البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الفصل السادس: الفتوى ومسئولية الحاكم

المبحث الثاني: رعاية مصالح الناس

74 views

نص الإمام الشافعي على قاعدة عظيمةٍ تتجسدُ فيها مقاصدُ الشريعة من نصب الحكام، فقال: «منزلة الإمام من الرعية منزلة الولي من اليتيم»([1]).

قال الإمام السيوطي: “وأصل ذلك: ما أخرجه سعيد بن منصور في سننه. قال حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب قال: قال عمر رضي الله عنه ” إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة والي اليتيم، إن احتجت أخذت منه فإذا أيسرت رددته فإن استغنيت استعففت “.

ومن فروع ذلك أنه إذا قسم الزكاة على الأصناف يحرم عليه التفضيل، مع تساوي الحاجات. ومنها: إذا أراد إسقاط بعض الجند من الديوان بسبب: جاز، وبغير سبب لا يجوز حكاه في الروضة.

ومنها: ما ذكره الماوردي أنه لا يجوز لأحد من ولاة الأمور أن ينصب إماما للصلاة فاسقًا، وإن صححنا الصلاة خلفه ; لأنها مكروهة. وولي الأمر مأمور بمراعاة المصلحة، ولا مصلحة في حمل الناس على فعل المكروه.

ومنها: أنه إذا تخير في الأسرى بين القتل، والرق، والمن والفداء، لم يكن له ذلك بالتشهي بل بالمصلحة. حتى إذا لم يظهر وجه المصلحة يحبسهم إلى أن يظهر.

ومنها: أنه ليس له العفو عن القصاص مجانًا؛ لأنه خلاف المصلحة، بل إن رأى المصلحة في القصاص اقتص، أو في الدية أخذها.

ومنها: أنه ليس له أن يزوج امرأة بغير كفءٍ وإن رضِيَتْ؛ لأن حق الكفاءة للمسلمين، وهو كالنائب عنهم، فلا يقدر على إسقاطه”([2]).

فهذه القاعدة تضبط الحدود التي يتصرف في نطاقها كل من ولي شيئاً من أمور العامة من إمام أو والٍ أو أمير أو وقاض أو موظف، وتفيد أن أعمال هؤلاء وأمثالهم وتصرفاتهم لكي تنفذ على الرعية وتكون ملزمة لها يجب أن تكون مبنية على مصلحة الجماعة وخيرها.

لأن الولاة والعمال والأمراء والقضاة والقادة وغيرهم ليسوا عمالاً لأنفسهم إنما هو وكلاء على الأمة في القيام بشؤونها، فعليهم أن يراعوا خير التدابير لإقامة العدل وإزالة الظلم وإحقاق الحق وصيانة الأخلاق وتطهير المجتمع من الفساد، ونشر العلم ومحاربة الجهل، والحرص على الأموال العامة ورعايتها وإنفاقها فقط فيما يعود على الأمة بالخير والنفع، كما لا يجوز لهم أن يحابوا بها أحداً دون أحد لجاه أو لسلطان أو رغبة أو طمع، لأنه لا يجوز للوالي أن يأخذ درهماً من أموال الناس إلا بحق، كما لا يجوز له أن يضعه إلا في يد تستحق، كما لا يجوز له كذلك أن يأخذ من مال أحد شيئاً إلا بحق ثابت معروف([3]).

كما أن من القواعد الفقهية المستقرة: «أنَّ تَصَرُّف الإمام على الرعية مَنُوطٌ بالمصلحة»([4]).

بمعنى أن نفاذ تصرف الراعي على الرعية ولزومه عليهم شاءوا أو أبوا معلق ومتوقف على وجود الثمرة والمنفعة في ضمن تصرفه، دينية كانت أو دنيوية. فإن تضمن منفعة ما وجب عليهم تنفيذه، وإلا ردَّ؛ لأن الراعي ناظر، وتصرفه حينئذ متردد بين الضرر والعبث، وكلاهما ليس من النظر في شيء.

والمراد بالإمام أو الراعي هنا: كل من ولي أمرًا من أمور العامة، عامًّا كان كالسلطان الأعظم، أو خاصًّا كمن دونه من العمال، فإن نفاذ تصرفات كل منهم على العامة مترتب على وجود المنفعة في ضمنها([5]).

وكان مما نص عليه الفقهاء من واجبات الحاكم الشرعية التي بها تراعى مصالح المحكومين:

«- استكفاء الأمناء وتقليد النصحاء فيما يفوض إليهم من الأعمال ويكله إليهم من الأموال؛ لتكون الأعمال بالكفاءة مضبوطة، والأموال بالأمناء محفوظة.

– أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور، وتصفح الأحوال؛ لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملة، ولا يعول على التفويض تشاغلا بلذة أو عبادة، فقد يخون الأمين ويغش الناصح، وقد قال الله تعالى: {يَا دَاوُد إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتْبَعْ الْهَوَى فَيُضِلّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26] .

فلم يقتصر الله سبحانه على التفويض دون المباشرة ولا عذره في الاتباع حتى وصفه بالضلال، وهذا وإن كان مستحقًّا عليه بحكم الدين ومنصب الخلافة، فهو من حقوق السياسة لكل مسترع، قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: “كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته”([6])»([7]).

وخلاصة ما سبق أن الحاكم لا بد له من تقليب أمور السياسة على كافة وجوهها، ليتخير لشعبه ووطنه ما يحقق مصالحه العامة بشكل تام، ويجتهد في تحقيق المصالح الجزئية بقدر ما يستطيع مع مراعاة العدل والمساواة بين المواطنين؛ فيحرص كل الحرص على ألا يُدخل دولته في صفقة خاسرة أو تجارة بائرة، وألا يحمّل شعبه من الهموم والديون والالتزامات ما لا يطيقون، وأن يترك دولته يوم يتركها أفضلَ حالًا وأرقى شأنًا وأوفرَ عَيْشًا منها يومَ تسلَّمها، وألا يتسبب في ضياع أي جزءٍ من أجزاء وطنه لا بحربٍ ولا بسلمٍ، وألا يُنْقِص من حقوق دولته وحظوظها في المقدّرات الدولية شيئًا من قليلٍ ولا كثير، فإن قام بواجبه هذا كما ينبغي فإنه لا يبالي متى يترك الحكم؛ لأنه سيحوز رضا الله تعالى، ومحبة شعبه أبد الدهر، ومتى تقاعس عن القيام بشيء من هذه الواجبات وأضر بمصالح دولته فلن يبوءَ إلا بخزي الدنيا والآخرة.

 

([1]) ينظر: المنثور في القواعد الفقهية، للزركشي، (1/309).

([2]) ينظر: الأشباه والنظائر الفقهية، للسيوطي، (ص 121 ).

([3]) ينظر: الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية، د. محمد صدقي الغزي، (1/348، 349).

([4]) ينظر: المنثور في القواعد الفقهية، للزركشي، (1/309).

[5]) شرح القواعد الفقهية، للزرقا (ص309).

([6]) أخرجه البخاري، رقم (893)، ومسلم، رقم (1829).

[7]) ينظر: الأحكام السلطانية، للماوردي، (ص 40، 41).

اترك تعليقاً