البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الفصل السابع: الفتوى والعلاقات الدولية

المبحث الأول: أسس العلاقات الدولية في الإسلام

107 views

مما لا شك فيه أن العلاقات الدولية في الإسلام أساسها السلم وليس الحرب، فالحرب حالة طارئة لا يُلجأ إليها إلا في حال الضرورة، وممن ذهب إلى هذا القول الإمام الثوري والأوزاعي والكمال بن الهمام وابن تیمیة وابن القیم، ومن المعاصرین: الشیخ وهبة الزحیلي ومحمد أبو زهرة، وغیرهم([1]).

وإذ يقرر الإسلام أن السلم أصل من أصول العلاقات الإنسانية بين الدول لا يسمح للمسلمين أن يتدخلوا في شئون الدول إلا لحماية الحريات العامة، وعندما يستغيث بهم المظلومون أو يعتدى على المؤمنين بالإسلام دينًا فإنه يكون التدخل لمنع الفتنة في الدين؛ فالإسلام يحترم حق كل دولة في الوجود، وحقها في أن تكون سيدة نفسها، وحقها في الدفاع عن أراضيها وسيادتها، ولا فرق في ذلك بين دولة متقدمة وأخرى نامية([2]).

فالحرب في الإسلام لا يُلجأ إليها إلا عند الضرورة القصوى، والضرورة تقدر بقدرها، وإذا اقتضت الضرورة الحرب فلا بد من إعلانها وعدم أخذ الناس على غرة، فإذا قامت الحرب فلا يصح قتل الشيوخ ولا الأطفال ولا النساء، ولا المحارب إذا انهزم وأدبر، ولا من سقط مريضًا أو غريقًا أو أسيرًا.

والرأي الراجح أن القرآن لم يسمح للمسلمين بمقاتلة أعدائهم إلا بعد أن بدءوهم بالعدوان، وبعد أن تكرر منهم العدوان؛ فالإسلام لم يبح الحرب الهجومية، وإنما أباح الحرب الدفاعية؛ قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج: 39، 40]، وقال: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190].

وحتى في ساحة القتال إذا توقف أحد جنود العدو عن القتال وطلب الصفح والأمان فإنه يمنح الأمان لقوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6]، ويستوي في ذلك ما إذا طلب الأمان فردًا أو جماعة.

وتدل نصوص السنة القولية والعملية كذلك على أن الأصل في العلاقات الدولية هو السلم، فيقول صلى الله عليه وسلم: «لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا»([3]).

فهـذا الحـدیث ینهـى فیـه النبـي صلى الله عليه وسلم عـن تمنـي الحـرب، ویـدل ذلـك علـى أن الحـرب أمـر طـارئ ولا یـشرع للمـسلم أن یتمنـاه إلا إذا قامـت دواعیـه، ولـو كـان الأصـل فـي العلاقـة مـع الكفار الحرب لما نهى النبي تمنیها ولأباح رجائها وطلبها.

كما أن المتتبـع لـسیرة النبـي صلى الله عليه وسلم یجـد أن كـل المعـارك والغـزوات التـي خاضـها منـذ غـزوة بـدر إلى فتح مكة وغزوة حنـین بعـدها سـببها هـو اعتـداء المـشركین والكفـار علـى المـسلمین أو تفكیـرهم بـذلك، ولـم یثبـت عنـه صلى الله عليه وسلم أنـه ابتـدأ قتـال المـشركین فـي وقـت مـن الأوقـات دون سابق اعتداء منه([4]).

والعلاقات الدولية تقوم وترتكز على عدة أسس، نتناولها في هذا المبحث من خلال ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: العدل والمساواة والتسامح:

من الأسس التي تقوم عليها العلاقات الدولية العدل والمساواة والتسامح، وذلك على النحو التالي:

أولًا: العدل:

تقوم كل علاقة إنسانية في الإسلام على العدل، واعتبار الناس جميعًا سواء، وإن كان ثَمَّ تفاضلٌ فبالأعمال والجزاء عليها إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر.

ولا شك أن من دعائم السعادة التي يسعى إليها البشر أن يطمئن الناس كافة على حقوقهم، وأن يشعروا بالعدل موجودًا بينهم ومطبقًا فيهم، وليس أصعب على المرء من أن يجد نفسه مظلومًا ولا يجد من يرد له حقه، ولهذا أمر الإسلام بالعدل بين كل البشر دون تفرقة.

ولقد أمر تعالى عباده المؤمنين بالقسط -وهو العدل- مع القريب والبعيد والعدو والصديق، فلا يحابى بالعدل قريب أو صديق لمحبته، ولا يمنع العدل من بعيد أو عدو لبغضه، قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} [المائدة: 2]: «أي: لا يحملنكم بغض أقوام على ترك العدل؛ فإن العدل واجب على كل أحد، في كل أحد في كل حال. وقال بعض السلف: ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه، والعدل به قامت السموات والأرض»([5]).

ولقد أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ضرورة الالتزام بالعدل من خلال التحذير من ارتكاب الظلم نقيض العدل، فيقول: «اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة»([6]).

يقول الشيخ أبو زهرة: «وإذا كان لكل دين سمة يتسم بها فسمة الإسلام هي العدالة، وهي شعاره، وهي خاصته، والعدالة هي الميزان المستقيم الذي يحدد العلاقات بين الناس في حال السلم وحال الحرب، فهي القسطاس المستقيم الذي به توزع الحقوق وبه تحمى الحقوق، وبه ينتظم الوجود الإنساني»([7]).

ثانيًا: المساواة:

من المبادئ المهمة التي أتى بها الإسلام مبدأ المساواة بين بني البشر، دون تفرقة بسبب الجنس أو اللون أو الدين أو الوظيفة أو المادة، ولا فرق بين ذكر وأنثى أو أبيض أو أسود، أو مسلم أو غير مسلم، أو حاكم ومحكوم، أو رئيس أو مرؤوس أو غني أو فقير.

وتنهى آيات القرآن والأحاديث النبوية نهيًا صريحًا وقاطعًا عن أن يكون اختلاف الأجناس أو العناصر أو الألوان أو الألسنة مدعاة لأي تمييز بين طوائف البشر وتفضيل طائفة على أخرى استنادًا إلى أي من هذه المعايير، بل إن المصادر الأصولية للشريعة الإسلامية تشدد على حقيقة مهمة في هذا الخصوص، وهي أن يكون واقع الاختلاف المشار إليه بين طوائف البشر مدعاة لتحقيق الاتصال والتعارف والتآلف بين البشر جميعًا، والتعاون على إشباع حاجاتهم المتبادلة، وليس سبيلًا للتناكر أو التنافر أو التقاتل والتنازع، لا سيما وأن معيار التفاضل بين الناس محكوم بمدى ما يكونون عليه من الاستقامة على منهج الله تعالى وتزودهم بالتقوى والعمل الصالح، من ذلك قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، وقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} [الحجرات: 11]، وقوله تعالى في صدد النعي على اليهود والنصارى ادعاءهم الامتياز والتفاضل على الخلق ومقررًا دخولهم في الطبيعة البشرية التي خلقها الله من أصل واحد، ومن ثم خضوعهم للسنن والأحكام الإلهية النافذة في محاسبة الخلق: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة: 18].

وقد ثبت في السنة قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»([8]).

أما الحق في المساواة بين الدول فلا بد منه منطقيًّا؛ لأن انعدام المساواة يفقد الدولة سيادتها كاملة أو جزءًا منها لمصلحة سيادة دولة أخرى.

ثالثًا: التسامح:

لقد دعت الشريعة الغراء إلى التسامح مع الجميع؛ فقال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ، إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 8، 9].

ويقول تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران: 134]، ويقول أيضًا: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة: 109].

وقد طبَّق النبي صلى الله عليه وسلم مبدأ التسامح في علاقاته بالمشركين وغيرهم في معاهداته وفي حروبه؛ ففي المعاهدات تراه في صلح الحديبية، وهو الصلح الذي عقد بينه وبين المشركين عندما أراد أن يحج فمنعوه وأبوا أن يدخل البيت الحرام، وقد كان أساس هذا الصلح شططًا من جانب المشركين، وسماحة من جانب النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أصروا في صلحهم على أن يمنعوه من الحج في عامه هذا، فقبل هذا الشرط ومعه جيش يستطيع به أن يدك عليهم ديارهم، واشترطوا مع ذلك أن من يخرج من مكة مسلمًا ملتحقًا بالنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين يُرد إليهم إن لم يكن ذلك برضا أهله، وأن من يخرج من عند محمد مرتدًّا إلى مكة يقبلونه ولا يمنعونه، فقبل النبي السمح الكريم ذلك الشرط حتى ضج بعض المؤمنين من قبوله، ووقف عمر بن الخطاب يهز سيفه ويقول: «لماذا نرضى بالدنية في ديننا»، ولكنها الحكمة النبوية آثرت الصبر والسماحة وحقن الدماء، ولم يكن ذلك قبولًا للدنية ولكنه الهدي الإسلامي الذي حث على الصبر بدل القتل والقتال، والرفق بدل العنف، وتأجيل فيه رفق خير من تعجيل فيه عنف.

وكذلك كان عليه الصلاة والسلام في كل حروبه يطيب القلوب بالصفح فبعد غزوة بني المصطلق يخرج من الأسر مائة بيت أراد المسلمون أن يسترقوهم، بأن تزوج جويرية بنت الحارث كبير هذه القبيلة، فأطلق كل مجاهد من في يده من الأسرى، وقالوا: كيف نسترق أصهار رسول الله، وما كان زواج النبي لشهوة يبتغيها لأنه كان يستطيع قضاءها بامتلاكها، وإنما هو الصفح في أجمل صوره.

فقد كان التسامح والصفح الجميل هو السياسة الإسلامية التي رسمتها النبوة في العلاقة بين الناس بعضهم مع بعض، وخصوصًا بين المسلمين وغيرهم، وهي السياسة المطلقة في حال السلم، والسياسة الشافية للقلوب المجروحة في أعقاب الحرب([9]).

المطلب الثاني: الحرية الدينية والاعتراف بالاختلاف والتنوع:

أولًا: حرية العقيدة:

تقوم العلاقات الدولية في الإسلام على حرية العقيدة والدين، وعدم إكراه الغير على الدخول في الإسلام، ويؤكد حرية العقيدة والدين في الإسلام آيات عديدة في القرآن، منها قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256].

ويمكن القول بأن حرية الاعتقاد هي أوسع الحريات دائرة؛ لأن صاحب الاعتقاد مطلق التفكير فيما يعتقده، وأمرها مختلف بين المسلم وغير المسلم. فهي عند الأول محدودة له بما جاء به الدين ممّا تتكون جامعة المسلمين بالاتفاق على أصوله، ولا تقبل من المسلم ردَّة؛ لأن المرتدَّ خارج من الملة ناقض للعهد، وهي عند المسلم فيما عدا ما هو معلوم من الدين بالضرورة ثابتة فله الخِيرَة من أمره([10]).

ويمكننا القول بأن الإسلام يوجب احترام الأديان السماوية والبر والإقساط في الدين، وعلى هذا فليس الاختلاف في الدين -في شرع الإسلام- مما يوجب استباحة الحرمات، بل على العكس تمامًا فإن الإسلام يوجب احترام الأديان والعقائد السماوية والإيمان بها وبمن جاء من الرسل جميعًا، كما يوجب البر والإقساط إلى المخالف في الدين، حتى إذا اكتسب المواطنة في الدولة الإسلامية عن طريق العهد ثبتت له كافة حقوقها الثابتة للمسلم سواء بسواء؛ إذ لهم ما لنا وعليهم ما علينا، ومنحه الحرية في العقيدة وإقامة شعائر عبادته، وله الخيرة أيضًا فيما يتعلق بالأحوال الشخصية لصلتها بالعقيدة والدين ما لم يلجأ إلى القضاء الإسلامي بمحض اختياره([11]).

ثانيًا: الاعتراف بالاختلاف والتنوع:

يرسم الإسلام للمسلمين وسائل التعايش مع البشرية على اختلاف الدين والجنس واللغة واللون؛ لأن رب المسلمين هو رب العالمين فالجميع عباده خلقهم أممًا وشعوبًا وأفرادًا، وأراد لهم الاختلاف والتعددية فيقول تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود: 118].

فالإسلام قد اعترف بالتعددية التي خلق الله الناس عليها في الأمم والمجتمعات، وهي تعددية شاملة ومتشعبة في الأديان والأجناس والألوان واللغات والهيئات والقوميات والطبقات الاجتماعية، تلك التعددية التي وعاها الإسلام وخلق الله الناس عليها منذ بدء الخليقة، وأوجد الحياة في هذا الكون على مقتضاها لحكمة أرادها ومشيئة قدَّرها([12]).

إذن فالإسلام يفرض على أتباعه أن يقبلوا غير المسلمين ويتعايشوا معهم، ولا يعادوهم لمجرد الاختلاف في العقيدة بل للعداء، وعلى المسلم أن يتعاون مع غير المسلمين في أنحاء العالم قاطبة، على أساس الحفاظ على الهوية الإسلامية، وحفظ النظام واحترام قوانين غير المسلمين، وهو الأمر الذي بات ضروريًّا في ظل العولمة، وحصول العديد من أبناء المسلمين على الجنسيات الأجنبية والإقامة في ديارهم، واكتساب سبل الرزق في هذه البلدان([13]).

المطلب الثالث: الوحدة الإنسانية والكرامة الإنسانية والمحافظة على البيئة:

أولًا: الوحدة الإنسانية:

اعتبر الإسلام الناس جميعًا أمة واحدة، الإنسانية تجمعها، وإذا فرقت الأهواء فالأصل واحد، ولقد صرَّح القرآن الكريم بهذه الوحدة في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، فالآية الكريمة تصرح بأن الأصل واحد، فقد خلق الله الناس جميعًا من نفس واحدة، وخلق من هذه النفس زوجها، وتوالد الناسُ من هذين الأبوين الكريمين.

وذكر تعالى في آية أخرى أن اختلاف الناس شعوبًا وقبائل لم يكن ليتقاتلوا ويختلفوا وإنما ليتعارفوا ويتعاونوا، وذلك في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13]، وإن هذا التعارف يجعل كل فريق ينتفع بخير ما عند الفريق الآخر، وتكون خيرات الأرض كلها لابن هذه الأرض وهو الإنسان؛ فلا يختص فريق بخير إقليمه ويحرم منه غيره، فإذا كانت الأرض مختلفة فيما تنتجه فالإنتاج كله للإنسانية كلها، ولا سبيل لذلك إلا بالتعاون والتعارف الإنساني؛ فالتفرقة الإقليمية لتستغل الأرض في كل أجزائها، وكلها للجميع.

وفي سبيل ذلك التعارف حث القرآن الكريم على السعي والضرب في الأرض طلبًا للرزق وطلبًا لهذا التعارف الإنساني، وليحصل أهل كل إقليم على ما عند الآخرين([14]).

ثانيًا: الكرامة الإنسانية:

يكفل الإسلام كرامة الإنسان، سواء كان مسلمًا أو غير مسلم، وسواء في وقت السلم أو في وقت الحرب، وسواء كان النزاع المسلح داخليًّا أم دوليًّا، ويدل لذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70]. ويستفاد من الآية الكريمة أن لفظ (بني آدم) عام يشمل كل ما هو كائن إنساني دون تمييز أو تخصيص، ومن ثم فهو يشمل المسلم وغير المسلم.

فهذا التكريم ليس خاصًّا بعنصر دون عنصر، ولا بجنس دون جنس، بل الجميع سواء في حق التكريم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر، إلا بالتقوى، إن أكرمكم عند الله أتقاكم»([15]).

وبذلك نجد سبق الإسلام للمواثيق والمعاهدات الدولية في تقرير الكرامة الإنسانية، حيث اهتمت المواثيق الدولية بالتأكيد على أهمية الحق في الكرامة، فنصَّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة لسنة 1948 في المادة (4) على أنه «لا يجوز استرقاق أحد أو استعباده، ويُحظر الرق والاتجار بالرقيق بجميع صورهما».

كما ينص في مادته الخامسة على أنه «لا يعرَّض أي إنسان للتعذيب ولا للعقوبات أو المعاملات القاسية أو الوحشية أو الحاطَّة بالكرامة».

وكذلك تنص المادة (7) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لسنة 1966 على أنه «لا يجوز إخضاع أحد للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللا إنسانية أو الحاطة بالكرامة».

وينص الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب لعام 1981 في مادته الخامسة على أنه «لكل فرد الحق في احترام كرامته والاعتراف بشخصيته القانونية، وحظر كافة أشكال استغلاله وامتهانه واستعباده خاصة الاسترقاق والتعذيب بكافة أنواعه والعقوبات والمعاملة الوحشية أو اللا إنسانية أو المذلة».

وأيضًا ينص العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية في ديباجته على «أن الدول الأطراف في هذا العهد، إذ ترى أن الإقرار بما لجميع أعضاء الأسرة البشرية من كرامة أصيلة فيهم، ومن حقوق متساوية وثابتة، يشكل وفقًا للمبادئ المعلنة في ميثاق الأمم المتحدة أساس الحرية والعدل والسلام في العالم».

وقد نصت المادة (17) من اتفاقية جنيف بشأن معاملة أسرى الحرب سنة 1949م على أنه «لا يجوز ممارسة أي تعذيب بدني أو معنوي أو أي إكراه على أسرى الحرب لاستخلاص معلومات منهم من أي نوع، ولا يجوز تهديد أسرى الحرب الذين يرفضون الإجابة أو سبهم أو تعريضهم لأي إزعاج أو إجحاف».

ثالثًا: المحافظة على البيئة:

يتمتع الإسلام بنظرة أعمق وأوسع للبيئة، حيث طالب أن يتعامل المسلم مع البيئة من منطلق أنها ملكية عامة يجب المحافظة عليها حتى يستمر الوجود؛ فقد قال تعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} [الأعراف: 56]، وقال تعالى: {وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77].

ولقد وضح الإسلام أن البيئة لم تخلق عبثًا بل خلق كل شيء فيها بمقدار محدد وصفات معينة مما يكفل لها القدرة على توفير سبل الحياة الملائمة للإنسان وغيره من الكائنات الحية الأخرى التي تشاركه الحياة على الأرض، وما أجمل القرآن الكريم عندما يلخص حكمة الاتزان في البيئة بقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]، {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2]؛ فالله سبحانه خلق البيئة متوازنة في مكوناتها، وأرشد الإنسان في ذلك وأمره أن يحرص على ألا يعتدي على البيئة؛ لأن في ذلك إخلالًا بنظامها واتزانها، وأن في هذا التعدي إضرارًا بها وبالنفس.

ولقد شغل موضوع حماية البيئة حيزًا كبيرًا من اهتمام المنظمات الدولية نتيجة للأخطار التي أحاطت بالبيئة الدولية، فقد أدرك المجتمع الدولي مدى الخطورة الكامنة فيما تتعرض له البيئة من أشكال الانتهاك والتلوث، ومن ثم كان التحرك على مستوى التنظيم الدولي من خلال تفعيل دور المنظمات الدولية في ملاحقة الأضرار التي تحدق بالبيئة على نحو منظم في سبيل الوصول إلى بيئة دولية خالية من التلوث وصالحة للعيش فيها بسلام واطمئنان، وقد تجلت باكورة هذه الجهود الدولية في دعوة منظمة الأمم المتحدة إلى عقد مؤتمر دولي في «أستوكهولم» عام 1972م، وقد انتهى هذا المؤتمر بإصدار إعلان اشتمل على ستة وعشرين مبدأ وعدد من التوصيات شكلت في مجملها خطة عمل تتعلق بحماية وتحسين البيئة العالمية.

ولقد تمثلت أهداف مؤتمر «أستوكهولم» في تنبيه الشعوب والحكومات إلى أن الأنشطة الإنسانية تهدد بالأضرار الطبيعية وتخلق مخاطر جسيمة تمس الحياة البشرية.

وقد أكدت مبادئ هذا المؤتمر على أن الدول مسئولة عن كفالة ألا تؤدي الأنشطة التي تدخل في اختصاصها أو تخضع لرقابتها إلى الإضرار ببيئة الدول الأخرى أو بيئة المناطق فيما وراء حدود الاختصاص الوطني، ولا يعفيها من ذلك تمسكها بحقها في السيادة على إقليمها، وذلك الحق تطور مفهومه الضيق ليتمشى مع تطورات عصر البيئة، وقد تبنت هذا الإعلان مائة وثلاث عشرة دولة([16]).

وعقدت بعد حوالي عشرين عامًا قمة الأرض في مدينة ريو دي جانيرو في البرازيل سنة 1992م تحت عنوان البيئة والتنمية، وقد تضمن هذا المؤتمر النص على حق الدول في استثمار مواردها الذاتية، وإن كان هذا الاستثمار لا ينبغي أن يسيء إلى بيئة الدول الأخرى أو المناطق الواقعة فيما وراء حدود سيادتها الإقليمية، كما نص المبدأ الرابع عشر من أعمال هذا المؤتمر على أنه لا يحق لأي دولة أن تصدر إلى أي دولة أخرى أية نشاطات أو مواد تسبب تدهورًا خطيرًا في البيئة أو تضر بصحة الإنسان، كما نص المبدأ السادس عشر من أعمال المؤتمر على الالتزام الدولي بالمحافظة على البيئة، وكذلك النص على مبدأ المسئولية الدولية، حيث تضمن المبدأ أنه على مسبب التلوث أن يتحمل الأعباء المالية المترتبة على المستوى الدولي([17]).

ولعل مؤتمر «جوهانسبرج» عام 2002م يعد أهم المؤتمرات الدولية المتعلقة بشئون البيئة، فقد حضره ما لا يقل عن خمسة وستين ألف مشارك يمثلون 185 دولة، كما حضره أكثر من مائة من رؤساء الحكومات فضلًا عن حضور ممثلين لبعض الشركات الكبرى عابرة القارات التي تتهم بأنها تسهم في تلويث البيئة بما تلقيه من مخلفات ونفايات وما ينبعث عنها من غازات تزيد من تفاقم مشكلة الانحباس الحراري الذي يهدد فرصة استمرار الحياة على الأرض في المستقبل([18]).

وآخر هذه المؤتمرات العالمية الخاصة بشئون البيئة: قمة الأمم المتحدة للمناخ Cop27، وهي قمة سنوية تحضرها 197 دولة من أجل مناقشة تغير المناخ، وما تفعله هذه البلدان، لمواجهة هذه المشكلة ومعالجتها.

ويعد هذا المؤتمر جزءًا من اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن التغير المناخي، وهي معاهدة دولية وقعتها معظم دول العالم بهدف الحد من تأثير النشاط البشري على المناخ.

وهذا المؤتمر هو السابع والعشرون منذ دخول الاتفاقية حيز التنفيذ في 21 مارس 1994م، وقد عُقد المؤتمر في مدينة شرم الشيخ، في الفترة بين 6 نوفمبر، و18 نوفمبر سنة 2022م.

 

([1]) انظر: السياسة الشرعية لابن تيمية (ص815)، العلاقات الدولية في الإسلام للشيخ محمد أبو زهرة (ص50)، دار الفكر العربي-القاهرة، 1995م، آثار الحرب في الفقه الإسلامي لوهبة الزحيلي (ص136)، أحكام الحرب والسلام لإحسان الهندي (ص119).

([2]) انظر: العلاقات الدولية في الإسلام للشيخ محمد أبو زهرة (ص50)،

([3]) أخرجه البخاري، رقم (2966)، ومسلم، رقم (1742).

([4]) انظر: قاعدة مختصرة في قتال الكفار ومهادنتهم وتحريم قتلهم لمجرد كفرهم لابن تيمية، تحقيق: الدكتور عبد العزيز بن عبد الله آل حمد (ص134)، الرياض، الطبعة الأولى، 2004م.

([5]) تفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/12)، دار طيبة للنشر والتوزيع.

([6]) أخرجه مسلم، رقم (2578).

([7]) العلاقات الدولية في الإسلام (ص37).

([8]) أخرجه مسلم، رقم (2564).

([9]) انظر: العلاقات الدولية في الإسلام (ص27، 28).

([10]) مقاصد الشريعة الإسلامية لمحمد الطاهر بن عاشور (1/691)، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية-قطر.

([11]) خصائص التشريع الإسلامي في السياسة والحكم للدكتور فتحي الدريني (ص69، 70)، مؤسسة الرسالة-بيروت، الطبعة الثانية، 2013م.

([12]) انظر: العلاقات ذات العنصر الأجنبي للدكتور محمد الشحات الجندي (ص21)، الرحمة للطباعة-القاهرة.

([13]) انظر: التعايش السلمي في الشرع الإسلامي للدكتور محمد الشحات الجندي (ص3)، بدون ناشر-القاهرة، 2012م.

([14]) انظر: العلاقات الدولية في الإسلام (ص21، 22).

([15]) أخرجه أحمد في مسنده، رقم (23489)، والبيهقي في «الشعب»، رقم (4774)، واللفظ له.

([16]) انظر: حماية البيئة في ضوء أحكام القانون الدولي الإنساني للدكتور هشام بشير (ص34، 35)، المركز القومي للإصدارات القانونية-القاهرة.

([17]) التشريع الدولي لحماية البيئة لعلي عدنان الفيل (ص9)، دار الحامد للنشر والتوزيع-عمان-الأردن.

([18]) انظر: حماية البيئة في ضوء أحكام القانون الدولي الإنساني (ص37).

اترك تعليقاً