البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الباب الثالث: مواجهة الفتاوى التحريضية والمفاهيم المغلوطة عن الجهاد

الفصل الثاني: ضرورة إلمام المفتي بفقه الأولويات والمآلات في مجال حفظ النفوس

69 views

فقه الأولويات في الشريعة من أسباب تفوقها واستمرارها، ووظيفة فقه الأولويات هي تقديم المصالح الأولى برعاية الشرع على ما هو أقل منها في نظر الشرع.

ليبين ما الذي ينبغي أن يراعى أولًّا عند تطبيق أحكام الشرع، ثم ما يأتي بعده بالترتيب المعهود للشرع والمستقى من استقراء أحكامه.

وإذا كانت ضرورة الترتيب بين المصالح والمفاسد قد نشأ بسبب التعارض بينها في الواقع، فإن هذا يسمَّى بفقه الموازنات، وهو فرع من الأصل وهو فقه الأولويات.

وفقه الموازنات هو مجموعةٌ من الضَّوابطِ التي تضبط عملية التقديم والتأخير عند تعارُض المصالح مع بعضها أو تعارضها مع المفاسد أو الاضطرار إلى التخيُّر بين مفسدتين؛ وذلك بتقديم المصلحة الأرجح على غيرها، ودرء المفسدة الأعظم خطرًا، وتحمُّل المفسدة الأقل خطرًا.

وفقه الموازنات بهذا المفهوم هو أخصُّ من فقه الأولويات؛ وذلك أن فقه الموازنات وظيفته هي الترجيح بين المتعارضات التي لا يمكن فيها فعلها جميعًا في وقت واحد، أو التي لا يمكن فيها درء أعظم المفسدتين إلا بفعل الأخرى أو لا يمكن فيها تجنُّب مفسدة إلا بترك مصلحة، أو بتحمل المفسدة إذا كانت المصلحة تربو عليها.

وفقه الأولويات له أصل في الشريعة، وله أمثلة كثيرة فتقديم بعض المستحقين للنفقة على بعض، وتقديم بعض المستحقين للإرث على بعض من إعمال الشريعة لأولويات الحاجة والمصلحة، والتي يجب على المجتهدين مراعاتها عند التقديم والتأخير في أوامر الشرع.

ومما طبَّقه النبيُّ صلى الله عليه وسلم عليه وسلم في فقه الموازنات ما رواه عنه أبو هريرة رضي الله عنه حيث قال: قام أعرابي فبال في المسجد، فقام إليه الناس ليقعوا فيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((دعوه وهريقوا على بوله سَجْلًا من ماء، أو ذَنُوبًا من ماء؛ فإنما بُعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين))([1])، فهذا الحديث قد تضمَّن موازنة بين مفسدتين: مفسدة بول الأعرابي في المسجد ومفسدة ترويع الأعرابي الذي قد يؤدي إلى نفوره عن الدين، وبما أن مفسدة ترويع الأعرابي أكبرُ من مفسدة بوله فقد درأت المفسدة الكبرى بما هو أدنى منها، لذلك فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عن زجر الأعرابي اتقاءً ودرءًا لمفسدة الترويع.

كما قدَّم النبي صلى الله عليه وسلم مفسدة افتتان الناس لحداثة إسلامهم على مصلحة إعادة بناء المسجد الحرام على قواعد إبراهيم فقال: ((يا عائشة لولا أن قومكِ حديثُ عهدٍ بجاهلية لأمرتُ بالبيت فهدم فأدخلت فيه ما أخرج منه، وألزقته بالأرض، وجعلت به بابين بابًا شرقيًّا وبابًا غربيًّا فبلغت به أساس إبراهيم)).

يقول ابن حجر العسقلاني: “إن قريشًا كانت تعظم أمر الكعبة جدًّا، فخشي أن يظنوا -لأجل قرب عهدهم بالإسلام- أنه غيَّر بناءها لينفردَ عليهم بالفخر في ذلك، ويستفاد منه ترك المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة”([2]).

ويدخل في فقه الأولويات وفقه الموازنات اعتبار المآلات؛ فإنَّ تقديمَ بعض المصالح في الفعل أو بعض المفاسد في الدرء إنما يتوقفُ على ما يترتب عليها من نَفعٍ أو ضَررٍ راجح على غيرها، إمَّا في الحال أو في المآل، واعتبار المآلات يحتلُّ أهمية كبرى في تَصحيحِ وتصويب عملية الاجتهاد والفتوى، وأكثر من يتضرر ويتأذى من عدم النظر إلى المآلات ورعاية العواقب والنتائج في الفتاوى هم المسلمون في الغرب؛ لأنهم في مرحلة ضعف بسبب الصورة المغلوطة التي ولدها الإعلام عن الإسلام في أعين الغربيين، ونظرًا للظروف المادية التي قد يعاني منها العديد منهم، وتحقيق مقاصد الوجود الإسلامي في الغرب، ومعالجة الحالة التي يعاني منها لا بد من رعاية العواقب والنظر إلى المآلات، وعليه فيكون المراد بالمآل أثر الفعل المرتب عليه؛ سواء أكان هذا الأثر خيرًا أو شرًّا، وسواء أكان مقصودًا لفاعل الفعل أم كان غير مقصود منه.

والمراد بالأفعال كل ما يصدر عن المكلف من عمل الجوارح الظاهرة: كالقول، والفعل، أو من عمل القلب: كالنية والاعتقاد، وسواء أكان ذلك في جانب الفعل كالإتيان بالمأموريات والمباحات، أو في جانب الترك كاجتناب المنهيات.

واعتبار المآل معناه: الاعتداد به وملاحظته في تقرير ما يتعلق على حصول الفعل من الوقائع والأحكام الشرعية؛ بمعنى أن نعطي للفعل حكمًا يتوافق مع ما يؤول إليه، متجنبين بذلك ما قد يقع على الفعل من الأضرار أو ما قد يفوت به من المصالح الغالبة في المستقبل، سواء أكان هذا الذي يترتب عليه ناشئًا عن قصد الفاعل أو عن غير قصده.

قال الإمام الشاطبي: “النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعًا، كانت الأفعال موافقة أو مخالفة؛ وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، مشروعًا لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية، فربما أدَّى استجلاب المصلحة فيه إلى المفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعًا من إطلاق القول بالمشروعية”([3])اهـ.

وقال ابن عابدين: “روى عبد الرزاق قال: غرب عمر رضي الله عنه ربيعة بن أمية بن خلف في الشراب إلى خيبر فلحق بهرقل فتنصر، فقال عمر: لا أغرب بعده مسلمًا، كما في الفتح، ولعلَّ المرادَ أنَّ فعل الحبس أحسنُ من فعل التغريب، فليس المراد تفسير الوارد بذلك بقرينة التعليل فتأمل قوله (لأنه يعودُ على موضوعه بالنقض) أي؛ لأنَّ المقصود من إقامة الحد المنع عن الفساد. وفي التغريب فتح باب الفساد كما علمت، ففيه نقض وإبطال للمقصود منه شرعًا، فكأنه شبه المقصود الأصلي بالموضوع وهو محل العرض المختص به أو بموضوع العلم، وهو ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية كَبَدنِ الإنسان لعلم الطب تأمل”([4])اهـ.

وأيضًا فإن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لـمَّا تولَّى الملك أجل تطبيق بعض أحكام الشريعة، فلمَّا استعجله ابنه في ذلك أجابه بقوله: “أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فيدفعونه جملة ويكون من ذا فتنة”([5])اهـ.

وقد فهم ذلك العلماء، فرتَّبوا عليه أولويات الأمر والنهي، فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية حينما مرَّ بقوم من التتار يشربون الخمر فنهاهم صاحبه عن هذا المنكر، فأنكر عليه ذلك قائلًا: “إنما حرَّم الله الخمر لأنها تصدُّ عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذُّرية وأخذ الأموال فدعهم”([6])اهـ.

وقد أورد الشَّاطبيُّ كثيرًا من الأمثلة لفعل النبي والصحابة بهذا المبدأ منها:

قال الشاطبي: “ومنها: الترك للمطلوب خَوفًا من حدوث مفسدة أعظم من مصلحة ذلك المطلوب كما جاء في الحديث عن عائشة: ((لولا أنَّ قومكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ، فأخاف أن تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ أن أَدْخُلَ الْجَدرَ في البيت، وَأَن ألصِقَ بَابَهُ بِالأَرضِ))، وفي رواية: ((لأسست البيت على قواعد إبراهيم))، ومنع من قتل أهل النفاق، وقال: ((لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه))”([7])اهـ.

ومن الأمثلة التي أوردها الشاطبي: أفتى مالك لمن رأى هلال شوال وحده ألا يفطر لئلا يكون ذريعةً إلى إفطار الفساق محتجين بما احتج به.

وراعى زياد مثل هذا في صلاة الناس في جامع البصرة والكوفة؛ فإنهم كانوا إذا صلوا في صحنه ورفعوا من السجود مسحوا جباههم من التراب، فأمر بإلقاء الحصى في صحن المسجد، وقال: لست آمن أن يطول الزمان فيظن الصغير إذا نشأ أن مسح الجبهة من أثر السجود سنة في الصلاة.

ومسألة مالك مع أبي جعفر المنصور حين أراد أن يحمل الناس على “الموطأ” فنهاه مالك عن ذلك من هذا القبيل أيضًا.

وترك قتل أهل النفاق المشهود عليهم بالكفر؛ لما في ذلك من تشويه صورة الدين، وتنفير الناس منه.

وترك بعض الصحابة ذبح الأضحية يوم العيد، وترك عثمان رضي الله عنه القصر في الحج؛ خوفًا من أن يقول جهلة الناس: إن الصلاة أصبحت ركعتين.

وترك عمر رضي الله عنه إصدار بيان على الناس يشرح فيه قضية الشورى واختيار الحكام بناء على نصيحة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه؛ حتى لا يساء فهمه، ويطير الناس إلى أقطارهم بتصورات خاطئة.

ولقد دخل ابن عمر على عثمان وهو محصور، فقال له: “انظر ما يقول هؤلاء، يقولون: اخلع نفسك أو نقتلك. قال له: أمخلد أنت في الدنيا؟ قال: لا. قال: هل يملكون لك جنةً أو نارًا؟ قال: لا. قال: فلا تخلع قميص الله عليك فتكون سنة، كلما كره قوم خليفتهم خلعوه أو قتلوه”.

ولما همَّ أبو جعفر المنصور أن يبنيَ البيت على ما بناه ابن الزبير على قواعدِ إبراهيم شاور مالكًا في ذلك؛ فقال له مالك: “أنشدك الله يا أمير المؤمنين ألا تجعل هذا البيت ملعبة للملوك بعدك؛ لا يشاء أحد منهم أن يغيره إلا غيره، فتذهب هيبته من قلوب الناس، فصرفه عن رأيه فيه؛ لما ذكر من أنها تصير سنة متبعة باجتهاد أو غيره، فلا يثبت على حال ([8]).

ومن أدوات المفتي في تطبيق فقه الأولويات معرفة المصالح التي أولاها الشرع بالعناية وقدمها على غيرها، ومن ذلك إعمال قاعدة دوران الفتوى مع المصلحة، وأن يراعيَ تغيُّر هذه المصلحة بتغيُّر الزمان والمكان حتى يكون ذلك إطارًا صَحيحًا لإقرار الحقوق من خلال الفتوى.

وتغير الفتوى بتغير المصلحة في الأحكام التي تقبل التغيير هو من أسباب قوة الفتوى وحياتها، ومناسبتها لكل أنواع النوازل والقضايا، خاصَّة تلك القضايا التي يثيرها التعامل مع الدول الأخرى أو التعامل مع رعايا تلك الدول.

والمصلحةُ مأخوذةٌ من الفعل صلح، ومنه الصلاح، ضد الفساد، يقال: أصلح الشيء يصلحه أتى بالصلاح وهو الخير والصواب، والمصالح أمور اعتبارية تختلف بحسب اختلاف الناس وعاداتهم وأخلاقهم([9]).

وعرفها الغزالي: “أما المصلحة: فهي عبارة في الأصل عن جلْب منفعة أو دفع مضرة” ([10])اهـ.

ومن المقرَّر أنَّ أحكام الشریعة لم تأتِ على شكل قوالبَ جامدة لا یُراعى فیها الظروف التي تحیط بالمكلفين، بل جاءت مرنةً واسعةً تراعي أحوال المكلفين، وهو ما يجعل الفتوى الشرعية قابلةً للتغيير حسب هذه الظروف والملابسات، ومن جملة الأمور المؤثرة في تغیُّر الفتوى هو تغیر المصالح، فلاختلاف المصالح اعتبارٌ في الفتیا، بل هي مؤثرة فیها تأثیرًا واضحًا؛ إذ جلْب المصالح ودرء المفاسد أحد أهم المقاصد الشرعیة، والمصالح تختلف من زَمانٍ إلى زمان، ومن شَخصٍ لآخر، ومن مَكانٍ لآخر، فالشریعة الإسلامیة مرنة تسع بنصوصها وأحكامها وفتواها جمیع المكلفین.

ومعنى تغيُّر الفتوى بتغير المصلحة أن تختلف الفتوى في بيان حكم المسألة الواحدة من حال إلى حال، أو شخص لآخر، أو زمان عن زمان، فإنَّ من أهم مظاهر التيسير على المكلفين مراعاةَ الفروق الفردية بينهم، واختلاف الملابسات والظروف المحيطة بكل واحد منهم، وعلى هذا الأساس تتغير الفتوى لتلائم أحوال المكلفين المتعددة وأزمانهم وأماكنهم المختلفة.

وقد قرَّر الشاطبي أنه ينبغي على المجتهد: “النظر فيما يصلح بكل مكلف في نفسه بحسب وقت دون وقت وحال دون حال وشخص دون شخص؛ إذ النفوس ليست في قبول الأعمال الخاصة على وزان واحد… فهو يحمل على كل نفس من أحكام النصوص ما يليق بها بناءً على أن ذلك هو المقصود الشرعي في تلقي التكاليف”([11])اهـ.

قال العلامة ابن القيم: “فصل في تغيير الفتوى، واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد:

هذا فصل عظيم النفع جدًّا وقع بسبب الجهلِ به غلطٌ عظيمٌ على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به؛ فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالحُ كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى البعث -فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل؛ فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها، وهي نوره الذي به أبصر المبصرون، وهداه الذي به اهتدى المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل، وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام”([12])اهـ.

وقد طلب الناس من النبي صلى الله عليه وسلم أن يسعر لهم فلم يفعل، وقال: ((إن االله هو المسعر القابض الباسط))، وعلى ذلك فمقتضى العمل بهذا الحديث الشريف عدم جواز التسعير عمومًا، لكن الناظر إلى هذا الحديث يدرك أن حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في عدم التسعير تكمن في أن المصلحة في هذا الوقت كانت في عدم التسعير؛ إذ التسعير كان سيؤدي إلى قلة العرض وزيادة الطلب، فلما كان عصر التابعين، وتغيرت أحوال الناس، وصارت هناك حالات من الغلاء غير المبرر والخارج عن السيطرة أجاز علماء التابعين التسعير دفعًا للضرر، وتحقيقًا للمصلحة المستجدة التي تتطلب تغير الفتوى.

والمصالح منها ما هو واقع تحت دلالة الدليل، وهو ما يسمى بالمصالح المعتبرة، ومنها المـصالح التي لم يقـم دليـل شرعي خـاص علـى اعتبارهـا ولا علـى إلغائهـا، ولكـن دلَّـت الأدلــة العامَّــة علــى اعتبارهـا، وإنمــا سميــت مرســلة لأن الــشارع لم يشهد لها باعتبــار ولا بإلغاء.

وليس معنى كون هذه المصالح مرسلة أي خالية تمامًا من الاعتبار الشرعي لهـا؛ بـل المقـصود أن هـذه المـصالح خاليـة عـن اعتبـار عينهـا، فلـم يـرد دليـل خـاص بمـصلحة مـن هـذا النـوع، ولكـن وردت الأدلـة الـشرعية علـى اعتبـار جـنس المـصالح، وقـد قـصد بوصـفها بالإرسـال التفرقـة بينهـا وبين القياس، فهي معتبرة جملة، بينما دليل القياس وشاهده يكون تفصيليًّا.

عرفهــا الشاطبي بأنها: “المــصالح التي ســكتت عنهــا نــصوص الــشريعة فلــم تــصرح باعتبارهــا ولا بإلغائهـا، إلا أنها لا بـد وأن تكـون ملائمـةً لتـصرفات الـشارع، بحيـث تكـون نـصوص الـشريعة دالةً عليها في الجملة، دون دليل خاص عليها”([13])اهـ.

وعلى المفتي أن يكون على إلمام بالمصالح التي قصدها الشارع في المعاملات المختلفة؛ لأن الحقوق مرتبطة بالمصلحة.

ودار الإفتاء المصرية تراعي الأولويات في فتاويها، وتعمل فيها فقه الموازنات وترتيب المصالح والمفاسد حسب التطورات والمستجدات، والأمثلة على ذلك كثيرة، ومنها فتوى تبين ضرورة الموازنة بين العبادة -وخاصَّة صلاة الجماعة- وبين إغاثة الملهوف والمحتاج إلى العلاج، وعن حكم الإسلام في قفل الصيدلية وقت الصلاة لأكثر من نصف ساعة وترك الحالات المَرَضِيَّة المذكورة دون أن توجد بين الصيدليات صيدلياتٌ مُناوِبة وقد كان نصٌّها:

“بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده سيدنا محمد رسول الله وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.

توجد بمركز الضبعة- محافظة مطروح خمس صيدليات أهلية داخل مدينة الضبعة، وكل هذه الصيدليات تُقفَل للتوجُّه لأداء الصلوات المكتوبة بالمساجد، والتي تستغرق من نصف إلى ثلاثة أرباع ساعة حسب بُعد المسجد وقُربِه، وقد يحضر المرضى والمصابون للعيادات التي تقوم على الفور بطلب الدواء اللازم لحالة المريض أو المصاب من الحوادث، والحالات تتراوح ما بين المتوسطة إلى الحالات الحرجة والخطرة التي تتطلب دواءً فوريًّا كمرضى القلب أو الجلطات أو نزيف الدم، وقد حصل معي هذا أكثر من مَرَّة، وأُشهِد الله على ذلك، وقد قمت في المرة الأخيرة بتوبيخ أحد الصيادلة، وكان يقفل الصيدلية لأداء فريضة صلاة العشاء والتي غاب فيها نصفَ ساعة، مما ترتَّب عليها في حالة المريضِ ما ترتَّب، وقلت له حسب فهمي البسيط -كمواطنٍ مسلمٍ- لدينِ الإسلام: إن إنقاذَ حياة مريضٍ أفضلُ مِن صلاتك في المسجد وقفلك للصيدلية؛ لقوله تعالى: {وَمَنۡ أَحۡيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحۡيَا ٱلنَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32].

وعليه: ما حكم الإسلام في قفل الصيدلية وقت الصلاة لأكثر من نصف ساعة وترك الحالات المَرَضِيَّة المذكورة دون أن توجد بين الصيدليات صيدلياتٌ مُناوِبة؟ وهل يجوز للصيدلي أن يؤديَ صلاته في مكان عمله ويتابع صرف الدواء للمرضى أصحاب الحالات الحرجة؟

وقد بيَّنت الفتوى أنَّ علاج المرضى وإنقاذ المصابين وإغاثة الملهوفين والمنكوبين من الواجبات الأساسية على المسلمين، وأنَّ رؤية الصائم في رمضان غريقًا لا يتمكن من إنقاذه إلا بالفطر، أو مصولًا عليه لا يمكن تخليصُه إلا بالتقَوِّي بالفطر، فإنه يفطر وينقذه؛ فنصت على:

“من المقرَّر شرعًا أن علاج المرضى وإنقاذ المصابين وإغاثة الملهوفين والمنكوبين من الواجبات الأساسية على المسلمين؛ لأنها تعد أهمَّ الضروريات المقاصدية الخمس التي قام على أساسها الشرعُ الشريف، وهي ضرورة حفظ النفس؛ حيث إنها تدخلُ دخولًا أساسيًّا فيها، يقول الإمام العز بن عبد السلام في (قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 1/ 66، ط. مكتبة الكليات الأزهرية) في معرض ذكر أمثلة على تقديم الفاضل على المفضول من المصالح سواء كانت واجبةً أو مندوبة، مُقرِّرًا أن إنقاذ النفس مما قد تُشْرِفُ عليه من خطر هو -قبل كل شيء- تأديةٌ لحق الله تعالى بالحفاظ على النفوس: تقديم إنقاذ الغرقى المعصومين على أداء الصلوات؛ لأنَّ إنقاذ الغرقى المعصومين عند الله أفضلُ من أداء الصلاة، والجمع بين المصلحتين ممكنٌ بأن ينقذ الغريق ثم يقضي الصلاة، ومعلومٌ أن ما فاته من مصلحة أداء الصلاة لا يقارب إنقاذ نفس مسلمة من الهلاك.

وكذلك لو رأى الصائم في رمضان غريقًا لا يتمكن من إنقاذه إلا بالفطر، أو رأى مصولًا عليه لا يمكن تخليصُه إلا بالتقَوِّي بالفطر، فإنه يفطر وينقذه، وهذا أيضًا من باب الجمع بين المصالح؛ لأن في النفوس حقًّا لله عز وجل، وحقًّا لصاحب النفس، فقدَّم ذلك على فوات أداء الصوم دون أصله. اهـ”.

كما بيَّنت أن حفظ النفوس من حقوق الله تعالى، ولذلك فهي من الواجبات، وليست من الحقوق فقط، فنصت على:

“وضرورة حفظ النفس هذه هي حقٌّ لله تعالى أوَّلًا قبل أن تكون حقًّا للعباد، ولذلك ارتقت الشريعة بها من الحقوق إلى الواجبات، ومن أجل ذلك حرَّم الله تعالى الانتحارَ وإيذاءَ الشخص لنفسه وإهلاكَهُ لها، فقال جل شأنه: {وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِيمٗا ٢٩ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ عُدۡوَٰنٗا وَظُلۡمٗا فَسَوۡفَ نُصۡلِيهِ نَارٗاۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرًا} [النساء: 29، 30]، وقال تعالى: {وَلَا تُلۡقُواْ بِأَيۡدِيكُمۡ إِلَى ٱلتَّهۡلُكَةِ} [البقرة: 195].

وأخرج البخاري ومسلم عن ثابت بن الضحَّاك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ)).

وعلى ذلك: فكما أنَّ أداءَ العبادات من حقوق الله تعالى على عباده، فإنَّ حفظ النفوس أيضًا من حقوق الله تعالى على عباده، غير أنَّ حفظ النفوس يزيد على أداء العبادات بأنه يجمع بين كونه حقًّا لله تعالى من جهة، وبين كونه حقًّا للعباد من جهةٍ أخرى؛ قال الإمام العز بن عبد السلام في موضعٍ آخر من (قواعد الأحكام، 1/ 173) تَحْتَ فصلٍ عقَدَهُ بعنوان: “الفصل السادس فيما يتقدم من حقوق الرب على حقوق عباده”: “وليس تقديمُ إنقاذ الغَرْقَى وتخليص الهَلْكَى على الصلوات من هذا الباب، وإنما هو من باب تقديم حق الله وحق العباد على الصلوات” اهـ.

كما قررت الفتوى أنَّه لا يجوز شرعًا اجتماع جميع الصيدليات على الإغلاق وقت الصلاة، ولا سيما لوقتٍ طويل يفوت بمروره إنقاذ من أشرف على الهلاك، أو خِيفَ من تَدَهْوُر حالته الصحية، فنصت على:

“وحتى على القول بمذهبِ مَن يوجِب صلاةَ الجماعة، فإنه يجب تعيين مَن يقوم على خدمة المرضى بتقديم الدواء لهم بِلَا انقطاع؛ لأنَّ هذه ثغرةٌ مِن الثغور يجب أن تُسَدَّ، وأداء الواجب المتعلق بإنقاذ النفوس وحفظ الأرواح من الهلاك مُقدَّمٌ في الشريعة على أداء العبادات فضلًا عن أدائها على الصورة الكاملة، فإنه يُكتفَى بالحد الأدنى في أداء الفروض في سبيل سدِّ ثغرٍ من الثغور بتحقيق المصلحة العامة في إنقاذ النفوس ونجدتها، بل إنَّ العلماء نصُّوا على أنه إذا تعيَّن إنقاذ الأسير أو المشرف على الهلاك وتعارض مع أداء الصلاة في وقتها، فإنه يجب إنقاذ الأسير أو المشرف على الهلاك وإن ترتب على ذلك خروج الصلاة عن وقتها:

يقول الإمام السيوطي الشافعي في (الأشباه والنظائر، ص: 80، 81، ط. دار الكتب العلمية): “المشقة التي لا تنفكُّ عنها العبادات غالبًا، فعلى مراتب:

الأولى: مشقَّة عظيمة فادحة: كمشقة الخوف على النفوس والأطراف ومنافع الأعضاء، فهي موجبةٌ للتخفيف والترخيص قطعًا؛ لأنَّ حفْظَ النفوس والأطراف لإقامة مصالح الدين أولى من تعريضها للفوات في عبادة، أو عبادات يفوت بها أمثالها” اهـ.

ويقول الإمام البجيرمي الشافعي في (تحفة الحبيب على شرح الخطيب، 1/ 403، ط. دار الفكر): “وقد يجب إخراج الصلاة عن وقتها كما نبَّه إذا خيف انفجار الميت أو فوت الحج أو فوت إنقاذ الأسير أو الغريق لو شرع فيها” اهـ.

ويقول الشيخ محمد بن علي بن حسين مفتي المالكية بمكة المكرمة في عصره في (تهذيب الفروق والقواعد السنية في الأسرار الفقهية، 2/ 200، 201، ط. عالم الكتب): “إذا تعارضت الحقوق قدم منها أحد ثلاثة أنواع على ما يقابله:

النوع الأول: ما جَعَلَه صاحبُ الشرع مُضَيَّقًا -مِن حيث إنَّ التضييق يُشعِر بكثرة اهتمامه به- يُقدَّم على ما جَوَّز للمكلَّف تأخيره وجَعَله مُوَسَّعًا عليه، ومن ذلك تقديم ما يُخشى فواتُه على ما لا يُخشى فواتُه وإن كان أعلى رُتبةً مِنه، وله نظائرُ كثيرةٌ في الشريعة… ومنها: تقديم صَوْن النفوس والأعضاء والمنافع على العبادات، فيُقَدَّم إنقاذُ الغريق والحريقِ ونحوهما -إذا تَعيَّن ذلك عليه- على الصلاة ولو كان فيها أو خشي فوات وقتها” اهـ.

وعليه: فإنَّ على مجموع الصيدليات في هذه القرية أن تنظِّمَ فيما بينها نوباتِ العمل المُستمِرِّ ليلَ نهار؛ بحيث لا يخلو وقتٌ من العدد المناسب من الصيدليات التي تقوم بأداء هذا الفرض الكفائي، واستقبال الحالات الحرِجة والمفاجِئة، والتي قد تتدهور بالتأخير القليل؛ فإنَّ ذلك مِن باب فروض الكفاية التي إذا عمل بها البعضُ سَقَطَ عن الباقين، وإن تركوها كُلُّهم أثِموا جميعًا، وليعلموا أن هذه المُناوَبةَ نوعٌ مِن الرباط في سبيل الله.

وهذا هو ما ينص عليه القانون المصري رقم (127) لسنة 1955م في مادته الثامنة والثلاثين التي تحدد مواعيد العمل بالصيدليات وما يتبعه من الإجازات السنوية والراحة الأسبوعية والأعياد الرسمية ونظام الخدمة الليلية بقرارٍ يصدره وزير الصحة العمومية بعد أخذ رأي نقابة الصيادلة؛ بحيث لا تقلُّ ساعاتُ العمل اليوميةُ عن ثماني ساعات، وبحيث يضمن وجود عدد من الصيدليات مفتوحة في جميع الأوقات.

وبناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فإنه لا يجوز شرعًا اجتماع جميع الصيدليات على الإغلاق وقت الصلاة، ولا سيما لوقتٍ طويل يفوت بمروره إنقاذ مَنْ أشرف على الهلاك أو خِيفَ من تَدَهْوُر حالته الصحية؛ لأن في ذلك فواتَ حفظِ النفوس الذي هو مقدَّمٌ في الشرع الشريف على أداء العبادات، ويجب تعيين إحدى الصيدليات في المنطقة الواحدة لتقوم بواجب توفير حوائج المرضى، وبذلك يسقط الإثم عن الباقين، وإلَّا أَثِم الجميع بترك الواجب، كما أنه يجوز للصيدلي أن يؤديَ صلاته في مكان عمله ويتابع صرف الدواء للمرضى”([14]).

 

([1]) أخرجه الشيخان بعدة ألفاظ. صحيح البخاري مع الفتح 1/ 386، 387 (الوضوء/ صب الماء على البول في المسجد)، وصحيح مسلم مع شرح النووي 1/190، 191 (الطهارة/ وجوب إزالة النجاسة إذا حصلت في المسجد).

([2]) فتح الباري 270.

([3]) الموافقات (5/ 177) دار ابن عفان.

([4]) الدر المختار وحاشية ابن عابدين (رد المحتار) (4/ 14).

([5]) الموافقات للشاطبي 2/148.

([6]) إعلام الموقعين لابن القيم 3/ 13.

([7]) الموافقات (4/ 428).

([8]) الموافقات (4/ 113).

([9]) القاموس المحيط، مجد الدين أبو طاهر محمد بن يعقوب الفيروزآبادي ١/ ٤٧٣، الرسالة للطباعة والنشر.

([10]) المستصفي (ص: 174) دار الكتب العلمية.

([11]) الموافقات 5/ 55.

([12]) إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم (3/ 11).

([13]) نظر: الاعتصام للإمام الشاطبي، ٢/ ٣٦٧، ط. مطبعة عمرو الحلبي.

([14]) الفتوى المقيدة برقم 457 لسنة 2012م.

اترك تعليقاً