البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الفصل السادس: الفتوى ومسئولية الحاكم

المبحث العاشر: مراقبة الحكومة والجهاز الإداري للدولة

70 views

معلومٌ أنَّ المهام التي يتصدى لها الحاكم الأعلى في أيةِ دولةٍ كثيرةٌ ومتشعبة؛ ولذا فمن الطبيعي بحكم المنطق والواقع أن يستعين الحاكم في حكم دولته وتسيير أعمالها وضبط شئونها بفريقٍ من العمال والموظفين والنوّاب والأجهزة الإدارية المختلفة، ولكنَّه مسئولٌ في النهاية عن الحالة العامة التي تصل إليها الدولة بسبب هذا الفريق، إن أنتجوا خيرًا وعدلًا وازدهارًا نُسب إليه، وإن أنتجوا عكس ذلك كان وبالًا عليه. وهذا الواقع يقتضي من الحاكم أن يكون دائمَ المراقبة لأحوال حكومته وجهازه الإداري، لينظر كفاءتهم وأمانتهم، وعدلهم بين الناس فيما ولاهم إياه من المناصب والأعمال، وإتقانهم لما بين أيديهم من الوظائف والسياسات.

وسبب أهمية هذه المراقبة لهم أن هؤلاء المسؤولين الذين يتمركزون في مناصب حساسة تتاح لهم فرص الاستفادة والتكسّب بل والتعدّي على المال العام أكثر من غيرهم، ويكون لهم نفوذ كبير بحيث إن قراراتهم يمكن أن تفيد أو تؤذي شرائح كبيرة من الشعب، واذا حدث ذلك فإن بوابات الفساد تنفتح على مصاريعها، ومن هنا كان لابد للحاكم أن يتابع بدقة وصرامة ما يقوم به المسؤولون حتى لو كانوا مقربين منه، وطالما أن الأمر يتعلق بشؤون الناس والمسؤوليات والمناصب، فإن قضية اختيار الموظفين من لدن القائد ومعرفته لهم وثقته بهم لا تكفي وحدها لكي تكبح خطر الطمع لدى البشر، وهذا يعني أنه ينبغي أن يكون هؤلاء الإداريون تحت مجهر المراقبة والمحاسبة من الحاكم على الدوام.

ولا يفوتنا هنا أن نؤكد على أن هذه المراقبة لا تتم بقصد إيذاء المسؤول وإيقاعه في الشبهة والعنَت، بل لكي تمنعه أصلًا عن التعدي على حقوق الناس، وهذه المتابعة الدقيقة من الحاكم لمعاونيه إنما تدل على رعاية مزدوجة؛ وجهها الأول: محافظته على موظفيه من الزلل، ووجهها الثاني: حمايته لحقوق الشعب، ولذلك لم تكن هناك موانع أو عوائق شرعية ولا قانونية من معاقبة المخطئ بعد منحه فرصة النصح والتوجيه.

من أجل هذا كلِّه كان مما نص عليه الفقهاء من واجبات الحاكم الشرعية تجاه المحكومين:

«- استكفاء الأمناء وتقليد النصحاء فيما يفوض إليهم من الأعمال ويكله إليهم من الأموال؛ لتكون الأعمال بالكفاءة مضبوطة، والأموال بالأمناء محفوظة.

– أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور، وتصفح الأحوال؛ لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملة، ولا يعول على التفويض تشاغلا بلذة أو عبادة، فقد يخون الأمين ويغش الناصح، وقد قال الله تعالى: {يَا دَاوُد إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتْبَعْ الْهَوَى فَيُضِلّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26] .

فلم يقتصر الله سبحانه على التفويض دون المباشرة ولا عذره في الاتباع حتى وصفه بالضلال»([1]).

وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو دائمًا إلى اختيار الأكْفاء الأمناء لتولي المناصب والولايات، حتى إنه لما سأله أبو ذر أن يستعمله على ولاية قال له: «يا أبا ذر؛ إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزيٌ وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدَّى الذي عليه فيها»([2]).

وسيرةُ الخلفاء الراشدين زاخرةٌ بنماذجَ كثيرة من مراقبة الخليفة للعمّال والولاة، ورصد ما يطرأ عليهم من تغيرات مالية بعد توليهم تلك المناصب، ومحاسبتهم على ذلك إن كان غيرَ متناسبٍ مع ما ينالونه من رواتب وعطاءات رسمية، لأن هذه التغيرات تفتح أبواب الشك والشبهة في فساد ذمتهم وقبولهم الرشاوي والهدايا لتمرير بعض الأمور المخالفة لصالح بعض ذوي الوجاهة والثراء والنفوذ، مما يعني وجود مظلومين سُلبت حقوقهم وحُرِموا مما ناله نظراؤهم.

كما أن الخلفاء العادلين لم يكتفوا برصد أحوال الولاة ومحاسبتهم فقط على ما في أيديهم، بل كانوا يراجعون حسابات من ترك المنصب وعليه دعوى من أحد الناس؛ فقد كتب عمر بن عبدالعزيز إلى عماله في مال قبضه بعض الولاة ظلماً فأمر برده إلى أهله وأن تؤخذ زكاته من ذلك الوالي لما مضى من السنين، ثم عقب ذلك بأن لا يؤخذ من المدعي إلا زكاة سنة واحدة، فإنه كان ضماراً([3]).

وكذلك كتب إلى الأمصار برَدِّ أحكامٍ من أحكامِ الحجَّاجِ كانت مخالفةً لأحكام الناس”([4]).

وقد أكدت مواد الدساتير على هذه المسئولية المعلقة في رقبة الحاكم تجاه شعبه ومصالح دولته التي جعلها بيد معاونيه التنفيذيين والإداريين، وبينت أمثل الطرق في تحقيق هذه المراقبة للوصول إلى الحالة الكاملة من الأمانة والنزاهة؛

حيث ينص الدستور المصري المعدل في 2019م على مسئولية رئيس الدولة ومعاونيه من الأجهزة المركزية عن مراقبة الموظفين والعاملين وشئون الأموال والمظالم وصور الفساد سواء من أعضاء الحكومة نفسها أو من بقية العاملين في الدولة، وذلك في المواد التالية:

« المادة (217)

تقدم الهيئات المستقلة والأجهزة الرقابية، تقارير سنوية إلى كل من رئيس الجمهورية، ومجلس النواب، ورئيس مجلس الوزراء، فور صدورها. وعلى مجلس النواب أن ينظرها، ويتخذ الإجراء المناسب حيالها في مدة لا تُجَاوِزُ أربعةَ أشهر من تاريخ ورودها إليه، وتُنشر هذه التقارير على الرأي العام. وتبلغ الهيئات المستقلة والأجهزة الرقابية سلطات التحقيق المختصة بما تكتشفه من دلائل على ارتكاب مخالفات أو جرائم، وعليها أن تتخذ اللازم حيال تلك التقارير خلال مدة محددة، وذلك كله وفقًا لأحكام القانون.

المادة (218)

تلتزم الدولة بمكافحة الفساد، ويحدد القانون الهيئات والأجهزة الرقابية المختصة بذلك. وتلتزم الهيئات والأجهزة الرقابية المختصة بالتنسيق فيما بينها في مكافحة الفساد، وتعزيز قيم النزاهة والشفافية، ضماناً لحسن أداء الوظيفة العامة والحفاظ على المال العام، ووضع ومتابعة تنفيذ الإستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد بالمشاركة مع غيرها من الهيئات والأجهزة المعنية، وذلك على النحو الذي ينظمه القانون.

المادة (219)

يتولى الجهاز المركزي للمحاسبات الرقابة على أموال الدولة، والأشخاص الاعتبارية العامة، والجهات الأخرى التي يحددها القانون، ومراقبة تنفيذ الموازنة العامة للدولة والموازنات المستقلة، ومراجعة حساباتها الختامية».

 

وهكذا بتطبيق هذه المواد مع الالتزام بتعليمات الشريعة في مراقبة العمال والموظفين الإداريين، والنظر في مظالم الناس تجاههم ودعاويهم عليهم ومحاسبتهم على كل ذلك وفق القانون، وكذلك مكافأة المخلصين منهم وتقديرهم ماديًا ومعنويًا تصل الحالة العامة للدولة إلى ذروة الكمال والاستقرار والرخاء، ويأمن الناس على وطنهم ومصالحهم ومقدّراتهم، ويثقون في عدالة حاكمهم ورحمته وحكمته، فيفدونه بأنفسهم إن اقتضت الظروف ذلك، ويأتمرون بأمره بلا نزاع ولا شكاية، ويكونون عونًا له في كل نائبةٍ أو نازلة تنزل به أو بوطنهم.

 

 

 

 

[1]) ينظر: الأحكام السلطانية، للماوردي، (ص 40، 41).

([2]) صحيح مسلم، كتاب: الإمارة، باب: كراهة الإمارة بغير ضرورة، رقم (1825).

([3]) ينظر: الدراية في تخريج أحاديث الهداية، لابن حجر العسقلاني، (1/ 250). و المبسوط، للسرخسي، (2/ 209). والضمار: هو المال الذي يكون عينه قائماً ولا يرجى الانتفاع به كالمغصوب والمال المجحود إذا لم يكن عليه بينة. انظر: التعريفات، للجرجاني، (ص181).

([4]) ينظر: تاريخ الخلفاء، للسيوطي، (1/ 237).

اترك تعليقاً