البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الفصل الخامس: الفتوى ومدى سلطة الحاكم

تمهيد: مفهوم طاعة الحاكم وأهميتها في المنظومة السياسية

138 views

الطاعة في اللغة: الانقياد والموافقة([1]).

وجاء فلانٌ طائعًا: أي منقادًا غير مُكْرَهٍ([2]).

فمفهوم الطاعة في استعمالات اللغة يدور في مجمله حول موافقة الأمر طوعًا وفعله بغير إكراهٍ([3]).

والمفهوم من معنى الطاعة للأمر في استعمالات اللغة والقرآن والسنة أنه لا يجوز مخالفته، وأن من يخالف الأمر الذي تنبغي طاعته يستحق العقوبة ويكون عاصيًا آثمًا، ولذلك رتَّب الشرعُ الإثمَ على من ترك طاعةَ اللهِ ورسولِه، قال الله تعالى: {فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}[الفتح: 16].

وهذا هو المعنى العام للطاعة في الإسلام؛ طاعة الله تعالى ورسوله فيما أمرا به الانتهاء عما نَهَيَا عنه.

بيد أن للطاعة معنىً خاصًّا حضَّ عليه التشريع، وهو طاعة الحاكم وولي الأمر فيما يأمر به من القرارات والإجراءات، والانتهاء عما ينهى عنه من المحاذير والمخالفات.

وقد جمع الله تعالى النوعين من الطاعة في قوله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}[النساء: 59].

وبيَّنها النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يُطِعِ الأمير فقد أطاعني، ومن عصى الأمير فقد عصاني»([4]).

وعلى هذا يمكن تعريف طاعة ولي الأمر في الدولة بأنها: «امتثال الأمر والنهي، سواء وافق الطبع أم لم يوافقه، وذلك بالانقياد لولي الأمر في أمره ونهيه دون منازعة، بشرط ألا يترتب على ذلك معصيةٌ لله تعالى»([5]).

وكانت العلاقة بين الحاكم والشعب يضبطها قانون الشرع؛ بمعنى ان للحاكم على المحكوم حقَّ الطاعة والانقياد بسلطان الشرع، بحيث تكون مخالفة المحكوم للحاكم وخروجه عليه جريمةٌ يحاسبه الله تعالى عليها، ويتيح للحاكم حق معاقبته بما يراه، ولكن هذا الحق يثبت للحاكم بشرطين: الأول: ألا يأمر بما يخالف أحكام الشريعة، الثاني: أن يكون أمره في مقدور المحكوم واستطاعته.

وفي المقابل للمحكوم على الحاكم حق الحماية والرعاية وتيسر سبل المعيشة وضمان مقومات الحياة، ورد الظلم والعدوان عنه، وحفظ ممتلكاته وحرياته الشخصية بما يكفله له الشرع والقانون وحقوق الإنسان.

ثم تُرْجمت هذه العلاقة في العصر الحديث إلى ما يعرف بالقواعد العليا والقوانين الدستورية التي تنظّم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، فتمنح الحاكم سلطاتٍ على المحكومين تناسب الأهداف المنوط به تحقيقها للدولة، وتُلْزمه في المقابل بضوابط تحكم صلاحياته وتجعله داخل نطاق المسئولية أمام شعبه وقانون دولته، وتحدد له الوظائف التي يجب أن يقوم بها ويسهر على تحقيق مصالح الدولة من خلالها، وترسم له الحدود التي يجب أن يلتزم بها([6]).

وأما طاعة ولي الأمر في المفهوم القانوني فقد ورد فيها تعريفات وتعبيرات كثيرة بعضها يجمع بين طاعة الدولة والحكومة وطاعة الرئيس، وبعضها يميز بينهما ببعض الوجوه، وبعضها يضيف الالتزام بالمنشورات والقرارات الإدارية الخاصة بأعمال المؤسسات والهيئات، وتنظيم أمور الزراعة والصناعة والمرور ونحوها، وخلاصة ما يمكن التعبير به بشكلٍ جامعٍ مختصر هو أن الطاعة في المفهوم القانوني: «الامتثال لأوامر الرؤساء واحترامهم في نطاق الواجب القانوني»([7]).

أو لو أردنا أن نوسّع المفهوم قليلًا: «الامتثال لأوامر رئيس الدولة أو من يمثله، واحترامه في نطاق الواجب القانوني، واحترام النصوص الدستورية والقانونية، وتنفيذ أحكامها دون محاباة»([8]).

ومسألة طاعة الحاكم هذه لا تتنافى أبدًا مع حقوق الإنسان وحرياته المكفولة له بالشرع والقانون، ولكن طبيعة الحياة وتشابك المصالح واحتمالية النزاعات تُعَدّ سببًا وجيهًا لضرورة وجود نظامٍ عامٍّ يضبط أمورَ التعامل ووجوهَ العيش داخل نطاق الدولة، لحماية المصالح والحقوق ونقلها من حالة الفوضى والعشوائية إلى حالة الاستقرار والأمان، ولو تطلب ذلك تنازل البعض عن جزءٍ من حرياته وحقوقه الطبيعية، بمعنى أن يكون هناك قواعد عامة تحكم الجميع، وتنظم سلوك الأفراد ومعاملاتهم، وهذا يقتضي وجود سلطة تشرف على تنفيذ هذه القواعد وتطبيقها، وتكون في الوقت ذاته قادرةً على إجبار كل فردٍ في الدولة على احترامها والالتزام بها حتى تنضبط الحياة وتستقر أمور الدولة داخليًّا وخارجيًّا([9]).

المطلب الأول: حدود طاعة الحاكم.

الأصل في طاعة الحاكم أنها تكون مطلقةً؛ وذلك لأن الحاكم وكيلٌ بتفويض غالبية الشعب وانتخابهم إياه في تسيير أمور الدولة حسبما يراه مناسبًا بمشاورة أهل الاختصاص في كل مجال من هيئات السلطة والتشريع والعلماء والخبراء، لكنَّ الشريعة الإسلامية أضافت لطاعة الحاكم بُعْدَين مهمين:

الأول: أنها جعلت طاعة الحاكم طاعةً لله تعالى، وبالتالي فهي تزيد على كونها واجبًا طبيعيًّا تقتضيه الإدارة والحُكم ويترتب عليه صلاح الحال في الدنيا بأنها امتثالٌ لأمر ديني يترتب عليه الثواب من الله في الآخرة، وكذلك تكون مخالفة هذا الأمر والوقوع في عصيان الحاكم أو الخروج عليه بغير حقٍّ إثمًا شرعيًّا يترتب عليه العقاب من الله في الآخرة.

الثاني: أنها قيّدت طاعة الحاكم بشرط أن يكون أمرُه صحيحًا شرعًا وقانونًا، فما دام كذلك فلا يجوز للمحكوم مخالفته حتى وإن كرهه المحكوم أو شقَّ عليه ذلك الأمر؛ أما إن كانت أوامر الحاكم تقتضي مخالفة ثوابت الشريعة وتتجاوز حدود الإمكان والاستطاعة الإنسانية فلا تجب على المحكوم طاعته في تلك الحالة.

وقد نصت على ذلك النصوص الثابتة من القرآن والسنة الصحيحة، كما جاءت فتاوى المؤسسات الإفتائية تؤكد هذه الحقيقة الشرعية القطعية، ومن هذه الفتاوى:

فتوى دار الإفتاء المصرية، والتي كان مما جاء فيها:

«وقد تقرر أن من شمولية الشريعة الإسلامية رعايتها لمصالح العامة ووضع الضوابط التي بها تستقر المجتمعات والشعوب، ومن أولى هذه الضوابط النص على ضرورة أن تكون هناك سلطة حاكمة تختص بمسؤولية تدبير شؤون الأمة وسياستها وإرساء قواعد العدل بين أفرادها، وتحقيق مصالحها الدينية والدنيوية.

ومصالح العباد في معاشهم ومعادهم لا تتحقق إلا بالتكامل والتعاون بينهم وبين حكامهم، فالحاكم بما منحه الله من السلطة وما يتبعها من القدرة على الاطلاع على خفايا الأمور وظواهرها، وما يصلح فيها وما يفسدها، أباح الشرع له سَنَّ القوانين ووضع الضوابط وإصدار القرارات، إلا أنه قيد ذلك كله بالمصلحة، فالحاكم منوط بتحقيق المصلحة، والمراد بالمصلحة أي: الشرعية المعتبرة أو المرسلة بضوابطها، لا الملغاة. والمصلحة تكون لعموم من تحته لا لفرد بعينه؛ ولذا وجب على ولي الأمر، وكذا نوابه، قصد مصلحة عموم المسلمين وتقديم المصالح الأخروية على الدنيوية، بما أسند إليه من أمر رعاية شؤون الناس.

قال صلى الله عليه وآله وسلم: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» متفق عليه.

وتغليبًا لتحقيق المصلحة العامة عملت الشريعة على الموازنة بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة، ووضعت من القواعد ما يمنع التعارض بينهما، فبينت أن تصرف الفرد بحقه مقيد بما لا يتعارض مع مصلحة الجماعة، فإذا تعارضا قُدمت المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، ومن هنا أجاز الشرع للحاكم تقييد المباح واتخاذ كافة الإجراءات التي تعمل على تحقيق المصلحة العامة إعمالًا لمقاصد الشرع، وتغليبًا لأمر العامة على الخاصة عند التعارض.

قال الإمام العز بن عبد السلام في “قواعد الأحكام” (2/ 188، ط. مكتبة الكليات الأزهرية): [المصلحة العامة كالضرورة الخاصة، ولو دعت ضرورةُ واحدٍ إلى غصب أموال الناس لجاز له ذلك، بل يجب عليه إذا خاف الهلاك لجوع أو حر أو برد، وإذا وجب هذا لإحياء نفس واحدة، فما الظن بإحياء نفوس؟!] اهـ.

وليتمكن الحاكم من القيام بدوره من تدبير الشؤون وتحقيق المصالح أوجب الله طاعته؛ فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 59].

قال العلامة الطاهر بن عاشور في “تفسيره” (5/ 97-98، ط. الدار التونسية للنشر): [أولو الأمر مِن الأمَّة ومِن القوم هم الذين يُسنِد الناسُ إليهم تدبير شؤونهم ويعتمدون في ذلك عليهم، فيصير الأمر كأنَّه مِن خصائصهم. فأولو الأمر هنا هم مَن عدا الرسول مِن الخليفة إلى والي الحسبة، ومِن قواد الجيوش، ومِن فقهاء الصحابة والمجتهدين، إلى أهل العلم في الأزمنة المتأخِّرة، وأولو الأمر هم الذين يُطلَق عليهم أيضًا: أهل الحَلِّ والعقد] اهـ.

وأخرج الستة عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «السَّمعُ والطَّاعةُ على المَرءِ المُسلِمِ فيما أَحَبَّ وكَرِهَ ما لم يُؤمَر بمَعصِيةٍ، فإذا أُمِرَ بمَعصِيةٍ فلا سَمعَ ولا طاعةَ»، والأدلة على هذا كثيرة ومتنوعة.

وسبب ذلك كله: أن طاعة أولي الأمر سببٌ لاجتماع الكلمة وانتظام المعاش؛ فلا بُدَّ للناس مِن مَرجِع يأتمرون بأمره؛ رفعًا للنزاع والشقاق، وإلا عَمَّت الفوضى واختل النظام العام، ودخل على الناس فساد عظيم في دينهم ودنياهم.

فإذا انتشر الوباء وأصدر الحاكم تعليمات من شأنها تقييد حرية الإنسان الخاصة إلا أنها تصب في مصلحته أولًا ثم في مصلحة العامة؛ فيلزمه حينئذ طاعته والالتزام بتعليماته، ويأثم في مخالفتها إلا لضرورة، لعِظَم ما قد يؤول ترك العمل بها من مفاسد.

ولكون طاعة الحاكم وولي الأمر من طاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لقوله فيما روى البخاري في “صحيحه”: «مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللهَ، وَمَنْ يُطِعِ الأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ يَعْصِ الأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي، وَإِنَّمَا الإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُتَّقَى بِهِ، فَإِنْ أَمَرَ بِتَقْوَى اللهِ وَعَدَلَ فَإِنَّ لَهُ بِذَلِكَ أَجْرًا، وَإِنْ قَالَ بِغَيْرِهِ فَإِنَّ عَلَيْهِ مِنْهُ»، وقال صلى الله عليه وآله وسلم «مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ، وَمَنْ يَعْصِنِي فَقَدْ عَصَى اللهَ، وَمَنْ يُطِعِ الأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ يَعْصِ الأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي» رواه مسلم في “صحيحه”، وأحمد في “مسنده”.

 

قال الإمام النووي في “شرحه على صحيح مسلم” (12/225، ط. دار إحياء التراث): [وهذه الأحاديث في الحث على السمع والطاعة في جميع الأحوال وسببها اجتماع كلمة المسلمين فإن الخلاف سبب لفساد أحوالهم في دينهم ودنياهم] اهـ.

فتحقيق مصالح العباد في أنفسهم وأموالهم ودينهم لن يتحقق إلا بطاعتهم لأولياء الأمور، إذ لو ترك الأمر دون حاكم مطاع لعم الهرج وكثر الفساد وضاعت الحقوق.

قال الإمام الغزالي في “الاقتصاد في الاعتقاد” (ص: 128، ط. دار الكتب العلمية): [إن الدنيا والأمن على الأنفس والأموال لا ينتظم إلا بسلطان مطاع، فتشهد له مشاهدة أوقات الفتن بموت السلاطين والأئمة، وإن ذلك لو دام ولم يُتدارَك بنصب سلطان آخر مطاع دام الهرج وعمَّ السيف وشمل القحط وهلكت المواشي وبطلت الصناعات، وكان كل غلب سلب، ولم يتفرغ أحد للعبادة والعلم إن بقي حيًّا، والأكثرون يهلكون تحت ظلال السيوف، ولهذا قيل: الدين والسلطان توأمان، ولهذا قيل: الدين أس والسلطان حارس، وما لا أس له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع] اهـ.

وقال العلامة الماوردي في “الأحكام السلطانية” (ص: 40، ط. دار الحديث): [أن يباشر بنفسه مُشارَفة الأمور، وتصفُّح الأحوال؛ لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملة، ولا يُعوِّل على التفويض تشاغلًا بلذة أو عبادة، فقد يخون الأمين ويغش الناصح] اهـ.

وقد أجمع الفقهاء على أن طاعة الحاكم فيما يأمر به واجبة، ولو كان فيما يُكره، أو يُتردد في صحته -ما لم يكن ذلك معصية أو كفرًا بواحًا-؛ لأن الأمر بطاعته ثابت بنص قطعي، فلا يدفعه تردد أو كراهة، ولأن مفسدة معصيته أشد من مفسدة طاعته لو كان مخطئًا، لما في ذلك من تضرر المجتمع كله، ولتقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة»([10]).

كما جاء في فتوى دار الإفتاء الأردنية ما نصه:

«ولي الأمر اصطلاح ذكره الله عز وجل في كتابه العزيز، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، فمصطلح (ولي الأمر) يطلق على كل صاحب ولاية بيده الأمر، فيطلق على العلماء لتوليهم أمور الدين، وعلى الآباء لتوليهم شؤون أبنائهم، وعلى الحكام لتوليهم أمور الدنيا والدين في صلاح شأن المسلمين؛ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمَنْ يُطِعِ الأَمِيرَ فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ يَعْصِ الأَمِيرَ فَقَدْ عَصَانِي) أخرجه البخاري.

 

وقد أمر الله سبحانه وتعالى بطاعة ولاة الأمر، قال الإمام الطبري رحمه الله: “يعني بذلك جل ثناؤه: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ربكم فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه، وأطيعوا رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم، فإن في طاعتكم إياه لربكم طاعة، وذلك أنكم تطيعونه لأمر الله إياكم بطاعته. {وَأُولِي الْأَمْرِ} هم الأمراء والولاة لصحة الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمر بطاعة الأئمة، والولاة فيما كان لله طاعةً، وللمسلمين مصلحة” [تفسير الطبري 8/ 502].

وعليه؛ فحاكم الدولة اليوم هو ولي الأمر، وتجب طاعته ويحرم الخروج عليه؛ لأنه من يتولى أمر عامة المسلمين، وهو من يسوسهم بما يحقق به صلاح الدنيا والدين كما أمره الشرع الحكيم، ولهذا يجب على الناس طاعته في غير معصية لله، وعدم الخروج عليه، ويجب عليه القيام بالواجبات والحقوق المطلوبة منه والنصح للرعية والقيام بأمورهم والبعد عن ظلمهم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) رواه البخاري. فهي أمانة، وكل يسأل عنها يوم القيامة. والله تعالى أعلم»([11]).

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المطلب الثاني: حقوق الحاكم على المحكومين.

الفرع الأول: حق النصرة.

فإلى جانب حق الطاعة الذي بيناه في المطلب الأول تلتزم الأمة الإسلامية بنصرة السلطة العامة والوقوف ورائها ضد أي تمرد يقصد منه تفتيت وحدة الأمة الإسلامية، فإذا كان واجب الطاعة يستهدف أساسًا أن تحقق الاختصاصات والسلطات الممنوحة للسلطة العامة في الدولة الإسلامية أهدافها وغاياتها -فإن واجب النصرة يستهدف حفظ وحدة الجماعة والقضاء على أي محاولة تستهدف النيل من نظام الحكم القائم، سواء كانت هذه المحاولة خارجية وذلك في الحالات التي يستهدف فيها العدو المساس بكيان الدول الإسلامية، أم كانت داخلية بأن قام متمرد أو باغ بمحاولة الاستيلاء على مقاليد الأمور في الدولة أو الاستقلال بمنطقة من المناطق، ففي كل هذه الحالات يقرر الفقهاء أن الأمة الإسلامية تلتزم بنصرة السلطة العامة وتقديم العون لها.

ويخلط بعض الفقهاء بين واجب النصرة وواجب الطاعة ويرون أن واجب الطاعة يندرج في واجب النصرة، وهذا الرأي لا نسلم به وذلك لاختلافهما من ناحيتين:

الناحية الأولى: أن واجب الطاعة قد لا يترتب عليه في معظم الحالات التي تستوجب الطاعة إلا مجرد التزام سلبي يقع على عاتق المحكومين، ويتمثل في وجوب التزام الجماعة الإسلامية بما تصدر السلطة العامة من قرارات وعدم مخالفتها، في حين أن الواجب الثاني -وهو النصرة- هو في كل الحالات يفرض على الجماعة الإسلامية التزامًا إيجابيًّا محددًا، يقتضي منها أن تبذل ما في وسعها لمناصرة السلطة العامة والدفاع عن النظام القائم ضدّ أي اعتداء أو مساس من الداخل أو الخارج على السلطة الشرعية في الدولة الإسلامية.

الناحية الثانية: أن واجب النصرة يستهدف إلى جانب الدفاع عن نظام الحكم الموجود، فإنه يستهدف أيضًا صون الجماعة الإسلامية من التفتت والانهيار، وذلك بالدفاع عنها ضدّ أي محاولة تستهدف تفتيت وحدة الأمة الإسلامية، وهو ما يستبين من أمره -صلى الله عليه وسلم- حينما سأله أحد الصحابة: ماذا يفعل في حالة الفتنة؟ فقال: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم»([12]).([13]).

ولذلك جاء في إحدى فتاوى دار الإفتاء المصرية عند التعرض لمسائل الولاية العامة بعد ذكر النصوص الموجبة لطاعة ولي الأمر وتحريم الخروج عليه:

«وعلى الأمة الطاعة والنصرة لولي الأمر ما لم يأمر بمعصية؛ للنصوص السابقة.

قال الإمام أبو يعلى: «وإذا قام الإمام بحقوق الأمة وجب له عليهم الطاعة والنصرة، ما لم يوجد من جهته ما يخرج به عن الإمامة، والذي يخرج به عن الإمامة شيئان: الجرح في عدالته، والنقص في ذلك بما يقتضي صحة الإمامة، وتأولناه على أن هناك عذرًا يمنع من اعتبار العدالة حالة العقد، كما كان العذر مؤثرًا في الفاضل»([14]).

وقال العلامة الماوردي: «وَإِذَا قَامَ الإِمَامُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حُقُوقِ الأُمَّةِ، فَقَدْ أَدَّى حَقَّ الله تَعَالَى فِيمَا لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ، وَوَجَبَ لَهُ عَلَيْهِمْ حَقَّانِ: الطَّاعَةُ وَالنُّصْرَةُ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُ. اهـ“([15])([16]).

وثبت في صحيح مسلم عن تميم الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدين النصيحة. قلنا لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم»([17]).

قال الإمام النووي في شرحه على هذا الحديث: « وأما النصيحة لأئمة المسلمين فمعاونتهم على الحق وطاعتهم فيه وأمرهم به وتنبيهم وتذكيرهم برفق ولطف، وإعلامهم بما غفلوا عنه ولم يبلغهم من حقوق المسلمين، وترك الخروج عليهم وتألف قلوب الناس لطاعتهم، قال الخطابي رحمه الله: ومن النصيحة لهم الصلاة خلفهم والجهاد معهم وأداء الصدقات إليهم وترك الخروج بالسيف عليهم إذا ظهر منهم حيف أو سوء عشرة وأن لا يغروا بالثناء الكاذب عليهم وأن يدعى لهم بالصلاح»([18]).

 

 

الفرع الثاني: عدم الخروج على الحاكم العادل.

 

إنَّ من الأنماط الإجرامية الخطيرة التي تهدد أمن الدول ومقدراتها المادية والحضارية، وينتج عنها دائمًا أبشع الأمراض والمخاطر والمفاسد التي تخل بتوازن المجتمع وتكسر شوكة أهله بين بقية المجتمعات لمدةٍ ليست بالقليلة، وتودي بقيم العدالة والرخاء والاستقرار، وتسبب أفد الخسائر في الأرواح والممتلكات: جريمةُ الخروج على ولي الأمر.

هذه الجريمة التي تنبثق غالبًا من منطلقاتٍ طامعةٍ جائرةٍ حاسدة مُفسدة، أثارها في بدايةِ أمرها فكر خارجيٌّ مَقيت، لا يشغل باله بقاءُ أمة ولا نهضةُ مجتمع، وإنما يعنيه فقط تحقيق مصالحه الضيقة، ويعمي بصرَه بريقُ السلطة وحُلْمُ السيطرة على الحكم، وشهوةُ السيطرة على مصائر الناس وأقواتهم للتحكم فيهم وضمان تبعيتهم لما يؤمن به ويدعو إليه.

وتتضاعف خطورة هذه الجريمة في الأزمن المعاصرة التي زادت فيها الوتيرة التواصلية بين الناس في نختلف الأقطار عن طريق وسائل التواصل على شبكة الانترنت العنكبوتية، مما سهَّل خطوات التجنيد والانضمام إلى الإرهاب المنظَّم، وساعد الجماعات المتطرفة على استقطاب شرائح مختلفة من الناس يجمعها فقط عماءُ الطمع وشهوةُ السلطة والتلذُّذ بالتحكم في الناس، أو الطمعُ في ثوابٍ يتوهمونه وهو في الحقيقة أقصر طرق الذنب وأعظمُ أسباب العقاب، كما يجمعهم الجهل بحقيقة الشريعة مع ضيق الأفق واستحكام السطحية رغم وجود طائفة كبيرة  من المتعلمين والمثقفين بين صفوف هذه التنظيمات.

وقد توافرت نصوص التراث من السنة الصحيحة وشروحها، ونقولُ الفقهاء وتحريراتهم، ومسالك الأئمة مع الحكام على تجريم هذا الفعل الفاسد الكاسد الذ ما عُهِد في مجتمعٍ قط أنه أنتج عدالةً ولا أصلح وضعًا ولا جلبَ رخاءً ولا دفع شرًّا.

ولذلك حث النبي -صلى الله عليه وسلم- الناسَ على الصبرِ فيما يجدونه من ولاتهم وحكامهم لأنهم ليسوا معصومين، وطبيعيٌّ أن يصدر عن بعضهم أحيانًا ما ينقمه عليهم الناس ويمقتونه؛ لأن للحكم شئونَه وظروفَه التي لا يكون لأحد فيها اختيار في كثير من الأوقات، فقال فيما رواه ابن عباس -رضي الله عنهما-: «مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَلْيَصْبِرْ، فَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنَ السُّلْطَانِ شِبْرًا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»([19]).

ومن أبرز فتاوى المؤسسات الدينية الرسمية المعتمدة التي أيَّدت هذا الحكم الشرعي الضامن للاستقرار المجتمعي أمنيًّا واقتصاديًّا وفكريًّا على الصعيدين الداخلي والخارجي، فتوى دار الإفتاء المصرية:

حيث كان مما ورد فيها: «قد استقر الرأي عند أهل السنة أن الحاكم المسلم لا يجوز الخروج عليه وإن كان ظالـمًا، وأنه لا يجوز الخروج عليه إلا إذا أظهر كفرًا بواحًا لنا من الله فيه برهان.

وقد أيدت الفتوى ما ذهبت إليه ببعض الأدلة منها: ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ستكون أثرة وأمور تنكرونها» قالوا: يا رسول الله فما تأمرنا؟ قال: «تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم»([20]).

وقوله صلى الله عليه وسلم: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم»، قالوا: قلنا: يا رسول الله، أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: «لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من ولي عليه والٍ فرآه يأتي شيئًا من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يدًا من طاعة»([21]).

وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال: قال: دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه،

فقال فيما أخذ علينا: «أن بايعنا على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرًا بواحًا، عندكم من الله فيه برهان»([22]).

وأشارت الفتوى إلى أن عدم الخروج على الحاكم المسلم هو مذهب أهل السنة، وأوردت تأييدًا لذلك قول الإمام الطحاوي في عقيدته الشهيرة: «ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا، وإن جاروا، ولا ندعو عليهم، ولا ننزع يدًا من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة، ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة»([23]).

وتابعت الفتوى: أن الملحظ الشرعي في أن الحاكم لا ينعزل بمجرد الفسق والمعصية: أنه لا عصمة لأحد بعد الأنبياء عليهم السلام، وأن ذلك لو كان لاضطرب أمر الرعية وانشقت عصاهم ولم يستتب لهم أمن.

وقد عضدت الفتوى هذا الملحظ الشرعي ببعض النقول عن العلماء، منها: ما قاله ابن عبد البر: «وإلى منازعة الظالم الجائر ذهبت طوائف من المعتزلة وعامة الخوارج. وأما أهل الحق وهم أهل السنة فقالوا هذا هو الاختيار، أن يكون الإمام فاضلًا عدلًا محسنًا، فإن لم يكن فالصبر على طاعة الجائرين من الأئمة أولى من الخروج عليه؛ لأن في منازعته والخروج عليه استبدال الأمن بالخوف، ولأن ذلك يحمل على هراق الدماء وشن الغارات والفساد في الأرض، وذلك أعظم من الصبر على جوره وفسقه، والأصول تشهد والعقل والدين أن أعظم المكروهين أولاهما بالترك، وكل إمام يقيم الجمعة والعيد ويجاهد العدو ويقيم الحدود على أهل العداء وينصف الناس من مظالمهم بعضهم لبعض وتسكن له الدهماء وتأمن به السبل فواجب طاعته في كل ما يأمر به من الصلاح أو من المباح»([24]).

ومنها قول العز بن عبد السلام: «وأما الإمامة العظمى ففي اشتراط العدالة فيها اختلاف لغلبة الفسوق على الولاة، ولو شرطناها لتعطلت التصرفات الموافقة للحق في تولية من يولونه من القضاة والولاة والسعاة وأمراء الغزوات، وأخذ ما يأخذونه وبذل ما يعطونه. وقبض الصدقات والأموال العامة والخاصة المندرجة تحت ولايتهم، فلم تشترط العدالة في تصرفاتهم الموافقة للحق لما في اشتراطها من الضرر العام، وفوات هذه المصالح أقبح من فوات عدالة السلطان»([25]).

وذكرت الفتوى الخلاف بين العلماء في حقيقة الكفر البواح حيث فسره النووي بالمعاصي التي لا تحتمل التأويل، وجعل المنازعة عبارة عن الوعظ والإنكار باللسان. بينما ذهب البعض إلى أن الكفر على بابه.

وذكرت الفتوى أن الحافظ ابن حجر استظهر التفصيل في محل (المنازعة)، وكيفيتها بناءً على تعدد روايات الحديث، والتي وردت مرة بذكر الكفر البواح، وأخرى بذكر المعصية بدلًا منه، فيرى أن المنازعة في حالة وقوع الكفر الحقيقي تكون بالخروج على الحاكم وخلعه ولو بالقوة فالإنكار هنا يكون باليد، أما في حالة الفسق والظلم والجور فإن المنازعة تكون بمعنى الوعظ والإنكار عليه برفق، فيكون الإنكار في هذه الحالة باللسان أو بالقلب إذا لم يكن قادرًا كأن خشي على نفسه من بطش الظالم([26]).

وذهبت الفتوى إلى أن الصحيح أن (الكفر البواح) يحمل على ظاهره؛ لأنه هو المتبادر، والحمل على التبادر أولى، فيراد به أن يُعلم من الحاكم ما يقتضي الحكم بردته وخروجه من الإسلام.

وعلى أي معنى من المعاني فالأمر خاضع أيضًا للموازنة بين المصالح والمفاسد، فحتى لو استحق الحاكم العزل ووجدنا أن إجراءات العزل والخلع ستؤدي إلى مفسدة أعظم فلا يجوز الخروج عليه حينئذ أيضًا.

جاء في «المواقف» للقاضي عضد الدين الإيجي وشرحها للسيد الشريف الجرجاني: «(وللأمة خلع الإمام وعزله بسبب يوجبه) مثل أن يوجد منه ما يوجب اختلال أحوال المسلمين وانتكاس أمور الدين كما كان لهم نصبه وإقامته لانتظامها وإعلائها (وإن أدَّى) خلعه (إلى الفتنة احتمل أدنى المضرتين) ([27])([28]).

كما انتهى ترجيح أهل الترجيح من الفقهاء إلى حرمة الخروج والنهي عنه حتى وإن كان الحاكم جائرًا؛ لما يسببه ذلك من مفاسد عظيمة، وقد نص على ذلك ابن حجر العسقلاني فقال: «وقولهم كان يرى السيف يعني كان يرى الخروج بالسيف على أئمة الجور وهذا مذهب للسلف قديم لكن أستقر الأمر على ترك ذلك لما رأوه قد أفضى إلى أشد منه ففي وقعة الحرة ووقعة بن الأشعث وغيرهما عظة لمن تدبر»([29]).

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفرع الثالث: دفع الحقوق المالية.

ومن حقوق الحاكم أيضًا أن يكون له من الأموال ما يكفيه ويكفي أهله حتى يتفرّغ للقيام بشئون دولته على أكمل الوجوه، يعني: عمل راتب له يكفيه ويكفي أهله من غير سرف ولا تقتير؛ لأنه قد اشتغل بالمصالح العامة للدولة في ليله ونهاره، ولم يعد لديه من الوقت ما يتكسب فيه لأهله ونفسه، وقد روى ابن سعد في (الطبقات) أنه لما استُخْلِفَ أبو بكر -رضي الله عنه- أصبح غاديًا إلى السوق وعلى رقبته أثواب يتّجر بها، فلقيه عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح -رضي الله عنهما- فقالا له: أين تريد يا خليفة رسول الله؟ قال: السوق، قال: تصنع ماذا وقد وُلِّيتَ أمرَ المسلمين؟! قال: فمن أين أُطْعِمُ عيالي؟ قال له: انطلق حتى نفرض لك شيئًا، فانطلق معهما ففرضوا له كل يوم شطر شاة -أي: نصف شاة- ولما وجد أبو بكر أن ما خصص له لا يكفيه طلب من المسلمين أن يزيدوه فزادوه بخمسمائة درهم([30]).

ولما تولى عمر بن الخطاب أمر المسلمين بعد أبي بكر مكث زمانًا لا يأخذ شيئًا من مال المسلمين حتى دخلت عليه في ذلك خصاصة -يعني: شدة- فاستشار الصحابة فيما يصلح له من هذا المال بعد أن اشتغل بمصالح المسلمين عن مصالح نفسه، فقال عثمان: كُل وأطعم، وقال علي: غداء وعشاء، فأخذ عمر بذلك، وكان يستنفق كل يوم درهمين له ولعياله، وأنه أنفق في حجته مائة وثمانين درهمًا فقال: قد أسرفنا في هذا المال([31]).

وفي هذا نرى أنه من حق الحاكم أن يأخذ راتبًا من خزانة الدولة ولو كان موسرًا؛ وذلك لكونه قد احتبس نفسه لمصلحة المسلمين وأصبح مشغولًا بمصالحهم عن شئونه الخاصة، وهو في هذا كأي موظف آخر في الدولة ولو كان موسرًا، وأما امتناع علي بن أبي طالب وعمر بن عبد العزيز عن الأخذ من بيت المال فهو لا يدل على المنع؛ لأن معناه أنهم تنازلوا عن حقوقهم، ولو أنهما أخذا من بيت المال ما كان عليهما من حرج؛ لأن أبا بكر وعمر -رضي الله عنهما- قد أخذا مخصصاتهما من بيت مال المسلمين وكانا مع ذلك من مياسير المسلمين؛ لأنه لا حرج في أن يأخذ الإنسان مقابل عمله، والخليفة كما ذكرنا ينشغل بأمور المسلمين عن شئونه الخاصة([32]).

وقد نصت دساتير الدول على وجوب تخصيص راتبٍ شهري دائم لرئيس الدولة -في الدول ذات النظام الجمهوري- نظير تفرغه للقيام بشئون الدولة، ويراعى في مخصصاته كفايته وعائلتِه بما يليق بهذا المنصب وبما يتناسب مع ظروف كل زمن؛ ففي مصر مثلًا: كان راتب رئيس الجمهورية ينظمه القانون رقم 99 لسنة 1987م والذى ينص في مادته الأولى على أن يحدد مرتب رئيس الجمهورية بمبلغ 12 ألف جنيه سنوياً، وبدل تمثيل بمبلغ 12 ألف جنيه سنوياً.

ثم في مايو من عام 2014م أصدر الرئيس عدلي منصور قراراً بقانون باستبدال نص الفقرة الأولى من القانون رقم 99 لسنة 1987 بتحديد مرتب ومخصصات رئيس الجمهورية بالنص الآتي: “يحدد مرتب رئيس الجمهورية بمبلغ مقداره واحد وعشرون ألف جنيه شهرياً بالإضافة إلى بدل تمثيل بمبلغ مقداره واحد وعشرون ألف جنيه شهرياً”.

وقد تضمنت المذكرة الإيضاحية للحكومة الإشارة إلى أنه “قد مضى على القانون رقم 99 لسنة 1987م زمن طويل طرأت فيه متغيرات كثيرة وأحداث اقتصادية وسياسية، كما خلصت المذكرة الإيضاحية إلى أن القانون لم يعد مواكباً لظروف العصر ومتطلباته، فضلاً عن صدور دستور جديد مما اِقتضى إصدار قانون جديد يحدد المرتب وبدل التمثيل لرئيس الجمهورية إعمالًا للمادة (145) من الدستور، أخذًا في الاعتبار ما صدر من قوانين وقرارات سابقة بمنح علاوات خاصة وضمها للأجور الأساسية لجميع العاملين في الدولة، بما في ذلك ذوى المناصب العامة.

بينما يختلف الأمر في الأنظمة الملكية؛ حيث يكون للملك امتيازات أكبر في التملّك، وحيازة نسبة ثابتة من الناتج القومي لدولته حسبما تقرره دساتير الأنظمة الملكية

 

([1]) القاموس المحيط، للفيروز آبادي، (3/ 62).

([2]) لسان العرب، لابن منظور، (8/ 240، 241).

([3]) انظر: التعريفات، للجرجاني، (1/ 182)، والموسوعة الفقهية الكويتية، (28/ 319).

([4]) صحيح البخاري، كتاب: الجهاد والسير، باب: يقاتَل مِن وراء الإمام ويُتَّقَى به، رقم (2957)، (4/ 50)، وصحيح مسلم، كتاب: الإمارة، باب: وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية، رقم (1835)، (3/ 1466).

([5]) ينظر: أحكام طاعة ولي الأمر -رئيس الدولة- بين الشريعة والقانون، د. محمد إسعاف فياض شتيات، رسالة ماجستير بجامعة اليرموك 2005م، (ص 6).

([6]) ينظر: الوجيز في القانون الدستوري، د. نعمان أحمد الخطيب، رسائل علمية، جامعة مؤتة، ط2، 1998م، (ص 7).

([7]) ينظر: طاعة الرؤساء في الوظيفة العامة، د. عاصم أحمد عجيلة، ، ط عالم الکتب، 2009م (ص 16- 20).

([8]) ينظر: أحكام طاعة ولي الأمر -رئيس الدولة- بين الشريعة والقانون، د. محمد إسعاف فياض شتيات، (ص 13).

([9]) ينظر: النظم السياسية: الدولة والحكومة، د. محمد كامل ليلة، دار الفكر، (ص 12).

([10]) انظر: موقع دار الإفتاء المصرية، الفتوى رقم (5192)، بتاريخ 01 مايو 2020م.

([11]) انظر: موقع دار الإفتاء الأردنية، الفتوى رقم (3702)، بتاريخ 12-05-2022م.

([12]) صحيح البخاري، كتاب: الفتن، باب: كيف الأمر إذا لم تكن جماعة، (7084)، (9/ 51).

([13]) السياسة الشرعية،  مناهج جامعة المدينة العالمية، (ص 572، 573).

([14]) انظر: الأحكام السلطانية، للقاضي أبي يعلى، ط: دار الكتب العلمية (ص 28).

([15]) انظر: الأحكام السلطانية، للماوردي، ط. دار الكتب العلمية (ص 19).

([16]) الموقع الرسمي لدار الإفتاء المصرية، فتوى رقم (87)، بتاريخ 30 سبتمبر 2012م.

([17]) صحيح مسلم، كتاب: الإيمان، باب: بيان أن الدين النصيحة، رقم (55)، (1/ 75).

([18]) انظر: شرح النووي على مسلم، دار إحياء التراث العربي – بيروت، ط2، 1392ه (2/ 38).

([19]) صحيح البخاري، كتاب: الفتن، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «سترون بعدي أمورا تنكرونها»، رقم (7053)، (9/ 47).

([20]) أخرجه البخاري، رقم (3603)، ومسلم، رقم (1843).

([21]) أخرجه مسلم، رقم (1855).

([22]) أخرجه البخاري، رقم (7056)، ومسلم، رقم (1709).

([23]) انظر: شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي (2/540)، مؤسسة الرسالة-بيروت.

([24]) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد لابن عبد البر (23/279)، وزارة عموم الأوقاف والشئون الإسلامية- المغرب.

([25]) قواعد الأحكام في مصالح الأنام للعز بن عبد السلام (1/79)، مكتبة الكليات الأزهرية-القاهرة.

([26]) انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري، لابن حجر (13/8)، دار المعرفة-بيروت، 1379هـ.

([27]) المواقف، للإيجي وشرحها للشريف الجرجاني (3/595)، دار الجيل-بيروت.

([28]) انظر الفتوى كاملةً في موسوعة الفتاوى الإسلامية من دار الإفتاء المصرية (39/51-57)، القاهرة، 2011م..

([29]) ينظر: تهذيب التهذيب، لابن حجر العسقلاني، (2/ 288).

([30]) الطبقات الكبرى، لابن سعد (3/ 184، 185).

([31]) الطبقات الكبرى، لابن سعد (3/ 234).

([32]) السياسة الشرعية،  مناهج جامعة المدينة العالمية، (ص 575، 576).

اترك تعليقاً