البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الباب الثاني: معالجة الفتوى لمستجدات الواقع في حفظ الدماء

الفصل الثاني: تعامل الفتوى مع وسائل القتل الحديثة وغير المباشرة

83 views

وفيه مباحث:

المبحث الأول: القتل بالترك ونص الفتاوى في إغاثة المضطر.

المبحث الثاني: مواجهة الفتوى للتحريض على القتل.

المبحث الثالث: نماذج من تعامل الفتوى مع صور القتل الحديثة.

 

 

 

المبحث الأول: القتل بالترك ونص الفتاوى في إغاثة المضطر

لمَّا كانت مهمة المفتي في مجال الدماء هو أن تكون فتواه في هذا المجال سببًا مباشرًا لمنع جرائم الاعتداء على الأرواح أو الحد منها قدر المستطاع، والمفتي إزاء ذلك يلزمه أن يجاري المستجدات في مجال الجريمة، وفي مجال محاربتها.

وقد تعامل الفقهاء والمفتون قديمًا مع كافة صور القتل غير المباشر التي كانت معروفة في زمنهم، ومنها موضوع القتل بالترك.

ومن الأمثلة التي ذكرها العلماء باعتبارها من صور القتل بالترك: عدم إنقاذ إنسان من مهلكة مع الاستطاعة كالغرق والحرق، وكامتناع الأم عن إرضاع ولدها، وكحبس إنسان مع عدم تقديم الطعام والشراب له، أو عدم توفير مصادر الدفء له حتى يموت من البرد.

ومن الصور الحديثة للقتل بالترك امتناع رجل الإسعاف عن مصاب مما تسبب في موته، أو امتناع رجل المطافي عن إنقاذ إنسان من النار.

قال العلامة ابن مَازَه البخاري: “قال محمد رحمه الله: ويفترض على الناس إطعام المحتاج في الوقت الذي يعجز عن الخروج والطلب، وهذه المسألة تشتمل على ثلاثة فصول:

أحدها: أن المحتاج إذا عجز عن الخروج يفترض على كل من يعلم حاله أن يطعمه بمقدار ما يتقوى به على الخروج وأداء العبادات، إذا كان قادرًا على ذلك حتى إذا مات ولم يعطه أحد ممن يعلم بحاله اشتركوا جميعًا في المأثم، والأصل فيه قوله عليه السلام: ((ما آمن بالله من بات شبعان وجاره إلى جنبه طاو))، وقال عليه السلام: ((أيما رجل مات ضياعًا بين قوم أغنياء فقد برئت منهم ذمة الله وذمة رسوله)). وكذلك إذا لم يكن عند من يعلم بحاله ما يعطيه، ولكنه قادر على أن يخرج إلى الناس ويخبرهم بحاله فيواسوه، يفترض عليه ذلك، فإن امتنعوا من ذلك حتى مات اشتركوا في المأثم، ولكن إذا قام به البعض سقط عن الباقين”([1]).

قال الشيخ الدردير: “(قوله: ومن ذلك الأم) أي ومن منع الطعام أو الشراب منع الأم ولدها من لبنها، (قوله: فإن قصدت موته قتلت… إلخ) أي فلا تقتل بمنعه مطلقًا، بل حتى تقصد موته قياسًا على ما مر في الأب من أنه لا بد مع الضرب من قصد الموت، وإلا لم يقتل”([2]).

قال الإمام النووي: “وإن لم يكن المالك مضطرًّا لزمه إطعام المضطر مسلمًا كان أو ذميًّا أو مستأمنًا وكذا لو كان يحتاج إليه في ثاني الحال على الأصح، وللمضطر أن يأخذه قهرًا أو يقاتله عليه وإن أتى القتال على نفس المالك فلا ضمان فيه. وإن قتل المالك المضطر في الدفع عن طعامه، لزمه القصاص، وإن منعه الطعام فمات جوعًا فلا ضمان، قال في “الحاوي”: ولو قيل: يضمن كان مذهبًا”([3]).

وقد تنبهت دار الإفتاء المصرية منذ زمن إلى ضرورة زيادة وعي المسلمين، وبيان مفهوم واجب الوقت، وأن إغاثة الملهوف من أهم وأعلى الفرائض وأنَّه قد يقدم في بعض الأحيان على فرائض العبادات، وأنَّه ينبغي أن يوازن المسلم بين العبادة وحقوق الغير عليه؛ خاصة في حالات الاضطرار، ومن ذلك فتوى صدرت في موضوع قيام بعض الأطباء بترك المريض على سرير العمليَّات والذهاب إلى مكان بعيد عن غرفة العمليات وقضاء وقت طويل لأداء صلاة الجماعة، وقد وازنت الفتوى بين إغاثة الملهوف وكون ذلك من باب حفظ الأرواح، وبين صلاة الجماعة؛ وقد نصَّت على:

أن السائل يقول: يقوم القسم بالعلاج الجراحي المتخصص لحالات أورام الفم والوجه والفكين، وتشمل استئصال الورم واستكمال الأنسجة المريضة المتأصلة بأنسجة صحيحة من ذات المريض، هذه العمليات تستغرق في المتوسط بين ست إلى ثماني ساعات، ويوجد أستاذ طبيب من جماعة السنة، هذا الطبيب يبدأ العمل في الصباح وحين يؤذن لصلاة الظهر يترك المريض بغرفة العمليات تحت المخدر مكلفًا أحد المساعدين بخطوات معينة وينزل إلى المسجد ليقيم الصلاة ويؤم المصلين، ثم يعود لعمل الجراحة واستكمالها، الوقت الذي يستغرق في هذه الفترة بين النصف ساعة وثلاثة أرباع الساعة بين تبديل الملابس للنزول والصلاة وقبلها الوضوء ثم الرجوع -أربعة أدوار طوابق- وتبديل الملابس مرة أخرى للدخول إلى غرفة العمليات، انتهت معظم الجراحات بسلام وبعضها حدثت منها بعض المضاعفات ومنها من توفاه الله، وبصدد حالة وفاة أخيرة لمريضة تم مناقشته في ذلك فقال: إنه كلف المساعد بخطوة معينة، ولكنه قام بشيء خلاف المتفق عليه، علمًا بأن مساعده ذا خبرة قليلة، ثم عقد اجتماع لإقناعه بأداء الصلاة لوقتها بغرفة ملاصقة لغرفة العمليات، ولكنه لم يقبل حتى لو كانت الصلاة في جماعة. فهل هذا يرضي الله سبحانه وتعالى أم الأفضل لظروف العمل أداء الصلاة بجوار غرفة العمليات ويمكن أداؤها في جماعة مراعاة لصالح وحياة المرضى؟ ويطلب السائل بيان الحكم الشرعي في ذلك.

الجواب:

قال الله تعالى في كتابه الكريم: {إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ كَانَتۡ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ كِتَٰبٗا مَّوۡقُوتٗا} [من الآية (103) سورة النساء]. وقال: {وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ لِذِكۡرِيٓ} [سورة طه: 14]. فالصلاة من أهم أركان الدين الإسلامي، فقد فرضها الله سبحانه وتعالى على عباده ليعبدوه وحده لا يشركون معه أحدًا من خلقه حتى يحظوا بالسعادة في دينهم ودنياهم؛ لقوله تعالى: {قَدۡ أَفۡلَحَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ١ ٱلَّذِينَ هُمۡ فِي صَلَاتِهِمۡ خَٰشِعُونَ} [الآيتان 1، 2 سورة المؤمنون]. ولقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أي الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة لوقتها))، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة)) فالصلاة هي أفضل أعمال الإسلام وأجلها قدرًا وأعظمها شأنًا، فمن تركها فقد هدم ركنًا من أركان الإسلام، وصلاة الجماعة قد ورد في فضلها أحاديث كثيرة منها ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة)) متفق عليه. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان، فعليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية)) رواه أبو داود بإسناد حسن.

وقد بينت الفتوى أنَّ صلاة الجماعة ليست ركنًا من أركان الصلاة ولا فرضًا من فروضها، وإنما هي سنة مؤكدة عند جمهور العلماء، وأنه يجوز التخلف عنها عند وجود العذر المبيح، بل إنه ينبغي على مثل الطبيب المسؤول عن حالته أن يصلي بجوار الغرفة حتى لا يعرض المريض للخطر؛ فنصت على:

“وصلاة الجماعة ليست ركنًا من أركان الصلاة ولا فرضًا من فروضها، وإنما هي سنة مؤكدة عند جمهور العلماء، والسنة هي: ما يثاب المكلف على فعلها ولا يؤاخذ على تركها، فمن ترك سنة فإن الله تعالى لا يؤاخذ على هذا الترك، ولكنه يحرم من ثوابها، ولقد قرر الفقهاء أنه يجوز التخلف عن الجماعة إذا وجد عذر من الأعذار المبيحة للتخلف عن الجماعة مثل المطر الشديد والبرد الشديد والوحل الذي يتأذى به، والمرض والخوف من ظالم، والعمى إن لم يجد الأعمى قائدًا ولم يهتدِ بنفسه، وكذا خوف الإنسان على مال أو عرض أو نفس.

وفي واقعة السؤال وبناء على ما ذكر: فإذا كانت كل هذه الأعذار تبيح التخلف عن الجماعة فمن باب أولى خوف الإنسان على هلاك غيره إن قام بأدائها في جماعة، ولأن الضرورات تبيح المحظورات، والطبيب المسؤول عنه ثوابه عند تمام عمله المكلف به أعظم كثيرًا من صلاة الجماعة حتى ولو كان هناك من يخلفه في عمله من مساعديه، فهم بلا شك أقل منه خبرة، وتقصيرهم ينسب إليه ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته))، فالعمل عبادة وأعظم العبادات وأفضلها عند الله تعالى لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه)) فيجب على هذا الطبيب المسؤول عنه ألا يترك مريضه تحت البنج ويذهب إلى الصلاة في جماعة؛ لأن في ذلك خطورة على المريض وربما يؤدي إلى وفاته كما حدث سابقًا وجاء بسؤال السائل، بل يجوز له تأخير صلاة الفرض إلى آخر وقته حتى ينتهي من عمله، وإن خاف فوات وقت الفرض فلا مانع من أن يصلي في غرفة العمليات أو أن يصلي بالغرفة المجاورة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا)) وإنما يتقبل الله من المتقين. ومما ذكر يعلم الجواب عما جاء بالسؤال إذا كان الحال كما ورد به([4]).

ونفس المعنى بيَّنته دار الإفتاء في فتوى تسأل فيها السائلة عن ترك الصلاة لإغاثة أمِّها المريضة؛ خشية إصابتها بأذى؛ فنصت على:

“تسأل سائلة: عندي والدتي مريضة لا تتحرك إلَّا بمساعدتي، وأنا أقوم على رعايتها منذ فترة، ولا أجدُ في ذلك كللًا أو مللًا، غير أنني في بعض المرات أكون في الصلاة، ثم تنادي عليَّ والدتي لحاجتها إليَّ، فلا أجد من ذلك بدًّا إلَّا أن أقطع صلاتي وأُسِرع إليها؛ خشية أن يصيبها أذى أو مكروه، وقد تكرر الأمرُ معي أكثر من مرة، حتى وأنا في صلاة الفريضة، فما حكم قطع الصلاة حينئذٍ، هل عليَّ وزرٌ بسبب ذلك؟ وهل يختلف الحكم في الصلوات النافلة عنه في صلاة الفريضة؟ أفيدوني أفادكم الله.

الجواب:

الأصل أن في الصلاة شغلًا عما عداها من أمور الدنيا، ولذلك لم يجز أن يخاطب فيها الناس بعضهم بعضًا؛ كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((إِنَّ فِي الصَّلاَةِ لَشُغْلًا)) متفق عليه من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

قال الإمام الطيبي في “شرح المشكاة” (3/ 1069، ط. مكتبة نزار): “التنكير فيه يحتمل النوع؛ يعني: أن شغلَ الصلاةِ: قراءةُ القرآن، والتسبيحُ، والدعاءُ، لا الكلام.

ويحتمل التعظيم؛ أي: شغلًا أيَّ شغلٍ؛ لأنها مناجاةٌ مع الله تبارك وتعالى، واستغراقٌ في خدمته، فلا يصح الاشتغال بالغير” اهـ.

وقال الإمام ابن الملقن في “التوضيح لشرح الجامع الصحيح” (9/ 264، ط. دار الفلاح): “المصلي مناجٍ لربه جل جلاله، فواجب عليه ألَّا يقطع مناجاتَه بكلام مخلوق، وأن يُقبل على ربه ويلتزم بالخشوع، ويعرض عما سوى ذلك” اهـ.

وقال في (9/ 265) أيضًا: “وقام الإجماع على أن الكلام فيها عامدًا عالمًا بتحريمه لغير مصلحتها ولغير إنقاذ هالك وشبهه تبطل الصلاة” اهـ.

وقد بيت الفتوى أنَّه يجب قطع الصلاة لضرورة حفظ الأرواح، وساقت الأدلة على ذلك من السنة وأقوال الفقهاء؛ فنصت على:

“واستثنى الفقهاء من ذلك ما كان فيه ضرورة كالحفاظ على النفس من التلف؛ فأوجبوا قطع الصلاة لإغاثة الملهوف واستنقاذ الغريق وإطفاء الحريق، وكذلك الحاجة التي تنزل منزلتها؛ فنصُّوا على مشروعية الخروج من الصلاة للأمور المهمة والمصالح المعتبرة -دينيةً كانت أو دنيوية- والتي لا يمكن تداركها إذا أتمَّ المصلي صلاته؛ فرضًا كانت أو نفلًا، بخلاف ما لو كان الأمر يسيرًا، أو كان يمكن تداركه ولو بتخفيف الصلاة.

واستدلوا على ذلك بما رواه البخاري في “الصحيح” عن الأزْرَق بْنِ قَيْسٍ الحارثي، قَالَ: “كُنَّا بِالأهْوَازِ نقاتل الْحَرُورِيَّةَ، فبينا أنا على حَرْف نَهَرٍ إذا رجل يصلي، وإذا لجام دابته بيدِهِ، فجعلت الدابة تنازعه وجعل يتبعها، قال شُعْبَةُ: هو أبو برزة الأسْلَمي رضي الله عنه، فجعل رجل من الخوارج يقول: اللهم افعل بهذا الشيخ! فلما انصرف الشيخ، قال: “إني سمعت قولكم، وإني غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ستَّ غزوات، أَوْ سَبْعَ غَزَوَاتٍ، أَوْ ثَمَانِيَ، وشهدتُ تَيْسِيرَهُ، وإني إن كنت أن أراجع مع دابتي أحب إليَّ من أن أدعها ترجع إلى مألفها، فَيَشُقُّ عَلَيَّ”.

قال الإمام ابن بطال المالكي في “شرح البخاري” (3/ 203، ط. الرشد): “ففي هذا حجةٌ للفقهاء في أن كل ما خُشِيَ تلفُه؛ مِن متاعٍ، أو مالٍ، أو غير ذلك من جميع ما بالناس الحاجة إليه: أنه يجوز قطع الصلاة وطلبه، وذلك في معنى قطع الصلاة لهَرَبِ الدابة” اهـ.

فإذا تعلَّق الأمر بإنقاذ نفسٍ أو إغاثة ملهوفٍ فإنَّ قطع الصلاة حينئذٍ يصيرُ واجبًا يأثم تاركه؛ لأن ما يفوت المصلي من مصلحة أداء الصلاة لا يقارب إنقاذ نفسٍ من الهلاك.

قال العلامة الحصكفي الحنفي في “الدر المختار” (1/ 89، ط. دار الكتب العلمية): “ويجب -قطعها- لإغاثة ملهوفٍ وغريقٍ وحريقٍ” اهـ.

وقال الإمام المازري المالكي في “شرح التلقين” (1/ 654، ط. دار الغرب الإسلامي): “قال سحنون في إمام يخاف على أعمى أن يقع في بئر، أو ذكر متاعًا له خاف عليه التلف؛ فله الخروج لذلك ويستخلف. وقال أشهب في “مدونته”: إذا خرج المصلي ليغسل النجاسة من ثوبه أو جسده ثم بنى، فإنه يجزيه قياسًا على الراعف. وقد يتخرج على قول أشهب: أن يبني من قطع الصلاة لصيانة نفسٍ أو مالٍ، ما لم يحدث ما يمنعه من البناء” اهـ.

وقال شيخ الإسلام زكريا الشافعي في “فتح الوهاب” (1/ 60، ط. دار الفكر): “فإنذار الأعمى ونحوه واجبٌ، فإن لم يحصل الإنذار إلا بالكلام أو بالفعل المبطل، وجب وتبطل الصلاة به على الأصح” اهـ.

وقال العلامة البهوتي الحنبلي في “كشاف القناع عن متن الإقناع” (1/ 380، ط. دار الكتب العلمية): “(و) يجب (إنقاذ غريقٍ ونحوه) كحريق (فيقطع الصلاة لذلك) فرضًا كانت أو نفلًا، وظاهره: ولو ضاق وقتها، لأنه يمكن تداركها بالقضاء، بخلاف الغريق ونحوه (فإن أبى قطعها) أي: الصلاة لإنقاذ الغريق ونحوه أثم و(صحت) صلاته كالصلاة في عمامة حرير، (وله) أي المصلي (إنْ فَرَّ منه غريمُه أو سُرق متاعُه أو نَدَّ بعيرُه ونحوه)؛ كما لو أبق عبده (الخروجُ في طلبه)؛ لما في التأخير من لحوق الضرر له” اهـ.

ثم بينت الفتوى أن الوجوب يتأكد إذا كان الملهوف أحد الوالدين، وكان يغلب على ظن المصلي أنَّه قد اعترته حاجة ملحةٌ ألجأته إلى الاستغاثة؛ فنصَّت على:

“فإذا كان الملهوف أُمًّا أو أبًا ويعلم المصلي -بما يغلب على ظنه- أنَّ من يناديه منهما قد اعترته حاجة ملحةٌ ألجأته إلى الاستغاثة، فإنه يتأكد وجوب تلبية النداء حينئذٍ، والخروج من الصلاة؛ فرضًا كانت أو نفلًا؛ لأنه في هذه الحالة قد اجتمع عليه واجبان: واجب إغاثة الملهوف، وواجب إجابة الوالدين؛ نصَّ على ذلك الحنفية، وبه قال الشافعية في وجهٍ.

قال العلامة ابن نُجيم الحنفي في “البحر الرائق” (2/ 77، ط. دار الكتاب الإسلامي): “وفي “فتاوى الولوالجي”: المصلي إذا دعاه أحد أبويه فلا يجيبه ما لم يفرغ من صلاته، إلا أن يستغيث به” اهـ. قال العلامة ابن عابدين الحنفي في حاشيته “رد المحتار” (2/ 51، ط. دار الفكر): “(قوله: إلا أن يستغيث به) أي: يطلب منه الغوث والإعانة، وظاهره: ولو في أمرٍ غير مهلكٍ، واستغاثة غير الأبوين كذلك. والحاصل: أن المصلي متى سمع أحدًا يستغيث وإن لم يقصده بالنداء، أو كان أجنبيًّا وإن لم يعلم ما حلَّ به، أو علم وكان له قدرة على إغاثته وتخليصه، وجب عليه إغاثته وقطع الصلاة؛ فرضًا كانت أو غيره” اهـ.

وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني الشافعي في “فتح الباري” (6/ 483، ط. دار المعرفة): “جواز قطع الصلاة مطلقًا لإجابة نداء الأم، نفلًا كانت أو فرضًا، وهو وجهٌ في مذهب الشافعي حكاه الروياني” اهـ.

وعلى ذلك: فإنقاذ النفس وإغاثة الملهوف مقدمٌ على أداء الصلاة المفروضة عند التعارض موازنةً بين المصالح والمفاسد؛ لأن ما يفوت المصلي من مصلحة أداء الصلاة لا يقارب إنقاذ نفسٍ من الهلاك، فإذا كان الملهوف أحدَ الوالدين وغلب على ظن المصلي أنَّه قد اعترته حاجة ملحةٌ ألجأته للاستغاثة، فإنه يتأكد عليه وجوب تلبية النداء حينئذٍ؛ لأنه قد اجتمع عليه واجبان؛ واجب إغاثة الملهوف، وواجب إجابة الوالدين.

وبناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فليس عليكِ وزرٌ في قطع الصلاة لإجابة والدَتِكِ المريضة، فرضًا كانت الصلاة أو نفلًا، لأنَّ حالة والدتك المريضة التي لا تتحرك إلَّا بمساعدتكِ، تجعل نداءها عليكِ وأنت في صلاتكِ يدخل في معنى الاستغاثة، فيجب عليك قطع الصلاة وتلبية ندائها خشية أن يصيبها أذًى أو مكروه، وعليك إعادة الصلاة بعد ذلك في وقتها أو قضاؤها إذا خرج وقتها”([5]).

المبحث الثاني: مواجهة الفتوى للتحريض على القتل

من صور القتل غير المباشر التحريض على القتل والإعانة عليه، وقد تعددت صور التحريض على القتل مع تطور نظم المعلومات ووجود منصَّات التواصل الاجتماعي، والتي أصبحت من أخطر الوسائل للتحريض على الجريمة، والخروج على النظام وإثارة الفوضى.

وعلى المفتي أن يكون دائمًا على إدراك بالمستجدَّات التي حوله ومنها تأثير مواقع التواصل الاجتماعي على المتابعين، وخاصة الشباب منهم، ومدى إمكانية قيام أي شخص بعشوائية أو بتوجيه من الغير بإثارة الفوضى التي قد ينتج عنها أضرار بالنفوس والممتلكات.

وقد تواردت أدلَّة الشرع على هذا المعنى، ومنها: ما رواه ابن ماجه من حديث سعيد بن المسيب  رَحِمَهُ اللَّهُ عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة لقي الله تعالى مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله عز وجل)).

وقد بيَّن قانون العقوبات المصري الصادر برقم 58 لسنة 1937 المعدل بالقانون رقم 141 لعام 2021 عقوبة التحريض على ارتكاب جنايات القتل في المادة 171 منه فيما يلي:

كل من حرض واحدًا أو أكثر بارتكاب جناية أو جنحة بقول أو صياح جهر به علنًا، أو بفعل أو إيماء صدر منه علنًا أو بكتابة أو رسوم أو صور أو صور شمسية أو رموز أو أية طريقة أخرى من طرق التمثيل جعلها علنية أو بأية وسيلة أخرى من وسائل العلانية يعد شريكًا في فعلها ويعاقب بالعقاب المقرر لها إذا ترتب على هذا التحريض وقوع تلك الجناية أو الجنحة بالفعل. أما إذا ترتب على التحريض مجرد الشروع في الجريمة فيطبق القاضي الأحكام القانونية في العقاب على الشروع.

ويعتبر القول أو الصياح علنيًّا إذا حصل الجهر به أو ترديده بإحدى الوسائل الميكانيكية في محفل عام أو طريق عام أو أي مكان آخر مطروق أو إذا حصل الجهر به أو ترديده بحيث يستطيع سماعه من كان في مثل ذلك الطريق أو المكان أو إذا أذيع بطريق اللاسلكي أو بأية طريقة أخرى. ويكون الفعل أو الإيماء علنيًّا إذا وقع في محفل عام أو طريق عام أو في أي مكان آخر مطروق أو إذا وقع بحيث يستطيع رؤيته من كان في مثل ذلك الطريق أو المكان.

وتعتبر الكتابة والرسوم والصور، والصور الشمسية والرموز وغيرها من طرق التمثيل علنية إذا وزعت بغير تمييز على عدد من الناس، أو إذا عرضت بحيث يستطيع أن يراها من يكون في الطريق العام أو أي مكان مطروق أو إذا بيعت أو عرضت للبيع في أي مكان.

كما نصَّت المادة 172من نفس القانون على:

كل من حرض مباشرة على ارتكاب جنايات القتل أو النهب أو الحرق بواسطة إحدى الطرق المنصوص عليها في المادة السابقة، ولم تترتب على تحريضه أية نتيجة يعاقب بالحبس.

وقد تعرضت دار الإفتاء المصرية لحالة التحريض على القتل في فتوى لها مبيِّنة فيها حكمه الدنيوي والأخروي.

وقد بيَّنت الفتوى حرمة التحريض على القتل، وأنَّ المحرِّض كالقاتل في الإثم العظيم الذي توعد الله به؛ فنصَّت على:

اطلعنا على هذا السؤال، ولم نطلع على ‏التحقيقات الرسمية في القضية المشار إليها، ‏والجواب أن التحريض على ارتكاب جريمة ‏القتل المحرم بمعنى الإغراء عليه لا شك أنه ‏حرام شرعًا؛ للنهي عن قتل معصوم الدم ‏بقوله تعالى: {وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّ} [الأنعام: 151]، وقوله عليه ‏السلام: ((لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن ‏لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ‏ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، ‏والتارك لدينه المفارق للجماعة))؛ وللوعيد ‏الشديد عليه في قوله تعالى: {وَمَن يَقۡتُلۡ مُؤۡمِنٗا مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدٗا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمٗا} [النساء: 93]، ولعظيم جرمه ورد في ‏الحديث أن أول ما يُقضى بين الناس يوم ‏القيامة في الدماء، وذهبت طائفة من الأئمة ‏إلى أنه لا توبة لقاتل، وأن الوعيد لاحق به ‏لا محالة، وأن القصاص في الدنيا لا يمحو ‏عنه الإثم في الآخرة، والتحريض على القتل ‏المحرم وسيلة إليه فيحرم بحرمته؛ لأن ‏للوسائل حكم مقاصدها شرعًا”.

وقد بينت الفتوى أن التحريض على القتل إذا صاحبه إكراه وكان الإكراه ملجئًا، فالقصاص على الْمُكْرِه -‏الآمر- عند أبي حنيفة ومحمد، ولا قصاص ‏على الْمُكْرَه -المأمور-؛ لكونه بمنزلة ‏الآلة، وعند أبي يوسف لا قصاص عليهما، ‏وعلى الآمر الدية، وعند المالكية والشافعية ‏والحنابلة يجب القصاص من الآمر؛ لتسببه، ‏ومن المأمور لمباشرته؛ فنصت على:

“وأما إذا ‏كان التحريض مصحوبًا بإكراه، وكان ‏الْمُكْرِهُ قادرًا على تحقيق ما أوعد به وغلب ‏على ظن الْمُكْرَهِ أنه لو لم يمتثل يلحقه ما ‏أوعد به، فإما أن يكون الإكراه ملجئًا وهو ‏ما كان بنحو التخويف بالقتل أو قطع ‏العضو أو الضرب الشديد الذي يخاف منه ‏تلف النفس أو العضو ويسمى الإكراه ‏التام، ومنه كما ذكره الشافعية الأمر ‏الصادر من ذي سطوة اعتاد فعل ما يحصل ‏به الإكراه عند مخالفته فأمره كالإكراه، أو ‏يكون غير ملجئ وهو ما كان بما دون ذلك ‏من نحو الحبس والقيد والضرب الذي لا ‏يخشى منه التلف ويسمى بالإكراه ‏الناقص، فإذا كان الإكراه على القتل ‏إكراهًا ملجئًا فالقصاص على الْمُكْرِه -‏الآمر- عند أبي حنيفة ومحمد، ولا قصاص ‏على الْمُكْرَه -المأمور-؛ لكونه بمنزلة ‏الآلة، وعند أبي يوسف: لا قصاص عليهما، ‏وعلى الآمر الدية، وعند المالكية والشافعية ‏والحنابلة: يجب القصاص من الآمر؛ لتسببه، ‏ومن المأمور لمباشرته وإن كان الإكراه عليه ‏إكراهًا غير ملجئ فلا قصاص على المُكْرِه ‏‏-الآمر- بل يقتص من المأمور باتفاق أئمة ‏الحنفية، وكذلك عند المالكية إن لم يكن ‏الآمر حاضرًا وقت القتل، فإن كان حاضرًا ‏اقتص منهما جميعًا، وعلى الآمر في الحالين ‏إثم التحريض مع الإكراه (راجع بدائع ‏الصنائع في مذهب الحنفية، وشرح متن ‏خليل في مذهب المالكية، وتحفة المحتاج ‏وحواشيها في مذهب الشافعية، والمغني لابن ‏قدامة في مذهب الحنابلة). هذا هو حكم ‏الشريعة الغراء في التحريض، وأما تطبيقه ‏قضاء فيعتمد ثبوت الإكراه لدى المحكمة ‏بعد رفع الدعوى بالطريق الشرعي. والله ‏تعالى أعلم”([6]).

وفي المقابل أصدرت دار الإفتاء فتوى أخرى تبين أنَّ إصرار الإنسان على ما يقتله، وصدور الفكرة وابتداءها من محض تفكيره هو أمر لا يعدُّ معه موافقة الغير تحريضًا، بل هو قتل للنفس، لا يشاركه غيره في أثر الجريمة؛ فنصَّت على:

اطلعنا على الطلب المتضمن ما يأتي:

انتدبنا للتحكيم في قضية عرفية موضوعها له جانب شرعي فاتفقنا على عرض الأمر على دار الإفتاء؛ لصدور فتوى شرعية فيه، ويتلخص موضوع الفتوى في الآتي: “شاب يعمل في حديقة لأحد الأفراد خفيرًا وعاملًا يقوم بالأعمال الزراعية ومنها رش المبيدات في الحديقة، وحضر إليه ابن صاحب الحديقة بصحبة صديق ثالث لهم، أمسك الصديق الثالث لهما بزجاجة مغلقة كانت بجواره مما يستخدم في رش الحديقة، وقرأ عليها أنها نوع من المبيدات السامة وسألهم كيف تأكلون من ثمار الحديقة قبل خمسة عشر يومًا من رش المبيدات وفقًا للبيانات المدونة على الزجاجة، فرد العامل وقال: “تديني عشرة جنيهات وأشرب غطاية من هذا الدواء”، ثم استرسل: “تدفع خمسين جنيهًا وأشرب كوباية”، فوافق الصديق بعد أن قال له العامل: “إن كنت راجل طلع المبلغ وأنا أشرب كوباية”، فأخرج الصديق على الفور مبلغ خمسين جنيهًا قيمة الرهان فقال له المجني عليه: “أعطيهم لحدث” صبي كان يجلس معهم، مع العلم أن الصبي سافر بصحبة والده ولم يسمع مجلس التحكيم منه أي شهادة نظرًا لعدم وجوده.

وعندما سمع ابن صاحب الحديقة النقاش الذي دار بينهم نصحه بعدم الشرب ولكنه شرب. والأطراف الثلاثة كلٌّ منهم حاصل على دبلوم متوسط، وكلهم بالغو سن الرشد، ولم يعرف أن أحدًا منهم كان سفيهًا أو مجنونًا، وأن الثلاثة كانوا يعلمون يقينًا أن الذي بداخل الزجاجة هو نوع من السموم القاتلة والذي يستخدم في رش الحديقة.

هذه الرواية التي رويت لهيئة التحكيم رواها الصديق الضيف المراهن، وأكدها ابن صاحب الحديقة، علمًا بأن هيئة التحكيم طرحت على أهل المجني عليه سؤالا عما إذا كان يتهم أحدًا بقتل شقيقه قال: لا.

فرأت هيئة التحكيم عرض القضية على فضيلتكم لتوضيح عما إذا كان للمجني عليه دية؟ وعلى من تقع هذه الدية؟

الجواب:

إذا كان الحال كما ورد بالسؤال فإنه لا دية على أحد ممن كانوا مع الذي شرب هذا المبيد السام؛ حيث لم يتسبب أحد منهم في موته، فلم يحرضه أحد على شرب السم، بل كان هو الذي تناوله بمحض إرادته وشربه من تلقاء نفسه سفهًا منه وإلقاءً بنفسه إلى التهلكة مع علمه بالبيانات التحذيرية المدونة على زجاجة الدواء السام، ومع تنبيه ابن صاحب الحديقة له حيث نصحه بعدم الشرب، ولكنه ضرب بذلك كله عرض الحائط، وقام بتحريض المراهن على دفع المال له بوصفه له بعدم الرجولة إن لم يخرج المال. وعليه فلا دية له على أحد منهم لانتفاء السببية في القتل الخطأ عنهم جميعًا. والله سبحانه وتعالى أعلم”([7]).

 

المبحث الثالث: تعامل الفتوى مع صور القتل الحديثة

التطورات في ميدان الجريمة والقتل لا تقف عند حد، فهي تتطور مع تطور العلم وتطور العقل البشري كما تتطور مع تطور الاحتياجات وضعف الموارد، وتدني مستوى الأخلاق.

وعلى المفتي أن يكون ملاحقًا لهذه التطورات: سواء في دوافع الجريمة أو في صورها وآليَّاتها.

وقد وصلت أساليب الجريمة وطرقها إلى صور لم يكن من الممكن تخيُّلها منذ سنوات مضت.

ودار الإفتاء المصرية بما لها من إمكانات بشرية وعلمية، ومن خلال تفاعلها مع المستجدَّات، واستعانتها بأهل الخبرة في كلِّ المجالات، لاحقت هذا التطور الهائل بفتاوى تكشف حقيقة بعض صور الاعتداء على النفوس، والتي قد لا يعيها كثير من الناس، وبيَّنت حكمها، وحذَّرت منها.

ومن هذه الصور الحديثة المخيفة الألعاب التي تشتمل على أنواع من التحديات والمغريات التي تدفع المراهقين والشباب إلى إيذاء أنفسهم أو الإقدام على الانتحار، أو إيذاء أو قتل غيرهم.

ومن هذه الفتاوى فتوى صدرت بصدد لعبة الحوت الأزرق، جاء فيها:

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده سيدنا محمد رسول الله وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.

اطلعنا على الطلب المقدم بتاريخ: 21/ 1/ 2018م، والمتضمن:

ظهرت في الآونة الأخيرة لعبة تسمى “لعبة الحوت الأزرق” أو “Blue Whale”، وهي متاحة على شبكة الإنترنت وتطبيقات الهواتف الذكية، تطلب من المشتركين فيها عددًا من التحديات، وهذه التحديات تنتهي بطلب الانتحار من الشخص المشترك، أو تطلب منه ارتكاب جريمةٍ ما، ويطلب القائمون عليها أن يقوم اللاعب بعمل “مشنقة” في المكان الذي يكون موجودًا فيه قبل الخوض في تفاصيل اللعبة، وذلك للتأكد من جدية المشترك في تنفيذ المهام التي تُطلَب منه.

والمشاركة في هذه اللعبة تكون عن طريق تسجيل الشخص في التطبيق الْمُعَدِّ لها على الإنترنت أو الأجهزة المحمولة الذكية “Smart Phone”، وبعد أن يقوم الشخص بالتسجيل لخوض التحدي يُطلب منه نقش الرمز “f57” أو رسم “الحوت الأزرق Blue Whale” على الذراع بأداةٍ حادة، ومِن ثَمَّ إرسال صورةٍ للمسؤول للتأكد من أن الشخص قد دخل في اللعبة فعلًا، لتبدأ سلسلةُ المهامِّ أو التحديات، والتي تشمل مشاهدةَ أفلام رعبٍ والصعود إلى سطح المنزل أو الجسر حقيقةً بهدف التغلب على الخوف، وقتل حيوانات وتعذيبها وتصويرها ونشر صورها، لتنتهي هذه المهام بطلب الانتحار؛ إما بالقفز من النافذة أو الطعن بسكين، فإن لم يفعل يهدد بقتل أحد أفراد عائلته أو أحد أقرانه، أو نشر معلومات شخصية مهمة عنه. وقد أكدت تقارير رسميةٌ تأثيرَ هذه اللعبة وخطورتها على المشاركين فيها بشكلٍ حقيقيٍّ؛ حيث أقدم بعضهم على الانتحار في بعض الدول الأوربية والعربية.

ومخترع هذه اللعبة هو “فيليب بوديكين”، وقد طرد من عمله وتم القبض عليه، فقال بعد اعترافه بجرائمه: إن هدفه منها تنظيف المجتمع من النفايات البيولوجية، وأن هؤلاء ليس لهم قيمة.

فما حكم الشرع في ممارسة هذه اللعبة والمشاركة فيها؟

الجواب:

جاءت الشريعة الإسلامية رحمةً للعالمين، واتجهت في أحكامها إلى إقامة مجتمعٍ راقٍ متكاملٍ تسوده المحبةُ والعدالةُ والمثلُ العليَا في الأخلاق والتعامل بين أفراد المجتمع، ومن أجل هذا كانت غايتُها الأولى تهذيبَ الفرد وتربيتَه ليكون مصدر خيرٍ للبلاد والعباد، وجعلت الشريعةُ الإسلامية الحفاظَ على النفس والأمن الفردي والمجتمعي مقصدًا من أهم المقاصد الشرعية؛ التي هي: النفس، والدين، والنسل، والعقل، والمال. فكل ما يتضمن حفظ هذه المقاصد الخمسة فهو مصلحةٌ، وكل ما يفوتها فهو مفسدةٌ ودفعها مصلحة.

كما قررت الشريعةُ الإسلامية أن الأصلَ في الدماء الحرمة، وسنَّت من الأحكام والحدود ما يكفل الحفاظ على نفوس الآدميين، ويحافظ على حماية الأفراد واستقرار المجتمعات، وسدَّت من الذرائع ما يمكن أن يمثل خطرًا على ذلك في الحال والمآل.

وقد بينت الفتوى أنَّ هذه اللعبة تشتمل على عدة أفعالٍ؛ كلُّها محرمة شرعًا وقانونًا؛ وبدأت بسرد كلٍّ منها مع بيان حكمه؛ فنصَّت على:

“ومن هذا المنطلق يتضح -من خلال ما ذكر في السؤال- أن هذه اللعبة تشتمل على عدة أفعالٍ؛ كل واحد منها كفيلٌ بتحريمها شرعًا وتجريمها قانونًا؛ أهمها:

أولًا: أن المشارك في هذه اللعبة يبدأ بعد التسجيل فيها بنقش رمزٍ على جسده بآلة حادة؛ كالسكين أو الإبرة أو نحوهما، وفي هذا الفعل إيذاءٌ من الإنسان لنفسه، وهو أمرٌ مُحرمٌ شرعًا؛ فإن حفظ النفس من أهم مقاصد الشريعة الإسلامية الخمسة، ولهذا حرَّم اللهُ تعالى كلَّ ما يؤدي إلى إتلاف الإنسان أو جزءٍ منه، وجعل رعايته في نفسه وجسده مقدمةً على غيرها، ومن مقتضيات الحفاظ على نفس الإنسان: حمايتُه مِن كل ما يمكن أن يصيبه بالضرر في صحته؛ فحرمت الشريعةُ عليه كلَّ ما يضره، وجرَّمَتْ إيصال الضرر إليه بشتى الوسائل.

ومن المُقررِ شرعًا أيضًا أنه “لا ضرر ولا ضرار”؛ فهذه قاعدةٌ فقهيَّةٌ من القواعد الخمس التي يدور عليها معظم أحكام الفقه، وأصل هذه القاعدة ما أخرج ابن ماجه في “سننه” عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه: ((أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم قَضَى أَنْ لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ)).

كما بينت أن النقش على الجسد بآلةٍ حادةٍ -كسكِّين أو نحوها- يدخل تحت الوشم المحرم شرعًا فنصت على:

“كما أن النقش على الجسد بآلةٍ حادةٍ -كسكِّين أو نحوها- يدخل تحت الوشم المحرم شرعًا، والوشم عبارةٌ عن غرز إبرةٍ أو مسلةٍ أو نحوهما في الجلد للنقش عليه؛ قال الإمام النووي في “شرح صحيح مسلم” (14/ 106، ط. دار إحياء التراث العربي): “الوشم: أن تغرز إبرة أو مسلة أو نحوهما في ظهر الكف أو المعصم أو الشفة أو غير ذلك من بدن المرأة حتى يسيل الدم، ثم تحشو ذلك الموضع بالكحل أو النَّوْرة فيَخْضَرَّ، وقد يفعل ذلك بِدَاراتٍ ونقوش” اهـ.

ثانيًا: يقوم المشارك في نهاية اللعبة بأحد فعلين: إما أن يقتل نفسه وهو الانتحار، أو يقتل غيره.

وقد حَرَّمت الشريعةُ الإسلامية إتلافَ البدن وإزهاقَ الروح عن طريق الانتحار أو ما يؤدي إليه؛ فأَمَرَتِ الإنسان بالمحافظة على نفسه وجسده من كل ما يُهْلِكه أو يسوؤه، ونَهت عن أن يقتل الإنسانُ نفسَه أو يُنزِلَ بها الأذى؛ فلا يجوز لأحدٍ أن يتصرف في جسده تصرفًا يُؤدي إلى إهلاكه أو إتلافه، وكُلُّ إنسانٍ وإن كان صاحب إرادةٍ -فيما يَتعلق بشخصه- إلا أنها مُقَيَّدةٌ بالحدود التي شرعها الله تبارك وتعالى كما في قوله سبحانه: {وَلَا تُلۡقُواْ بِأَيۡدِيكُمۡ إِلَى ٱلتَّهۡلُكَةِ وَأَحۡسِنُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} [البقرة: 195]، وقوله جلَّ شأنه: {وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِيمٗا} [النساء: 29].

وقد بيَّنت الفتوى أنَّ حفظ النفس من أهم مقاصد الشريعة الإسلامية الخمسة، ولهذا حرَّم اللهُ تعالى كلَّ ما يؤدي إلى إتلاف الإنسان أو جزءٍ منه، فنصَّت على:

وروى الترمذي في “سننه” عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا أَبَدًا، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِسُمٍّ فَسُمُّهُ فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا أَبَدًا)).

وعن ثابت بن الضحَّاك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذِّبَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ)) متفقٌ عليه.

وكذلك الحال بالنسبة لقتل الإنسانِ غيرَه بغير حقٍّ؛ فالأصل في النفس الإنسانية عصمتها وعدم جواز الاجتراء على إنهاء حياتها؛ قال تعالى: {وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّ} [الأنعام: 151]؛ قال الإمام الرازي في “تفسيره” (13/ 179، ط. دار إحياء التراث العربي): “الأصل في قتل النفس هو الحرمة، وحِلُّه لا يثبت إلا بدليلٍ منفصل” اهـ.

بل جعل الله تعالى قتل النفس بغير حقٍّ كأنه قتلٌ للناس جميعًا؛ فقال سبحانه: {مِنۡ أَجۡلِ ذَٰلِكَ كَتَبۡنَا عَلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ أَنَّهُۥ مَن قَتَلَ نَفۡسَۢا بِغَيۡرِ نَفۡسٍ أَوۡ فَسَادٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعٗا وَمَنۡ أَحۡيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحۡيَا ٱلنَّاسَ جَمِيعٗا} [المائدة: 32].

قال الإمام الرازي في “تفسيره” (11/ 344): “المقصود من تشبيه قتل النفس الواحدة بقتل النفوس: المبالغة في تعظيم أمر القتل العمد العدوان وتفخيم شأنه؛ يعني: كما أن قتل كل الخلق أمرٌ مستعظمٌ عند كل أحدٍ، فكذلك يجب أن يكون قتل الإنسان الواحد مُستَعظَمًا مَهيبًا” اهـ.

كما جاء النص الشرعي مخبرًا بأن المسلم في أي ذنبٍ وقع كان له في الدين والشرع مخرجٌ إلا القتل؛ فإن أمرَهُ صعبٌ؛ فروى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((لَنْ يَزَالَ المُؤْمِنُ في فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا)). ويوضح هذا المعنى ما في تمام الحديث من قول ابن عمر رضي الله عنهما: “إِنَّ مِنْ وَرَطَاتِ الأُمُورِ الَّتِي لَا مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا: سَفْكَ الدَّمِ الحَرَامِ بِغَيْرِ حِلِّهِ”.

قال الإمام مُلَّا علي قاري في “مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح” (6/ 2259، ط. دار الفكر، بيروت): “((لَنْ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ)) بضم الفاء وسكون السين وفتح الحاء الْمُهْمَلَتَيْنِ؛ أي سَعَةٍ ((مِنْ دِينِهِ)) ورجاءِ رحمةٍ من عند ربه ((مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا)). قال ابن الملك: أي إذا لم يصدر منه قتلُ النفس بغير حقٍّ يَسْهُلُ عليه أمورُ دينِهِ ويُوَفَّقُ للعمل الصالح. وقال الطيبي: أي يُرجَى له رحمةُ الله ولُطفُهُ ولو باشر الكبائر سوى القتل، فإذا قَتَلَ ضاقت عليه ودَخَلَ في زُمرَةِ الآيِسِينَ مِن رحمة الله تعالى؛ كما ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُؤْمِنٍ وَلَوْ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ لَقِيَ اللهَ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَينَيهِ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ))” اهـ.

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ)) رواه الترمذي. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يطوف بالكعبة ويقول: ((مَا أَطْيَبَكِ وَأَطْيَبَ رِيحَكِ، مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَحُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ حُرْمَةً مِنْكِ، مَالُه، وَدَمه، وَأَنْ نَظُنَّ بِهِ إِلَّا خَيْرًا)) رواه ابن ماجه.

ومِن عِظَم شأن الدم فإنه أول ما يقضى فيه بين الخلائق يوم القيامة؛ فعن عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ فِي الدِّمَاءِ)) رواه البخاري”.

ثم انتهت الفتوى إلى أنه يحرم شرعًا المشاركة في هذه اللعبة وعلى من استُدرِج للمشاركة فيها أن يُسارِعَ بالخروج منها؛ فنصت على:

“وعليه: فيحرم شرعًا المشاركة في اللعبة المسمَّاة بـ”الحوت الأزرق Blue Whale”، وعلى من استُدرِج للمشاركة فيها أن يُسارِعَ بالخروج منها. وتهيب دار الإفتاء المصرية بالجهات المعنية تجريم هذه اللعبة، ومَنْعَها بكل الوسائل الممكنة”([8]).

([1]) المحيط البرهاني في الفقه النعماني (5/ 404).

([2]) الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي (4/ 242).

([3]) روضة الطالبين وعمدة المفتين (3/ 285).

([4]) الفتوى المقيدة برقم 227 لسنة 2000.

([5]) الفتوى المقيدة برقم 46 لسنة 2021م.

([6]) رقم الفتوى 513، تاريخ الفتوى 23/ 02/ 1953.

([7]) الفتوى المقيدة برقم 2696 لسنة 2004م.

([8]) الفتوى المقيدة برقم 31 لسنة 2018م.

 

اترك تعليقاً