البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الفصل السادس: الفتوى ومسئولية الحاكم

المبحث التاسع: رعاية حقوق الأقليات وضيوف الدولة

77 views

لا تكادُ تخلو دولةٌ من وجود بعض الطوائف التي تعيش بين جموع الشعب والتي تُعرف بالأقليات، فطبيعة البشر في التنقل والترحال، وكذلك آثار الوجود التاريخي لبعض الأعراق والديانات في مكانٍ ما كل ذلك ينتج عنه وجود شرائح مخصوصة تنفرد بسمةٍ معينة تجمعها وتميزها عن الغالبية الشعبية التي تمثّل مواطني الدولة وسكانها الأصليين.

ففي الدولة ذات الأغلبية المسلمة تجد وجودًا لطوائف من المسيحيين واليهود وغيرهم، وكذلك في الدول ذات الأغلبية المسيحية تجد طوائف وجاليات مسلمة ويهودية وهنادكة وبوذيين وغيرهم، وهكذا تطرد هذه الظاهرة في كافة الدول الصغرى منها والكبرى، وقد عرف التاريخ البشري ذلك منذ القدم، لكن تفاوتت درجة معاملة الدولة لمن فيها من الأقليات بحسب طريقة السلطة الحاكمة وفلسفتها في تقبل الآخر أو رفضه.

وقد عُنِي الإسلام منذ مجيئه بحقوق هذه الأقليات عنايةً بالغةً لا تدانيها عنايةُ أي دينٍ أو قانونٍ آخر؛ فأمرت نصوص القرآن والسنة بحسن معاملة أهل الكتاب، وكف الأذى عنهم، وعدم إجبارهم على ترك معتقداتهم، وعدم التعدي على أرواحهم أو ممتلكاتهم أو حرياتهم طالما لم يرتكبوا جنايةً عامّةً أو خيانةً أو ينقضوا عهدًا.

وقد أكدت ذلك فتاوى دور الإفتاء استنادًا إلى ما ثبت من أحكام الدين ونصوصه وسيرة نبيه -صلى الله عليه وسلم- وخلفائه الراشدين، ومن ذلك فتوى دار الإفتاء الأردنية والتي جاء فيها:

«الشريعة الإسلامية السمحة تحض على حسن معاملة الناس عمومًا، وأهل الكتاب من اليهود والنصارى خصوصًا، خاصة إذا كانوا مسالمين لنا، ولا يبارزون المسلمين العداء والحرب، وبينت الشريعة أن معاملتهم إنما تكون بالعدل، والإحسان إليهم، وعدم الإساءة لهم، فقد قال الله عز وجل: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة:8)، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : (مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا أَوْ انْتَقَصَهُ أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) رواه أبو داود (3052) وحسنه ابن حجر.

ومن صور هذه المعاملة جواز زيارتهم ومشاركتهم أفراحهم وأحزانهم، كما لا حرج في الأكل من طعامهم إذا اجتنبت الخمر والخنزير لقوله تعالى: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) المائدة/5، وكذلك يجوز التعامل معهم بالبيع والشراء وغيرها من وجوه المعاملات الشرعية. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم خير قدوة لنا في الإحسان إلى اليهود المسالمين الذين عاشوا في المدينة المنورة. والسنة النبوية مليئة بالأحاديث الدالة على ذلك، فقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم دعوة المرأة اليهودية إلى طعامها، وعاد الغلام اليهودي المريض، واستقبل وفد نصارى نجران في مسجده وأكرمهم فيه. واستمر هذا الحال في الخلافة الراشدة أيضا، وخير شاهد على ذلك الوثيقة التي أعطاها عمر بن الخطاب للنصارى في بيت المقدس، والتي سميت بـ “بالعهدة العمرية” فقد أمنهم فيها على أنفسهم، وأموالهم، وكنائسهم، وغيرها من حقوقهم وحرياتهم. والله أعلم»([1]).

وقد اعتنى الخلفاء والحكام الراشدون برفع الظلم عن غير المسلمين الذين يعيشون داخل دولتهم، لأنهم وحدة إيجابية في عملية التكافل والبناء الاجتماعي، قال علي بن أبي حملة: “خاصمَنا عَجَمُ أهل دمشق إلى عمر بن عبد العزيز في كنيسة كان رجل من الأمراء أقطعها لبني نصر بدمشق، فأخرجنا عمر عنها وردها إلى النصارى”([2]).

بل حتى مع الذين ينفردون بمكانٍ يخصهم ولكنهم مرتبطون بدولة المسلمين؛ يقول الواقدي: “لم يزل أهل قبرص على صلح معاوية حتى وَلِيَ عبدُ الملك بن مروان فزاد عليهم ألفَ دينار، فجرى ذلك إلى خلافة عمر بن عبد العزيز فحطَّها عنهم -أي: أبطل زيادة عبد الملك-“([3]).

وقال أبو عبيدة وغيره: “لما استخلف عمر بن عبدالعزيز، وفد عليه قوم من أهل سمرقند، فرفعوا إليه أن قتيبة دخل مدينتهم وأسكنها المسلمين على غدر، فكتب عمر إلى عامله يأمره أن ينصب لهم قاضياً ينظر فيما ذكروا فإن قضى بإخراج المسلمين، أخرجوا فنصب لهم جميع بن حاضر الباجي، فحكم بإخراج المسلمين على أن ينابذوهم على سواء فكره أهل مدينة سمرقند الحرب وأقروا المسلمين فأقاموا بين أظهرهم”([4]).

وهو بذلك يسلك مسلك جده عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- الذي سبق أن ترك الأرض المفتوحة بيد أهل الذمة، قال الأوزاعي: أجمع رأيُ عمرَ وأصحابِ النبي -صلى الله عليه وسلم- لما ظهروا على الشام على إقرار أهل القرى في قراهم على ما كان بأيديهم من أرضهم، يعمرونها ويؤدون خراجها إلى المسلمين، ويرون أنه لا يصلح لأحد من المسلمين شراء ما في أيديهم من الأرض طوعاً ولا كرهاً. ([5]).

وعلى هذا النهج أعاد عمر بن عبد العزيز صفحةَ العدالة والمساواة والرحمة والإنصاف إلى ما كانت عليه، وكان فعله بعد أن سأل الناسُ عبدَ الملك والوليدَ وسليمانَ أن يأذنوا لهم في شراء الأرض من أهل الذمة فأذنوا لهم، فلما ولي عمر بن عبدالعزيز، أعرض عن تلك الأشرية، وكتب كتاباً، قُرِئ على الناس سنة المائة، أن من اشترى شيئًا بعد سنة مائة فإن بيعه مردود”([6]).

هذا بالنسبة لحقوق الأقليات التي تعيش بصفةٍ دائمة داخل نطاق الدولة، والذين عادةً ما يكون لهم وجودٌ تاريخي طويل في الدولة منذ العصور القديمة.

أما بالنسبة لضيوف الدولة الذين طرأ وجودُهم حديثًا لأسبابٍ وظروف مخصوصة، سواء كان وجودهم في الدولة لجوءًا سياسيًّا، أو لأغراض العمل وطلب الرزق، أو للسياحة والدراسة والفنون، أو تمثيلًا لدولٍ أخرى بصفة رسمية، فلكل هؤلاء عهود الأمان وذمة الضيافة المتضمنة عرفًا وشرفًا وشرعًا وقانونًا لحرمة دمائهم وأموالهم وأعراضهم وحرياتهم ما لم يرتكب أحدهم جنايةً أو مخالفةً توجب إيقافه ومحاسبته.

وإذا كان هذا واجبًا على كل مسلم فهو من مسئوليات حاكم الدولة المسلمة في المقام الأول، لأنه الممثل المعنوي لشخصية دولته أمام العالم، ومن واجب التضامن والتكافل بين كافة البشر أن تفتح الدول أبوابها لاستضافة اللاجئين والمنكوبين ومن على شاكلتهم، سواء كانت ضيافتهم احتواءً وتسكينًا لحين انفراج أزماتهم، أو كنت إكرامًا لشخصياتهم ومناصبهم في حالة الممثلين للدول الأخرى من السفراء والدبلوماسيين والعلماء والخبراء ونحوهم.

ولم تغفل الدساتير المنظّمة في موادها هذه المسئولية الدينية والوطنية المهمة، حيث تنص المادة (91) من الدستور المصري المعدل في 2019م على أنَّ:

«للدولة أن تمنح حق اللجوء السياسي لكل أجنبي اضطهد بسبب الدفاع عن مصالح الشعوب أو حقوق الإنسان أو السلام أو العدالة. وتسليم اللاجئين السياسيين محظور، وذلك كله وفقاً للقانون».

وكذلك في رعاية ضيوف الدولة من العاملين، والدارسين، والسائحين، والمُلحَقين الثقافيين، والدبلوماسيين، والممثلين الرسميين للدول الأخرى، وغيرهم… جاءت مواد الدستور والقانون والاتفاقيات الدولية ولجان حقوق الإنسان ولجان القانون الدولي وغيرها تكفل لكل هؤلاء الحماية والرعاية والإحسان طول مدة إقامتهم داخل الدولة طالما كانوا ملتزمين بالقانون والآداب واللوائح المنظّمة لشئونهم.

 

 

([1]) ينظر: الموقع الرسمي لدار الإفتاء الأردنية، فتوى رقم (2889)، بتاريخ 24-03-2014 .

([2]) ينظر: فتوح البلدان، للبلاذري (ص130).

([3]) ينظر: فتوح البلدان، المرجع السابق، (ص 159).

([4]) ينظر: فتوح البلدان، المرجع السابق، (ص 411).

([5]) ينظر: المغني، لابن قدامة، (2/ 309).

([6]) ينظر: المغني، المرجع السابق، (2/ 311).

اترك تعليقاً