البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الباب الأول: اعتماد الفتوى على المنهج الشرعي المتكامل في حفظ النفوس

الفصل التاسع: إظهار الفتوى لكون حفظ النفوس من مقومات تكريم الإنسان

71 views

الكرامة الإنسانية بمعناها العام هي قيمة مترتبة على حصول الإنسان على حقوقه، كما أن الجور على حقوق الإنسان سبب في إهدار كرامته.

إلا أن الكرامة الإنسانية بمعناها الخاص تعني احترام الشخص، وعدم تعريضه للإهانة أو إشعاره بالاحتقار أو بأنه أقل من غيره.

ويكون ذلك بعدم امتهان جسده حيًّا أو ميتًا، وعدم معاملته بما لا يليق أو توجيه عبارات مهينة له.

ولا نخطئ بمقدار ذرة حين نقرر أن النبي صلى الله عليه وسلم هو أول من وضع منهجًا متكاملًا يقرر حق الإنسان في حفظ كرامته واحترامها.

فقد قرر القرآن مبدأً لا يكاد يصل إليه أي تصور، وذلك في قوله تعالى: {وَلَقَدۡ كَرَّمۡنَا بَنِيٓ ءَادَمَ وَحَمَلۡنَٰهُمۡ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ وَرَزَقۡنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلۡنَٰهُمۡ عَلَىٰ كَثِيرٖ مِّمَّنۡ خَلَقۡنَا تَفۡضِيلٗا} [الإسراء: 70].

فوجوب حفظ حق الإنسان في الكرامة مستمد من تكريم الله تعالى له، والذي بينه في هذه الآية.

قال العلامة أبو زهرة في تفسيره لهذه الآية: “{وَلَقَدۡ كَرَّمۡنَا بَنِيٓ ءَادَمَ} [الإسراء: 70]، التكريم يتناول التكريم الأول بأمر الملائكة بالسجود لآدم، فإن ذلك تكريم للخلق الإنساني منذ الابتداء، وليس معناه أن كل إنسان أكرم عند الله من الملائكة، بل معناه أن آدم ذاته قبل أن يعصي كان مستحقًّا للكرامة فوق الملائكة، ولكنه بعد ذلك عصى ربه فغوى، وهذا يشير إلى أن آدم يستحق الكرامة التي كرمه بها إلا إذا عصى.

وإن تكريم الله للإنسان ابتداءً كما رأيت منذ النشأة الأولى، ثم كان من تكريمه أن خلقه في أحسن تقويم، ثم كان من تكريمه أن أعطاه سبحانه وتعالى العقل المميز، ثم كان من تكريمه أن جعل له إرادة يختار بها الخير والشر فيعلو عن الملائكة إن اختار الخير، وذلل كل الصعوبات التي تعترض طريقه، ثم كان من تكريمه أن سخر له السماوات والأرض والنجوم، وصار كل من في الوجود له، كما قال تعالى: {هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا} [البقرة: 29].

وذكر الله تعالى من تكريمه أنه تمكن من الأرض يُحمَل فيها بالركائب التي سخَّرها له من بغال وحمير وخيل مسوقة وغير مسوقة وجِمال له فيها جَمال حين تريحون وحين تسرحون، وكان حَمْله في البحر بالفُلك المشحون كما ذكر سبحانه في آيات أخرى.

وإن الحَمْل في البَر يدخل فيه الحَمْل في الجو بالطائرة التي تسبح في الهواء كما يجري الفلك في الماء، كما قال تعالى: {وَيَخۡلُقُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} [النحل: 8]، وقوله تعالى: {وَفَضَّلۡنَٰهُمۡ عَلَىٰ كَثِيرٖ مِّمَّنۡ خَلَقۡنَا تَفۡضِيلٗا} [الإسراء: 70] وإن كل المخلوقات التي لم تؤتَ مثل ما أوتي ابن آدم من عقل مدبِّر وإرادة للخير والشر وابتلاء بالخير والشر، كما قال تعالى: {وَنَبۡلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلۡخَيۡرِ فِتۡنَةٗ} [الأنبياء: 35]، كل هؤلاء فُضِّل الإنسان عليهم بالفعل والتمييز والإرادة لما يفعل وتحمُّل التبعة.

وقوله تعالى: {مِّمَّنۡ خَلَقۡنَا} [الإسراء: 70]، (من) بمعنى بعض وهم كثرة، فالإنسان من بين ما خُلق قليل محدود، وغيره كثير غير محدود، وإن هذه الكرامة يستحقها الإنسان بوصف كونه إنسانًا لا لأنه عربي أو أعجمي أو أبيض أو أسود أو متخلف أو متعلم، فهي حق كل إنسان، وإن البعث والنشور والحساب والعقاب والثواب من أسباب تكريم الإنسان؛ لأنه يكون مسؤولًا عما يفعل، والمسؤولية تكريم للإنسان؛ لأن غير المسؤول همل”([1]) اهـ.

ولا شك أن امتهان الكرامة الإنسانية للشخص يدفعه إلى أنماط من السلوك الإنساني السلبي، ويقوده إلى مسلك العنف والانتقام بدل مسلك العفو والتسامح، إذ لا يمكن للإنسان أن يعيش سويًّا متعاونًا مع غيره متخليًا عن مشاعر الحقد التي تدفعه إلى الإفساد والانتقام وهو يشعر بانتقاص كرامته والتقليل من قيمته.

وقد صدرت فتوى من دار الإفتاء المصرية تفيد أن من صور تكريم الإنسان تزويده بالعقل، وتسخير الكون له، والمحافظة على جسده، وعدم تعريضه للأذى أو الضرر، وهو ما بيَّنه القرآن في قصة خلق آدم؛ فنصت على:

“من المقرر شرعًا أن الله تعالى خلق الإنسان وكرمه أفضل تكريم، واستخلفه في الأرض لعمارتها واستخراج كنوزها وخيراتها، واستقدمه في هذا الوجود بعد أن هيأ الكون كله لاستقباله تحقيقًا للخلافة التي منحه الله إياها، يقول تعالى: {وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗ} [الآية 30 من سورة البقرة].

وبمقتضى هذه الخلافة فُضِّل الإنسان وكُرِّم على سائر المخلوقات، يقول تعالى: {وَلَقَدۡ كَرَّمۡنَا بَنِيٓ ءَادَمَ وَحَمَلۡنَٰهُمۡ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ وَرَزَقۡنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلۡنَٰهُمۡ عَلَىٰ كَثِيرٖ مِّمَّنۡ خَلَقۡنَا تَفۡضِيلٗا} [الآية 70 من سورة الإسراء].

وميز الإنسان عن غيره بالعقل الذي هو محل التكاليف الشرعية التي تعدُّ الهدف الأسمى من وجود الإنسان على ظهر الأرض، قال تعالى: {وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ٥٦ مَآ أُرِيدُ مِنۡهُم مِّن رِّزۡقٖ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطۡعِمُونِ٥٧ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ ذُو ٱلۡقُوَّةِ ٱلۡمَتِينُ} [الآيات: 56- 58 من سورة الذاريات].

ولتكريم الله تعالى للإنسان مظاهر كثيرة منها: أن الله أمر الإنسان بالمحافظة على نفسه وعلى بني جنسه، فلا يجوز له أن يعرض حياته وحياة الآخرين لأي نوع من أنواع الهلاك أو الدمار، لذا جاء قوله تعالى: {وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ} [الإسراء: 29]، وقوله تعالى: {وَلَا تُلۡقُواْ بِأَيۡدِيكُمۡ إِلَى ٱلتَّهۡلُكَةِ} [البقرة: 195] مؤكدًا أن مقاصد الشريعة الإسلامية وضروراتها وهي المحافظة على الدين والنفس والنسل والعقل والمال، وكل ما يفوت هذه المقاصد يعد من المفاسد التي يجب الابتعاد عنها، وما ذلك إلا لأن الإنسان ملك لله وحده وصنعته، وليس لأحد من البشر أن يتصرف في هذا الكيان تصرفًا يضرُّ به أو يؤدي إلى فساده أو هلاكه. وقد حرَّمت الشريعة الإسلامية على الإنسان إلحاق الضرر بذاته أو بجزء من أجزائه بأي طريق من طرق الضرر والإيذاء، وتوعَّدت من يفعل ذلك بالخلود في النار فقال صلى الله عليه وسلم: ((من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا فيها أبدًا))([2]). رواه مسلم.

كما بينت الفتوى أن الشريعة قد أمرت الإنسان بالمحافظة على حياته وصحته واتخاذ ما يمنع عنه الأذى والهلاك؛ فنصت على:

“كما أمرته باتخاذ كل الوسائل التي تحافظ على ذاته وحياته وصحته وتمنع عنه الأذى والهلاك، ولا شك أن كل ما يضر الإنسان ويهلكه ويلحق به الأذى أو بأي جزء من أجزائه أو يتسبب في إلغاء عقله وتعطيله يكون من باب المحرم شرعًا، وكل من يساعد أو يشارك في إلحاق الضرر بالإنسان بأي طريق من الطرق فهو مرتكب لما حرم الله سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: {مِنۡ أَجۡلِ ذَٰلِكَ كَتَبۡنَا عَلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ أَنَّهُۥ مَن قَتَلَ نَفۡسَۢا بِغَيۡرِ نَفۡسٍ أَوۡ فَسَادٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعٗا} [الآية 32 من سورة المائدة].

ومن هنا حرم الإسلام الخمر تحريمًا قاطعًا لما فيها من الضرر، ولما لها من سيئ الأثر على العقل، فهي تغيبه وتخامره، قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَيۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَٰمُ رِجۡسٞ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ٩٠ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُوقِعَ بَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ فِي ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِ وَيَصُدَّكُمۡ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلَوٰةِۖ فَهَلۡ أَنتُم مُّنتَهُونَ} [الآيتان: 90، 91 سورة المائدة].

وقد قال المسلمون عند نزول هذه الآية: ما حرم الله شيئًا أشد من الخمر، إذ إن شرب الخمر سبب كل المفاسد والجرائم، فهو يصد عن ذكر الله وعن الصلاة، ويوقع العداوة والبغضاء بين الناس، وهو رجس من عمل الشيطان، وينسحب حكم تحريم الخمر على كل ما يلغي العقل ويخامره من السموم البيضاء من المخدرات والمسكرات عدا ما كان استعماله منها لأغراض طبية أو علمية؛ لما روى مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كل مسكر خمر، وكل خمر حرام))([3]) أخرجه مسلم.

وبناءً على ذلك فإن المخدرات بأنواعها المختلفة والمسكرات -أيًّا كانت- حرام، وهي من المفاسد التي نهت عنها شريعة الإسلام؛ لما لها من الآثار الضارة دينيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا وأخلاقيًّا، فهي فضلا عن أنها تُبعد الإنسان عن الله وتصده عن ذكره وعن الصلاة، وتنشر العداوة والبغضاء والكراهية والحقد بين أفراد المجتمع، وتخرب عقول الشباب وتصيبهم بالضعف والهزال وتهلك أبدانهم وتضيع أموال الناس فيما لا خير فيه، وتسهل لهم ارتكاب الجرائم الأخلاقية من اغتصاب الفتيات وترويع الآمنين وإرهابهم مما يعتبر خروجًا على تعاليم الإسلام وقواعد الشريعة الغراء. فكل من يتعامل في المخدرات والمسكرات بيعًا أو شراءً أو أكلًا أو شربًا أو شَمًّا أو غير ذلك إن وصل الأمر فيها إلى حد الإفساد في الأرض بالنسبة للأفراد والجماعة والدولة فتعد من جرائم الحرابة والإفساد التي تدخل في نطاق قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَٰٓؤُاْ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَيَسۡعَوۡنَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوٓاْ أَوۡ يُصَلَّبُوٓاْ أَوۡ تُقَطَّعَ أَيۡدِيهِمۡ وَأَرۡجُلُهُم مِّنۡ خِلَٰفٍ أَوۡ يُنفَوۡاْ مِنَ ٱلۡأَرۡضِۚ ذَٰلِكَ لَهُمۡ خِزۡيٞ فِي ٱلدُّنۡيَاۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الآية 33 سورة المائدة]”([4]) اهـ.

 

 

([1]) زهرة التفاسير (8/ 4426).

([2]) أخرجه البخاري في الطب، باب: شرب السم والدواء به وبما يخاف منه والخبيث، رقم: (5778)، ومسلم في الإيمان، باب: غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه، رقم: (109).

 

([3]) رواه مسلم في كتاب الأشربة برقم عام (2003) وخاص (75) عن ابن عمر رضي الله عنهما. ومن الأحاديث التي بنحوه قوله صلى الله عليه وسلم: ((كل شراب أسكر فهو حرام)) رواه البخاري (5585)، ومسلم (2001)، وحديث: ((ما أسكر كثيره فقليله حرام)) رواه أبو داود (3681)، والترمذي (1865)، وابن ماجه (3393).

([4]) رقم الفتوى 19 تاريخ الفتوى 18/ 7/ 1999 المفتي فضيلة الدكتور نصر فريد واصل.

اترك تعليقاً