البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الباب الثاني: معالجة الفتوى لمستجدات الواقع في حفظ الدماء

الفصل الأول: كيفية تعامل المفتي مع المستجدات والنوازل في مجال حفظ الدماء

59 views

يجب على المتصدي للفتوى أن يراعي مستجدات الواقع الدولي والمحلي في مجال الجريمة، وفي مجال محاربتها وفي مجال حفظ الدماء، فقد تطورت الجريمة بشكل كبير، وتعددت صورها ومسمياتها، وكان من اللازم أن تتعدد صور مواجهتها.

وكما أن الجريمة قد تعددت صورها وأشكالها فإنها قد توسعت من حيث التشعب والامتداد فعرف العالم الميليشيات، والعصابات المتعددة الجنسيات والتي تمارس جرائمها على أكثر من أرض وأكثر من دولة.

على أن دور المفتي في الأحكام الشرعية -ومنها أحكام الجنايات- لا يتوقف عند حدود الأحكام الواقعة بالفعل، ولا عند حدود الأحكام المنصوص عليها أو التي تعرض الفقهاء لها، وإنَّما يلزم المفتي أن يكون على استعداد دائم لمجاراة جميع الوقائع المستحدثة ببيان أحكامها، وعدم تركها لغير المتخصصين؛ خاصَّةً في مجال الدماء والذي تتعدى الواقع والمستفتي إلى الآلاف من الأبرياء الذين لا ذنب لهم.

والفرع الذي لم ينصَّ عليه في كتب المذاهب لا يخرج عن أحد احتمالين:

الأول: أن يكون الفرع له نظير في كتب المذهب يمكن تخريجه عليه وهو ما يسمى بالإلحاق والتخريج، وهو أمر يحتاج إلى مهارة فقهية وأصولية عالية، ولا يقوى عليها إلا أهل التخصص وهم المنوطون بالإفتاء، والمجامع الفقهية ([1]).

الثاني: أن يكون فرعًا جديدًا، لم يسبق له ذكر بذاته، لا في النصوص الشرعية، ولا في المصنفات الفقهية، وليس له نظير يمكن إلحاقه به وحينئذ يصدق عليه اسم: النازلة الفقهية، وفي هذه الحال يستأنف الفقيه له نظرًا جديدًا، مراعيًا أصول الشريعة وقواعدها وأدلتها العامة.

والنازلة قد تكون مستجدة من بدايتها، كما أنها قد تكون مخلقة من تركيب عدة عقود أو تصرفات معروفة في الفقه، ولا بد للفقيه ليتحقق له تصور النازلة من سلوك أحد طريقين:

الأول: أن يقف على النازلة بنفسه وأن يتعرف على حقيقتها بطريقة مباشرة؛ ليكون تصوره لها كاملًا يمكنه من إيجاد حلول شرعية لها.

الثاني: أن يتعرف عليها بواسطة سؤال أهل الخبرة.

وقد أصدرت دار الإفتاء فتوى تتحدث فيها عن منهج دار الإفتاء المصرية في التعامل مع النوازل، وقد طبَّقت دار الإفتاء هذا المنهج على قضايا القتل، وقد قررت أن الإفتاء شامل لجميع مناحي الحياة وليس قاصرًا على مجال دون مجال؛ فنصَّت على:

“الأصل أن الإفتاء شامل لجميع مناحي الحياة وليس قاصرًا على مجال دون مجال، فقد عرفوه بأنه: تبيين مبهم حاصل في مسألة يراد بيان حكم الشرع فيها، وحكم الشرع يتعلق بأفعال المكلفين إذ ما مِن فِعلٍ يفعله المكلف في أي جانب من جوانب الحياة، وعلى أي مستوى من المستويات إلا ولله تعالى فيه حكم شرعي، وعلى ذلك فالإفتاء يتعلق بشتى جوانب الحياة اقتصادية كانت أو سياسية أو اجتماعية أو عبادات أو معاملات أو عادات، إلا أن تناوله لذلك كله بما هو بدراسة الواقع المسؤول عنه، ثم الالتفات إلى الفقه ليأخذ منه حكم الله تعالى في مثل هذا الواقع بما يحقق مقاصد الشريعة.

وعلى ذلك سارت دار الإفتاء المصرية كما هو ظاهر لمن تأمل فتاوى علمائها على مدى السنين منذ نشأتها وحتى الآن”.

ثم بينت الفتوى طريقة دار الإفتاء في التعامل مع النوازل من خلال مرحلة التصوير، ثم مرحلة التكييف، ثم مرحلة بيان الحكم الشرعي، ثم مرحلة التنزيل فنصَّت على: “ثالثًا: الطريقة الإجرائية لدراسة هذه النوازل في دار الإفتاء:

تتمثل الطريقة الإجرائية التي اتخذتها دار الإفتاء المصرية عبر مائة سنة من الخبرة والعمق التاريخي في أن الفتوى تمر في ذهن المفتي بأربع مراحل:

المرحلة الأولى: مرحلة التصوير، وفيها يتم تصوير المسألة من قبل السائل الذي يريد أن يستفتي في واقعة نزلت به أو بغيره، والتصوير الصحيح المطابق للواقع شرط أساسي لصحة الفتوى ومطابقتها للواقع الفعلي المسؤول عنه، فعدم صحة التصوير يؤدي إلى أن الفتوى الصادرة ستكون لما فهم من السؤال وليس لما هو في نفس الأمر، وعبء التصوير أساسًا يقع على القائل، لكن المفتي ينبغي عليه أن يتحرى بواسطة السؤال عن الجهات الأربع التي تختلف الأحكام باختلافها، وكثيرًا ما يتم الخلط والاختلاط من قبل السائل بشأنها، وهي الزمان والمكان والأشخاص والأحوال، كما ينبغي على المفتي أيضًا أن يتأكد من تعلق السؤال بالأفراد وبالأمة؛ لأن الفتوى تختلف باختلاف هذين الأمرين، والتصوير قد يكون لواقعة فعلية، وقد يكون الأمر مقدرًا لم يقع بعد؛ وحينئذ فلا بد من مراعاة المآلات والعلاقات البيئية، وبقدر ما عند المفتي من قدرة على التصوير بقدر ما تكون الفتوى أقرب لتحقيق المقاصد الشرعية وتحقيق المصلحة ودرء المفسدة.

وقد نص الغزالي على ذلك في كتاب حقيقة القولين كما أورده السيوطي في “الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض”، فقال: “وضع الصور للمسائل ليس بأمر هين في نفسه، بل الذكي ربما يقدر على الفتوى في كل مسألة إذا ذكرت له صورتها، ولو كلف وضع الصور وتصوير كل ما يمكن من التفريعات والحوادث في كل واقعة عجز عنه، ولم تخطر بقلبه تلك الصور أصلا، وإنما ذلك شأن المجتهدين” اهـ.

المرحلة الثانية: التكييف، وهو إلحاق الصورة المسؤول عنها بما يناسبها من أبواب الفقه ومسائله، فنكيف المسألة مثلا أنها من باب المعاملات لا العبادات، وأنها من باب العقود وأنها من قسم مسمى منها، أو من العقود الجديدة غير المسماة، وهذه مرحلة تهيئ لبيان حكم الشرع الشريف في مثل هذه الواقعة، والتكييف من عمل المفتي ويحتاج إلى إعمال نظر دقيق؛ لأن الخطأ فيه يترتب عليه الخطأ في الفتوى، والتكييف قد يختلف العلماء فيه، وهذا الاختلاف أحد أسباب اختلاف الفتوى، والترجيح بين المختلفين حينئذ يرجع إلى قوة دليل أي منهم، ويرجع إلى عمق فهم الواقع، ويرجع إلى تحقيق المقاصد والمصالح ورفع الحرج، وهي الأهداف العليا للشريعة.

المرحلة الثالثة: بيان الحكم الشرعي:

والحكم الشرعي هو خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع.

يؤخذ هذا من الكتاب والسنة والإجماع، ويتم إظهاره أيضًا بواسطة القياس والاستدلال، ويجب على المفتي أن يكون مدركًا للكتاب والسنة، ومواطن الإجماع، وكيفية القياس، ودلالات الألفاظ العربية، وترتيب الأدلة، وطرق الاستنباط، وإدراك الواقع إدراكًا صحيحًا، ويتأتى هذا بتحصيله لعلوم الوسائل والمقاصد كالأصول والفقه واللغة والحديث ونحوها بتدريبه على الإفتاء الذي ينشئ لديه ملكة راسخة في النفس يكون قادرًا بها على ذلك، وكذلك تحليه بالتقوى والورع والعمل على ما ينفع الناس.

المرحلة الرابعة: التنزيل: وهو إنزال هذا الحكم الذي توصل إليه على الواقع، وحينئذ فلا بد عليه من التأكد أن هذا الذي سيفتي به لا يكر على المقاصد الشرعية بالبطلان.

ولا يخالف نصًّا مقطوعًا به ولا إجماعًا متفقًا عليه ولا قاعدة فقهية مستقرة، وإذا وجد شيئًا من هذا فعليه بمراجعة فتواه حتى تتوفر فيها تلك الشروط”.

ثم بينت الفتوى أنَّ إدراك المفتي للواقع بعوامله المختلفة جزءٌ لا يتجزأ من عملية الإفتاء، فنصَّت على: “ومعلوم أن الفتوى تختلف باختلاف الجهات الأربعة التي ذكرناها وهي الزمان والمكان والأشخاص والأحوال، ومن أجل ذلك كان إدراك الواقع بعوامله المختلفة جزءًا لا يتجزأ من عملية الإفتاء، فالواقع يتكون من عالم الأشياء وعالم الأشخاص وعالم الأحداث وعالم الأفكار وعالم النظم، ويتكون أيضًا من العلاقات البينية المتشابكة بين تلك العوالم، ولا بد من مراعاة كل ذلك في إدراك الواقع والتعامل معه، والأصل في الإفتاء أنه أمر ملزم؛ وذلك لأنه مرتبط بصورة معينة قد لا تتكرر؛ ولأنه ليس حكمًا صادرًا من قاضٍ، لكنه مع ذلك ملزم دينيًّا للسائل الذي تعين له من يفتيه، وينبغي على السائل ألا يكرر السؤال بين مفتيين مختلفين فيحدث له اضطراب عند اختلافهم في الفتوى”.

ثم بيَّنت الفتوى أن الأصل أن يلتزم المفتي بما ورده من المذاهب الفقهية، وأنَّه لا يجوز له الخروج عنه إلَّا إذا تغيَّر العصر واقتضت مصالح الناس هذا الخروج؛ مع الحرص على الاستئناس بما عليه المجامع الفقهية؛ فنصَّت على:

“ومن الناحية العملية فإن المفتي يكون حريصًا على الاستئناس بما عليه الأئمة الأربعة، ولا يخرج عنهم جميعًا إلا لتقديره تغيُّرَ العصر واحتياج الناس لتحقيق مصالحهم إلى غير مذاهب أولئك الأئمة الأعلام، فينتقل من فقههم إلى الفقه الإسلامي الرحيب بأئمته الذين تجاوزوا الثمانين مجتهدًا، ثم إلى فقه الصحابة الكرام الذين تصدروا للفقه، ونقل عنهم في أمثال مصنف ابن أبي شيبة، وعبد الرزاق، والمغني لابن قدامة، والمجموع للنووي ونحوها، ثم ينتقل إلى الدليل الشرعي مباشرة لذات الأسباب المذكورة، كل ذلك مع الحرص على الاستئناس بما عليه المجامع الفقهية كمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر ومجمع الفقه الإسلامي بمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة ونحوهما، وكذلك ما عليه الجماعة العلمية بالجامعات الشرعية في بلاد المسلمين، ويكون التخيير في كل ذلك مبنيًّا على أن القول له دليل معتبر، وأنه يحقق مصالح الناس ويرفع الحرج عنهم، ويُمكِّن لنشر صحيح الإسلام والدعوة إليه ويحبب الخلق في الخالق، ولا يكون حجابًا بينهم وبين ربهم.

فأصل صياغة الفتوى أن تنصَّ على السؤال، ثم بيان حكم الشرع فيه، ثم الدليل، ثم جهة الدلالة، ثم بيان الحِكَم المختلفة والتعليل المناسب إن وجد لذلك سبيل، إلا أن ذلك ليس واجبًا، بل هو مستحب، ويختلف باختلاف حال السائل وقدرته على الفهم وعلى قطعية المسألة وظنيتها أيضًا.

قال الشاطبي رحمه الله: “إن المقلد إذا عرضت له مسألة دينية فلا يسعه في الدين إلا السؤال عنها على الجملة؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يتعبد الخلق بالجهل، وإنما تعبدهم على مقتضى قوله سبحانه وتعالى: {وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُ} [البقرة: 282]، ولا يسأل إلا عالمًا، وذلك أن السائل لا يصح له أن يسأل من لا يُعتبَر في الشريعة جوابه؛ لأنه إسناد أمر إلى غير أهله، والإجماع على عدم صحة مثل هذا، بل لا يمكن في الواقع؛ لأن السائل يقول لمن ليس بأهل لما سئل عنه: أخبرني عما لا تدري! (أنا أسند) أمري لك فيما نحن في الجهل به على سواء، ومثل هذا لا يدخل في زمرة العقلاء؛ إذ لو قال له: دلني في هذه المفازة على الطريق إلى الموضع الفلاني، وقد علم أنهما في الجهل بالطريق سواء، لعد من زمرة المجانين، فالطريق الشرعي أولى؛ لأنه هلاك أخروي، وذلك هلاك دنيوي خاصة”.

أما الشيخ بدر الدين محمد بن بهادر الزركشي الشافعي فقد ذكر رأيه في المسألة بغاية الوضوح قال:

“مسألة: قال السمعاني: ويجوز للعامي أن يطالب العالم بدليل الجواب؛ لأجل احتياطه لنفسه، ويلزم العالم أن يذكر له الدليل إن كان مقطوعًا به؛ لإشرافه على العلم بصحته، ولا يلزمه إن لم يكن مقطوعًا به؛ لافتقاره إلى اجتهاد يقصر عنه فهم العامي”.

والمعاملة مع الاختلافات الفقهية قد حررها السيوطي في الأشباه والنظائر الفقهية بعدة قواعد:

1- إنما ينكر المتفق عليه ولا ينكر المختلف فيه.

2- الخروج من الخلاف مستحب.

3- من ابتلي بشيء من المختلف فيه فليقلد من أجاز.

قال البيجوري في حاشيته الفقهية (1/ 41 ط. الحلبي): “فينبغي لمن ابتلي بشيء من ذلك كما يقع كثيرًا تقليد ما تقدم ليتخلص من الحرمة” اهـ.

وعلى ذلك يجري تعامل المسلمين مع الفقه الإسلامي باعتبار أن رأي كل مجتهد هو الصواب لكنه صواب يحتمل الخطأ، وغيره على خطأ يحتمل الصواب”.

ثمَّ بينت الفتوى أنواع الشبهة التي يُدرأ بها الحد، والطريقة التي تتعامل بها مع قضايا الإعدام فنصَّت على: “وبناء على أن الشبهة ثلاثة:

1- شبهة فاعل لا حيلة لصاحبها فيها، فهي من قبيل القضاء والقدر.

2- وشبهة محل والاحتياط فيها واجب.

3- وشبهة مذهب باختلاف المجتهدين والاحتياط فيها مستحب.

أما عن الطريقة الإجرائية التي تعتمدها دار الإفتاء فيما يرد إليها من قضايا محكمة الجنايات الخاصة بعقوبة الإعدام:

فيتمثل عمل المفتي فيها في عرض الواقعة والأدلة التي تحملها أوراق الدعوى على أنواع وشروط الأدلة ومعاييرها في الفقه الإسلامي دون الالتزام بمذهب معين، بل عند اختلاف الفقهاء يختار الرأي الذي يمثل العدالة وصالح المجتمع؛ ذلك لأن لكل دليل شروطه التي يلزم توافرها حتى يُؤْخَذَ به قضاءً على ما هو مبين في موضعه من كتب الفقه، وهذا هو منشأ الاختلاف الذي قد يقع بين الفتوى في بعض قضايا الإعدام، وبين الرأي الذي انتهت إليه المحكمة، ثم يتم تكييف الواقعة ذاتها وتوصيفها قتلا عمدًا إذا تحققت فيها الأوصاف التي انتهى الفقه الإسلامي إلى تقريرها لهذا النوع من الجرائم وهي إجمالًا:

القتيل، آدمي حي، وموت المجني عليه نتيجة لفعل الجاني، وأداة القتل ووسيلته، وثبوت قصد القتل إما من الآلة المستعملة أو من الأدلة القضائية كالإقرار والشهود، وقصد إحداث الوفاة، فإذا توافرت عناصر التكييف، وقام عليها الدليل أو الأدلة الشرعية كانت الفتوى بالإعدام، أما إذا خرج ما تحمله الأوراق عن هذا النطاق كان الإعمال لقول عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه الذي صار قاعدة فقهية في قضايا الجنايات لدى فقهاء المسلمين: “لأن يخطئ الإمام في العفو خير له من أن يخطئ في العقوبة”؛ لأن القرآن حرم قتل النفس الإنسانية بغير حق، سواء كان هذا القتل عدوانًا أو كان جزاءً وقصاصًا، فوجب التحقق من واقع الجريمة وتكييفها وقيام الدليل الشرعي على اقتراف المتهم إياها حتى يُقتص منه”.

 ثمَّ بينت الفتوى أوجه التعاون بين الدار وبين جهات الفتوى المماثلة والمجامع الفقهية خاصَّة في مسائل النوازل والمستجدات، فنصت على: “رابعًا: مدى استعانة الدار بالأفراد والجهات ذات العلاقة: إن دار الإفتاء المصرية من منطلق إدراكها بأن معرفة الواقع مكون أساسي لأهم مرحلة من مراحل الفتوى وهي مرحلة التصوير، فإنها تحرص على التحري واستيفاء هذا التصوير بقدر الإمكان لتحرير الواقع الذي يُسأل ويُستفتى عن حكم الله فيه، وتستعين الدار في سبيل ذلك بآراء اللجان العلمية الاقتصادية وغيرها، والتي تتشكل من كبار الأساتذة والمستشارين والمتخصصين في مجالاتهم وصولا بالفتوى إلى الصواب الذي يرضاه الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم بما يحقق مصالح الخلق ويتسق مع مقاصد الشرع.

وتحرص دار الإفتاء -كما سبق- على الاستئناس بما عليه المجامع الفقهية كمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف، ومجمع الفقه الإسلامي بمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة ونحوها، وكذلك ما عليه الجماعة العلمية بالجامعات الشرعية في بلاد المسلمين”([2]).

والاستعانة بأهل الخبرة هي إحدى الأدوات التي يجب على المفتي العمل بها خاصة في مسائل الحقوق، والتي قد لا يمكن الفصل فيها، ويكون ذلك في المسائل التي لم يفصل فيها الشرع بحكم قاطع.

وهو من أهم ضمانات وصول الحقوق لأصحابها بالشكل الصحيح.

ويمكننا تعريف الخبير بأنه: كل شخص له معرفة وحذق ودراية خاصة في فن من الفنون، وصنعة من الصناعات بحيث يصير مرجعًا لأهلها وغيرهم في معرفة دقائقها وخصائصها، وقد حصلها واكتسبها بالدراسة أو بالتجربة وطول المعايشة.

ولا يمكن حصر أنواع الخبراء؛ لأنه ما من مجال من مجالات الحياة ولا جانب من جوانبها ولا علم من العلوم ولا فن من الفنون ولا حرفة من الحرف ولا صنعة من الصنائع إلا وفيها خبراء مختصون من أهلها، فالخبرة تتسع مجالاتها بتقدم العلم ودقة الاختصاصات، وقد ذكر ابن فرحون المالكي بعضًا من أنواع الخبراء وسماهم أهل المعرفة، وقد أفرد لهم بابًا خاصًّا فقال: الباب الثامن والخمسون في القضاء بقول أهل المعرفة، ثم أخذ يعددهم فقال: “ويجب الرجوع إلى قول أهل البصر والمعرفة من النخاسين في معرفة عيوب الرقيق… ويرجع إلى أهل الطب والمعرفة بالجراح في معرفة طول الجرح وعمقه وعرضه… وكذلك يرجع إلى أهل المعرفة من النساء في قياس الجرح وقدره إذا كان مما تجوز فيه شهادة النساء، ويرجع إلى أهل المعرفة من الأكرياء في معرفة عيوب الدواب، ويرجع إلى أهل المعرفة في عيوب الدور وما فيها من الصدوع والشقوق وسائر العيوب، ويرجع إلى أهل المعرفة من التجار في تقويم المتلفات وعيوب الثياب، ويرجع إلى أهل المعرفة من النساء في عيوب الفرج وفي عيوب الجسد مما لا يطلع عليه الرجال، ويرجع إلى أهل المعرفة بالجوائح وما ينقص الثمار، ويرجع إلى أهل المعرفة بمسائل الضرر مما يحدثه الإنسان على جاره أو في الطرقات وأنواع ذلك”([3]) اهـ.

وقد استجدت أنواع كثيرة من الخبراء اقتضاها التقدم في العلوم والاختراعات ومعرفة أسرار الكون وسننه.

وأدلة الكتاب والسنة في الاستعانة بالخبراء متعددة، منها قوله تعالى: {فَسۡ‍َٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ إِن كُنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ} [النحل: 43]، فالآية الكريمة تأمر بسؤال أهل الذكر الذين هم أهل العلم والمعرفة والخبرة عند عدم العلم، وقوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقۡتُلُواْ ٱلصَّيۡدَ وَأَنتُمۡ حُرُمٞۚ وَمَن قَتَلَهُۥ مِنكُم مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآءٞ مِّثۡلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ يَحۡكُمُ بِهِۦ ذَوَا عَدۡلٖ مِّنكُمۡ} [المائدة: آية 95].

قال الألوسي: “حكمان عدلان من المسلمين؛ لأن التقويم هو الذي يحتاج إلى النظر والاجتهاد دون المماثلة في الصورة التي يستوي في معرفتها كل أحد من الناس”([4]) اهـ.

ومن السنة ما رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي واللفظ للبخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو مسرور فقال: يا عائشة ألم تري أن مجززًا المدلجي دخل علي فرأى أسامة وزيدًا وعليهما قطيفة قد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض))([5]) اهـ.

ومنه أمره صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت أن يتعلم لغة اليهود ليترجم بينه وبينهم.

عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: ((أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ يَتَعَلَّمَ كِتَابَ اليَهُودِ حَتَّى كَتَبْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُتُبَهُ، وَأَقْرَأْتُهُ كُتُبَهُمْ، إِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ)). وَقَالَ عُمَرُ وَعِنْدَهُ عَلِيٌّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَعُثْمَانُ: مَاذَا تَقُولُ هَذِهِ؟ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَاطِبٍ: فَقُلْتُ: تُخْبِرُكَ بِصَاحِبِهَا الَّذِي صَنَعَ بِهَا، وَقَالَ أَبُو جَمْرَةَ: كُنْتُ أُتَرْجِمُ بَيْنَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبَيْنَ النَّاسِ”. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَا بُدَّ لِلْحَاكِمِ مِنْ مُتَرْجِمين([6]) اهـ.

وعند أبي داود: “فلم يمر بي إلا نصف شهر حتى حذقته”.

وكتب الفقه مليئة بالاستعانة بالخبراء وأهل الفنون والعلوم.

قال العلامة أبو عبد الله المواق المالكي: “(وكفى الواحد) الباجي: يجوز أن يرسل الخارص الواحد؛ لأن الخارص حاكم فيجوز أن يكون واحدًا”([7]) اهـ.

وقال ابن عرفة المالكي: “(وكفى الخارص الواحد) إن كان عدلًا عارفًا؛ لأنه حاكم فلا يتعدد”([8]) اهـ.

وقال العلامة ابن عابدين: “ولا بد أن يكون المقوم اثنين يخبران بلفظ الشهادة بحضرة البائع والمشتري، والمقوم الأهل في كل حرفة، ولو زال الحادث كان له رد المبيع مع النقصان، وقيل: لا، وقيل: لا إن كان بدل النقصان قائمًا رد وإلا لا، وكذا في القنية، والأول بالقواعد أليق نهر”([9]) اهـ.

وقال العلامة شمس الدين الطرابلسي المغربي: “والمقوم كالشاهد على القيمة فيترجح فيه جانب الشهادة” اهـ([10]).

قال السرخسي: “إنما يرجع إلى معرفة كل شيء إلى من له بصر في ذلك الباب كما في معرفة القيمة، والأصل في ذلك قوله تعالى: {فَسۡ‍َٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ} [النحل: 43]”([11]) اهـ.

وقال الكاساني: “فإذا أراد المشتري إثبات كون العيب في السلعة موجودًا للحال في يده، وكان مما لا يقف عليه إلا الأطباء والبياطرة، فإنه يثبت بقولهم لقوله عز وجل: {فَسۡ‍َٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ} [النحل: 43] وهم في هذا الباب من أهل الذكر فيسألون”([12]) اهـ.

وكثير من المسائل الفقهية والفتاوى قد بنيت على الاعتماد على أهل الخبرة، ومن ذلك أقصى مدة الحيض وأقله، وكذلك أقصى مدة الحمل، وقد تغيرت الفتوى في المسألتين بناء على ما استقر عليه الطب بناءً على الأدلة العلمية، ولم يعد مقبولًا ما كانت تتبناه بعض الآراء مما لا يتوافق مع العلم.

والاستعانة بأهل الخبرة وإن كانت لازمة للفقيه فهي أكثر لزومًا للمفتي؛ لأنه يتعرض لوقائع عين تختلف باختلاف حال المستفتي وواقع الفتوى ودولة الواقعة محل الفتوى، وهذا الاختلاف يحتاج إلى خبراء بأنواع الواقع.

كما أن من الأدوات التي يعمل بها المفتي في النوازل في مجال الدماء: قاعدة عمل بها الفقهاء قديمًا وحديثًا، وهي قاعدة الاحتياط للدماء.

وهي قاعدة تتنوع فروعها بين عدم أخذ إنسان بشبهة القتل، وبين تقديم حياة الآدمي وعدم إقرار أي حكم أو حق يمكن أن يتعارض مع سلامة نفس آدمي، كما بنى العلماء بعض أحكام الأمان على وجود الشبهة الداعية لحفظ دم المستأمن؛ وأنزلوها منزلة حقيقة ما يستوجب الأمان؛ وذلك احتياطًا في حفظ الدماء.

قال العلَّامة ابن قدامة: “وأما المجوس، فإن لهم شبهة كتاب، والشبهة تقوم مقام الحقيقة فيما يبنى على الاحتياط، فحرمت دماؤهم للشبهة، ولم يثبت حل نسائهم وذبائحهم؛ لأن الحل لا يثبت بالشبهة”([13]).

وهو ما قرره العلَّامة ابن أمير حاج (ت: 879هـ) في رده على من اعترض على عدم جواز الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد، بدخول الحفدة في لفظ الأبناء في حقن الدماء احتياطًا؛ حيث قال: “(فأجيب عن الأول)… (بأن الاحتياط في الحقن) أي حفظ الدم وصيانته عن السفك (أوجبه) أي دخول الحفدة (تبعًا لحكم الحقيقي) أي حقن دماء الأبناء (عند تحقق شبهته) أي الحقيقي فيهم (للاستعمال)، أي: لاستعمال لفظ البنين فيهم كما في (نحو بني هاشم وكثير) لوجود شبهة صورة الاسم؛ لأن الأمان مما يحتاط في إثباته ولو بالشبهة”([14]).

وقال العلَّامة ابن نجيم: “أوصى لأبناء زيد وله صلبيون وحفدة؛ فالوصية للصلبيين، ونُقض علينا الأصل المذكور بالمستأمن على أبنائه لدخول الحفدة… وأجيب بأن الأمان لحقن الدم المحتاط فيه فانتهض الإطلاق شبهةً تقوم مقام الحقيقة فيه”([15]).

وقال الإمام الغزالي: “تقدم ما يقتضي الاحتياط فيما وضعه على الاحتياط: كالأبضاع والدماء”([16]).

 

([1]) انظر فقه النوازل دراسة تطبيقية تأصيلية حسين الجيزاني.

 

([2]) الفتوى رقم 663 لسنة 2004م.

([3]) قول الخبير وحجيته في إثبات العيب الموجب لفسخ عقد النكاح (41/ 8).

([4]) روح المعاني 7/ 26 دار الكتب العلمية- بيروت.

([5]) صحيح البخاري مع فتح الباري 12/ 56 حديث رقم 6771 دار ابن الجوزي.

([6]) صحيح البخاري (9/ 76) دار طوق النجاة.

([7]) التاج والإكليل لمختصر خليل (3/ 135) دار الكتب العلمية.

([8]) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 454) دار الفكر.

([9]) حاشية ابن عابدين على الدر المختار (5/ 17) دار الفكر- بيروت.

([10]) مواهب الجليل في شرح مختصر خليل (5/ 336) دار الفكر.

([11]) المبسوط 13/ 110 دار المعرفة- بيروت.

([12]) بدائع الصانع 5/ 278، 279 دار الكتب العلمية.

([13]) المغني لابن قدامة (9/ 213).

([14]) التقرير والتحبير على تحرير الكمال بن الهمام (2/ 26).

([15]) الأشباه والنظائر لابن نجيم (ص: 61).

([16]) المنخول في تعليقات الأصول (ص: 448).

اترك تعليقاً