البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الفصل الرابع: الفتوى وقضايا الحياة السياسية

المبحث الأول: حق المشاركة في الحياة السياسية

70 views

لا يقتصر حق الإنسان في المنظور الشرعي على مجرد العيش ضمن المجتمع والتمتع بخيراته ومشاركة غيره من البشر في الحياة بشكل عام، وإنما يكفل الشرع والقانون للإنسان حقوقًا أخرى يسعى إليها -إن أراد- عن طريق تحصيل وسائلها المشروعة وبطرقٍ قانونية مستقيمة، فيحق له أن يجني من المال ما يزيد على احتياجاته من المأكل والمشرب والملبس عن طريق تكوين الثروة وحيازة الأموال على اختلاف صورها وأنواعها، لكن بشرط أن يكون تحصيله لها بالطرق المشروعة الخالية عن الظلم والغش والسرقة والاختلاس والطرق الملتوية للكسب، وكذلك يحق له ممارسة المهن التي تدر عليه منافع كثيرة ماديًّا ومعنويًّا بشرط أن يحصّل شروطها من التعليم إن كانت مهنًا طريقا التعليم والدراسة، أو المهارة والإتقان إن كانت مهنًا حِرَفية، ويحق له التمتع بالحقوق المدنية من بناء المسكن والانتفاع بالمرافق، ورفع الدعاوى لطلب حقه، والشهادة مع غيره بالعدل لرفع الظلم عنه ونحو ذلك مما يطمح إليه الإنسان في كافة وجوه المعيشة، ومن هذه الحقوق التي كفلها الشرع للإنسان: المشاركة في الحياة السياسية، بشرط أن يكون مستوفيًا لشروط المشاركة من كمال الأهلية والتمتع بجنسية بلده التي يشارك في سياستها، ونحو ذلك.

والمشاركة في الحياة السياسية لها صور: أدناها: حقه في الانتخاب والتصويت لاختيار من يثق فيه لتمثيله في المجالس الإدارية والسياسية، أو السلطات السيادية والخدمية، حتى يضمن بذلك وصول حقوقه المدنية إليه عن طريق من يثق في كفايتهم السياسية وأمانتهم الأخلاقية وعدالتهم ورجاحة رأيهم.

وكذلك للإنسان حق الترشح للمجالس الإدارية والنيابية طالما كان مستوفيًا لشروط الترشح لها، ولا يحق لأحد حينئذٍ أن يمنعه من الترشح لهذه المناصب طالما لم يفقد الشروط، ولم يرتكب جنايةً تمنعه من نيل هذا الحق.

وكذلك من حقوقه السياسية: الاطلاع على حالة البلد التي يعيش فيها من حيث الاقتصاد والأوضاع الأمنية ليطمئن على حياته ومستقبله، ولا يحق لأحد أن يغرر به أو يُرْكِسَه في الجهالة بحيث يعيش لا يعلم شيئًا عن بلده.

ولذلك سنتناول في هذا المبحث حقوق الإنسان في المشاركة في الحياة السياسية ضمن المطلبين التاليين:

المطلب الأول: الترشح للمجالس النيابية ولرئاسة الدولة.

يُوجِبُ الاجتماعُ البشريُّ على أهل كل مجتمع أن يتخيّروا من بينهم من ينوب عن إرادة مجموعهم في إدارة شئون الدولة التي يعيشون فيها؛ وذلك لأنه لا يُتصوّر أن ينشغل كل واحد من أفراد الشعب بالنظر في سياسة الدولة وإدارة شئونها، وإنما الضرورة والمنطق والواقع يحتّم على الناس أن يكونوا طوائف، طائفة تزرع، وطائفة تصنع، وطائفة تتعلم، وطائفة تدرّس، وطائفة تتاجر، وطائفة تحمي وتدافع وتقوم على حراسة الدولة، وطائفة تعتني بالشئون الداخلية للدولة فتدير مواردها وتنظر في احتياجات أفرادها وحقوقهم وواجباتهم وما لهم وما عليهم، وطائفة تعتني بالشئون الخارجية للدولة وعلاقاتها بغيرها من اتفاقيات ومعاهدات ومنازعات ومشاركات ونحو ذلك.

 

ولما كان الأمر هكذا؛ صار من الواجب أن يكون من يتولى شئون الدولة وإدارتها سياسيًا صالحًا لتمثيل عموم الشعب في المكان الذي يؤدي دوره فيه من مراكز خدمة الدولة، بدءًا من أعضاء المجالس المحلية في القرى والمدن، مرورًا بالمجالس النيابية والوزارية، وحتى التمثيل الأعظم في منصب رئيس الدولة.

هذه الصلاحية تتحقق بعدة شروط ذكرناها سابقًا عند الحديث عن السلطات الثلاث في الدولة، لكن الذي يعنينا بيانه هنا هو أن هذه المناصب السياسية والإدارية منها ما ينال بالتعيين، ومنها ما ينال بالانتخاب، والأصل في أي تمثيلٍ لفئات الشعب في أي مجلسٍ نيابيٍّ أن تنال عضويته بالانتخاب؛ لأن معنى النيابة أن يوكّل أحدٌ عنه غيرَه في شيءٍ ما لينوب عنه في إدارته وطلب منافعه، لكن لمّا كانت هذه المجالس تستلزم وجود كفاءات علمية وخبرات تخصصية قد لا تكون معروفةً عند كثير من الناس لبعدها عن وسائل الإعلام وانشغالها بالبحث والدراسة في تخصصاتها، مما يعني أنها لو دخلت معتركات الانتخاب والتصويت فقد لا يسعفها الناخبون في نيل عضوية تلك المجالس، فتكون النتيجة امتلاء مقاعد العضوية بمن لا فائدة من وجودهم ممن لا خبرة ولا علم لديهم، وبالتالي لا تؤدي هذه المجالس وظيفتها على الوجه الأكمل، كان من الحكمة أن نخصص بعض العضويات في كل مجلس لتعيين الكفاءات والخبرات التخصصية فيها.

وبناءً على هذا فإن العدالة البشرية والإنسانية تقتضي أن يتمتع كل إنسانٍ في نطاق الدولة التي يعيش فيها بحق الترشُّح لتمثيل غيره في المجالس النيابية، أو في منصب الرئاسة طالما يرى من نفسه بدنيًّا وفكريًّا لياقةً بهذه المناصب، وكان مستوفيًا للشروط التي يحتّمها الواقع والعقل والمنطق والقانون والتشريع الحاكم لهذه الدولة.

فالمشاركة السياسية في المنظور الإسلامي للإدارة وكذلك في الدول التي تتبنى لدساتير الديمقراطية الحرة ليست حكرًا على أحد، ولا يحق لأي مجموعةٍ أو طائفةٍ داخل الدولة أن تستأثر بهذا الحق دون بقية الممثلين للشعب([1]).

وهذا الحق المكفول لكل فرد في الدولة متى استوفى الشروط يتضمن أمرَين: حقه في ترشيح نفسه للمنصب أو الوظيفة، وحقه في ترشيح غيره للمنصب أو الوظيفة، وترشيح الغير مختلفٌ عن انتخابه، فالانتخاب يكون من الشخص لمن رشَّحه هو ابتداءً أو لمن رشّحه غيرُه ورأى هو أن ذلك المرشَّح كفؤٌ لذلك المنصب أو لتلك النيابة العامة او الخاصة؛ وترشيح الشخص لغيره جائز بشرط أن يكون المقصود منه صالحُ الدولة وليس مجرد المجاملة للمرشَّح. فترشيح الإنسان لغيره ممن يعلم صلاحه وأمانته وكفاءته البدنية والعلمية والنفسية لتولي منصب أو وظيفة لا حرج فيه؛ لأنه لا حظ لنفسه في هذا الأمر؛ وإنما المصلحة فيه للدولة التي يقوم بوظائفها الأكْفاء من أبنائها.

وهذا اللون يدخل فيه ما يسمى بوزارة التفويض؛ وهي أن يرشِّح الحاكمُ من يرى فيه أهليةً تليق بالمنصب الموكول إليه؛ وقد رشَّح موسى -عليه السلام- أخاه هارون -عليه السلام- لمنصب الوزارة في تدبير شئون بني إسرائيل وخلافته فيهم إن غاب فقال: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي، هَارُونَ أَخِي، اُشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه: 29-32] .

أما ترشيح الشخص لنفسه في منصبٍ أو وظيفة أو نيابةٍ أو رئاسة فقد وقف العلماء تجاهه على ناحيتين؛ في ناحية منهما نجد من العلماء من رجَّحوا جانب الورع، وطلبوا من الشخص ألا يسعى وراء هذا الحق بنفسه، لأنها مسئولية عظيمة يُحاسَب عليها الشخص في الدنيا والآخرة، وأن  الأولى له أن يسكت عن المطالبة به، لكن إذا رشّحه غيرُه أو حُمِل على تولّيه فله أن يقبلَه ويتوكل على الله في توفيقه للقيام به، ويستدلون على ذلك بنصيحة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأبي ذر حين سأله ولايةً ما ذات يوم فقال: يا رسول الله: ألا تستعملني؟ فقال له: «يا أبا ذر؛ إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزيٌ وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدَّى الذي عليه فيها»([2]).

وقال الإمام النووي في تعليقه على هذا الحديث: «هذا الحديث أصل عظيم في اجتناب الولايات، لا سيما لمن كان فيه ضعف عن القيام بوظائف تلك الولاية»([3]).

ووصيته لعبد الرحمن بن سمُرة -رضي الله عنه- حين قال له: «يا عبد الرحمن بن سمُرة، لا تسأل الإمارةَ؛ فإنك إن أُعْطِيتَها عن مسألةٍ وُكِلْتَ إليها، وإن أُعْطِيتَها من غير مسألةٍ أُعِنْتَ عليها»([4]).

وكذلك ما رواه البخاري عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- أنه قال: “دخلتُ على النبي -صلى الله عليه وسلم- أنا ورجلان من قومي، فقال أحدهما: أَمِّرْنا يا رسول الله؛ -يعني: اجعل لنا منصبًا أو ولايةً في إمارة على بلد من البلدان-، وقال الآخرُ مثله، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «إنَّا لا نُوَلِّي هذا مَن سأله ولا من حرَصَ عليه»”([5]).

وفي ناحية أخرى أجاز فريقٌ من العلماء ترشّح الإنسان بنفسه لتولي منصب أو وظيفة في الدولة متى كان يعلم من نفسه القدرة على أعبائها، وألا يكون القصد من ترشّحه تحصيل مصالحه الشخصية، واستدل هؤلاء بفعل سيدنا يوسف -عليه السلام- حين قال لملك مصر: {اجْعَلْني عَلَى خَزَائِنِا لأَرْضِ إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمُ}[يوسف: 55]

قال الآلوسي: «وفيه دليل على جواز طلب الولاية، إذا كان الطالب ممن يقدر على إقامة العدل، وإجراء أحكام الشريعة، وإن كان من يد الجائر أو الكافر، وربما يجب عليه الطلب إذا توقف على ولايته إقامة واجب مثلًا وكان متعينًا لذلك»([6]).

وقد أشار الفقهاء القدامى إلى هذا الحق صراحةً مبينين أنه مكفول لكل من فيه أهلي القيام بأعباء المنصب وتحقيق مصالح الدولة والناس، يقول الإمام الماوردي: «وليس طلب الإمامة مكروهًا؛ فقد تنازع فيها أهل الشورى، فما رُدَّ عنها طالب، ولا مُنِع منها راغب»([7]). فإن كان هذا مكفولًا لذوي الأهلية في منصب الإمامة فهو فيما دونها من المناصب أولى.

ولا يدخل ترشيح الإنسان نفسَه في منصب من المناصب في باب المدح والتباهي المذموم؛ رغم أن العلماء أجازوا أن يعرِّف الإنسان بنفسه ليُحْتَرَم ويُعْرَفَ بما فيه من الخير، يقول الإمام الآلوسي: «يجوز للإنسان أن يمدح نفسه بالحق إذا جُهِل أمره»([8]).

ويقول ابن الجوزي: «إذا خلا مدحُ الإنسانِ نفسَه من بغيٍ وتكبر، وكان مراده به الوصول إلى حق يقيمه، وعدل يحييه، وجور يُبطِله، كان ذلك جميلًا جائزًا»([9]).

ويستفاد من هذه النصوص جواز أن يترشح الإنسانُ لتولي المناصب الإدارة والنيابية في سائر مجالس الدولة طالما يرى من نفسه القدرة والأمانة والكفاءة العلمية والنفسية، ويعلم أنه لا يكاد يوجد من يقوم بهذا المنصب أفضل منه، وهذا دليلٌ كبير على الإيجابية والمرونة في التشريع([10]).

 

 

المطلب الثاني: حق الانتخاب والتصويت.

ويعني هذا الحق: أن يكون لكل إنسانٍ في بلدٍ ما الحقُّ المَدَنيُّ في انتخاب من يثق في حكمته وأمانته ليمثّله في المجالس النيابية أو حتى النيابةِ الكبرى المتمثلة في منصب الرئاسة في نطاق هذه الدولة التي يعيش فيها.

أو بالتعبير القانوني هو: «السلطة القانونية المقررة للناخب، لا لمصلحته الشخصية ولكن لمصلحة المجموع»([11]).

ويتضمن هذا الحق الاشتراك الشخصي لكل مواطنٍ مكتمل الأهلية في الانتخابات المختلفة، والاستفتاءات المتنوعة، والمشاركة بصوته في الموافقة أو الاعتراض على ما تصدره الأجهزة السيادية من قرارات عامة مع الالتزام بمعايير التصويت المقنَّنة في كل دولة بحسبها([12]).

وتنص على كفالة هذا الحق لكل إنسانٍ في بلده طالما استوفى شروط الأهلية اللازمة لذلك كافة الآيات التي تأمر بالشورى وتشارك الرأي والأمر في إدارة البلاد وتسيير شئون العباد، كما في قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}[آل عمران: 159]، وقوله: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}[الشورى: 38]. فبينت الآية وجوب المشاورة في تدبير الأمور، والمشاورة لا تتم إلا بالانتخاب والتصويت.

وكذا من السنة قول النبي -صلى الله عليه وسلم- للأنصار في بيعة العقبة الثانية: «أخرجوا إليَّ منك اثني عشر نقيبًا يكونون على قومهم»([13]).

وبهذا أرسى النبي -صلى الله عليه وسلم- مبدأ الانتخابِ، وشرع بذلك أول سابقةٍ دستورية في الإسلام.

وهذا الحق ليس مشروطًا بمال ولا نسبٍ ولا نفوذ، وإنما شرطه العدالة والكفاءة وسداد الرأي والأهلية البشرية العامّة لمزاولة مثل هذه التصرفات.

وقد نص قانون مباشرة الحقوق السياسية المصري المعدَّل في 2020م في مادته الأولى على من له حق الاقتراع والانتخاب، وكذا الفئات المعفية من مباشرة هذه الحقوق على النحو التالي:

تنص المادة الأولى من القانون: “على كل مصري ومصرية بلغ ثماني عشرة سنة ميلادية أن يباشر بنفسه الحقوق السياسية الآتية:

أولًا: إبداء الرأي في كل استفتاء ينص عليه الدستور.

ثانيًا: انتخاب كل من (رئيس الجمهورية ، أعضاء مجلس النواب، أعضاء المجالس المحلية).

ويعفى من أداء هذا الواجب ضباط وأفراد القوات المسلحة الرئيسية والفرعية والإضافية وضباط وأفراد هيئة الشرطة طوال مدة خدمتهم بالقوات المسلحة أو الشرطة.

ويكون انتخاب رئيس الجمهورية وأعضاء مجلس النواب وأعضاء المجالس المحلية طبقا لأحكام القوانين الخاصة التي تصدر في هذا الشأن.

أما المادة الثانية من القانون فقد حددت عددًا من الفئات المحرومة من مباشرة الحقوق السياسية بشكل مؤقت، إذ لا يحق لها التصويت في الانتخابات، وهذه الفئات هي:

1- المحجور عليه خلال مدة الحجر.

2 – المصاب باضطراب نفسى أو عقلي، خلال مدة احتجازه الإلزامي بإحدى منشآت الصحة النفسية، طبقًا للأحكام الواردة بقانون رعاية المريض النفسي الصادرة بالقانون 71 لسنة 2009.

3- من صدر ضده حكم باتّ لارتكابه جريمة التهرب من أداء الضريبة أو لارتكابه الجريمة المنصوص عليها في المادة 132 من قانون الضريبة على الدخل الصادر برقم 91 لسنة 2005.

4 – من صدر ضده حكم نهائي لارتكابه إحدى الجرائم المنصوص عليها في المرسوم بقانون رقم 344 لسنة 1952 بشأن إفساد الحياة السياسية.

5 – من صدر ضده حكم نهائي من محكمة القيم بمصادرة أمواله.

6 – من صدر ضده حكم نهائي بفصله، أو بتأييد قرار فصله من الخدمة الحكومية أو القطاع العام أو قطاع الأعمال العام، لارتكابه جريمة مخلة بالشرف أو الأمانة.

7 – من صدر ضده حكم نهائي لارتكابه إحدى جرائم التفالس بالتدليس أو بالتقصير.

8 – المحكوم عليه بحكم نهائي في جناية.

9 – من صدر ضده حكم نهائي بمعاقبته بعقوبة سالبة للحرية لارتكابه إحدى الجرائم المنصوص عليها فى الفصل السابع من هذا القانون.

10 – من صدر ضده حكم نهائي بمعاقبته بعقوبة الحبس:

أ- لارتكابه جريمة سرقة أو إخفاء أشياء مسروقة أو نصب أو خيانة أمانة أو رشوة أو تزوير أو استعمال أوراق مزورة أو شهادة زور أو إغراء شهود أو جريمة للتخلص من الخدمة العسكرية والوطنية.

ب- لارتكاب إحدى الجرائم المنصوص عليها في الباب الرابع من الكتاب الثاني بشأن اختلاس المال العام والعدوان عليه والغدر، أو في الباب الرابع من الكتاب الثالث من قانون العقوبات بشأن هتك العرض وإفساد الأخلاق، ويكون الحرمان لمدة خمس سنوات من تاريخ صدور الحكم المشار إليه في البنود السابقة، ولا يسرى إذا رُدّ للشخص اعتباره أو أُوقف تنفيذ العقوبة بحكم قضائي([14]).

ومن الفتاوى التي أثبتت حق الأفراد في الانتخاب والترشيح للمناصب والوظائف متى كانوا أهلًا لذلك:

ما جاء في فتاوى دار الإفتاء الأردنية مما يوضح مشروعية حق الانتخاب لأفراد الشعب، وكان نص الفتوى كما يلي:

«السؤال :

هل تشجيع الناس وحثهم على تسجيل بطاقاتهم الانتخابية ودعوتهم إلى ممارسة حقهم الانتخابي جائز شرعاً؟

الجواب :

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله

الانتخابات وسيلة شرعية لاختيار النواب، تمثل هذه الوسيلة إحدى آليات قاعدة الشورى التي تقررها الشريعة الإسلامية بالأدلة الكثيرة، بل سبق الصحابة رضوان الله عليهم بالعمل بهذه الآلية في بداية التاريخ، كما قال الحافظ ابن كثير رحمه الله – في معرض حديثه عن جمع عبد الرحمن بن عوف أصوات الناس لصالح عثمان بن عفان أو علي بن أبي طالب رضي الله عنهما -: “نهض عبد الرحمن بن عوف يستشير الناس فيهما، ويجمع رأي المسلمين برأي رؤوس الناس جميعا وأشتاتا، مثنى وفرادى، سرا وجهرا، حتى خلص إلى النساء في خدورهن، وحتى سأل الولدان في المكاتب، وحتى سأل من يرد من الركبان والأعراب إلى المدينة، وفي مدة ثلاثة أيام بلياليهن” انتهى. “البداية والنهاية” (7/151)

وقد عُرف النواب سابقا باسم “العرفاء”، وهم الذين يتولون أمر سياسة الناس وحفظ أمورهم، فكان صلى الله عليه وسلم يرجع إليهم لمعرفة آراء الناس في القضايا العامة، وكان يقول: (ارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعُوا إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ) رواه البخاري.

ولذلك فتشجيع الناس على الانتخاب والتصويت أمر مشروع، بشرط أن يقترن بتوعية الناس نحو ضرورة انتخاب من يحفظ على الأمة دينها، ولا يخالف دستور الدولة الذي ينص على أن دين الدولة هو الإسلام، فيحافظ على هذا المبدأ أثناء ممارسته السلطة التشريعية، ولا يسوس الناس بما يخالف الشريعة، ويراقب أيضا التزام الحكومة بما فيه فائدة للدين والوطن والأمة، ولا يكون غرضه من الترشح هو المناصب الدنيوية الزائلة، بل العمل لصالح دينه وأمته، وبهذا نضمن أن يصل إلى مجلس النواب الصالحون القادرون على حمل الأمانة، ونقطع الطريق على العاجزين والمفسدين. والله أعلم»([15]).

كما نصت في فتوى أخرى على ضرورة مراعاة الأمانة في انتخاب الأكْفاء الشرفاء، وأن الفرد مسئول أمام الله تعالى عن انتخابه لمن لا يصلح للمنصب المرشح له لتحصيل منفعة عاجلة من حطام الدنيا، فجاء في فتواها:

«السؤال :

ما رأي الشرع بخصوص قيام المرشحين بدفع مبالغ مالية إلى الناخبين نظير التصويت له في الانتخابات؟

الجواب :

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله

إن مجلس النواب له واجبات وعليه أعباء كبيرة؛ فهو من جهة سلطة تشريعية، ومن المعلوم أن التشريع لله عزّ وجل؛ فالحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله تعالى، ولكن هناك أمور إدارية تتعلق بشؤون الحياة المختلفة تحتاج إلى تقنين على شكل نصوص قانونية ملزمة تقع ضمن سلطة ولي الأمر، كتقييد المباح وصياغة الأنظمة والتشريعات بما يحقق الصالح العام، ومن ثم فإن هذه القوانين والأنظمة تُعرض على مجلس النواب لإقرارها أو تعديلها أو رفضها.

ومن جهة أخرى فإن من واجبات مجلس النواب مراقبة السلطة التنفيذية لواجباتها، وذلك من باب المحافظة على مصالح الوطن والتعاون على البر والتقوى.

ولذلك فمسؤولية النائب مسؤولية كبيرة وتضييعها تضييع للأمانة العظيمة، والله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) الأنفال/27. والتصويت في الانتخابات النيابية أمانة، ينبغي على المسلم أن يحافظ عليها ويؤديها بالشكل الصحيح، وهي كذلك شهادة سيسأل عنها أمام الله تعالى، قال الله تعالى: (سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ) الزخرف/19، وبما أن المسلم سيسأل عن هذه الشهادة أمام الله تعالى فلا يجوز له أن يأخذ شيئاً من المال أو الهدايا ثمناً لصوته وشهادته من أي من المرشحين مقابل انتخابه لأن هذا يؤدي إلى أن يصل إلى مجلس الأمة من ليس أهلاً لذلك، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ). قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (إِذَا أُسْنِدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ؛ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ) رواه البخاري.

ويحرم على المرشح كذلك أن يدفع المال للناس مقابل انتخابه وحشد الأصوات لصالحه سواء أكان نقداً، أم هدايا، ومن يفعل ذلك كيف يؤتمن على مصالح وطنه ومقدراته؟!

ومن غير اللائق بالمواطن الأردني أن يتعامل مع قضية الانتخابات بهذا الأسلوب، ومن غير اللائق على النائب كذلك أن يحشد الأصوات لصالحه بهذه الطريقة، ومما يذمّ به المجتمع أن تكون المجالس النيابية قائمة على شراء الضمائر، وماذا يُتوقع ممن يرى المال كل شيء فيبيع صوته، أو يشتري صوت غيره؟! وماذا يُتوقع منه إذا صار صاحب قرار؟!

إن المنطق يقول بأنه سيحاول أن يسترد ما دفع من خلال استغلاله لمنصبه، واستغلال المنصب للمصالح الشخصية حرام شرعاً وجريمة يحاسب عليها القانون.

وإننا نؤكد أن الأردنيين جميعاً يرون أن الشخص الذي يتبع هذا الأسلوب لا يصلح أن يكون نائباً يمثلهم في مجلس الأمة، وأن المواطن الأردني لا يبيع صوته ولا ضميره، وإن وجد شيء من ذلك فهي تصرفات نادرة يجب أن نحاربها ونقف ضدها، لا سيما وأن القانون يعتبر بيع الأصوات وشراءها جريمة يعاقب عليها.

إن بلدنا هو بلد الشرفاء بكل مواقفهم الخاصة والعامة، وتاريخنا يشهد لنا، فكم وقفنا إلى جانب الحق رغم الإمكانيات المتواضعة، ولا يمكن أن نطأطأ رؤوسنا ونخجل من قول كلمة الحق مقابل المال، فالحق أحق أن يتبع، والله تعالى أعلم»([16]).

شروط الترشّح والانتخاب:

وسواء كان الإنسان سيرشّح نفسه أو سينتخبُ غيرَه لوظيفةٍ أو منصبٍ من مناصب الدولة من أدناها إلى أعلاها فلا بد من تحقق شرطين أساسيَّيْنِ جعلهما القرآن ركيزةَ التنصيبِ في المهام بشكل عام، وهما: القوة، والأمانة.

حيث قال الله تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}[القصص: 26].

قال الطاهر بن عاشور: «وَجُمْلَةُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ عِلَّةٌ لِلْإِشَارَةِ عَلَيْهِ بِاسْتِئْجَارِهِ، أَيْ لِأَنَّ مِثْلَهُ مَنْ يُسْتَأْجَرُ. وَجَاءَتْ بِكَلِمَةٍ جَامِعَةٍ مُرْسَلَةٍ مَثَلًا لِمَا فِيهَا مِنَ الْعُمُومِ وَمُطَابَقَةِ الْحَقِيقَةِ بِدُونِ تَخَلُّفٍ، فَالتَّعْرِيفُ بِاللَّامِ فِي الْقَوِيُّ الْأَمِينُ لِلْجِنْسِ مُرَادٌ بِهِ الْعُمُومُ. وَالْخِطَابُ فِي {مَنِ اسْتَأْجَرْتَ} مُوَجَّهٌ إِلَى شُعَيْبٍ، وَصَالِحٌ لِأَنْ يَعُمَّ كُلَّ مَنْ يَصْلُحُ لِلْخِطَابِ لِتَتِمَّ صَلَاحِيَّةُ هَذَا الْكَلَامِ لِأَنْ يُرْسَلَ مَثَلًا»([17]).

فالقوة: هي الخبرةُ المتحصّلة من العلمِ والحكمةِ وسدادِ الرأي، والكفاءةُ البدنيةُ والنفسيةُ التي تجعله متزنًا قادرًا على ضبط شئون وظيفته وإحكام أمر منصبه بحزمٍ وبصيرة، والأمانة: هي العدالة التي تجعله مستقيمًا شريفًا؛ يقدّم رضا اللهِ ومصلحة الوظيفة والناس والدولة على أهوائه ومصالحه الشخصية.

ويدخل في شرط الكفاءة ما تعارف عليه أهل كل عصرٍ من شروطٍ علمية وبدنية واجتماعية وأخلاقية في من يترشّح لوظيفةٍ أو منصبٍ من مناصب الدولة حسب طبيعة المقام الذي سيخدم فيه بلده، وكذلك ما تشترطه الجهات التشريعية من شروطٍ خاصة بعمليات الانتخاب والتصويت مما يضمن النزاهة وسلامة النتائج وتحقيق الصالح العام، فحق الترشح للمناصب الرئاسية أو النيابية أو الوظيفية وكذلك حق الانتخاب والتصويت لاختيار من يمثّلون الشعب في هذه الوظائف وإن كانا حقَّينِ مكفولَين للجميع إلا أنهما منضبطان بعدة ضوابط وشروط لا بد من تحققها حتى تكون ثمرة هذه الحرية والحقوق نافعةً وعائدةً بالخير والرخاء على الدولة وأفرادها ومواردها ونظامها.

وقد جاء في فتاوى دار الإفتاء الأردنية ما يوضح شرعية هذه الشروط، ومن ذلك فتواها التي نصها:

«السؤال :

ما الحكم في حال عرض أحد المرشحين للانتخابات البرلمانية على أحد الأشخاص أن يترشح معه في قائمته لإكمال العدد وجلب الأصوات، دون أن يتحمل الشخص أي تكاليف مادية، بالإضافة إلى مبلغ مالي يحصل عليه مِن قِبَل المرشح؟

الجواب :

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله

النائب عليه واجبات وأعباء كبيرة؛ فمن أراد الترشح للانتخابات النيابية فعليه أن يكون جاداً مدركاً ما ينتظره من مسؤوليات، واجداً في نفسه القدرة على القيام بأعباء النيابة والقيام بواجباتها. قال تعالى: (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) القصص/26.

فمن لم ير في نفسه القدرة على تحمل المسؤولية، أو خشي التقاعس عن القيام بأعبائها، فلا يجوز له الترشح، وإن غطيت تكاليف حملته من الآخرين.

وكذلك يحرم على المرشح أن يدفع المال مقابل حمل بعضهم على الترشح في قائمته إن لم تتوفر فيهم الكفاءة للمنصب، سواء فعل ذلك لمصلحة نفسه أم للإضرار بالآخرين، ومن يفعل ذلك كيف يؤتمن على مصالح وطنه ومقدراته؟!

فمن غير اللائق بمرشح لتمثيل الأمة أن يتعامل مع أمانة الانتخابات بهذا الأسلوب، فمسؤولية النائب مسؤولية كبيرة، وتضييعها تضييع للأمانة العظيمة، والله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) الأنفال/27.

وبغير ما سبق يمكن أن يتصدر في مجلس الأمة من ليس أهلاً له، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ)، قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (إِذَا أُسْنِدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ؛ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ) رواه البخاري. والله تعالى أعلم»([18]).

([1]) المشاركة في الحياة السياسية في ظل أنظمة الحكم المعاصرة، د.مشير عمر خميس الحبل، رسالة ماجستير بكلية الشريعة جامعة غزة، 2003م (ص 46).

([2]) صحيح مسلم، كتاب: الإمارة، باب: كراهة الإمارة بغير ضرورة، رقم (1825).

([3]) شرح صحيح مسلم، للإمام النووي (12/ 210).

([4]) صحيح البخاري، كتاب: الأحكام، باب: من لم يسأل الإمارة أعانه الله عليها، رقم (6727)، (6/ 2613).

([5]) صحيح البخاري، كتاب: الأحكام، باب: ما يكره من الحرص على الإمارة، رقم (6730)، (6/ 2614).

([6]) تفسير: روح المعاني، شهاب الدين الآلوسي، (7/ 7).

([7]) الأحكام السلطانية، للماوردي، (ص 26).

([8]) تفسير روح المعاني، للآلوسي (7/ 7).

([9]) زاد المسير، لابن الجوزي (4/ 245).

([10]) النظم السياسية والقانون الدستوري، د.عبد الغني بسيوني عبد الله (ص 161).

([11]) النظم السياسية والقانون الدستوري، د.عبد الغني بسيوني عبد الله (ص 161).

([12]) النظم السياسية والقانون الدستوري، المرجع السابق، (ص 234).

([13]) مسند الإمام أحمد بن حنبل، مسند: كعب بن مالك، رقم (15836)، (3/ 461)، وحسّنه الأرناؤوط في تحقيق المسند.

([14]) انظر: قانون رقم 140 لسنة 2020م بتعديل بعض أحكام قانون تنظيم مباشرة الحقوق السياسية الصادر بالقانون 145 لسنة 2014م.

([15]) انظر: موقع دار الإفتاء الأردنية، الفتوى رقم (881)، بتاريخ 25 يوليو 2010م.

([16]) انظر: موقع دار الإفتاء الأردنية، الفتوى رقم (933)، بتاريخ 4 أكتوبر 2010م.

([17]) تفسير التحرير والتنوير، للطاهر بن عاشور، (20/ 105).

([18]) انظر: موقع دار الإفتاء الأردنية، الفتوى رقم (3209)، بتاريخ  21-07-2016م.

اترك تعليقاً