البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الفصل السادس: الفتوى ومسئولية الحاكم

المبحث الثامن: ضمان الحرية الدينية لغير المسلمين

86 views

من المعلوم لكل عاقلٍ منصفٍ أن العلاقات في الإسلام تقوم على حرية العقيدة والدين، وعدم الإكراه أو الإجبار للغير على الدخول في الإسلام، يقول الله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256].

ولعل حرية الاعتقاد هي أوسع الحريات دائرة؛ لأن صاحب الاعتقاد مطلق التفكير فيما يعتقده، وأمرها مختلف بين المسلم وغير المسلم. فهي عند الأول محدودة له بما جاء به الدين ممّا تتكون جامعة المسلمين بالاتفاق على أصوله، ولا تقبل من المسلم ردَّة؛ لأن المرتدَّ خارج من الملة ناقض للعهد، وهي عند المسلم فيما عدا ما هو معلوم من الدين بالضرورة ثابتة فله الخِيرَة من أمره([1]).

وبالنظر إلى نصوص الإسلام وتطبيقات العلماء والأمراء لها نجد أن الإسلام يوجب احترام الأديان السماوية والبر والإقساط في الدين، وعلى هذا فليس الاختلاف في الدين -في شرع الإسلام- مما يوجب استباحة الحرمات، بل على العكس تمامًا فإن الإسلام يوجب احترام الأديان والعقائد السماوية والإيمان بها وبمن جاء من الرسل جميعًا، كما يوجب البر والإقساط إلى المخالف في الدين، حتى إذا اكتسب المواطنة في الدولة الإسلامية عن طريق العهد ثبتت له كافة حقوقها الثابتة للمسلم سواء بسواء؛ إذ لهم ما لنا وعليهم ما علينا، ومنحه الحرية في العقيدة وإقامة شعائر عبادته، وله الخيرة أيضًا فيما يتعلق بالأحوال الشخصية لصلتها بالعقيدة والدين ما لم يلجأ إلى القضاء الإسلامي بمحض اختياره([2]).

وقد ضرب حكام المسلمين منذ العهد النبوي أروع الأمثلة في ضمان الحرية الدينية لغير المسلمين الذين يعيشون داخل نطاق الدولة؛ فمع أهل الذمة تركهم وما يدينون، فلم يفتنوا عن دينهم، ولم يلحق بهم أي اضطهاد؛ فالرسول -صلى الله عليه وسلم- أرسى قواعد التسامح الديني، ففي عهد الصلح -الذي تم بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين نصارى أهل نجران- نجد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أقر لهم الحرية في عقيدتهم، فقد جاء في نص هذا العهد: “أن لهم ذمة الله وعهده، وألا يفتنوا عن دينهم، ولا يغير ما كانوا عليه، ولا يغيروا حق من حقوقهم، وأمثلتهم -يقصد: الصلبان والصور- ولا يفتن أسقف عن أسقفيته، ولا راهب عن رهبانيته”([3]).

ومن هذا العهد يتبين لنا جليًّا مدى التسامح الذي منحه -صلى الله عليه وسلم- لأهل نجران.

وأيضًا أقر الرسول -صلى الله عليه وسلم- لليهود حريتهم، فقد كتب إلى معاذ بن جبل -وهو باليمن-: «ألا لا يُفتن يهودي عن يهوديته»([4]).

ولو ألقينا نظرة على ما تضمنه كتاب الصلح الذي تم بين عمر بن الخطاب وأهل إيلياء، نجد أن عمر أعطاهم الأمان على أنفسهم، وكنائسهم، وصلبانهم، وضَمِنَ لهم عدم سكن هذه الكنائس، أو هدمها، أو انتقاص شيء منها، وبمعنى أعم: ضمن ألا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم بسبب عقيدته.

وفي كتاب الصلح الذي تم بين عياض بن غنم وبين إحدى مدن الشام نجد أنه: أقرهم على عقيدتهم، حيث أعطاهم أمانًا لأنفسهم، ولأماكن عباداتهم، وضمن ألا تُخَرَّب، ولا تُسْكَن.

وأيضًا: فإننا نجد خالد بن الوليد في الصلح الذي تم بينه وبين أهل دمشق: فقد أقرهم على عقيدتهم، حيث أمَّن أماكن هذه العبادة.

وأيضًا: ما فعله عمر بن الخطاب حينما دخل بيت المقدس؛ لعقد معاهدة مع أهلها، فقد حضرته الصلاة في كنيسة القيامة، لكنه رفض الصلاة فيها؛ خشية أن يتخذها المسلمون مسجدًا من بعده، فيظلموا أهلها”([5]).

ولذلك أكدت كافة الدساتير في الدول العربية والإسلامية على هذه الحقيقة الإنسانية والدينية، وواجب الحكام في رعايتها وضمانها لرعاياهم جميعًا وكفالتها لكل فردٍ يعيش داخل نطاق دولتهم؛

فقد نص الدستور الكويتي في المادة (35) منه على أن «حرية الاعتقاد مطلقة، وتحمي الدولة حرية القيام بشعائر الأديان طبقا للعادات المرعية، على ألا يخل ذلك بالنظام العام أو ينافي الآداب».

كما نصت المادة (64) من الدستور المصري المعدل 2019م على أن: «حرية الاعتقاد مطلقة. وحرية ممارسة الشعائر الدينية وإقامة دور العبادة لأصحاب الأديان السماوية، حق ينظمه القانون»

بل لم يقتصر الدستور المصري على كفالة حرية الاعتقاد والسماح بإنشاء دور العبادة لهم فقط، وإنما كفل لهم الاحتكام في قضاياهم الداخلية إلى شرائعهم؛ فنصت المادة (3) منه على أنَّ: «مبادئ شرائع المصريين من المسيحيين واليهود المصدر الرئيسي للتشريعات المنظمة لأحوالهم الشخصية، وشئونهم الدينية، واختيار قياداتهم الروحية».

 

 

 

([1]) مقاصد الشريعة الإسلامية لمحمد الطاهر بن عاشور (1/691)، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية-قطر.

([2]) خصائص التشريع الإسلامي في السياسة والحكم للدكتور فتحي الدريني (ص69، 70)، مؤسسة الرسالة-بيروت، الطبعة الثانية، 2013م.

([3]) سنن أبي داود، كتاب: الخراج والإمارة والفيء، باب: في أخذ الجزية  (3041) (3/  167).

([4]) السنن الكبرى للبيهقي، كتاب: الجزية، باب: من قال تؤخذ منهم الجزية عربًا كانوا أو عجمًا (18643)، (9/ 315).

([5]) ينظر: السياسة الشرعية، ناهج جامعة المدينة (ص760، 761).

اترك تعليقاً