البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الفصل الخامس: الفتوى ومدى سلطة الحاكم

المبحث الثاني: مدى سلطة الحاكم في السياسة الداخلية

87 views

المطلب الأول: سلطة الحاكم في تأمين الدولة ومجابهة الخارجين عليها.

قد تحدث بعض الأزمات الأمنية التي تحتم على رئيس الدولة أن يخرج على القانون والدستور، ويصدر أحكامًا مؤقتة لتجاوز هذه الظروف الاستثنائية التي تهدد البلاد، وهذه الأحكام قد تصدر في صورة دساتير مؤقتة، أو قوانين طوارئ، أو أحكام عرفية، أو تحت أي مسمى، والهدف من ذلك إحكام السيطرة على حالة الفوضى والاضطراب التي تهدد البلاد، وتأمينها ضد المخربين فيها والخارجين عليها.

وكانت فرنسا من أوائل الدول التي نصت دساتيرها على سلطة رئيس الدولة في إعلان حالة الطوارئ واتخاذ الإجراءات والقوانين اللازمة لها، وكان دستورها يقضي بوجود قانونٍ سابقٍ يتم إعداده تحسُّبًا لحالات الطوارئ، وقبل وقوع الظرف الاستثنائي، ويسمى هذا القانون قانون الطوارئ أو الأحكام العرفية، ويجوز بمقتضاه لرئيس الدولة وسلطته التنفيذية المعاونة أن يخرج على القانون العادي، ويقيّد الحريات التي كفلها الدستور، ويتصرف في حدود هذا القانون الاستثنائي في كل حالة حسبما يراه.

وقد تكون هذه الطريقة أقل تقديرًا وحمايةً لحقوق الأفراد وحرياته بالفعل، لكنها أكثر فاعليةً في حماية الوطن وضبط النظام في أوقات الأزمات والظروف الطارئة الاستثنائية ([1]).

وقد صدر قانون الطوارئ في مصر سنة 1958م وكان مما جاء فيه:

«مادة 1:

يعمل بالقانون المرافق في شأن حالة الطوارئ.

مادة 2:

يلغى المرسوم التشريعي رقم 150 الصادر في 22/6/1949 والقانون رقم 533 لسنة 1954 المشار إليهما وكذلك كل نص يخالف أحكام هذا القانون.

مادة 3:

ينشر هذا القانون في الجريدة الرسمية، ويعمل به في إقليمي الجمهورية من تاريخ نشره.

رئيس الجمهورية العربية المتحدة

جمال عبد الناصر

مادة 1:

يجوز إعلان حالة الطوارئ كلما تعرض الأمن أو النظام العام في أراضي الجمهورية أو في منطقة منها للخطر سواء أكان ذلك بسبب وقوع حرب أو قيام حالة تهدد بوقوعها أو حدوث اضطرابات في الداخل أو كوارث عامة أو انتشار وباء.

مادة 2:

يكون إعلان حالة الطوارئ وإنهاؤها بقرار من رئيس الجمهورية ويجب أن يتضمن قرار إعلان حالة الطوارئ ما يأتي:

(أولاً) بيان الحالة التي أعلنت بسببها.

(ثانياً) تحديد المنطقة التي تشملها.

(ثالثاً) تاريخ بدء سريانها ومدة سريانها.

ويجب عرض قرار إعلان حالة الطوارئ على مجلس الشعب خلال الخمسة عشر يوماً التالية ليقرر ما يراه بشأنه. وإذا كان مجلس الشعب منحلاً يعرض الأمر على المجلس الجديد في أول اجتماع له. وإذا لم يعرض القرار على مجلس الشعب في الميعاد المشار إليه أو عرض ولم يقره المجلس اعتبرت حالة الطوارئ منتهية.

ولا يجوز مد المدة التي يحددها قرار إعلان حالة الطوارئ إلا بموافقة مجلس الشعب وتعتبر حالة الطوارئ منتهية من تلقاء نفسها إذا لم تتم هذه الموافقة قبل نهاية المدة.

(النص الساري منذ صدور القانون 27 لسنة 1972)

مادة 3:

لرئيس الجمهورية متى أعلنت حالة الطوارئ أن يتخذ التدابير المناسبة للمحافظة على الأمن والنظام العام وله على وجه الخصوص:

(1) وضع قيود على حرية الأشخاص في الاجتماع والانتقال والإقامة والمرور في أماكن أو أوقات معينة والقبض على المشتبه فيهم أو الخطرين على الأمن والنظام العام واعتقالهم والترخيص في تفتيش الأشخاص والأماكن دون التقيد بأحكام قانون الإجراءات الجنائية. (محكوم بعدم دستوريته في 3 يونيو 2013)

(2) الأمر بمراقبة الرسائل أياً كان نوعها ومراقبة الصحف والنشرات والمطبوعات والمحررات والرسوم وكافة وسائل التعبير والدعاية والإعلان قبل نشرها وضبطها ومصادرتها وتعطيلها وإغلاق أماكن طبعها, على أن تكون الرقابة على الصحف والمطبوعات ووسائل الإعلام مقصورة على الأمور التي تتصل بالسلامة العامة أو أغراض الأمن القومي.

(3) تحديد مواعيد فتح المحال العامة وإغلاقها وكذلك الأمر بإغلاق هذه المحال كلها أو بعضها.

(4) تكليف أي شخص بتأدية أي عمل من الأعمال والاستيلاء على أي منقول أو عقار ويتبع في ذلك الأحكام المنصوص عليها في قانون التعبئة العامة فيما يتعلق بالتظلم وتقدير التعويض.

(5) سحب التراخيص بالأسلحة أو الذخائر أو المواد القابلة للانفجار أو المفرقعات على اختلاف أنواعها والأمر بتسليمها وضبطها وإغلاق مخازن الأسلحة.

(6) إخلاء بعض المناطق أو عزلها وتنظيم وسائل النقل وحصر المواصلات وتحديدها بين المناطق المختلفة.

ويجوز بقرار من رئيس الجمهورية توسيع دائرة الحقوق المبينة في الفقرة السابقة, على أن يعرض هذا القرار على مجلس الشعب في المواعيد وطبقاً للأحكام المنصوص عليها في المادة السابقة.

ويشترط في الحالات العاجلة التي تتخذ فيها التدابير المشار إليها في هذه المادة بمقتضى أوامر شفوية أن تعزز كتابةً خلال ثمانية أيام.

(7) تعطيل الدراسة بالمدارس والجامعات والمعاهد وغيرها من المؤسسات التعليمية وأي تجمعات للطلبة بهدف تلقي العلم، جزئياً أو كلياً، واتخاذ ما يلزم من تدابير بشأن امتحانات العام الدراسي، وتعطيل العمل بدور الحضانة.

(13) حظر الاجتماعات العامة والمواكب والتظاهرات والاحتفالات وغيرها من أشكال التجمعات، وتقييد الاجتماعات الخاصة.

… إلخ المواد» ([2]).

وكذلك نص دستور السودان على أن الرئيس هو الذي يعلن وينهي حالة الطوارئ([3]).

وفي  العموم فإن كافة الدساتير تعطي الحاكم سلطة تأمين دولته بما يراه مناسبًا، ومعاقبة الخارجين على القانون والمهددين لاستقرار البلاد بما يُنهي حالة الفوضى ويَحْسِمُ مادةَ الفساد والاضطراب.

المطلب الثاني: سلطة الحاكم في إدارة شئون الدولة

– رسم السياسة العامة للدولة وتنفيذها.

وهذا من أهم اختصاصات رئيس الدولة ومعاونيه التنفيذيين من الوزراء وغيرهم؛ وتعد من المسئوليات العليا للسلطة الحاكمة والإدارة التنفيذية([4])، حيث يناط بهم وضع التصوّر العام لكل مرحلة تمر بها البلاد، وتحديد سبل العمل المناسبة، والتعامل مع الاحتياجات الوطنية الراهنة بحكمةٍ وبصيرةٍ وخططٍ مدروسة، ثم تعمم هذه السياسة العامة التي رسمتها للمرحلة الراهنة والتي يحدد الرئيس بمشاورة المختصين مداها الزمنيَّ التي يُزْمَعُ تحقيق هذه الأهداف خلالها، كالخطط الخمسية والعَشْرية وغيرها، كما يُعْلِن الرئيس عن قراراته بشأن هذه السياسة المرسومة وما يعزِم على فعله من الإجراءات لتحقيق تلك الأهداف، ويقيس مدى تناسب هذه الإجراءات مع أحوال الشعب وحالة الاقتصاد الوطني.

– استفتاء الشعب في المسائل المهمة والقضايا المفصلية.

وهو نوعان: استفتاء سياسي، كقضايا الرأي العام، والقرارات الاقتصادية المحورية.، واستفتاء تشريعي وذلك كمشروعات القوانين الجديدة.

وهذا من مظاهر الديمقراطية شبه المباشرة في المسائل المهمة التي تتصل بالمصالح العليا للبلاد، وهو يستلزم مظهرًا آخر من مظاهر الديمقراطية شبه المباشرة أيضًا والذي يمثله حق الشعب في الاعتراض والاقتراح. ورغم ان كثر من الدساتير العربية المعاصرة لم تأخذ بأيٍ من مظاهر الديمقراطية شبه المباشرة؛ إلا إن الدستورين المصري والسوداني قد منحا الحاكم سلطة استفتاء الشعب، ومنحا الشعب حق المشاركة بالاعتراض أو الموافقة أو الاقتراح في الاستفتاءات المطروحة عليه، حيث نص الدستور المصري على أن: «لِرئيس الجمهورية أن يستفتي الشعب في المسائل المهمة التي تتصل بمصالح البلاد»، وكذلك نص الدستور السوداني على أنهك «يجوز لرئيس الجمهورية أو المجلس الوطني بقرار يؤيده أكثر من نصف أعضائه إحالةُ أيِّ مسألةٍ تتعلق بالمصلحة الوطنية للاستفتاء»([5]).

– حق العفو.

فلرئيس الدولة سلطة إصدار عفو رئاسي عن المدانين بجرائم معينة في عامٍ معين لأسباب خاصة، وكانت هذه السلطة متاحة للحاكم منذ القدم، حيث كانت كلمته هي القانون، ثم انتقلت سلطة العفو معه أيضًا في الدساتير المعاصرة، نظرًا لفائدة هذه السلطة في تدارك الأخطاء القضائية التي يُسجَن بسببها بعض الأبرياء، ولا يمكن إصلاحها بطريقةٍ أخرى غير العفو الرئاسي.

كما أنه يوجد بعض الأحكام التي قد تكون سليمةً من الناحية القانونية إلا أنها ليست ملائمةً من الناحية السياسية أو الاجتماعية بسبب حالة المحكوم عليهم فيها من الشهرة والقبول الشعبي العام، ولهذه الأسباب المعتبرة سياسيًّا أعطت الدساتير المختلفة لرئيس الدولة سلطة العفو مطلقًا عمن يرى العفو عنه، وبعض الدساتير أعطته هذه السلطة لكنها قيّدتها ببعض القيود([6]).

وحددت المادة (155) من دستور مصر المعدَّل ف 2014م نوعين من قرارات العفو، وهما قرار العفو عن العقوبة، وقرار العفو الشامل، وهناك فرق بين القرارين، وشرح قانون العقوبات ضوابط لتطبيق قرار العفو عن العقوبة، وكذلك العفو الشامل.

قرار العفو عن العقوبة هو قرار لا يشترط لصدوره قانون ويصدر من رئيس الجمهورية لمن تم إدانته بحكم قضائي ويصدر قرار العفو عن العقوبة المحكوم بها، إما بإسقاطها كلها، أو بعضها، أو إبدالها بعقوبة أخف منها، فعلى سبيل المثال إذا كانت العقوبة الإعدام يستبدل بها عقوبة السجن المؤبد، أما بالنسبة لقرار العفو الشامل فلابد لصدوره قانون ويقر بموافقة أغلبية أعضاء مجلس النواب.

والعفو عن العقوبة سواء كانت بإسقاط عقوبة الإعدام أو السجن أو الحبس أو بتخفيضها لا يشمل العقوبات التبعية إلا إذا نص قرار العفو على ذلك، والعقوبات التبعية المقصود بها في قانون العقوبات على سبيل المثال العزل من الوظائف الأميرية، وكذلك وضع المحكوم تحت مراقبة البوليس، ومنع التحلي بأي رتبة أو نيشان.

أما قرار العفو الشامل فهو قرار لابد أن يصدر في شكل قانون وحسب نص المادة (155) من الدستور لابد أن يتم بموافقة أغلبية أعضاء مجلس النواب وفى حال غياب مجلس النواب طبقا لنص المادة (156) التي تنص على أنه: «إذا كان مجلس النواب غير قائم، يجوز له إصدار قرارات بقوانين، على أن يتم عرضها ومناقشتها والموافقة عليها خلال خمسة عشر يومًا من انعقاد المجلس الجديد، فإذا لم تعرض وتناقش أو إذا عرضت ولم يقرها المجلس، زال بأثر رجعى ما كان لها من قوة القانون، دون حاجة إلى إصدار قرار بذلك، إلا إذا رأى المجلس اعتماد نفاذها في الفترة السابقة، أو تسوية ما ترتب عليها من آثار».

ووفقا لنص المادة (76) من قانون العقوبات فإن العفو الشامل يمنع أو يوقف السير في إجراءات الدعوى أو يمحو حكم الإدانة، ويتم بموجبه الإفراج عن المحبوسين على ذمة تحقيقات النيابة أو المحاكمة.

وطبقًا لنص المادة (156) من الدستور يجب عرض قرارات العفو الشامل ومناقشتها والموافقة عليها خلال خمسة عشر يومًا من انعقاد مجلس النواب الجديد، فإذا لم تعرض وتناقش أو إذا عرضت ولم يقرها مجلس النواب زال بأثر رجعى ما كان لها من قوة القانون، إلا إذا رأى المجلس اعتماد نفاذها فى الفترة السابقة، أو تسوية ما ترتب عليها من آثار.

وقد تعمد دستور 2014 المعدَّل إلزام رئيس الجمهورية باستطلاع رأى مجلس الوزراء تجاه قرار العفو قبل اتخاذه، وذلك بعد الجدل الذى أثير بعد قرار الرئيس المعزول محمد مرسى بالعفو الرئاسي عن عدد كبير من الإرهابيين.

ومما يجدر ذكره هنا أن العفو الخاص يتضمن إلغاء العقوبة كلها أو بعضها أو تخفيفها عن فردٍ أو أفراد معيّنين، أما العفو الشامل فيستفيد منه كل المحكومين في فترة العفو، ويترتب عليه كذلك رفع صفة التجريم عن الفعل المعفو عنه، ويمحو حكم الإدانة المترتب على التجريم السابق محوًا كليًّا([7]).

– تعيين وعزل الموظفين بما فيهم نواب رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء.

ففي النظام الرئاسي يختار رئيس الدولة الوزراء بمحض تقديره، لأنه يتبعونه ويعاونونه ولا يسئلون إلا أمامه([8]). وربما تشترط بعض الدساتير موافقة الهيئة التشريعية على تعيينهم([9]).

أما في النظام البرلماني فيتعين أن تحصل الوزارة على ثقة الهيئة التشريعية، وتختار الهيئة مجلس الوزراء بمعاونة رئيسه بالاتفاق مع رئيس الدولة([10]).

– منح الأوسمة والأنواط العسكرية والمدنية لمستحقيها.

تعارفت الدولُ والمجتمعات منذ القدم على نظام التقدير العام للشخصيات التي تقدّم نفعًا عظيمًا للبشرية سواء في بلادها أو على المستوى الإقليمي أو العالمي، وكانت صورُ التقدير تختلف من زمنٍ لآخر، ومن بلدٍ لآخر حسب العادات الاجتماعية والثقافية والدينية السائدة فيها، ولعل أكبر صورةٍ من صور التقدير العالَمي في القرون الأخيرة ما يُعرَف بــ«جائزة نوبل»، أما على مستوى الدول فهناك ما يعرف بالأوسمة والأنواط والقلادات والنياشين والامتيازات والدروع ونحو ذلك، وكل صورةٍ من هذه الصور موضوعة مقابل خدمةٍ جليلة يقدّمها من تُمنح له إلى بلده ووطنه ومجتمعه وخدمة العلم والإنسانية.

وقد نصت الدساتير على أن منح هذه التقديرات من سلطة الحاكم الأعلى للدولة، سواء كان ملكًا أو رئيسًا أو امبراطورًا أو سلطانًا أو قيصرًا أو أميرًا.

ومن ذلك ما جاء في المادة الثانية من القانون المصري رقم ١٢ لسنة ١٩٧٢م بشأن الأوسمة والأنواط المدنية: «مادة (2): يكون منح الأوسمة والأنواط المدنية بقرار من رئيس الجمهورية».

 

 

المطلب الثالث: سلطة الحاكم في السياسة المالية والاقتصادية.

لا شك أن جزءًا كبيرًا من استقرار أيةِ دولةٍ وأمانِها وضمانات العيشِ برخاءٍ فيها يتوقف على استقرار أوضاعها الاقتصادية، بل إن قوة الاقتصاد كانت ولا تزل وستظل قرينةَ القوة العسكرية، بل إنها أحيانًا تقومُ مقامَها في فرض سيادة الدولة واتساع رقعة تأثيرها عالميًّا، ودولتان كسويسرا وسنغافورة أكبر مثال على ذلك، حيث تنوب قوتهما الاقتصادية والتكنولوجية الكبيرة عن القوة العسكرية المتواضعة فيهما، ومع ذلك لا يخفى على أحد مدى تأثيرهما في المجالين الاقتصادي والتقني -وهما متلازمان في غالب الأحيان-، وشهرتهما العالمية الواسعة بين الدول ذات الدخول الفردية المرتفعة والناتج القومي الضخم.

وهذه الأهمية الاقتصادية الراجعة في كثير من مواردها إلى انضباط المعاملات المالية داخل الدولة، وحسن إدارة السوق المحلي وتعاملات البنوك ومؤشرات الاستثمار الداخلي، وغير ذلك تجعل اهتمام الحاكم بها أمرًا حتميًّا، لذلك منح التشريعُ الحاكمَ سلطةً معتبَرةً تخوّله أن يسيطر بإحكامٍ على كل ما يضر بسير المنظومة الاقتصادية في دولته، كما تفتح له الأبواب المشروعة لتدارك الأزمات الطارئة التي قد تهدد الوضع الاقتصادي لبلاده من حينٍ لآخر عن طريق تأمين خزانة الدولة بفائض النفقات التي تتكفل بها الدولة من إنشاء المرافق العامة والمشافي والمكتبات ودور التعليم ومباني الهيئات القابضة ومراكز السلطة، ورواتب العاملين والجُنْد، ونحو ذلك.

وقد عرَف التاريخ الإسلامي خصوصًا في تراثه الفقهي ما يُسمَّى ببيت المال، والذي هو الأصل الشرعي لما يعرف في كل بلدٍ بخزانة الدولة، مع تفاوت الاختصاصات بين النظامين في بعض الوجوه.

وكانت وظيفة بيت المال استقبال الزكاة الشرعية والضرائب المقررة، والغرامات المالية، وأموال الخراج، والجبايات، وأموال الجزية، والتبرعات، وريع الوقف العام، ونحو ذلك من الموارد الكثيرة لبيت المال، ثم يُخرج بحسابٍ دقيق نفقات المرافق، والرواتب، والديات التي لا عاقل وراءها، ونفقات الجيوش، والكفالات المتنوعة، وديون الغارمين من الفقراء، وغير ذلك من وجوه الصرف الواجب على الدولة.

ولمّا كانت كافة الموارد والمصارف من الشعب وإليه، كان انضباط أمور الأموال بكافة صورها بمثابة الضمانة التي تكفُل استقرار أوضاع الخزانة العامة، وأي اضطرابٍ أو خللٍ في أمورها سينعكس على حياة الشعب كله والدولة بأكملها عجزًا ونقصًا وعناءً، ولذلك كفل التشريع لولي الأمر سلطةً في أمور المال والاقتصاد كفيلةً بضبطها والحفاظ على اتزانها وصلاحها واستدامة خيرها، ومن هذه السلطات الممنوحة شرعًا للحاكم: سلطته في التسعير عند اضطراب الأسعار أو لأي سببٍ معقول يقتضي ذلك، وفرض الضرائب المتنوعة على الدخول الفردية والمحالّ والعقارات ونحو ذلك، والغرامات المالية على المخالفات القانونية المتنوعة والتجاوزات المختلفة التي تقتضي عقوبةً تقديريةً بما يراه الحاكم مناسبًا.

أولًا: التسعير.

الأصل أن الأمور الأخلاقية في التجارة تتعلق فقط بشيئين: الأمانة، والتراضي بين الأطراف، والأمور الاقتصادية فيها تتعلق بشيئين، تكلفة السلعة منذ إنتاجها، وقاعدة العرض والطلب، هذان هما الشيئان المتعلقان بتحديد سعر السلعة، وعادةً ما تكون الأسعار متعارفًا عليها بين الناس في الوسط التجاري والمجتمعي، ولا تحتاج في الغالب إلى تدخلٍ قانوني، حتى إنه لما طلب الصحابة من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يسعّر لهم ما يبيعونه في السوق رفض واستعاض عن ذلك بالدعاء لهم، وعلى ذلك فمقتضى العمل بهذا الحديث الشريف عدم جواز التسعير عمومًا، لكن الناظر إلى هذا الحديث يدرك حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في عدم التسعير تكمن في أن المصلحة في هذا الوقت كانت في عدم التسعير؛ إذ التسعير كان سيؤدي إلى قلة العرض وزيادة الطلب، فلما كان عصر التابعين، وتغيرت أحوال الناس، وصارت هناك حالات الغلاء غير المبرر والخارج عن السيطرة، أجاز علماء التابعين التسعير دفعًا للضرر وتحقيقًا للمصلحة المستجدة التي تتطلب تغير الفتوى.

قال الإمام أبو بكر بن العربي: «والحق التسعير وضبط الأمر على قانون لا تكون فيه مظلمة على أحد. وما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، وما فعله حكم، ولكن على قوم صح ثباتهم، واستسلموا إلى ربهم. وأما قوم قصدوا أكل الناس والتضييق عليهم، فباب الله أوسع وحكمه أمضى»([11]).

ومن هذا نعلم أن ذلك الرفض من النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يعني حرمة التسعير كما يُتَصوَّر، وإنما كان يرشدهم به إلى أن كل شيءٍ يخص الرزق بيد الله تعالى، كما سيأتي بيانُه فيما يلي:

وقد بينت دار الإفتاء المصرية المقصود بهذا الحديث في إحدى فتاويها فقالت:

«روى الإمام أحمد في “المسند”، وأبو داود والترمذي وابن ماجه في “السنن” عن سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قَالَ النَّاسُ: يَا رَسُولَ اللهِ غَلا السِّعْرُ؛ فَسَعِّرْ لَنَا! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ اللهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ، الْقَابِضُ، الْبَاسِطُ، الرَّازِقُ؛ وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُطَالِبُنِي بِمَظْلِمَةٍ مِنْ دَمٍ وَلا مَالٍ»، قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وصححه ابن حِبّان، وإسناده على شرط الإمام مسلم كما قال الحافظ ابن حجر العسقلاني.

ومعنى هذا الحديث: لفت نظر الصحابة إلى نسبة الأفعال حقيقةً إلى الله تعالى؛ كما في قوله عز وجل: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى﴾ [الأنفال: 17]؛ فإنهم لَمّا اشتكَوْا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غلاءَ السعر نبّههم على أنَّ غلاء الأسعار ورخصها إنما هو بيد الله تعالى، وأرشدهم بذلك إلى التعلق بالله تعالى ودعائه؛ كما جاء في الرواية الأخرى بسند حسن عند أبي داود في “سننه” من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، سَعِّرْ لَنَا، فقال: «بَلْ أَدْعُو».

وبذلك يُعلَم أنَّ هذا الحديث لا يدلّ على تحريم التسعير؛ فإنه تنبيه على اللجوء إلى الله تعالى في الأزمات، مع اتخاذ الأسباب الممكنة، والسبل المتاحة، والوسائل المقدورة، وحتى لو فُهِم من الحديث امتناعُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن التسعير فإنَّ هذه واقعةُ عينٍ جاءت على حال معينة لها ظروفُها وملابساتُها، وقد تقرَّر في قواعد الأصول: أنَّ وقائع الأعيان لا عمومَ لها، وفي ذلك يقول الإمام الشافعي رضي الله عنه: “قَضَايَا الأَحْوَالِ إذَا تَطَرَّقَ إلَيْهَا الاحْتِمَالُ كَسَاهَا ثَوْبَ الإِجْمَالِ وَسَقَطَ بِهَا الاسْتِدْلال”؛ فهذا الحديث لَمّا كان واردًا على قضية عينٍ لم يصحّ حملُه على عمومه.

قال الشيخ ابن تيمية الحنبلي في “مجموع الفتاوى” (28/ 76، ط. مجمع الملك فهد): [ومَن منع التسعير مطلقًا محتجًّا بهذا الحديث فقد غلط؛ فإنَّ هذه قضية معينة وليست لفظًا عامًّا، وليس فيها أنَّ أحدًا امتنع من بيعٍ يجب عليه، أو عملٍ يجب عليه؛ أو طلبَ في ذلك أكثرَ من عوض المثل] اهـ بتصرف يسير.

كما أنَّ امتناع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من التسعير في هذه الحالة لا يعني أنَّه حرامٌ مطلَقًا؛ فإنَّ التسعير منه ما هو ظلم لا يجوز، ومنه ما هو عدل جائز؛ كما يقول الشيخ ابن تيمية في “مجموع الفتاوى” (28/ 76): [فإذا تضمن ظلمَ الناس وإكراهَهم بغير حق على البيع بثمن لا يرضَوْنه، أو مَنْعَهم مما أباحه الله لهم فهو حرام، وإذا تضمن العدل بين الناس؛ مثل: إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومَنْعَهم ممَّا يَحرُم عليهم مِن أخذ زيادةٍ على عِوَض المثل فهو جائز، بل واجبٌ] اهـ.

ومعنى ذلك: أنَّ امتناعه صلى الله عليه وآله وسلم من التسعير هو من تصرّفاته بمقتضى الإمامة والسياسة الشرعية؛ حيث راعى النبي عليه الصلاة والسلام المصلحةَ التي كانت تدعو إليها تلك الظروف حينئذٍ، وكان امتناعه صلى الله عليه وآله وسلم عن التسعير معلَّلًا بقوله: «وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُطَالِبُنِي بِمَظْلِمَةٍ مِنْ دَمٍ وَلا مَالٍ»؛ أي: أنَّه راعى ألا ينال أحدًا شيءٌ من الظلم، بائعًا كان أم مشتريًا، وذلك بالمحافظة على ميزان العدالة بينهم، وذلك كما يكون بحماية البائع من إلزام المشتري إياه بسعر دون الذي يريد بغير حقّ، يكون أيضًا بحماية المشتري من غبن البائع له واستغلال ضرورته وحاجته، كما في حالة الاحتكار التي تستدعي التسعير لمقاومة ظلم المحتكرين، ولو كان هذا الغلاء مسبَّبًا عن ظلم الباعة من جهة أو المشترين من جهة أخرى لسعى صلى الله عليه وآله وسلم في رفع هذا الظلم بالأخذ على يد الظالم وإلزامه بحدٍّ لا يتجاوزه؛ فإنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ» رواه ابن ماجه في “سننه”. والله سبحانه وتعالى أعلم»([12]).

وقد نصت دار الإفتاء المصرية في الفتوى التي تليها مباشرةً على سلطة الحاكم في التسعير وجواز ذلك، فقالت:

«لقد أعطت الشريعة الإسلامية للحاكم حقَّ تقييد المباح إذا رأى في ذلك المصلحة؛ كما في تقييد الملك الخاص، بل ونزعه استثناءً إذا اقتضت ذلك المصلحةُ العامة، ونصَّ الفقهاء على أنَّ للحاكم أن يتخيَّر من أقوال العلماء ومذاهبهم في المسائل الخلافية والأمور الاجتهادية ما يراه محققًا لمقاصد الشرع ومصالح الناس، وأنَّ عليه أن يجتهد في تحقيق المصلحة قدر ما يستطيع فيما لا يخالف قطعيات الشرع وثوابته.

وعقود البيع والشراء لم تَعُدْ عقودًا بسيطة تقتصر آثارُها على أطرافها أو على طائفة معينة أو أناس معينين كما كان الحال في السابق، بل أصبحت في العصر الحاضر عقودًا مركَّبةً مرتبطةً بالنظام العامّ للدولة المدنية.

ومن المقرر شرعًا أنه إذا لم تتم مصلحة الناس إلا بالتسعير: سعَّر عليهم ولي الأمر تسعيرًا لا ظلم فيه ولا وكسَ ولا شططَ، أمّا إذا اندفعت حاجتهم وقامت مصلحتهم بدونه فإنه حينئذٍ لا يفعله.

ولقد صرح فقهاء الحنفية بأنَّه يجوز للحاكم أن يُسَعّر على النَّاس إن تعدَّى أربابُ الطعام عن القيمة تعدِّيًا فاحشًا، وذلك بعد مشورة أهل الرأي والبصيرة، وهو المختار وبه يُفتَى؛ لأن فيه صيانةَ حقوق المسلمين عن الضياع ودفعَ الضرر عن العامة؛ ففي “الأشباه والنظائر” للعلامة ابن نُجَيم من الحنفية (ص: 74-75، ط. دار الكتب العلمية): [يُتحمَّل الضررُ الخاص لأجل دفع الضرر العام، وهذا مُقَيِّدٌ لقولهم: الضرر لا يُزال بمثله، وعليه فروع كثيرة؛ منها.. التسعير عند تعدي أرباب الطعام في بيعه بغبن فاحش] اهـ.

وفي هذا المعنى قال الإمام المرغيناني من الحنفية في “العناية شرح الهداية” (10/ 59، ط. دار الفكر): [لا ينبغي للسلطان أن يُسعِّر على الناس إلا إذا تعلَّق به دفع ضرر العامة] اهـ.

كما اشترط المالكية كونَ الإمام عدلًا وأن يرى فيه مصلحة؛ كما في “المختصر الفقهي” للإمام ابن عرفة (5/ 349، ط. مؤسسة خلف).

قال العلامة الأبي المالكي في “إكمال إكمال المعلم في شرح مسلم” (4/ 304-305، ط. مطبعة السعادة 1328هـ): [قال ابن العربي: وإذا زاد السعر فأراد أحدٌ أن يزيد: فإن كان جالبًا فله أن يبيع كيف شاء، وإن كان بلديًّا قيل له: بع بسعر الناس أو تخرج من السوق. وكان الخليفة ببغداد إذا غلا السعر أمر بفتح مخازنه، وأن يبيع بأقل مما يبيع الناس، حتى يرجع إلى ما رسم من الثمن، ثم يأمر أيضًا أن يباع بأقل من ذلك حتى يرجع السعر إلى أوله، أو إلى القدر الذي يصلح بالناس، ويغلب الجالبين والمحتكرين بهذا الفعل، وكان ذلك من حسن نظره، عفا الله عنه] اهـ.

وقال الشيخ ابن تيمية الحنبلي في “مجموع الفتاوى” (28/ 75-76 ط. مجمع الملك فهد): [لولي الأمر أن يُكرِه الناس على بيع ما عندهم بقيمة المثل عند ضرورة الناس إليه؛ مثل مَن عنده طعام لا يحتاج إليه والناس في مخمصة، فإنه يُجبَرُ على بيعه للناس بقيمة المثل؛ ولهذا قال الفقهاء: من اضطُّر إلى طعام الغير أخذه منه بغير اختياره بقيمة مثله، ولو امتنع من بيعه إلا بأكثر من سعره لم يستحق إلا سعره] اهـ. والله سبحانه وتعالى أعلم»([13]).

ثانيًا: فرض الضرائب.

ذكرنا في الكلام عن التسعير أن الأمور المالية في الدولة عبارة عن موارد ومصارف، وخزانة أي دولة لن تستطيع الوفاء بالمصارف المنوطة بها إلا إذا كانت وارداتُها كافيةً لتغطية تلك الالتزامات، ولذلك أتاح الشرع والقانون للحاكم أن يقرر من الضرائب ما يوازن به داخل الخزانة بين الموارد والمصارف.

وهذا نظامٌ قديمٌ تعارفت عليه كافة الدول منذ نشأة الحضارة في العالَم القديم، لكنه كان يخضع لتقديرات تكون غالبًا متعسفة ظالمة من الحكام، فلما جاء الإسلام أوجب على الحكام أن يراعوا حالة الناس عند تقدير الضرائب المفروضة عليهم، حتى يكون دخلُهم متناسبًا مع تكاليف المعيشة من ناحية، ومع ما يدفعونه للدولة من ناحية أخرى، مع مراعاة حالات التعسّر والافتقار التي تصيب بعض الناس أحيانًا بما يقتضي إعفاءهم من الضرائب حتى يتجاوزوا فترة التعسّر.

وقد نصت دار الإفتاء المصرية على جواز فرض الضرائب والجمارك والتعريفات المقررة بالقانون من قِبل رئيس الدولة، تحقيقًا لما يراه من المصالح العامة للدولة، وجاء نص الفتوى كما يلي:

«الضَّرِيبَةُ: مِقْدَارٌ مُحَدَّدٌ من المال تفرضه الدولة في أموال المواطنين، دون أن يقابل ذلك نفعٌ ظاهر يعود بشكل خاص على دافع المال، فتُفْرَض على المِلْك والعَمَل والدَّخْل نظير خدمات والتزامات تقوم بها الدولة لصالح المجتمع بشكل عام، وهي تختلف باختلاف القوانين والأحوال.

ويجوز لولي الأمر أن يفرض ضرائب عادلة في تقديرها وفي جبايتها تضاف إلى ما يجبيه من أموال الزَّكَاة؛ وذلك لتغطية النفقات العامة والحاجات اللازمة للأمة، باعتبار أَنَّ وَلِي الأمر هو القائم على رعاية المصالح العامة التي تستلزم نفقات تستنفد الموارد العامة لا سيما في هذا العصر الذي كثُرت فيه مهام الدولة واتسعت مرافقها وزادت فيه الأزمات الاقتصادية العالمية.

والدولة لها ما يُسَمَّى بالموازنة العامة، والتي يجتمع فيها الإيرادات العامة والنفقات العامة، وإذا كانت النفقات العامة للدولة أكبر من الإيرادات العامة؛ فإنَّ ذلك معناه عجز في ميزانية الدولة، يتعيَّنُ على الدولة تعويضه بعِدَّةِ سُبل منها: فرض الضرائب. إلا أنه ينبغي أن يراعى في فرض الضرائب عدم زيادة أعباء محدودي الدخل وزيادة فقرهم، وأن توجه الضرائب إلى الفئات التي لا يجهدها ذلك كطبقة المستثمرين، ورجال الأعمال الذين يجب عليهم المساهمة في واجبهم تجاه شعبهم ووطنهم.

وقد تقرَّر عند كثير من الصحابة: كعمر، وعلي، وأبي ذر، وعائشة، وابن عمر، وأبي هريرة، والحسن بن علي، وفاطمة بنت قيس رضي الله عنهم أجمعين، ومن التابعين: كالشعبي، ومجاهد، وطاووس، وعطاء، أن في مال المسلم حقًّا غير مال الزكاة -انظر: “المحلى بالآثار” لابن حزم (6/ 158)-، ويدل على ذلك قوله تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة: 177].

وجه الدلالة في الآية الكريمة أن الله تعالى نصَّ على إيتاء الزكاة، كما نصَّ على إيتاء المال لذوي القربى واليتامى والمساكين، مما يدل على أن المراد بإيتاء المال في الآية غير الزكاة، وأن في المال حقًّا سوى الزكاة، فالآية قد جُمِعَ فيها بين إيتاء المال على حبه، وبين إيتاء الزكاة بالعَطْفِ المقتضِي للمُغايرة، وهذا دليل على أن في المال حقًّا سوَى الزكاة لتصح المُغايرة. انظر: “تفسير الفخر الرازي” (6/ 43).

وعن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها قالت: سُئل النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم عن الزكاة فقال: «إِنَّ فِي المَالِ لحَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ» ثم تلا هذه الآية التي في سورة البقرة: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾ [البقرة: 177]. أخرجه الترمذي.

وقال الإمام القرطبي في “تفسيره” بعد ذكره للحديث المذكور (2/ 242): [والحديث وإن كان فيه مقال فقد دلَّ على صحته معنى ما في الآية نفسها من قوله تعالى: ﴿وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ﴾ [البقرة: 177]، فذكر الزكاة مع الصلاة، وذلك دليل على أن المراد بقوله:﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾ [البقرة: 177] ليس الزكاة المفروضة، فإن ذلك يكون تكرارًا، والله أعلم] اهـ.

ومِن ثَمَّ فإنه قد ثبتَ في مال المسلم الغني حقٌّ غير الزكاة، لا سيما في ظل احتياج المجتمع إلى هذه الأموال، وهذا هو المعنى الحقيقي للتكافل والتضامن الاجتماعي.

فالتضامن الاجتماعي فريضة، فإن من حق المجتمع على الفرد التعاون على إقامة مصالح الدولة كافة، ولجماعة المسلمين حق في مال الفرد؛ لأنه لم يكسب ماله إلا بها، وهي التي ساهمت من قريب ومن بعيد، وعن قصد وغير قصد، في تكوين ثروة الغني، وهي التي بدونها لا تتم معيشته كإنسان في المدينة.

فإذا كان في الدولة الإسلامية محتاجون لم تكفهم الزكاة، أو كانت مصلحة الجماعة وتأمينها عسكريًّا أو اقتصاديًّا تتطلب مالًا لتحقيقها، أو كان دِين الله ودعوته وتبليغ رسالته يحتاج إلى مال لإقامة ذلك، فإن الواجب الذي يحتمه الإسلام أن يُفْرَض في أموال الأغنياء ما يحقِّق هذه الأمور؛ لأن تحقيقها واجب على ولاة الأمر في المسلمين، ولا يتم هذا الواجب إلا بالمال، ولا مال بغير فرض الضرائب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

وكذلك فإن من القواعد الفقهية الكلية المقررة عند العلماء: أنه “يُتَحَمَّلُ الضرر الخاص لدفع الضرر العام”، وأنه “يجب تحمل الضرر الأدنى لدفع ضرر أعلى وأشد”. انظر: “الأشباه والنظائر” لابن نجيم الحنفي (ص: 87).

ولا ريب أن هذه القواعد الفقهية لا يؤدِّي إعمالها إلى إباحة الضرائب فحسب، بل يُحتم فَرْضها وأخْذها؛ تحقيقًا لمصالح الأمة والدولة، ودرءًا للمفاسد والأضرار والأخطار عنها.

يقول الإمام ابن حزم في “المحلى” (6/ 156): [وفُرِضَ على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، ويُجْبِرهم السلطان على ذلك إن لم تقم الزكوات بهم] اهـ.

ومن القواعد المقررة أيضًا: أن “الضرورة تُقَدَّر بقدرها”؛ فيجب ألا يتجاوز بالضرورة القدر الضروري، وأن يراعَى في وضعها وطُرْق تحصيلها ما يخفف وقعها على الأفراد.

فالأساس في الضرائب هو تكوين مال للدولة تستعين به على القيام بواجباتها، والوفاء بالتزاماتها، فالأموال التي تجبى من الضرائب تنفق في المرافق العامة التي يعود نفعها على أفراد المجتمع كافة، كالدفاع والأمن والقضاء والتعليم والصحة والنقل والمواصلات والري والصرف، وغيرها من المصالح التي يستفيد منها عامة المواطنين من رعايا الدولة، من قريب أو من بعيد.

ومما لا شك فيه أن أخْذ الضريبة من الأفراد فيه استيلاء على جزء من مالهم وحرمان لهم من التمتع به، وهذا الحرمان إنما رُخِّص فيه؛ لأن الضرورة قضت به إذ لا يمكن القيام بالمصالح العامة بدونه، والمصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة.

ولو تركت الدول الإسلامية في عصرنا دون ضرائب تنفق منها، لكان من المحتم أن تزول بعد زمن يسير من قيامها، وينخر الضعف كيانها من كل نواحيه، فضلًا عن الأخطار العسكرية عليها، فلقد أصبح التسليح ونفقات الجيوش في عصرنا مما يحتاج إلى موارد هائلة من المال.

ومع هذا لم تعد القوة مقصورة على السلاح والجيوش؛ إذ لا بد من القوة والتفوق في شتى جوانب الحياة العلمية والصناعية والاقتصادية، وكل هذا يفتقر إلى أمداد غزيرة من المال، ولا سبيل إلى ذلك إلا بفرض الضرائب باعتبارها نوعًا من الجهاد بالمال؛ ليقوي الفرد أمته، ويحمي دولته، فيقوي بذلك نفسه، ويحمي دينه ودمه وماله وعرضه. انظر: “المحلى” (2/ 1077).

وما سبق ذِكْره من أمور؛ كالدفاع والأمن والقضاء والتعليم والصحة والنقل والمواصلات والري والصرف وغير ذلك؛ ضروري لا يُمْكِن الاستغناء عنه للدولة الإسلامية، ولا لأي دولة، فمن أين للدولة أن تنفق على هذه المرافق وإقامة هذه المصالح؟

والدولة الإسلامية سابقًا كانت تنفق على هذه المصالح من مصادر لم تَعد موجودة الآن؛ مثل: خمس الغنائم الحربية التي يستولي عليها المسلمون من أعدائهم المحاربين، أو مما أفاء الله عليهم من أموال المشركين بغير حرب ولا قتال، فلم يعد لإقامة مصالح الأمة مورد إلا فرض ضرائب بقدر ما يحقق المصلحة الواجب تحقيقها.

وقد أقرَّ جماعة من فقهاء المذاهب المتبوعة الضرائب، لكنهم لم يطلقوا عليها اسم “الضرائب”، فسمَّاها بعض الحنفية “النوائب” جمع نائبة، وهي اسم لما ينوب الفرد من جهة السلطان، بحق أو بباطل.

جاء في حاشية “رد المحتار” للعلامة ابن عابدين في بيان معنى النوائب (4/ 282): [ما يكون بحقٍّ كأجرة الحراس، وَكَرْيِ النهر المشترك، والمال الموظف لتجهيز الجيش، وفداء الأسرى إذا لم يكن في بيت المال شيء وغيرهما مما هو بحق، فالكفالة به جائزة بالاتفاق؛ لأنها واجبة على كل مسلمٍ مُوسِر بإيجاب طاعة ولي الأمر فيما فيه مصلحة المسلمين ولم يلزم بيت المال أو لزمه ولا شيء فيه. وإن أريد بها ما ليس بحقٍّ كالجبايات الموظفة على الناس في زماننا ببلاد فارس على الخيَّاط والصَّبَّاغ وغيرهم للسلطان في كل يوم أو شهر، فإنها ظلم] اهـ.

وقد نقل العلامة ابن عابدين أيضًا عن العلامة أبي جعفر البلخي قوله (2/ 57): [ما يَضْرِبُه السلطانُ على الرعية مصلحةً لهم يصير دَيْنًا واجبًا وحقًّا مُستحقًّا كالخراج، وقال مشايخنا: وكل ما يضربه الإمام عليهم لمصلحة لهم فالجواب هكذا، حتى أجرة الحرَّاسين لحفظ الطريق، واللصوص، ونصب الدروب، وأبواب السكك، وهذا يُعْرَف، ولا يُعَرَّف خوف الفتنة، ثم قال: فعلى هذا ما يؤخذ في خوارزم من العامة لإصلاح مسناة الجيحون أو الربض ونحوه من مصالح العامة دَيْنٌ واجبٌ لا يجوز الامتناع عنه وليس بظلم، ولكن يعلم هذا الجواب للعمل به وكف اللسان عن السلطان وسعاته فيه لا للتشهير؛ حتى لا يتجاسروا في الزيادة على القدر المستحق] اهـ.

ومن المالكية يقول الإمام الشاطبي في “الاعتصام” (3/ 25، وما بعدها): [إنا إذا قدرنا إمامًا مطاعًا مُفتقِرًا إلى تكثير الجنود؛ لسدِّ الثغور وحماية المُلك المتسع الأقطار، وخلا بيت المال عن المال، وارتفعت حاجات الجند إلى ما لا يكفيهم، فللإمام -إذا كان عدلًا- أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافيًا لهم في الحال إلى أن يظهر مال في بيت المال، وإنما لم ينقل مثل هذا عن الأولين؛ لاتساع مال بيت المال في زمانهم بخلاف زماننا، فإن القضية فيه أحرى، ووجه المصلحة هنا ظاهر؛ فإنه لو لم يفعل الإمام ذلك لانْحلَّ النظام، وبطلت شوكة الإمام، وصارت ديارُنا عرضة لاستيلاء الكفار] اهـ.

ومن الشافعية يقول الإمام الغزالي في “المستصفى” (1/ 303-304): [إذا خلت الأيدي من الأموال، ولم يكن من مال المصالح ما يفي بخراجات العسكر، ولو تفرق العسكر، واشتغلوا بالكسب لخيف دخول العدو ديار المسلمين، أو خيف ثوران الفتنة من أهل الغرامة في بلاد الإسلام، جاز للإمام أن يوظف على الأغنياء مقدار كفاية الجند] اهـ.

وقد تَكلَّم عنها الشيخ ابن تيمية بما يفيد إقراره لبعض ما يأخذه السلطان باعتباره من الجهاد بالمال الواجب على الأغنياء، وسماها بـ”الكلف السلطانية”، أي: التكليفات المالية التي يلزم بها السلطان رعيته أو طائفة منهم. انظر: “مجموع الفتاوى” (30/ 182 وما بعدها).

والجمارك نوع من الضرائب المالية تُوضع على بضائع تدخل لبلاد المسلمين تقررها الدولة، وما يجمع من هذه الضرائب يدخل خزينة الدولة للمصالح العامة، ومن هذه المصالح: تشجيع البضائع والمنتجات المحلية لصالح المواطن والمستهلك، ففرضها فيه حماية للسوق المحلي، وحيث إنها نوع من الضرائب فتأخذ نفس أحكام الضرائب السابق ذكرها.

يتبين مما سبق أنه: لا يجوز التهرب من الضرائب والجمارك، ولا يجوز دفع الرشوة لإنقاصها، كما ننصح القائمين على الأمر بمراعاة فرض الضرائب بنسبة أكبر على الفئات الثرية دون الإثقال بفرضها على الفئات الفقيرة غير القادرة على تحمل أعباء الحياة.

والله سبحانه تعالى أعلم»([14]).

وقد نصت المادة (38) من القانون المصري المعدّل في 2019م على أن:

« مادة 38

يهدف النظام الضريبي وغيره من التكاليف العامة إلي تنمية موارد الدولة، وتحقيق العدالة الاجتماعية، والتنمية الاقتصادية.

لا يكون إنشاء الضرائب العامة، أو تعديلها، أو إلغاؤها، إلا بقانون، ولا يجوز الاعفاء منها إلا في الأحوال المبينة في القانون. ولا يجوز تكليف أحد أداء غير ذلك من الضرائب، أو الرسوم، إلا في حدود القانون.

ويراعى في فرض الضرائب أن تكون متعددة المصادر. وتكون الضرائب علي دخول الأفراد تصاعدية متعددة الشرائح وفقا لقدراتهم التكليفية، ويكفل النظام الضريبي تشجيع الانشطة الاقتصادية كثيفة العمالة، وتحفيز دورها في التنمية الاقتصادية، والاجتماعية ، والثقافية.

تلتزم الدولة بالارتقاء بالنظام الضريبي، وتبنى النظم الحديثة التي تحقق الكفاءة واليسر والإحكام في تحصيل الضرائب. ويحدد القانون طرق وأدوات تحصيل الضرائب، والرسوم ، وأي متحصلات سيادية أخرى، وما يودع منها في الخزانة العامة للدولة.

وأداء الضرائب واجب، والتهرب الضريبي جريمة».

ثالثًا: الظروف الطارئة وفرض الأموال

فيحق لولي الأمر أن يفرض قوانين خاصة وإجراءات جديدة وحازمة في أوقات الأزمات والظروف الطارئة، وله كذلك أن يفرض على من يخالف هذه القرارات الاستثنائية عقوباتٍ ماليةً يقدّرها بالتشاور مع المختصين، ومن ذلك ما قرره رئيس الجمهورية المصرية على من يمتنع عن ارتداء الكمامة الطبية في وقت جائحة كورونا من غرامةٍ مالية تتضاعف بتكرر المخالفة إن ثبت أن الشخص نفسه يتعمد الامتناع عن ارتداء الكمامة، مما يعرض حياته وحياة الآخرين للخطر الشديد.

وقد أيدت دار الإفتاء المصرية هذا القرار في ذلك الوقت، وأصدرت فتواها بالتأصيل الشرعي لجواز ذلك، ودعم سلطة ولي الأمر في فرض الغرامات المالية في الظروف الطارئة تحقيقًا للنفع ودفعًا للضرر، وكان نص الفتوى كما يلي:

« توقيع الغرامة جزاء عدم ارتداء الكمامة:

السؤال

قامت كثير من دول العالم -ومنها الدول الإسلامية- بفرض غرامات مالية على مخالفي القرارات والتعليمات الرسمية التي تلزم المواطنين بارتداء الكمامات في المواصلات والمؤسسات الحكومية وغيرها والأسواق والمحلات والبنوك والأماكن المزدحمة، وذلك مع استمرار وباء كورونا في الانتشار واتجاه دول العالم لضرورة التعايش الحذِر معه؛ حفاظًا على المقدرات الاقتصادية وغيرها، فما حكم الشرع في تغريم من يخالف هذه القرارات؟

الجواب:

كلفت الشريعة الإسلامية ولاة الأمر برعاية المحكومين عن طريق الحفاظ على المقاصد الكلية العليا، وأولها وآكدها: حفظ النفس، وخولت لهم -في سبيل تحقيق ما كلفوا به من مسؤولية- أن يسنوا القوانين واللوائح الملزمة التي تكفل ذلك، كما خولت لهم أيضًا وضع العقوبات وتنفيذها على من يخرق هذه القوانين أو يخالف تلك القرارات؛ لما في ترك المخالف دون عقوبة من التجرئة على المخالفة، وفي ذلك ما لا يخفى من ضياع مصالح العباد وانتشار الفساد؛ ولذلك جاء في الأثر: “إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن”.

وحتى يحصل الانضباط والالتزام بوسائل الوقاية من الوباء في مواطنها المطلوبة فقد ألزمت دول العالم -ومنها مصر- مواطنيها بارتداء الكمامة في مواطن التجمعات والمواصلات والأسواق والمحلات وغيرها مما هو مَظنّةٌ لانتشار العدوى، وأَوقَعت -بالإضافة إلى ذلك- غراماتٍ مالية على المخالفين؛ حتى يحقق القانون الملزم غرضه وغايته في التزام المواطنين بوسائل الوقاية؛ للحفاظ على حياة الناس وسلامة المجتمع، وهذا من باب التعزيرات المالية؛ والتعزيرات هي: العقوبات التي لم يرد نص من الشارع ببيان مقدارها، وترك تقديرها لولاة الأمر، ووظيفتها: حماية الأموال والأخلاق والنظام العام، ويكون ترتيب العقوبات فيها على حسب مقدار الاعتداء على المصالح المعتبرة في الإسلام؛ كما يقرره العلامة محمد أبو زهرة في كتابه “الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي” (ص: 69، ط. دار الفكر العربي).

وعقوبة التغريم المالي من التعزيرات التي أقرها الشرع الشريف، وجاءت بها النصوص:

فعن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «فِي كُلِّ إِبِلٍ سَائِمَةٍ؛ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ ابْنَةُ لَبُونٍ لَا تُفَرَّقُ إِبِلٌ عَنْ حِسَابِهَا، مَنْ أَعْطَاهَا مُؤْتَجِرًا فَلَهُ أَجْرُهَا، وَمَنْ مَنَعَهَا فَإِنَّا آخِذُوهَا مِنْهُ وَشَطْرَ إِبِلِهِ عَزْمَةً مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا، لَا يَحِلُّ لِآلِ مُحَمَّدٍ مِنْهَا شَيْءٌ» أخرجه الإمام أحمد في “المسند”، وأبو داود والنسائي في “السنن”، وابن خزيمة في “الصحيح”، والحاكم في “المستدرك”، وقال: حديث صحيح الإسناد.

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أنه سئل عن الثمر المعلق؟ فقال: «مَنْ أَصَابَ بِفِيهِ مِنْ ذِي حَاجَةٍ غَيْرَ مُتَّخِذٍ خُبْنَةً فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَمَنْ خَرَجَ بِشَيْءٍ مِنْهُ فَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ وَالْعُقُوبَةُ» أخرجه الإمام أحمد في “المسند”، وأبو داود والنسائي وابن ماجه في “السنن”، والحاكم في “المستدرك”.

والخُبْنَة: مِعطَف الإزار وطَرَف الثوب، أي: من أكل ولم يأخذ في ثوبه.

وعلى ذلك جرى عمل الصحابة والسلف الصالح رضي الله عنهم:

فعن يحي بن عبد الرحمن بن حاطب: أن أرقاء لحاطبٍ رضي الله عنه سرقوا ناقةً لرجلٍ من مزينةَ فانتحروها، فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأمر كثير بن الصلت رضي الله عنه أن يقطع أيديهم، ثم قال عمر: “إني أراك تُجيعُهم؛ والله لأغرمنَّك غُرْمًا يَشُقُّ عليك”، ثم قال للمزني: “كم ثمن ناقتك؟” قال: أربعمائة درهم، قال عمر: “أعطه ثمانمائة درهم” أخرجه الإمام مالك في “الموطأ” وعنه الإمام الشافعي في “المسند”.

وعن أبان بن عثمان: “أن عثمان رضي الله عنه أَغْرَمَ في ناقةِ مُحْرِمٍ أهلكها رجلٌ؛ فأغرمه الثلثَ زيادةً على ثمنها” أخرجه عبد الرزاق في “المصنف”.

قال الإمام ابن حزم في “المحلى” (12/ 307، ط. دار الفكر): [ولا يعرف له في ذلك مخالف من الصحابة رضي الله عنهم] اهـ.

ومشروعية التعزيرات المالية هو قول المحققين من الفقهاء عبر الأعصار، وهو المعمول به في سائر الأمصار:

قال العلامة الكمال بن الهمام الحنفي في “فتح القدير” (5/ 345، ط. دار الفكر): [وعن أبي يوسف: يجوز التعزير للسلطان بأخذ المال، وعندهما وباقي الأئمة الثلاثة: لا يجوز. وما في “الخلاصة”: سمعت من ثقة أن التعزير بأخذ المال إن رأى القاضي ذلك أو الوالي جاز، ومن جملة ذلك: رجل لا يحضر الجماعة، يجوز تعزيره بأخذ ماله. مبني على اختيار من قال بذلك من المشايخ كقول أبي يوسف] اهـ.

وقال العلامة ابن فرحون المالكي في “تبصرة الحكام” (2/ 293، ط. مكتبة الكليات الأزهرية): [والتعزير بالمال: قال به المالكية فيه، ولهم تفصيل ذكرت منه في كتاب الحسبة طرفًا، فمن ذلك: سئل مالك عن اللبن المغشوش أيهراق؟ قال: لا، ولكن أرى أن يتصدق به إذا كان هو الذي غشه. وقال في الزعفران والمسك المغشوش مثل ذلك قليلًا أو كثيرًا، وخالفه ابن القاسم في الكثير. وقال: يباع المسك والزعفران على من لا يغش به ويتصدق بالثمن أدبًا للغاش. مسألة: وأفتى ابن القطان الأندلسي في الملاحف الرديئة النسج بأن تحرق، وأفتى عتاب بتقطيعها والصدقة بها خرقًا.. مسألة: والفاسق إذا آذى جاره ولم ينته، تباع عليه داره وهو عقوبة في المال والبدن] اهـ.

وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي الشافعي في “المهذب” (3/ 373، ط. دار الكتب العلمية): [من أتى معصية لا حد فيها ولا كفارة.. عزر على حسب ما يراه السلطان] اهـ.

وقال العلامة البهوتي الحنبلي في “كشاف القناع” (6/ 125، ط. دار الكتب العلمية): [(وقال التعزير بالمال سائغ إتلافًا وأخذًا، وقول) الموفق (أبي محمد المقدسي: “لا يجوز أخذ ماله”؛ إشارةٌ منه إلى ما يفعله الحكام الظلمة. والتعزير يكون على فعل المحرمات، و) على (ترك الواجبات)] اهـ.

وهذا هو الذي اعتمدته الدول الإسلامية في تشريعاتها وقوانينها؛ ومنها: قانون العقوبات المصري في مادته (22)، التي نصَّت على أن العقوبة بالغرامة إلزام للمحكوم عليه بأن يدفع إلى خزينة الحكومة المبلغ المقدَّر في الحكم، وبيَّن القانونُ حدودَ الغرامات المختلفة.

وأما من منع من الفقهاء التعزيرَ بالمال: فإنما منعوه سدًّا لذريعة الاستيلاء على أموال الناس بالباطل والمكوس الظالمة، أو خوفًا من تزيد بعض القضاة في مقادير التعزيرات، أو منعوه في مواطن الشبهة، أو في أزمنة ازدياد الظلم.

قال العلامة الشرنبلالي الحنفي في حاشيته على “درر الحكام” (2/ 75، ط. دار إحياء التراث): [ولا يفتى بهذا؛ لما فيه من تسليط الظلمة على أخذ مال الناس فيأكلونه] اهـ.

وقال الشيخ ابن تيمية الحنبلي في “الاختيارات الفقهية” (ص: 601، ط. دار المعرفة): [والتعزير بالمال سائغ إتلافًا وأخذًا، وهو جار على أصل أحمد؛ لأنه لم يختلف أصحابه أن العقوبات في الأموال غير منسوخة كلها، وقول الشيخ أبي محمد المقدسي: (ولا يجوز أخذ مال المعزَّر) فإشارة منه إلى ما يفعله الولاة الظلمة] اهـ.

وهذا كله إنما يظهر أثره في أنماط الحكم المركزي الفردي، وفي إناطة مقدار العقوبة باجتهاد القاضي دون نصوص قانونية أو قرارات ملزمة أو إرشادات معلومة مسبقًا، أما في الدولة المدنية الحديثة ذات المؤسسات المستقلة والسلطات المنفصلة المتكاملة وهيئات الرقابة: فالأمر يختلف؛ ذلك أن نظم الحكم في الدول الحديثة يرتبط فيها الدعم الحكومي بالضرائب والغرامات، وتُوفَّرُ فيها الخدمات والمرافق العامة والتأمين الصحي للمواطنين في مقابل ما يُستَقْطَعُ مِن دُخولهم المادية، وتستقل فيها السلطات: تشريعيةً، وقضائيةً، وتنفيذيةً؛ بما يؤدي إلى انتفاء هذه المخاوف أو تقليلها.

كما أن مخالفة القوانين والقرارات والتعليمات الحكومية تجرُّ على الدولة تكاليف مادية باهظة -بشكل مباشر أو غير مباشر-، وهذا يظهر هنا في تكاليف العلاج الكبيرة وتجهيزات مستشفيات العزل الباهظة التي تنتج عن إهمال وسائل الوقاية وتكاثر حالات المرض وازدياد المصابين بعدوى الوباء؛ مما يتناسب مع الغرامة المالية التي يُلزَم بها المخالفون بتسببهم المباشر وغير المباشر في ذلك، حيث جاءت تنبيهات منظمة الصحة العالمية ووزارة الصحة المصرية بضرورة ارتداء الكمامة في زمن انتشار الوباء، وأن التهاون في ذلك يزيد من فرص انتشار العدوى ويعرض حياة الكثيرين للخطر.

وإذا كانت حاجة الإنسان الضرورية في الحفاظ على حياته ومهجته تبيح له الأخذ من أموال الناس: شرعًا؛ كما يقتضيه قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: 173]، وترفع عنه العقاب قانونًا؛ كما جاء في المادة (61) من قانون العقوبات رقم 58 لسنة 1937م من أنه: [لا عقاب على من ارتكب جريمة ألجأته إلى ارتكابها ضرورة وقاية نفسه أو غيره من خطر جسيم على النفس على وشك الوقوع به أو بغيره، ولم يكن لإرادته دخل في حلوله، ولا في قدرته منعُه بطريقةٍ أخرى]، فإن المصلحة العامة في الحفاظ على حياة المواطنين، تبيح -من باب أولى- تغريم المخالفين المتهاونين؛ لتفريطهم في الحفاظ على سلامة نفوسهم ونفوس الآخرين.

قال الإمام العز بن عبد السلام في كتابه “قواعد الأحكام” (2/ 188، ط. مكتبة الكليات الأزهرية): [المصلحة العامة كالضرورة الخاصة، ولو دعت ضرورة واحد إلى غصب أموال الناس لجاز له ذلك، بل يجب عليه إذا خاف الهلاك لجوع أو حر أو برد، وإذا وجب هذا لإحياء نفس واحدة، فما الظن بإحياء نفوس!] اهـ.

ولا يخفى ما في التعايش مع الوباء من ضرورة أن تصبح الإجراءات الوقائية ثقافة سائدة في مزاولة حياتنا في التجمعات، والأسواق والمواصلات، وفي التعامل مع الناس في كافة الجهات؛ فلا يرتبط تنفيذها بتوقع العقوبة القانونية على تركها، بل تكون أسلوبًا للحياة في هذه الظروف، بعد أن ثبت أنها تحقق سلامة الإنسان في نفسه وسلامة الناس من حوله، وكل ذلك مأمور به شرعًا، فصار الالتزام بذلك عبادة دينية وواجبًا شرعيًّا؛ لأنه يتوصل به إلى حفظ النفس، وهو مقصد شرعي مرعي، والوسائل لها أحكام الغايات، فإذا نوى الإنسان بها ذلك نال ثواب إحياء الناس جميعًا؛ كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المـــائدة: 32].

وبناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فكما جعل الشرع من سلطة الحكام وضع القوانين والقرارات والتعليمات الملزمة في سبيل تحقيق ما كُلِّفوا به من تحقيق المقاصد الشرعية العليا وضبط النظام العام، فقد خول لهم أيضًا وضع العقوبات الملائمة على مخالفة القوانين حسبما يترتب على خرقها من ضرر؛ حتى يضمن تنفيذها والتزام الناس بها، ويكفل تحقيق مسؤوليتهم في رعاية مصالح المحكومين، والغراماتُ المالية هي من باب التعازير التي لم يرد بها نص في الشرع، ومرجع تقديرها إلى السلطة التشريعية، وقد أقرها الشرع الشريف، وجاءت بها سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وجرى عليها عمل الصحابة رضي الله عنهم بلا مخالف، وقال بها المحققون من الفقهاء، وهو الذي اعتمدته الدول الإسلامية في قوانينها قديما وحديثًا ومنها مصر، والذين منعوه من الفقهاء إنما أرادوا بمنعه سد ذريعة الاستيلاء على أموال الناس بالباطل، وهذا يظهر أثره في نظم الحكم القديمة وعند التقدير الفردي المطلق للغرامة دون نصوص قانونية موجهة، أما في نظام الحكم الحديث ودولة المؤسسات، التي ترتبط فيها الخدمات والدعم والتأمين الصحي بالضرائب والغرامات، وتستقل فيه السلطات: فالأمر مختلف؛ إذ لا يصبح التغريم مكسًا، ولا تعود أخذ المال ظلمًا.

هذا بالإضافة إلى أن مخالفة القوانين تؤدي عادةً إلى الأعباء المالية الهائلة على الدولة؛ كما يظهر هنا في ازدياد الأعباء، لازدياد الأعداد المصابة بالوباء، وفي التجهيزات المضاعفة لاستقبال المصابين، مما يسببه إهمال وسائل الوقاية وإجراءات الحماية، وهذا يجعل الغرامات المالية التي توقع على المخالفين مناسبة لتبعة مخالفتهم وآثار إهمالهم.

فالإلزام بدفع الغرامة لمن لم يرتد الكمامة في المواصلات والمصالح العامة والخاصة والأسواق والمحلات والبنوك نحوها هو أمر سائغ شرعًا، وعلى المواطنين أن ينووا بلبس الكمامة الحفاظ على نفوسهم ونفوس من حولهم؛ طاعة لله باتخاذ الأسباب، واحتسابًا للأجر والثواب، دون توقف على الغرامات والعقوبات»([15]).

 

([1]) نظام الحكم الإسلامي، د. محمود حلمي، مرجع سابق، (ص273).

([2]) قانون الطوارئ رقم 162 لسنة 1958م، مضاف إليه التعديل الصادر بالقانون 22 لسنة 2020 بتاريخ 6 مايو 2020م.

([3]) راجع الفقرة (ز) من المادة (58) من دستور السودان الانتقالي لسنة 2005م.

([4]) تنص المادتان (72، 73) من دستور السودان على أن مجلس الوزراء يخطط السياسات العامة للدولة.

([5]) راجع المادة (152) من دستور مصر 1971م، والمادة (175) من دستور السودان الانتقالي لسنة 2005م.

([6])فقد نصت المادة (155) من دستور مصر المؤقت 2014م على أن: “لرئيس الجمهورية بعد أخذ رأى مجلس الوزراء العفو عن العقوبة، أو تخفيفها، ولا يكون العفو الشامل إلا بقانون، يُقر بموافقة أغلبية أعضاء مجلس النواب”.

([7]) راجع الفقرة (ط) من المادة (58)، والمادتين (191، 211) من دستور السودان الانتقالي لسنة 2005م.

([8]) راجع المادة (70) من دستور السودان الانتقالي 2005م والتي تنص على أنه: «يشكّل رئيس الجمهورية بعد التشاور مع رئاسة الجمهورية مجلسًا قوميًّا للوزراء»، كما نصت المادة (35) من دستور الأردن على أن الملك يعيّن الوزراء، وكذا المادة (53) من دستور لبنان.

([9]) راجع المادة (56) من دستور الكويت 1962م: «ترشيح الوزراء يكون من رئيس مجلس الوزراء للأمير الذي يعينهم».

([10]) ففي دستور الولايات المتحدة: «يرشّح رئس الجمهورية الوزيرَ، لكنه لا يصبح وزيرًا إلا بعد موافقة مجلس الشيوخ»، ينظر: الدستور الأمريكي، لبروس فندلاي وإيستر فندلاي، ترجمة لجنة دار المعارف، دار الكرنك- بيروت، 1964م.

([11]) ينظر: عارضة الأحوذي بشرح سنن الترمذي، لأبي بكر ابن العربي،  (6/ 54).

([12]) انظر: موقع دار الإفتاء المصرية، الفتوى رقم (6168)، بتاريخ 28 فبراير 2017م.

([13]) انظر: موقع دار الإفتاء المصرية، الفتوى رقم (6169)، بتاريخ 28 فبراير 2017م.

([14]) انظر: موقع دار الإفتاء المصرية، رقم الفتوى (215)، بتاريخ 27 أكتوبر 2014م.

([15]) انظر: موقع دار الإفتاء المصرية، رقم الفتوى (5125)، بتاريخ 06 يونيو 2020م.

اترك تعليقاً