البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الفصل الخامس: الفتوى ومدى سلطة الحاكم

المبحث الثالث: مدى سلطة الحاكم في السياسة الخارجية

77 views

المطلب الأول: سلطة الحاكم في العلاقات الدولية.

تعتبر العلاقات الدولية من أهم وجوه السياسة التي يتحدد بناءً على درجةِ استقرارِها مقدارُ الأمن المعيشي والاقتصادي والعسكري الذي تنعم به دولةٌ من الدول، حيث تنعكس اختياراتها الدولية في التحالفات والاتفاقيات وحتى في المواقف المعادية على حالتها الاقتصادية والعسكرية، وبالتالي فإن الدول الكبرى تولي هذا الملف اهتمامًا بالغًا، ولا يعينون شخصًا ما حاكمًا عامًّا عليها إلا إذا كان يتمتع باللباقة والحكمة الوفيرة في إدارة هذا الملف الشائك والخطير.

كما ينبغي أن يؤخذ في الاعتبار أن للحاكم تقييمَ وضع دولته من كافة النواحي، وأن يستعين بالخبراء الاستراتيجيين والدبلوماسيين والاقتصاديين والسياسيين والعسكريين لمعرفة الإطار الحقيقي الذي يحيط بدولته في هذه النواحي، حتى لا يقع في شراك الدول الكبرى التي تحاول التغلغل في مفاصل دولته، وهذا الأمر لا دخل فيه لاختلاف الدين أو الجنس بين دولةٍ وأخرى؛ فالمجتمع الدولي اليوم تحكمه قوانين أعم وأشمل من كل هذه الاعتبارات الجزئية حتى وإن كانت أساسيةً عند بعض الدول في وضعها الداخلي.

وإن من مقتضيات السياسة الشرعية الأخذ بقوانين الموازنة السياسية بين المعسكرات والأحلاف، فقد يكون من مصلحة المسلمين إقامة تحالفات في المجال العسكري أو الاقتصادي أو التجاري مع أي من الكتل القائمة إذا كان ذلك مما يخدم المصلحة العليا للأمة وانتشار دعوتها والحفاظ على كيانها وسيادتها واستقلالها، وإن هذا الأمر ليس له علاقة بتماثل المعتقد لدى الطرفين([1]).

ومسألة إقامة التحالفات العسكرية مع غير المسلمين لا یمكن أن یُنظر إلیها بعیدًا عن الواقع الذي نعیش فیه، الواقع الذي انضمت كل دول العالم فیه إلى منظمة واحدة وأصبح العالم كله دارًا واحدة ارتبطت دوله بمعاهدات ومواثیق تجرم الاعتداء على الآخر، وتجعل من واجب دول العالم المشاركة في رفع الظلم عن المظلومین وإحلال الأمن والسلم في كل بقاع الأرض، وما كان هذا شأنه فإن الشریعة الإسلامیة تجیزه وتحض علیه، وقد امتدح النبي صلى االله علیه وسلم مثل هذه الأحلاف التي كانت قائمة في الجاهلیة لذلك، فإن مثل هذه التحالفات ما دامت صادقة في هدفها وملتزمة فلا بأس من إقامتها والمشاركة بها.

تعيين الممثلين السياسيين واعتماد ممثلي الدول الأجنبية

وهذه الصلاحية وثيقة الصلة بسلطة الحاكم في تدبير العلاقات الدولية وإدارة دفتها بما يحقق المصالح العامة للدولة ويحفظ حقوقها السيادية على أراضيها ومقدّراتها.

فرئيس الدولة القابع على قمة هرم السلطة التنفيذية هو الممثل المعنوي لشخصية الدولة التي يحكمها في أعين العالم، وبموجب ذلك فإن له حقَّ اختيار من يمثلونه في علاقاته مع الدول الأخرى، فيبعث الممثلين السياسيين إلى الدول الأجنبية والمنظمات الدولية، وهو الذي يعتمد أوراق السفراء الأجانب والمندوبين.

وقضى بهذا دستور جمهورية مصر العربية حيث نص على أنْ: «يعيّن رئيسُ الجمهورية الموظفين المدنيين والعسكريين، والممثلين السياسيين، ويعزلهم، على الوجه المبين في القانون، كما يعتمِد ممثلي الدول الأجنبية السياسيين»([2]).

المطلب الثاني: سلطة الحاكم في اتخاذ قرار الحرب وما يترتب عليها.

يعد قرار إعلان الحرب من الأمور المهمة التي تحرص الدساتير على ألا تنفرد السلطة التنفيذية بها، برغم دخولها أصلًا في اختصاصاتها، لذلك فإن في كثيرٍ من الدول يكون إعلان الحرب من اختصاص الهيئة التشريعية وحدها، وتشاركها فيه السلطة التنفيذية، فلا يملك الرئيس الأمريكي مثلًا الانفراد بقرار إعلان الحرب؛ حيث إن هذا القرار عندهم من اختصاص الكونجرس (مجلس الشيوخ)، وكان دستور مصر لسنة 1923م يفرق بين قرار الحرب في حالتي الدفاع والهجوم؛ فيتيح للرئيس إصدار القرار في الحرب الدفاعية، ويشترط موافقة البرلمان في الحرب الهجومية([3]).

أما دستور الجمهورية العربية المتحدة المؤقت لسنة 1964م فلم يأخذ بهذه التفرقة، بل نص في المادة (124) منه على أن رئيس الجمهورية هو الذي يعلن الحرب بعد موافقة مجلس الأمة، وكذلك نصت المادة (150) من دستور مصر لسنة 1971م على أن رئيس الجمهورية هو الذي يعلن الحرب بعد موافقة مجلس الشعب([4]).

وكذلك ينص دستور السودان على أن رئيس الجمهورية هو الذي يصدر قرار الحرب بموافقة وتأييد نائب رئيس الجمهورية الأول وفقًا لترتيبات اتفاقية السلام([5]).

ولكن؛ لا يعني هذا أن رئيس الدولة لا يستطيع اتخاذ قرار حربٍ لدفع العدوان والدفاع عن البلاد إلا بعد استئذان مجلس الشعب؛ لأنه مكلفٌ في المقام الأول باتخاذ ما يلزم من الإجراءات لحماية بلده من أي خطر أو اعتداء داخليًّا أو خارجيًّا، وهو مسئول بحكم القسَم الذي أقسمه عن الحفاظ على استقلال الوطن وسلامة أراضيه.

نعم، ما من شكّ في أنّ قرار خوض حرب وقفٌ على رأي المؤسّسة الدفاعيّة المعنيّة بالحرب والدفاع عن السيادة ( وهي الجيش)؛ بتقدير مدى جاهزيّتها واستعدادها؛ ومدى قدراتها الماديّة والبشريّة والتقنيّة؛ ومعلوماتها الدقيقة عن قدرات العدوّ؛ ومدى قدرة الاقتصاد الوطني على تحمل المجهود الحربيّ… إلخ، غير أنّ قرارًا مثل قرار الحرب ليس عسكريًّا، بل هو – في المقام الأوّل – قرارٌ سياسيّ، وما الجيش إلاّ أداةَ تنفيذٍ له إنْ حصل واتخذتْه القيادة السّياسية في الدولة.

وكلّما كان القرار السّياسيُّ مركَّبًا لا بسيطًا؛ كلّما تولَّد من عمليّةٍ مؤسَّسيةٍ شاملة وتَحَصَّل من المقبوليّة العامّة القدرَ الكبير. ومبْنَى ذلك على عقيدةٍ في السّياسة الحديثة تقول إنّ الحرب قرارٌ مصيريّ في أيّ مجتمع، لأنّ نتائج كثيرة تتولّد منه: قتلى، جرحى، أسرى، إنفاق ماليّ، خسارات في الاقتصاد، سمعةٌ في العالم، علاقاتٌ في المحيط، ثارات بين المجتمعات المتحاربة …إلخ. ولا يمكن رجلَ دولةٍ أن يتحمّلَ، وحده تكاليف ذلك كله حتى وإن ضَمِنَ الانتصار في الحرب.

 

المطلب الثالث: سلطة الحاكم في اتخاذ قرار الصلح وعقد المعاهدات.

لا شك أن الأصل في العلاقة بین المسلمین وغیرهم هي السلم، وأن الحرب لا تشرع إلا في حالة الاعتداء على الدولة المسلمة أو محاولة صد المسلمین عن دینهم، أو الوقوف في وجه الدعوة ومنع تمددها؛ فالحرب في هذه الحالات تكون ضرورة لصد العدوان والوقوف في وجه الظلم، وهذه الأسباب عینها هي التي دفعت المسلمین الأوائل لحمل السیف والقتال.

ولكن في هذا العصر الحديث نجد أن معظم دول العالم دخلت في معاهدات دولیة مشتركة أخذت صفة القانون الدولي حیث وضع على أساس حفظ الحقوق والحریات والكرامة لجمیع بني البشر وجلب المصالح للدول الموقعة علیه ودفع الضرر عنها وإبعاد شبح الحرب، وما كان هذا شأنه فإن الشریعة الإسلامیة لا تعارضه بل توافقه وتقویه؛ إذ ما جاء الإسلام إلا لنشر السلم والأمن في كافة أرجاء المعمورة، فیجب على الدولة المسلمة الوفاء بهذه العهود والمواثیق ما دامت الدول الموقعة على هذه المعاهدات القوانین ملتزمة بها لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]؛ فالآیة دالة على أن الوفاء بالعهد من فرائض الإسلام ما دام العهد معقودًا.

وقد مدح االله عز وجل المؤمنین لأن فیهم صفة الوفاء بالعهد فقال: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ} [الرعد: 20]. وليس هناك دليل على وجوب الوفاء بالعهد أعظم من وفاء النبي صلى االله عليه وسلم بصلح الحدیبیة، على ما فیه من إجحاف ظاهر بحق المسلمین فقد صالح النبي صلى االله علیه وسلم المشركین یوم الحدیبیة على ثلاثة أشیاء ومنها أن من أتاه من المشركین رده إلیهم ومن أتاهم من المسلمین لم یردوه فجاء أبو جندل یحجل في قیوده فرده إلیهم([6])، وهذا یدل على أن الإسلام لم یجعل وفاء المعاهدین بعهودهم تدبیرًا من تدبیرات السیاسة أو ضرورة من ضروراتها التي یجوز فیها المراوغة عند القدرة علیها بل جعله أمانة وخلقًا شریفًا؛ فكل هذه المعاهدات والمواثیق الموقَّعة بین دول العالم الإسلامي وغیره، والتي تتضمن نبذ الحرب وجعل الحوار سبیلًا لحل القضایا المتنازع علیها وإعطاء رعایا الدول الأخرى حق الحمایة والرعایة كلها تجعلنا ننظر إلى الدول غیر الإسلامیة نظرة مختلفة ما التزمت بهذه المعاهدات، كما أنه یسوغ لنا إعادة النظر في التقسیمات والتسمیات التي عرفت عند القدامى بعد أن أصبحت جمیع دول العالم تتبادل العلاقات الدبلوماسیة والتجاریة وبینها معاهدات مختلفة وتلتزم بمواثیق دولیة مشتركة([7]).

فالمعاهدات مطلوبة لتنظيم العلاقات الدولية بين المسلمين وغيرهم في حالات السلم والحرب؛ لأنها الوسيلة الفعالة في استقرار السلام ودعم قواعده والعودة بالعلاقات إلى أصلها الطبيعي الذي أقره الإسلام ودعا للتمسك به، ولأن فيها رفع الحرج وبناء العلاقات الإنسانية على أسس سليمة ملائمة لما ندب إليه الشرع من التعارف والتعاون والإحسان.

ومن ذلك نعلم أمرين مهمين:

الأول: أن المعاهدات كانت في الإسلام أصلًا عامًّا تنظم العلاقات الحرة بين المسلمين وغيرهم بحسب ما تقتضيه مصلحة السلم العام التي هي هدف من أهداف الإسلام في الأرض، فمتى ما تحققت مصلحة المسلمين عندها ورأى ولي الأمر ذلك باعتباره الموكول إليه أمرها كان له عقدها ما لم تخالف نصًّا شرعيًّا أو مبدأ إسلاميًّا.

وتعتبر أحكام المعاهدات التي ترتبط بها الدولة الإسلامية جزءًا من القانون الدولي الإسلامي، وعليه تكون أحكامها ملزمة للدولة الإسلامية وواجبة الوفاء مهما جاء فيها من شروط ما دامت شرعية ابتداءً، وقد عقدتها تحت رضاها وبإرادتها لتحقيق مصلحة متوخاة منها([8]).

الثاني: أن مسألة إقامة المعاهدت والتحالفات الدولية من حق الحاكم في المقام الأول، ولا يلزمه الرجوع أو التقيّد بمجلس الشعب أو غيره إلا لطلب المشورة وزيادة الدراسة للموضوع فقط، وقد ظهر من صلح الحديبية الذي ذكرنا طرفًا منه آنفًا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد اتخذ قراره فيه رغم اعتراض كافة الصحابة على الشروط الواردة فيه، لكنه كان يرى ما لا يرون، ولا يصح الاعتراض هنا بأنه عرف ذلك بطريق الوحي، وليس هذا متاحًا لأي حاكمٍ بعده، لأن الحاكم يحسِب لكل شيء حسابه، ويشاور أهل الرأي ثم يعزم أمره بالصلح مع دولٍ، أو عدم الدخول في معاهدة مع دولٍ، أو الخروج من اتفاقيةٍ سابقةٍ مع دول أخرى.

وقد تعورف دستوريًّا على أن عقد المعاهدات من اختصاص السلطة التنفيذية، يبرمها رئيس الدولة ثم يُبْلِغُ بها الهيئة التشريعية مشفوعةً بما يناسب من البيان، وقد قضى بهذا كثير من الدساتير([9]).

وننبه هنا على أن هذا الحق لرئيس الدولة يتعلق بالمعاهدات والاتفاقيات الدبلوماسية المتعلقة بالسياسة الخارجية للدولة، أما المعاهدات التي يترتب عليها تعديلٌ في أراضي الدولة او التي تتعلق بحقوق السيادة، أو التي تحمّل خزانة الدولة شيئًا من النفقات غير الواردة في الموازنة العامة فإنها لا تكون نافذةً إلا إذا وافق عليها مجلس الشعب.

وختامًا؛ فلا بد من احترام مقتضيات السلم والأمن الدولي، وهذه نظرة حضارية رفيعة، وقيمة إنسانية رشيدة، لها أهميتها الملموسة من أجل رقي واستقرار الشعوب والأمم، وتمكين كل دولة من حل مشكلاتها وقضاياها بنفسها دون تدخلٍ من دولةٍ أخرى.

وتهيئةُ المناخ السلمي والأمني يجعل العلاقات الدولية الخارجية قائمةً على أساسٍ من التضامن والتعاون والتكافل، والإسهام في مساعدة أية دولة تتعرض لكوارث وأزمات عصيبة سواء كانت طبيعية كالزلازل والبراكين والأعاصير والحرائق والأوبئة، أو بسبب الحروب والفتن([10]).

بحث المنظور الإسلامي تجاه التنظيم الدولي المعاصر

 

 

([1]) انظر: أخلاقيات النظام السياسي في السنة النبوية ومقارنته بالنظم السياسية الوضعية للدكتور أحمد سلمان المحمدي (ص444، 445)، دار غيداء للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2020م.

([2]) راجع المادة (143) دستور مصر 1971م، والمادة (124) دستور الجمهورية العربية المتحدة 1964، المادة (70) الدستور الكويتي، ونصت على ذلك أيضًا الفقرتان (ج، د) من المادة (85) من دستور السودان الانتقالي لسنة 2005م.

([3]) نظام الحكم الإسلامي، د. محمود حلمي، (ص 239) وما بعدها.

([4]) راجع المادة (150) من دستور مصر لسنة 1971م.

([5]) راجع المادة (85/ 2/ ب) من دستور السودان الانتقالي لسنة 2005م.

([6]) أخرجه البخاري، رقم (2700). ولفظه: عن البراء بن عازب رضي الله عنهما، قال: صالح النبي صلى الله عليه وسلم المشركين يوم الحديبية على ثلاثة أشياء: على أن من أتاه من المشركين رده إليهم، ومن أتاهم من المسلمين لم يردوه، وعلى أن يدخلها من قابل ويقيم بها ثلاثة أيام، ولا يدخلها إلا بجلبان السلاح السيف والقوس ونحوه، فجاء أبو جندل يحجل في قيوده، فرده إليهم.

([7]) تقسيم العالم في الفقه الإسلامي بين الماضي والحاضر (ص79، 80).

([8]) فقه العلاقات الدولية: دراسة في التأصيل والمبادئ للدكتور فاضل عاشور التغلبي (ص371)، بحث بمجلة كلية التربية للبنات للعلوم الإنسانية-جامعة الكوفة، المجلد (13)، العدد (25)، 2019م.

([9]) راجع الفقرة (ك) المادة (58) من دستور السودان الانتقالي 2005م، والتي حددت اختصاصات رئيس الدولة، ومما جاء فيها: «يوجِّهُ السياسة الخارجية للدولة ويشرف عليها، ويصادق على المعاهدات والاتفاقيات الدولية بموافقة الهيئة التشريعية القومية»، كما تنص المادة (70) من الدستور الكويتي على أن الأمير هو الذي يبرم المعاهدت.

([10]) انظر: العلاقات الدولية واحترام العهود والمواثيق في الإسلام، د. وهبة الزحيلي، وزارة الأوقاف والشئون والمقدسات الإسلامية، (ص 29).

اترك تعليقاً