البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الفصل السادس: الفتوى ومسئولية الحاكم

المبحث الأول: تحقيق العدالة والمساواة

69 views

فالشعبُ لم يوكِّل الرئيس في إدارة شئون الدولة إلا وهو يشترط عليه أن يسير فيهم  بالعدل والمساواة، مع الأصوات المعارضة لسياساته أو المؤيدة لها على حد السواء، طالما يلتزم الجميع بالقانون، ولهذا تكون الانتخابات الرئاسية عامةً يشارك فيها جميع البالغين من الشعب، ولا تقتصر على حزبٍ ما أو جماعةٍ ما؛ حتى لا يكون ذلك سببًا في محاباة الرئيس لأحد دون أحد، وإنما يأخذ الجميع ما له ويؤدي ما عليه، ولا يتعدى أحد على حق أحد، ولا يكون التمييز والانتقاء في شيءٍ من الاستحقاقات إلا على أساس الكفاءة والمهارة والإتقان والالتزام، ويتشارك الجميع الخير كما يشتركون في دفع الضر، فلا يختص جماعةً بعطاء دون غيرهم طالما تساوى الجميع في سبب الاستحقاق، ولا يقتصر العمل في وقت الشدة والأزمات والحروب على الفقراء دون الأغنياء، ولا يُعْفَى أحد مكتمل الأهلية من أداء واجبٍ وطنيٍّ يؤديه نظراؤه، ولا يتفاوت الناس أمام ميزان القانون والعدالة، بل تسري أحكام الشرع والقانون على جميع من يعيش داخل الدولة بلا تعنُّتٍ ضد أحدٍ ولا محاباةٍ لأحد؛ فلا يُظلمُ ضعيفٌ لينجو قويٌّ.

ولذلك أمر الله تعالى الناس جميعًا بالعدل فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ}[النحل: 90].

ثم خصَّ أولي الأمر بالوصية بالعدل في رعاياهم فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}[النساء: 58].

كما أمر تعالى عباده المؤمنين بالقسط -وهو العدل- مع القريب والبعيد والعدو والصديق، فلا يحابى بالعدل قريب أو صديق لمحبته، ولا يمنع العدل من بعيد أو عدو لبغضه، قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} [المائدة: 2]: «أي: لا يحملنكم بغض أقوام على ترك العدل؛ فإن العدل واجب على كل أحد، في كل أحد في كل حال. وقال بعض السلف: ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه، والعدل به قامت السموات والأرض»([1]).

ولقد أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ضرورة الالتزام بالعدل من خلال التحذير من ارتكاب الظلم نقيض العدل، فيقول: «اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة»([2]).

يقول الشيخ أبو زهرة: «وإذا كان لكل دين سمة يتسم بها فسمة الإسلام هي العدالة، وهي شعاره، وهي خاصته، والعدالة هي الميزان المستقيم الذي يحدد العلاقات بين الناس في حال السلم وحال الحرب، فهي القسطاس المستقيم الذي به توزع الحقوق وبه تحمى الحقوق، وبه ينتظم الوجود الإنساني»([3]).

 

كما أن بالعدل والمساواة تستقر البلاد ويسعد العباد، ويكون الناس جميعًا في طاعة الحاكم  ونصرته والدفع عنه وتأييده سواء، وقد رأينا في تاريخ الأمم والممالك أن الحكام العادلين في كل دولة قد حازوا محبة شعوبهم مدى الدهر، وجرى بسبب عدلهم الخيرُ الوفيرُ على شعوبهم، كما رأينا عكس ذلك في حالات الحكام الظالمين.

يقول شهاب الدين الحموي: «وفي كتاب المسامرات والمحاضرات للشيخ محيي الدين بن عربي: أن بالعدل يكثر الخراج، وينمو المال.

ورُوِّينا من حديث المالكي عن إبراهيم الخزاعي عن سليمان بن أبي شيخ عن صالح بن سليمان قال: قال عمر بن عبد العزيز: لو جاءت كل أمة بفاسقها، وجئنا بالحَجَّاج لغلبناهم، وما كان يصلح لدنيا ولا آخرة، لقد وَلِيَ العراقَ وهي أوفر ما تكون من العمارة فأخربها حتى صار خراجُها أربعين ألف ألف، وقد أدَّى إليَّ عامِلِي هذا ثمانين ألف ألف، وإن بَقِيتُ إلى قابلٍ رجوتُ أن يؤدّوا إليَّ ما أدَّوا إلى عمر بن الخطاب: مائة ألف ألف، وفي مقدمة تاريخ خلدون مثله»([4]).

ولذلك تطرق العلماء كذلك إلى وجوب العدل في تقسيم العطاءات بين الشعب فقالوا:

«وإذا قسم الإمام المال على المستحقين يحرم عليه التفضيل مع تساوي الحاجات؛ لأن عليه التعميم وكذا التسوية بخلاف المالك.

فلا يجوز للإمام أن يقدم في مال بيت مال المسلمين الغني على الفقير أو ذي القرابة على البعيد، أو غير المحتاج على المحتاج.

وإذا أمر وال أو قاض شخصاً بأن يستهلك مالاً من بيت المال أو مالاً لشخص آخر، فإنه غير صحيح، والمستهلك ضامن حتى أن الوالي نفسه أو القاضي لو استهلك ذلك المال كان ضامناً([5]).

ونفّذ العادلون من حكام المسلمين قيمة العدل والمساواة أروع تنفيذ، وسيرة الخلفاء الراشدين خير مثال على ذلك، ثم جاء من بعد الراشدين من حذا حذوهم في ذلك الإمام العادل عمر بن عبد العزيز، فروي عنه في العدل أمور عظيمة، منها: ما رواه يحيى الغساني حيث قال:” لما ولاني عمر بن عبدالعزيز الموصل قدمتها فوجدتها من أكثر البلاد سرقة ونقباً فكتبت إليه أعلمه حال البلد وأسأله آخذ الناس بالظنة، وأضربهم على التهمة، أو آخذهم بالبينة، وما جرت عليه السنة، فكتب إليّ أن آخذ الناس بالبينة، وما جرت عليه السنة، فإن لم يصلحهم الحق فلا أصلحهم الله، قال يحيى: “ففعلت ذلك، فما خرجت من الموصل حتى كانت من أصلح البلاد وأقلها سرقة ونقبًا”([6]).

ومنها ما قال السائب بن محمد: “كتب الجراح بن عبدالله إلى عمر بن عبدالعزيز إن أهل خراسان قوم ساءت رعيتهم، وإنه لا يصلحهم إلا السيف والسوط، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في ذلك”، فكتب إليه عمر: “أما بعد فقد بلغني كتابك تذكر أن أهل خراسان قد ساءت رعيتهم وأنه لا يصلحهم إلا السيف والسوط، فقد كذبت بل يصلحهم العدل والحق فابسط ذلك فيهم والسلام”([7])؛ لأن إهانة الشخصية الإنسانية وهدر كرامتها يتعارض مع المبادئ الثابتة، قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ)[70: الإسراء]، لأن الشخصية المقهورة أو المهانة لا تصلح في مشروعات التنمية والإصلاح أو تكون صالحة الانتماء.

رفع الضرر عن العامة وضمان ما أتلف من أموالهم إذا ما تعارضت المصلحة العامة مع الخاصة: قد تحتاج الدولة إلى بعض الأمور والتي قد تتعارض مع المصلحة الفردية لأفراد المجتمع، تحت أي سبب أو حاجة تقتضي ذلك الاستخدام، والذي قد يلحق الضرر بمصلحة الفرد، فان الدولة تغرم هذا الإضرار، وقد ذكر سعيد بن عثمان عن غيلان بن ميسرة: “أن رجلًا أتى عمر بن عبدالعزيز فقال: زرعتُ زرعًا فمر به جيش من أهل الشام فأفسدوه فعوَّضه عشرة آلاف درهم”([8]). وهذا التعويض العادل والنُّصفة لضعيفٍ مظلومٍ من قادةِ الدولة وجُنْدِها دافع إلى الأفراد بأن يستمروا في المشاركة والتفاعل مع النهج الإصلاحي، وأنهم ينتمون إلى مجتمع يقدر الجهد المبذول.

وقد راعت دساتير الدول على اختلاف أنظمتها هذا الأساس المتين الذي يكفل للدولة الاستقرار والرخاء والأمن، فنصت على وجوب العدل في الحكم والعطاء وتوزيع الواجبات بلا تعسُّفٍ ولا محاباة.

حيث نصت المادة (7) من الدستور الكويتي على أن «العدل والحرية والمساواة دعامات المجتمع، والتعاون والتراحم صلة وثقى بين المواطنين».

كما نصت المادة (20) منه على أن «الاقتصاد الوطني أساسه العدالة الاجتماعية، وقوامه التعاون العادل بين النشاط العام والنشاط الخاص، وهدفه تحقيق التنمية الاقتصادية وزيادة الإنتاج ورفع مستوى المعيشة وتحقيق الرخاء للمواطنين، وذلك كله في حدود القانون».

وأكدت المادة (24) على أن «العدالة الاجتماعية أساس الضرائب والتكاليف العامة».

ولتحقيق مبدأ المساواة نصت المادة (29) على أن «الناس سواسية في الكرامة الإنسانية، وهم متساوون لدى القانون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين».

كما لم تغفل الدساتير أهمية العدل والمساواة بين كافة رعايا الدولة أمام القضاء في أ قضية أو منازعة مهما كان أطرافها، فتنص المادة (162) من الدستور الكويتي على أن «شرف القضاء، ونزاهة القضاة وعدلهم، أساس الملك وضمان للحقوق والحريات».

وتؤكّد المادة (163) منه أيضًا على أنه «لا سلطان لأي جهة على القاضي في قضائه، ولا يجوز بحال التدخل في سير العدالة، ويكفل القانون استقلال القضاء ويبين ضمانات القضاة والأحكام الخاصة بهم وأحوال عدم قابليتهم للعزل».

ومن ناحيةٍ أخرى نجد أن دستور جمهورية مصر العربية وفقاً للتعديلات الدستورية التي أدخلت عليه في 23 أبريل 2019م ينص في المادة (4) منه على أن «السيادة للشعب وحده، يمارسها ويحميها، وهو مصدر السلطات، ويصون وحدته الوطنية التي تقوم على مبادئ المساواة والعدل وتكافؤ الفرص بين جميع المواطنين، وذلك على الوجه المبين في الدستور».

كما تنص المادة (53) منه على ترسيخ مبدأ المساواة بين كافة المواطنين، حيث جاء فيها:

«المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والحريات والواجبات العامة، لا تمييز بينهم بسبب الدين، أو العقيدة، أو الجنس، أو الأصل، أو العرق، أو اللون، أو اللغة، أو الإعاقة، أو المستوى الاجتماعي، أو الانتماء السياسي أو الجغرافي، أو لأي سبب آخر. التمييز والحض على الكراهية جريمة، يعاقب عليها القانون. تلتزم الدولة باتخاذ التدابير اللازمة للقضاء على كافة أشكال التمييز، وينظم القانون إنشاء مفوضية مستقلة لهذا الغرض».

فهذه النصوص الشرعية والمواد الدستورية والبنود القانونية سياجٌ منيعٌ يحمي قيمة العدل والمساواة، ويكفل تطبيق الحكام لها والتزامهم بها مع كل فردٍ من أفراد شعوبهم، بلا تمييز ولا انتقاء ولا تعسف ولا ظلم، لأن جميع العقلاء في هذه الدنيا يعلمون جيدًا أن العدلَ أساسُ الملْك.

 

 

 

 

([1]) تفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/12)، دار طيبة للنشر والتوزيع.

([2]) أخرجه مسلم، رقم (2578).

([3]) العلاقات الدولية في الإسلام (ص37).

([4]) ينظر: غمز عيون البصائر في شرح الأشباه والنظائر، لأبي العباس شهاب الدين الحموي، (1/ 370).

([5]) ينظر: الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية، د. محمد صدقي الغزي، (1/ 349).

([6]) ينظر: تاريخ الخلفاء، للسيوطي، (1/ 237).

([7]) ينظر: تاريخ الخلفاء، للسيوطي، (1/ 242).

([8]) مصنف ابن أبي شيبة، (7/ 175).

اترك تعليقاً