البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الباب الأول: اعتماد الفتوى على المنهج الشرعي المتكامل في حفظ النفوس

الفصل الثامن: إظهار الفتوى لدور حفظ النفس في أمن واستقرار المجتمعات

69 views

من ضمن عناصر المنهج المتكامل في حفظ النفوس أن الفتوى عملت منذ القدم على بيان أن حفظ النفوس سبب في استقرار المجتمعات، وأن المجتمعات التي ينتشر فيها القتل هي مجتمعات غير مستقرة؛ لأنه لا استقرار في مجتمع لا يأمن الناس فيه على أرواحهم وأرواح من يحبونهم.

ووجود الأمن والاستقرار وأمن الإنسان على روحه وأرواح من حوله من النعم الكبرى التي يجب على الإنسان أن يحمد الله عليها، وأن يحافظَ على وجودها، ودَور العلماء والمفتين على وجه الخصوص في حفظ حالة الأمن دور مهم، يستدعي أن يكونوا على إلمام بكل ما يمكن أن يهدد أمن النفوس والأرواح.

وقد منَّ الله على قريش بنعمة الطعام والأمن، وهما أهم مقومات السلام في نظر الإسلام، وأنزل سورة كاملة، وهي سورة قريش، وهي وإن كانت قصيرةً في لفظها إلا أنها شاملة في معناها؛ حيث تختصر مقومات السلام وأنواعه وهي السلام داخل الوطن وخارجه، والسلام بتوفر النعم وبعدم وجود نوع من التهديد الذي ينغص على أصحاب النعمة نعمتهم؛ قال تعالى: ﴿لِإِيلَٰفِ قُرَيۡشٍ ١ إِۦلَٰفِهِمۡ رِحۡلَةَ ٱلشِّتَآءِ وَٱلصَّيۡفِ ٢ فَلۡيَعۡبُدُواْ رَبَّ هَٰذَا ٱلۡبَيۡتِ ٣ ٱلَّذِيٓ أَطۡعَمَهُم مِّن جُوعٖ وَءَامَنَهُم مِّنۡ خَوۡفِۢ﴾ [قريش: 1- 4].

قال العلامة الطاهر ابن عاشور في بيان أغراض هذه السورة: “أمر قريشًا بتوحيد الله تعالى بالربوبية تذكيًرا لهم بنعمة أن الله مكن لهم السير في الأرض للتجارة برحلتي الشتاء والصيف لا يخشون عاديًا يعدو عليهم، وبأنه أمَّنهم من المجاعات، وأمنهم من المخاوف لما وقر في نفوس العرب من حرمتهم لأنهم سكان الحرم وعمار الكعبة، وبما ألهم الناس من جلب الميرة إليهم من الآفاق المجاورة كبلاد الحبشة، ورد القبائل فلا يغير على بلدهم أحد قال تعالى: ﴿أَوَ لَمۡ يَرَوۡاْ أَنَّا جَعَلۡنَا حَرَمًا ءَامِنٗا وَيُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنۡ حَوۡلِهِمۡۚ أَفَبِٱلۡبَٰطِلِ يُؤۡمِنُونَ وَبِنِعۡمَةِ ٱللَّهِ يَكۡفُرُونَ﴾ [العنكبوت: 67] فأكسبهم ذلك مهابة في نفوس الناس وعطفا منهم”([1]) اهـ.

وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ أَصْبَحَ مُعَافًى فِي بَدَنِهِ آمِنًا فِي سِرْبِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يومه فكأنما حيزت له الدنيا))([2])، وعَنْ سَلَمَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِحْصَنٍ الأنصاري عن أبيه -عبيد بن محصن اختلف في صحبته- عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((مَن أَصبَحَ آمِنًا فِي سِربِهِ مُعافًى فِي جَسَدِه عِندَّهُ طَعامُ يَومِه فَكأنَّما حِيزَتْ لَهُ الدُّنيَا))([3]) اهـ.

قال العلامة المباركفوري: “((من أصبح منكم)) أي أيها المؤمنون ((آمنًا)) أي غير خائف من عدو ((في سربه)) المشهور كسر السين أي في نفسه، وقيل: السرب الجماعة، فالمعنى: في أهله وعياله، وقيل بفتح السين أي في مسلكه وطريقه، وقيل بفتحتين أي في بيته، كذا ذكره القارئ عن بعض الشراح… ((معافى)) اسم مفعول من باب المفاعلة أي صحيحًا سالمًا من العلل والأسقام ((في جسده)) أي بدنه ظاهرًا وباطنًا ((عنده قوت يومه)) أي كفاية قوته من وجه الحلال ((فكأنما حيزت)) بصيغة المجهول من الحيازة وهي الجمع والضم ((له)) الضمير عائد لمن رابط للجملة أي جمعت له ((الدنيا)) وزاد في المشكاة بحذافيرها، قال القارئ: أي بتمامها، والحذافير الجوانب، وقيل الأعالي، واحدها حذفار أو حذفور، والمعنى فكأنما أعطي الدنيا بأسرها. انتهى”([4]) اهـ.

واستقرار المجتمع هو أساس الازدهار والنماء؛ لأنه لا استثمار ولا تجارة ولا صناعة في مجتمع غير مستقر.

وقد بين فضيلة الأستاذ الدكتور/ شوقي علام مفتي الجمهورية الرابط القوي بين حرمة الدماء وبين استقرار المجتمعات في مقال كان نصُّه كالآتي:

“حفظ النفس من أجل مقاصد الشريعة على الإطلاق، ولأجله جاءت عشرات الأحكام والفروع الفقهية التي تحقق ذلك، ولم يأتِ الشرع الشريف فقط بحفظ النفس، بل جعل حفظ النفس مفتاحًا لعشرات الإجراءات والخطوات التي تسعى إلى إكرامها وتوقيرها وإحيائها وتبجيلها، حتى قال الله تعالى: ﴿مِنۡ أَجۡلِ ذَٰلِكَ كَتَبۡنَا عَلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ أَنَّهُۥ مَن قَتَلَ نَفۡسَۢا بِغَيۡرِ نَفۡسٍ أَوۡ فَسَادٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعٗا وَمَنۡ أَحۡيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحۡيَا ٱلنَّاسَ جَمِيعٗا﴾ [المائدة: 32]، فأطلق القرآن الكريم بهذه الآية المحورية مبدأ إنسانيًّا عالميًّا، وقانونًا عامًّا، وشعارًا شريفًا، بأن إحياء النفس ينزل في الجلال والأهمية الملحة منزلة إحياء نفوس الناس جميعًا، وأن إيذاء تلك النفس وإزهاقها وقتلها ينزل منزلة قتل الناس جميعًا، وصارت هذه الجملة القرآنية ﴿وَمَنۡ أَحۡيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحۡيَا ٱلنَّاسَ جَمِيعٗا﴾ حكمة سائرة، ومكونًا عميقًا وراسخًا من مكونات العقل المسلم، يصنع نفسية الإنسان، ويبني منظومة قيمه وتصرفاته على أساس هذا التوقير والشعور الراسخ بمدى الأهمية البالغة لإحياء النفس الإنسانية والحفاظ عليها، وليس المراد هنا النفس المسلمة فقط؛ بل مطلق النفس الإنسانية البشرية، من مسلم أو مسيحي أو يهودي أو غير ذلك، فأي نفس إنسانية على الإطلاق فهي جديرة بالاحترام، توقيرًا لخالقها سبحانه، وقد أمرنا الشرع بإحيائها وحفظها، حتى روى البخاري ومسلم في الصحيحين أن ابن أبي ليلى قال: كان سهل بن حنيف وقيس بن سعد قاعدين بالقادسية، فمروا عليهما بجنازة فقاما، فقيل لهما: إنها من أهل الذمة، فقالا: إن النبي صلى الله عليه وسلم مرت به جنازة، فقام، فقيل له: إنها جنازة يهودي، فقال: ((أليست نفسا؟!!))، وإحياء النفس يتحقق بخطوات، منها صونها من القتل والأذى، ومنها توفير متطلبات الكرامة والحياة اللائقة، ومنها تنويرها بالعلم والمعرفة، وتحريرها من قيود الجهل والمرض، ورفع الحرج عن تلك النفس في سائر وجوه حركة الحياة، والمسارعة في كل الإجراءات والتدابير التي من شأنها توفير الحياة الكريمة الآمنة، فإحياء النفس وحفظها من القتل والإزهاق وإراقة الدماء هو خطوة تأسيسية تترتب عليها إجراءات متصاعدة، من الإكرام والرعاية والتعليم والإبانة والهداية والتهذيب، هكذا جاء الشرع، وهكذا جاءت الأحكام الهادية من أنبياء الله ورسله، حتى صار من مكونات عقل الإنسان المسلم شدة التعظيم والحفظ للنفس الإنسانية، وقد زاد الشرع ذلك تأكيدًا وتثبيتًا حين حذر تحذيرًا شديدًا من إراقة الدماء، فروى البخاري عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يُصِبْ دمًا حرامًا))، وكان ابن عمر يقول: “إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها: سفك الدم الحرام بغير حِلِّه”، وروى البخاري عن ابن مسعود قال: قال رسول الله: ((أول ما يُقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء))، والعقول الراقية الراشدة هي التي تأخذ على عاتقها البناء والإحياء والرخاء للنفس الإنسانية، ومن أراد التقرُّب إلى الله تعالى والأخذ بشمائل هذا الدين فليضع في برنامج حياته وأولوياته أن يعمل على إكرام الإنسان، وإدخال الرخاء والسرور عليه، وانتشاله من كل الضرورات الخانقة التي تثقله وتؤلمه، وتحرير عقله من الأوهام والخرافة، ولا بد لنا في هذه المرحلة من تنشيط كل البرامج والمؤسسات الخيرية المعتمدة التي تعمل على رفع الحرج عن الإنسان، والتي تنتشر في سائر أرجاء مصر وغيرها لعلاج المرضى، وتسديد ديون الغارمين، وإيواء المشردين، ورعاية أطفال الشوارع الذين لا مأوى لهم، فأي مؤسسة أو شخص يسعى في مثل ذلك، فإنه يأخذ بطرف من أنوار قوله سبحانه ﴿وَمَنۡ أَحۡيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحۡيَا ٱلنَّاسَ جَمِيعٗا﴾، وله مني شخصيًّا ومن مؤسسة دار الإفتاء كلها خالص التقدير، وأشد على يده، وأدعوه إلى بذل المزيد من الجهد في هذا السياق، وأدعو كل المقتدرين للإسهام معهم في ذلك، وفي الختام فهذا نداء أتوجه به إلى العالمين، وإلى مختلف الشعوب والثقافات، وإلى الدنيا كلها، في مختلف قاراتها ودولها، وإلى كل المنظمات والمؤسسات الخيرية العاملة على خير الإنسان، وإلى كل مناطق الصراعات والاقتتال في العالم كله ومن يؤججونها ويشعلونها، بأن يستنيروا جميعا بهذا المبدأ القرآني الإنساني العظيم ﴿وَمَنۡ أَحۡيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحۡيَا ٱلنَّاسَ جَمِيعٗا﴾”([5]) اهـ.

وقد صدرت فتوى من دار الإفتاء المصرية تتحدَّث عن صورة من صور الاعتداء على النفوس، وهي صورة تؤثر بشكل كبير في استقرار المجتمعات إضافةً إلى تأثيرها على الأمن على النفوس، وهي ظاهرة البلطجة.

وقد جاء بالفتوى:

“البلطجة كلمة تعني استخدام العنف والقوة لترويع الناس أو أخذ ممتلكاتهم، وهي بهذا كبيرةٌ من كبائر الذنوب، وانتشارُها يقضي على الأمن والاستقرار الذي حرصت الشريعة الإسلامية على إرسائه في الأرض، وجعلته من مقتضيات مقاصدها، والتي من ضِمْنها الحفاظُ على النفس والعرض والمال.

فنهت الشريعة الإسلامية عن مجرد ترويع الآمنين، حتى ولو كان على سبيل المزاح، أو باستخدام أداةٍ تافهة، أو بأخذ ما قلت قيمتُه؛ فقد أخرج الإمامان البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((لَا يُشِيرُ أَحَدُكُمْ عَلَى أَخِيهِ بِالسِّلَاحِ، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِي يَدِهِ، فَيَقَعُ فِي حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ))، وأخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وآله وسلم: ((مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَلْعَنُهُ حَتَّى يَدَعَهُ وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ))، وأخرج البزار والطبراني عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((لَا تُرَوِّعُوا الْمُسْلِمَ فَإِنَّ رَوْعَةَ الْمُسْلِمِ ظُلْمٌ عَظِيمٌ))”.

كما بينت أن الترويع لو وصل إلى حدِّ الاستيلاء على الممتلكات بالقوة، فإنه يدخل في نطاق جريمة الحرابة والتي تستوجب عقوبة شديدة؛ فنصَّت على:

“فإذا زاد الترويع إلى حد الاستيلاء على الممتلكات بالقوة أو حتى بإيهام القوة -فضلًا عن الخطف أو الاعتداء على النفس أو العرض- دخل ذلك في باب “الحرابة” و”قطع الطريق”، وهو كبيرة من كبائر الذنوب، شدَّد القرآن الكريم الحدَّ فيها، وغلظ عقوبتها أشد التغليظ، وسَمَّى مرتكبيها “محاربين لله ورسوله، وساعين في الأرض بالفساد”، فقال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَٰٓؤُاْ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَيَسۡعَوۡنَ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوٓاْ أَوۡ يُصَلَّبُوٓاْ أَوۡ تُقَطَّعَ أَيۡدِيهِمۡ وَأَرۡجُلُهُم مِّنۡ خِلَٰفٍ أَوۡ يُنفَوۡاْ مِنَ ٱلۡأَرۡضِۚ ذَٰلِكَ لَهُمۡ خِزۡيٞ فِي ٱلدُّنۡيَاۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [المائدة: 33]، بل نفى النبي صلى الله عليه وآله وسلم انتسابَهم إلى الإسلام، فقال في الحديث المتفق عليه: ((مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا)) رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر وأبي موسى رضي الله عنهم، ومن فداحة هذه الجناية أن الحدَّ فيها لا يقبل الإسقاط ولا العفو باتفاق الفقهاء؛ لأنها انتهاك لحق المجتمع بأسره، فلا يملك المجني عليه العفو فيها.

وقد جعل الشرع للمعتدى عليه الحق في دفع المعتدي ولو بالقتل إذا لم يجد سبيلًا غيره، ولا تَبِعَةَ عليه في ذلك مِن قصاص ولا دية ولا كفارة.

والإسلام يوجب مساعدةَ الإنسان لأخيه وإنقاذه من الاعتداء عليه، ومَن مات في ذلك فهو شهيد، وعدَّ الشرع الإحجامَ والنكوصَ عن النصرة والنجدة لمن يستطيع ذلك -ولو بالإبلاغ عن البلطجية المفسدين- تقاعسًا يُلحق الوزر بصاحبه، بل وإعانةً على الظلم؛ حيث جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم المتقاعس عن نصرة المظلوم مع قدرته على ذلك مشاركًا للظالم في بغيه وظلمه؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((لَا يَقِفنَّ أحدُكم موقفًا يُقتَلُ فِيهِ رجلٌ ظُلمًا؛ فَإِنَّ اللَّعْنَةَ تنزل على كل مَن حضر حِين لم يدفعوا عَنهُ، وَلَا يَقِفنَّ أحدُكم موقفًا يُضْرَبُ فِيهِ رجلٌ ظلمًا؛ فَإِنَّ اللَّعْنَة تنزل على من حَضَره حِين لم يدفعوا عَنهُ)) رواه الطبراني والبيهقي بإسناد حسن كما قال الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب”.

كما بيَّنت الفتوى واجب الأفراد والمجتمع في التصدي لهذه الممارسات، وأن هذا من باب تغيير المنكر، ومن مسؤوليات المجتمع والأفراد؛ فنصَّت على:

“كما أوجب الشرع على الأفراد والمجتمعات أن يقفوا بحزم وحسم أمام هذه الممارسات الغاشمة، وأن يواجهوها بكل ما أُوتوا من قوة؛ حتى لا تتحول إلى ظاهرة تستوجب العقوبة العامة، وتمنع استجابة الدعاء، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((إِن النَّاس إِذا رَأَوْا الظَّالِم فَلم يَأْخُذُوا على يَدَيْهِ أوشك أَن يعمهم الله بعقاب من عِنْده)) أخرجه أبو داود، والترمذي وصححه، وابن ماجه والنسائي من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وروى الترمذي وحسنه من حديث حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لتأمرن بِالْمَعْرُوفِ ولتنهون عَن الْمُنكر أَو ليوشكن الله يبْعَث عَلَيْكُم عذَابا مِنْهُ ثمَّ تَدعُونَهُ فَلَا يستجيب لكم))، وعدَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم -في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في الصحيحين وغيرهما- القريةَ التي لم تأخذ على يد القاتل وتمنعه من جرائمه “قريةً خبيثة” -وفي رواية مسلم “أرضَ سوء”- يُهاجِر منها مَن أراد التوبة.

وقد حمَّل الشرع المجتمع مسؤولية حماية أفراده، وظهر ذلك جليًّا في التشريعات الإسلامية؛ فشُرِعَت القسامة عند وجود قتيل لم يُعرَف قاتلُه في حي من الأحياء؛ بأن يحلف خمسون من أهل الحي أنهم لم يقتلوه ولا يعرفون قاتلَه، ثم يغرمون ديته عند جماعة من الفقهاء مع أن الأصل براءة ذمتهم من القتل، إلا أن القتيل لـمَّا دخل مكانهم كان كالملتجئ إليهم والمحتمي بهم، فصار تفريطهم في حمايته مظنة اللوث”.

وكما أن البلطجة كبيرة من الكبائر وإفساد في الأرض في نظر الشرع، فإنها جريمة نكراء في نظر القانون؛ حيث أُفرِدَتْ لها موادُّ عقابية أضيفت إلى قانون العقوبات، وشدِّدَتْ فيها العقوبة عن غيرها؛ وذلك بموجب القانون رقم 6 لسنة 1998م، الذي حل محلَّه المرسوم بقانون رقم 10 لسنة 2011م تصديًا لانتشار هذه الجرائم في الآونة الأخيرة؛ عملا بمبدأ “يحدث للناس من الأقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور”، والبلطجة التي جرَّمها القانون لها صورٌ مختلفة منها: استعراض القوة، التلويح للمجني عليه بالعنف المادي أو المعنوي، التهديد باستخدام العنف بالتعرُّض لحرمة الحياة الخاصة، إلحاق الضرر بممتلكات الغير، إلحاق الضرر بمصلحةٍ خاصةٍ بالمجني عليه، تعريض المجني عليه للخطر، المساس بالشرف والكرامة، المساس بسلامة الإرادة، حمل السلاح أو أداةٍ كهربائيةٍ أو مواد ضارة، اصطحاب حيوان يثير الرعب.

كما ينبغي التنبُّه إلى أن كثيرًا من المظاهر السلبية في هذه الآونة يُعَدُّ ضربًا مِن ضروب البلطجة؛ كالاعتداء على المنشآت العامة أو التسبب في تعطيلها، أو قطع طرق المواصلات العامة، أو شل حركة المرافق الحيوية التي تعتبر شريانًا لحياة الناس في حراكهم المعيشي اليومي وعجلة حياتهم المستمرة، وذلك تحت أي مبرر كان([6]).

 

([1]) التحرير والتنوير (30/ 554).

([2]) صحيح ابن حبان – محققًا (2/ 446).

([3]) الأدب المفرد بالتعليقات (ص: 156).

([4]) تحفة الأحوذي (7/ 9).

([5]) مقال بالأهرام اليومي بعنوان نحو مجتمع آمن مستقر حرمة النفس البشرية، الجمعة 28 من ربيع الثاني 1435هـ، 28 فبراير 2014 السنة 138 العدد 46470.

([6]) الفتوى المقيدة برقم 586 لسنة 2011م.

اترك تعليقاً