينهم»([7]).

هذا وقد ازدهرت الفتوى السياسية في العقود الأخيرة تبعًا لازدهار حركة العودة للأصول الثقافية في المجتمعات العربية والإسلامية، خاصة ما يتعلق منها بإعادة تأصيل الحياة التشريعية والإدارية المقتبسة من المجتمعات الغربية، وبعد ظهور الجماعات المتطرفة التي تسعى لنشر أفكارها التكفيرية وتدعو إلى الخروج على الحكام ونبذ مؤسسات الدولة، كما تسلط على الفتوى السياسية بعض المتساهلين غير المستجمعين لشروط الفتوى؛ ولذا تعيش الفتوى الشرعية في المجال السياسي نوعًا من الاغتراب عن وظيفتها التشريعية.

ومن جهة أخرى تحتاج صناعة الفتوى السياسية -في ظل عالم تتشابك أحداثه وتتعقد معارفه- إلى عدد من الخبراء والمتخصصين في العلوم المختلفة إلى جانب العلم الشرعي في سبيل الوصول إلى فتوى مؤصلة تأصيلًا شرعيًّا علميًّا، لمعالجة المستجدات والنوازل التي أصبحت من سمات هذا العصر.

 

 

 

 

 

 ([1]) انظر: الفتاوى السياسية وضوابطها للدكتور عبد الله سعيد ويسي (ص27)، دار العصماء- سوريا، الطبعة الأولى، 2019م.

 ([2]) انظر: السياسة الشرعية وأثرها في الحكم الشرعي التكليفي للدكتورة نسيبة مصطفى البغا (ص75)، دار النوادر، الطبعة الأولى، 2012م.

 ([3]) انظر: الفتاوى السياسية وضوابطها (ص28).

 ([4]) أخرجه الدارمي (1/ 258)، رقم (159).

 ([5]) أخرجه النسائي في سننه، رقم (4577).

 ([6]) آداب الفتوى والمفتي والمستفتي للإمام النووي (ص14، 15)، دار الفكر- دمشق.

 ([7]) أدب المفتي والمستفتي لابن الصلاح (ص74)، مكتبة العلوم والحكم- المدينة المنورة.

اترك تعليقاً