البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الباب الأول: اعتماد الفتوى على المنهج الشرعي المتكامل في حفظ النفوس

الفصل الثاني: موازنة الفتوى بين الجانب الوقائي والجانب العقابي

74 views

وفيه مباحث:

 المبحث الأول: تبني الفتوى لزرع روح المحبة وإزالة أسباب الشقاق كسبب لحفظ النفوس.

 المبحث الثاني: التزام المفتي بأحكام القضاء، وتوجيه الأفراد إلى عدم الافتئات على الدولة.

 المبحث الثالث: الفتوى ومنع الوسائل التي تؤدي للقتل.

 المبحث الرابع: إبراز الفتوى دور وقاية النفوس من المخاطر، ودور الإيجابية في مواجهتها.

 

 

 

المبحث الأول: تبني الفتوى لزرع روح المحبة وإزالة أسباب الشقاق كسبب لحفظ النفوس:

من ضمن العناصر التي تبنتها الفتوى، والتي تعتمد على المنهج المتكامل في حفظ النفوس: التركيز على الجانب الوقائي، فإنَّ العِبرةَ ليست بالانتقام من القاتل، وليس هذا هو غرضَ الشارع في الأساس، وإنما غرض الشارع الأول والأهم هو منع الجريمة قبل وقوعها حِفاظًا على حياة المقتول، وربما حياة القاتل، بل والنفوس التي قد تتعلَّق بالقاتل أو المقتول والتي قد تتضرَّر ضررًا شديدًا ربما يصلُ إلى مرحلة تشبه الموت، أو يجعل التمتع بالحياة أمرًا شاقًّا وصعبًا.

ومن الأساليب التي تتخذها الفتوى تطبيقًا للمنهج الشرعي المتكامل في حفظ النفوس: منع أسباب الشحناء والبغضاء التي هي سبب حنق الناس على بعضهم، مما يصل بأحدهم إلى الاعتداء على الآخر استجابةً لداعي الشحناء والبغضاء.

من أجل ذلك حرَّم الإسلام الخمر والميسر؛ لكونهما سببًا في زرع النزاع والشقاق الذي قد يكون سببًا في الاعتداء بكل صوره، كما حَرَّم أن يَبيعَ الإنسانُ على بيع أخيه، أو يخطب على خطبته، وأمر بكتابة الدَّيْن، وَحرَّم الربا من أجل هذه المعاني.

وقد بيَّن تعالى في كتابه أنَّ النهي عن الخمر والميسر سببُه ما يتسبَّب عنهما من العداوة والبغضاء والتقاعس؛ {إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُوقِعَ بَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ فِي ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِ وَيَصُدَّكُمۡ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلَوٰةِۖ فَهَلۡ أَنتُم مُّنتَهُونَ} [المائدة: 91].

قال العلامة أبو زهرة في تفسير هذه الآية: “البغضاء: البغض الشديد، وهو يقطع الصلات، ويثير الأحقاد، ويجعل الناس قلوبهم شتى، وإذا أعلنت البغضاء كانت العداوة المستحكمة، والمنابذة والشحناء، فالعداوة أخصُّ من البغضاء؛ لأنها بغضاء معلنة متنابذة، أما البغضاء المجردة فتكون مستكِنَّة لا تظهر، وإن كانت آثارها عنيفةً مثيرةً للنفور مربية للأحقاد والأضغان.

وقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ} فيه قصر، أي قصر إرادة الشيطان في الخمر والميسر على إثارة العداوة والبغضاء وإلقائهما في الأنفس، والعلاقات الاجتماعية بين الناس بعضهم مع بعض، وهذا يفيد أمرين:

أولهما: أنَّ الخمر والميسر لا يدفع إليهما عقل مدرك مدبر، ولكن يدفع إليهما شهوة نفسية جامحة هي من تحريكات النفس الأمارة بالسوء.

وثانيهما: أنه يترتَّب عليهما الفرقة المادية بين الناس بالعداوة التي تقام بينهم، وبالبغضاء التي تولد فيهم الإحن المستمرة.

فالخمر والميسر تناولهما يؤدي إلى أمرين:

أولهما: العداوة والبغضاء.

وثانيهما: الصد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة.

أما أداؤها إلى العداوة فلأن الخمر إذا شربت غاب العقل الظاهر، وظهر العقل الباطن، وكشف السكران كل مستور، وبين كل ما في الأنفس، وانطلقت الألسنة، بما لا يصحُّ الكشف عنه، وقد يبادله الآخر مثل قوله، فتكون الشحناء، وتكشف الأستار، وينبش المقبور من الأمور، ووراءه تولد الإحن ونزول المحن، وإن الرجل ليكون كاتمًا لنفسه لا يتكلم، فإذا سكر انطلق لسانه بكل شيء، وقد يفتري على الحرائر، ويكشف ما في السرائر، وتنزل بالجماعة المحن.

وأما الميسر فإنه يولد حقد القلوب، وإحساس كلٍّ بأن الآخر له متربص ومتحفز، ولأمواله طالب متوثب، وهذه الأمور بارزة للعيان غير محتاجة إلى بيان”([1]) اهـ.

ومِنْ سَدِّ أبوابِ الشر: حرمة أن يخطب الرجل على خطبة أخيه، أو أن يبيع على بيعه؛ فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يبتاعُ الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبته، ولا تَشْترطُ المرأة طلاق أختها لِتَستَفْرِغَ صَحْفتها، فإنما لها ما كَتَبَ الله عز وجل لها))([2]).

وعن أبي سعيد مولى عبد الله بن عامر قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبعْ أحدكم على بيع أخيه، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذلُه ولا يَحْقرُه، التقوى هاهنا -وأشار بيده إلى صدره ثلاث مراتٍ- حسبُ امرئٍ مسَلمٍ من الشر أن يَحْقِرَ أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمُه، وماله، وعرضه))([3]).

وقد أصدرت دار الإفتاء المصرية فتوى هامةً بمناسبة أحداث الفتنة الطائفية، وقد أبرزت الفتوى أسس المودَّة والمحبَّة والتعايش والتاريخ المشترك بين المسلمين والمسيحيين، وكفاحهم معًا ضدَّ المستعمر.

والفتوى بهذا تؤسس لزرع روح المحبة وإزالة أسباب الشقاق كسبب لحفظ النفوس، وقد نصَّت الفتوى على:

“أيها المصريون -مسلمين وأقباطًا- هذا شرف لبلادكم العزيزة الكريمة، هذا رضوان من الله عليها وتكريم لها، فصونوا هذه البلاد، واحفظوها من الفرقة والاختلاف، وحافظوا عليها كما كانت دائمًا واحةَ الأمن والأمان، فهكذا كانت مصر وستظلُّ آمنةً بأهلها ويُتخَطف الناسُ من حولها، لقد عاش الإسلام والمسيحية هنا هذه القرون يرتوي المسلمون والمسيحيون من ماء النيل، ويفلحون أرضها، يبذرون الحب ويعتمدون على الرب، ويعيشون إخوة متجاورين متحابين، ليتذكر المواطنون أن مصر قد تحررت من الاستعمار بوحدتها، فلنعد إلى التاريخ أيضًا ولنطالع تلك الصحائفَ النقية صحائفَ الرجال الذين تغاضوا عن كل أسباب الفرقة والتباعد في ثورة الشعب في سنة 1919، فدخل القس الأزهر خطيبًا، ودخل عالم الأزهر الكنيسة داعيًا للوطن والوطنية، والتقت القلوب قبل الكلمات، وكان رصاص العدو لا يفرق بين المسلم والمسيحي، بل أرسل للأرض فداء، ولقد استمر جهاد المواطنين دون تراخٍ أو تباعد عن ساحة الاستشهاد حتى تحررت مصر واستردت ذاتها.

ولما نكبت فيما كسبت، وولي أمرها الرشيد من أبنائها احتسب نفسه وجهده لخلاصها واسترداد كرامتها، فماذا كان؟ كان هذا الإخاء الوطني في حرب رمضان 1393 أكتوبر 1973 أنْ وقف المصريون بل والوطن العربي مسلمين ومسيحيين يقاتلون لا يفرقهم الدين، فقد ارتوت أرض المعارك بدماء المسلمين والمسيحيين على السواء، هذا الإخاء في الوطن ليس وصية للمسلمين فحسب؛ بل هو كذلك صلب المسيحية التي ترفع دائمًا نداء وشعار المحبة والسلام، السلام الذي ينادي به الإسلام، ويتمثل في دعاء الرسول محمد عليه الصلاة والسلام: ((اللهم أنت السلام ومنك السلام وإليك السلام فحينا ربنا بالسلام)) ويقرؤه إخواننا الأقباط في الإنجيل؛ إذ يقول: (المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة).

إن الدين بأهله، وعلى أهل الدين -أي دين- أن يحفظوا تعاليمه الحقة، فيؤدوا واجباتهم ويأخذوا حقوقهم بالكلمة الطيبة الهادئة، وليس باستثارة الطَّائفيَّة، وإثارة البغضاء والشحناء التي تستتبع إراقة الدماء، وقتل الأنفس التي حرم الله في جميع شرائعه قتلها إلا بالحق، إنه لا ينبغي أن يتسبب حادث فردي في هذا الذي رواه بلاغ وزارة الداخلية الذي اهتزت له قلوب المواطنين -مسلمين ومسيحيين- فلا أحد في هذا الوطن يودُّ أن يجري فيه ما جرى في غيره، وإذا كان ما حدث قد تولَّاه المختصون من رجال الأمن والنيابة العامة فليترك الجميع التحقيقات تأخذ سيرها لتكشف عن الحقيقة في هذا الأمر؛ إذ إني أستبعد أن يقدم مواطن صالح مخلص لوطنه ولدينه على إثارة الفتنة وإشاعة الفرقة، وقد يكون وراء هذا دوافعُ ليست من أخلاق المواطنين، إن الشياطين يئسوا من الاستجابة لهم فيما حاولوا ويحاولون من فتن واضطراب، فركبوا موجة اختلاف الدين والطائفية؛ لأنهم يعلمون أن شعب مصر شعب متدين، جاؤوا ليلبسوا عليهم دينهم، ويدفعوهم ليخلطوا عملًا صالحًا وآخر سَيئًا، أيها المواطنون -أقباطًا ومسلمين- لا تدعوا لشياطين الإنس سبيلًا للتفرقة بينكم تحت أي شعار، إن أعداء الوطن يتربصون به {وَٱللَّهُ مِن وَرَآئِهِم مُّحِيطُۢ} [البروج: 20]، إن الله نصحنا في القرآن الكريم بقوله سبحانه: {وَٱتَّقُواْ فِتۡنَةٗ لَّا تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمۡ خَآصَّةٗ} [الأنفال: 25].

نعم، إن الفتن يجب أن توأد في مهدها، وألَّا تُتْرَكَ لتزدادَ اشتعالًا بفعل أهل السوء الذين تؤرقهم وحدةُ هذا الوطن، فهم لا يَفْتُرون يعيثون في الأرض فسادًا وفرقة، والله سبحانه يدعونا بهذه النصيحة إلى أن نَأخذَ على يد المفسدين بحزمٍ وعزمٍ، وهذا ما نأمل من أولي الأمر؛ لأن معظم النار من مستصغر الشرر، حفظ الله كنانته في أرضه، وأتم عليها نعمة الوحدة والأمن، والله متم نوره ولو كره الحاقدون على مصر أمنها وأمانها ووحدتها، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، وعندئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، وإنا لهذا النصر لمرتقبون، دعوة قالها نبي، وحكاها القرآن: {ٱدۡخُلُواْ مِصۡرَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ ءَامِنِينَ}” انتهى نص الفتوى([4]).

ومن فتاوى دار الإفتاء المصرية التي ركزت على منع أسباب الشقاق والعداوة كسببٍ من الأسباب التي قد تؤدي إلى الاعتداء على النفوس، فتوى تحذر من الخمر والميسر وتبين ما يترتب عليهما من دواعي الكره والبغض والتي تزرع للعداوة، وقد جاء فيها: “يقول الله تعالى في كتابه الكريم: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَيۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَٰمُ رِجۡسٞ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} [المائدة: 90]، وعن أنس: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن في الخمرة عشرًا: عاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وساقيها، وبائعها، وآكل ثمنها، والمشتري والمشترى له))، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)).

فالخمر هي تلك السوائل المعروفة بطريق تخمر بعض الحبوب أو الفواكه، وكل ما من شأنه أن يسكر يعتبر خمرًا، ولا عبرة بالمادة التي أخذت منها، فما كان مُسكرًا من أي نوع من الأنواع فهو خمر شرعًا ويأخذ حكمه، يستوي في ذلك ما كان من العنب أو التمر أو العسل أو الحنطة أو الشعير أو ما كان من غير هذه الأشياء؛ إذ إن ذلك كله يعتبر خمرًا مُحرمًا؛ لضرره الخاص والعام، ولصده عن ذكر الله وعن الصلاة، ولإيقاعه العداوةَ والبغضاء بين الناس”([5]).

ومن أمثلة فتاوى دار الإفتاء المصرية التي تؤسس لروح المحبة ونزع الشقاق: فتوى تحذر من التفرقة بين الأبناء حتى لا يؤديَ ذلك إلى زرع روح الكراهية بينهم، وقد جاء فيها: “عن النعمان بن بشير قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم)) رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سووا بين أولادكم في العطية، ولو كنت مفضلًا أحدًا لفضلت النساء)).

هذا هو المنهج الشرعي الذي يجب أن يسود في الأسرة المسلمة وهو العدالة والمساواة بين الأولاد في جميع الحقوق حتى لا تزرع العداوة والبغضاء والحقد والكراهية بين أفراد الأسرة الواحدة بسبب تفضيل بعضهم على بعض، إلا إذا كان هناك ما يدعو إلى التفضيل: كَصغرٍ أو عَجزٍ أو فقر وما شابه ذلك، وبناءً على ذلك لا يجوز للسائل أن يفضل بعض أولاده على بعض حتى لا يزرع الحقد والكراهية والبغضاء بين الأولاد بسبب تفضيل بعضهم إلا إذا كان هناك مبرر شرعي لذلك: كصغر أو مرض مزمن أو نحوهما، فلا حرجَ عليه، وإلا كان آثمًا”([6]) اهـ.

ومن صور إزالة أسباب الشقاق: أمْرُ الناس بحسن الظن، ونهْيُهم عن سوء الظن، والشك غير المبرر؛ وذلك لأنَّ سوءَ الظن من أهم أسباب النزاع والشقاق والتشاحن، وقد يصل لأن يكون سببًا للقتل، وقد بيَّن القرآنُ خطورةَ سوء الظن، وأنَّه قد يصلُ بصاحبه إلى قتلِ بريءٍ لا ذنب له.

قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلَا تَقُولُواْ لِمَنۡ أَلۡقَىٰٓ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَٰمَ لَسۡتَ مُؤۡمِنٗا تَبۡتَغُونَ عَرَضَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا فَعِندَ ٱللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٞۚ كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبۡلُ فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيۡكُمۡ فَتَبَيَّنُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا} [النساء: 94].

قال العلامة السعدي في تفسير هذه الآية: “يأمر تعالى عباده المؤمنين إذا خرجوا جهادًا في سبيله وابتغاء مرضاته أن يتبينوا ويتثبتوا في جميع أمورهم المشتبهة؛ فإن الأمور قسمان: واضحة، وغير واضحة، فالوَاضحةُ البيِّنة لا تحتاج إلى تثبت وتبين؛ لأن ذلك تحصيل حاصل.

وأما الأمور المشكلة غير الواضحة فإن الإنسان يحتاج إلى التثبُّت فيها والتبيُّن؛ ليعرف هل يقدم عليها أم لا؟

فإن التثبت في هذه الأمور يحصل فيه من الفوائد الكثيرة والكف لشرور عظيمة ما به يعرف دين العبد وعقله ورزانته، بخلاف المستعجل للأمور في بدايتها قبل أن يَتبينَ له حكمها، فإن ذلك يؤدي إلى ما لا ينبغي، كما جرى لهؤلاء الذين عاتبهم الله في الآية لـمَّا لم يتثبتوا وقتلوا من سلم عليهم، وكان معه غنيمة له أو مال غيره؛ ظنًّا أنه يستكفي بذلك قتلَهم، وكان هذا خطأ في نفس الأمر، فلهذا عاتبهم بقوله: {وَلَا تَقُولُواْ لِمَنۡ أَلۡقَىٰٓ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَٰمَ لَسۡتَ مُؤۡمِنٗا تَبۡتَغُونَ عَرَضَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا فَعِندَ ٱللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٞ} [النساء: 94]؛ أي: فلا يحملنكم العرض الفاني القليل على ارتكاب ما لا ينبغي، فيفوتكم ما عند الله من الثواب الجزيل الباقي، فما عند الله خير وأبقى.

وفي هذا إشارةٌ إلى أن العبد ينبغي له إذا رأى دواعي نفسه مائلة إلى حالةٍ له فيها هوى وهي مضرة له، أن يُذَكِّرها ما أعدَّ الله لمن نهى نفسه عن هواها، وقدَّم مرضاة الله على رضا نفسه، فإن في ذلك تَرغيبًا للنفس في امتثال أمر الله وإن شق ذلك عليها.

ثم قال تعالى مذكرًا لهم بحالهم الأولى قبل هدايتهم إلى الإسلام: {كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبۡلُ فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيۡكُمۡ}؛ أي: فكما هداكم بعد ضلالكم فكذلك يهدي غيركم، وكما أن الهداية حصلت لكم شيئًا فشيئًا، فكذلك غيركم. فنظر الكامل لحاله الأولى الناقصة، ومعاملته لمن كان على مثلها بمقتضى ما يعرف من حاله الأولى، ودعاؤه له بالحكمة والموعظة الحسنة من أكبر الأسباب لنفعه وانتفاعه، ولهذا أعاد الأمر بالتبيُّن فقال: {فَتَبَيَّنُوٓاْ}.

فإذا كان من خرج للجهاد في سبيل الله ومجاهدة أعداء الله -وقد استعد بأنواع الاستعداد للإيقاع بهم- مأمورًا بالتبين لمن ألقى إليه السلام، وكانت القرينةُ قويةً في أنه إنما سلم تعوذًا من القتل وخوفًا على نفسه، فإن ذلك يدلُّ على الأمر بالتبين والتثبت في كل الأحوال التي يقع فيها نوع اشتباه، فيتثبت فيها العبد، حتى يتضح له الأمر ويتبين الرشد والصواب.

{إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا} فيجازي كُلًّا ما عمله ونواه بحسب ما علمه من أحوال عباده ونياتهم”([7]).

فالآية تمثل منهجًا يجب على المسلم أن يحيا به، وهو عدم بناء الأحكام على غير دليل، خاصة وإذا كان هذا الحكم يمكن أن يؤديَ إلى قطيعة أو أذى إنسان بذنب لم يفعله.

وقال العلَّامة الطاهر ابن عاشور في تفسير قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن جَآءَكُمۡ فَاسِقُۢ بِنَبَإٖ فَتَبَيَّنُوٓاْ أَن تُصِيبُواْ قَوۡمَۢا بِجَهَٰلَةٖ فَتُصۡبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلۡتُمۡ نَٰدِمِينَ} [الحجرات: 6]: “هذا نداء ثالث ابتدئ به غرض آخر وهو آداب جماعات المؤمنين بعضهم مع بعض، وقد تضافرت الروايات عند المفسرين عن أم سلمة وابن عباس والحارث بن ضرارة الخزاعي أن هذه الآية نزلت عن سبب قضية حدثت؛ ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى بني المصطلق من خزاعة ليأتي بصدقاتهم، فلما بلغهم مجيئه، أو لما استبطؤوا مجيئه، فإنهم خرجوا لتلقيه أو خرجوا ليبلغوا صدقاتهم بأنفسهم وعليهم السلاح، وأن الوَليدَ بلغه أنهم خرجوا إليه بتلك الحالة، وهي حالة غير مألوفة في تلقي المصدقين، وحدثته نفسه أنهم يريدون قتله، أو لما رآهم مقبلين كذلك على اختلاف الروايات خاف أن يكونوا أرادوا قتله؛ إذ كانت بينه وبينهم شحناء من زمن الجَاهليَّة فولى راجعًا إلى المدينة.

هذا ما جاء في روايات أربع متفقة في صفة خروجهم إليه مع اختلافها في بيان الباعث لهم على ذلك الخروج، وفي أن الوَليدَ أعلم بخروجهم إليه أو رآهم أو استشعرت نفسه خوفًا، وأن الوليد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن بني المصطلق أرادوا قتلي، وإنهم منعوا الزكاة، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهمَّ أن يبعث إليهم خالد بن الوليد لينظر في أمرهم، وفي رواية: أنه بعث خالدًا وأمره بأن لا يغزوهم حتى يستثبت أمرهم، وأن خالدًا لما بلغ ديار القوم بعث عينًا له ينظر حالهم، فأخبره أنهم يقيمون الأذان والصلاة، فأخبرهم بما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم وقبض زكاتهم وقفل راجعًا.

وفي رواية أخرى: أنهم ظنوا من رجوع الوليد أن يظن بهم منع الصدقات، فجاؤوا النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يخرج خالد إليهم متبرئين من منع الزكاة ونية الفتك بالوليد بن عقبة.

وفي رواية: أنهم لما وصلوا إلى المدينة وجدوا الجيش خارجًا إلى غزوهم. فهذا تلخيص هذه الروايات وهي بأسانيدَ ليس منها شيء في الصحيح.

وقد روي أن سبب نزول هذه الآية قضيتان أخريان، وهذا أشهر”([8]).

فالآيتان تقرران مَنهجًا واحدًا في التعامل مع الإشاعات؛ لأن الإشاعة يمكن أن تهدم بيوتًا، وأن تقطِّع أرحامًا، وأن تتسبب في دماء لا تتوقف.

وقد صدرت فتوى من دار الإفتاء المصريَّة تبيِّن خطورة السير وراء الشائعات وتصديقها، ومدى الضرر الذي يمكن أن يترتب عليها، وقد كان نصُّ الفتوى:

ما هي الشائعات؟ وما هي خطورتها؟ وما هي العوامل التي تُسَاهم في سرعة انتشارها؟ وكيف نتصدَّى لها؟

الجـــــــــــــــــــــــــــواب:

“الشائعات جمع شائعة، وهي اسم فاعل من الفعل الثلاثي: شاع، يقال في اللغة: شاع يشيع شيعًا وشيوعًا ومشاعًا، وتكاد تتفق المعاجم اللغوية على أن المعنى المراد من هذا الفعل هو: الانتشار والتَّفَرُّق والذُّيوع. ينظر: (مادة: شيع) في “مقاييس اللغة” لابن فارس (3/ 235، ط. دار الفكر)، و”لسان العرب” لابن منظور (8/ 181، ط. دار صادر)، و”تاج العروس” للفيروزآبادي (21/ 301، ط. دار الهداية).

وهذا المعنى اللغوي للشائعة مُلاحظٌ في معناها الاصطلاحي، فهي عند علماء الاجتماع: “تدويرٌ لخبرٍ مختَلَقٍ لا أساس له من الواقع، باعتماد المبالغة أو التهوين في سرد خبرٍ فيه جانبٌ ضئيلٌ من الحقيقة؛ وذلك بهدف التأثير النفسي في الرأي العام المحلّي أو الإقليمي أو النوعي، تحقيقًا لأهداف سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو عسكرية، على نطاق دولة واحدة أو عدة دول، أو النطاق العالمي أجمعه”. ينظر: (الرأي العام والحرب النفسية: لمختار التهامي، ص: 11، ط. دار المعارف، القاهرة).

فالشائعة خبرٌ مجهول المصدر يحتوي على معلوماتٍ مضلِّلة تنتشر بسرعة بين الناس، وهذا الخبر في الغالب يكون ذا طابعٍ يُثير الفتنة ويُحْدِث البلبلة بين الناس.

ومن خلال هذا التعريف يتضح أنها تتميز بعدة خصائصَ، يمكن جمعها فيما يلي:

1- أن الشائعة خبرٌ كاذبٌ أو مُحرَّف، وقد يكون فيها جزءٌ من الحقيقة، لكن يصعب تمييزها عن بقية الخبر.

2- أنها غالبًا مجهولة الـمَصْدَر، ولا يمكن التثبت من صدقها أو كذبها.

3- أن موضوعها يحيط به الغموض وعدم الشفافية.

4- أنها تُنْقَل عن طريق الأشخاص ووسائل الإعلام.

5- اختلاف الدوافع الرئيسة لإطلاقها؛ فالهدف منها قد يكون سياسيًّا أو اجتماعيًّا أو اقتصاديًّا أو عسكريًّا.

6- أنها تعمل على تغيير مسار الرأي العام خُصوصًا في أوقات الأزمات”.

ثم بينت الفتوى أسباب الشائعات وهي: أهمية موضوع الشائعة بالنسبة للمتحدِّث، وقلَّة انتشار المعلومات الصحيحة بالنسبة للوقائع الحقيقية فنصت على:

“وبالنظر إلى حدوث الشائعات وما يترتَّب عليها من مخاطرَ، فإنه يمكن رسم صورة عامة لأهم أسباب انتشار الشائعة، والتي يمكن إرجاعها إلى أمرين:

الأمر الأول: أهمية موضوع الشائعة بالنسبة للمتحدِّث وللمستمع؛ فكلما كان الموضوع يمثِّل أهمية لهما، كثرت الشائعات حول هذا الموضوع.

الأمر الثاني: قلة انتشار المعلومات الصحيحة بالنسبة للوقائع الحقيقية موضوع الشائعة؛ فكلما كان أصل الموضوع غامضًا تكثُر الشائعات حوله؛ كانعدام الأخبار حول الموضوع، أو عدم الثقة بمصدر الموضوع.

فهذان الأمران هما السببان الرئيسان في انتشار الشائعة، ولا ننفي أن هناك أسبابًا أخرى للشائعات: كالدافع النفسي من الحقد والغِلِّ وكراهية الآخر، وذلك بنشر شائعات الافتراء واختلاق الأكاذيب على الطرف الآخر، ولا ينبغي إغفال دور وسائل الاتصال الحديثة؛ فإنها تساهم بدورٍ كبيرٍ في سرعة انتشار الشائعة ووصولها لقطاعٍ عريضٍ من الناس.

وقد حرَّم الإسلام نشر الشائعات وترويجها، وتوعَّد فاعل ذلك بالعقاب الأليم في الدنيا والآخرة؛ فقال تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ٱلۡفَٰحِشَةُ فِي ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ} [النور: 19].

وسببُ نزول هذه الآية حادثة الإفك، وهي التي قذف فيها المنافقون أمَّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها بالسوء كذبًا منهم وبهتانًا؛ قال الإمام البيضاوي في “أنوار التنزيل وأسرار التأويل” (4/ 102، ط. دار إحياء التراث العربي): “{إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَ} يريدون، {أَن تَشِيعَ} أن تنشر، {ٱلۡفَٰحِشَةُ فِي ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِ} بالحد والسعير إلى غير ذلك، {وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ} مَا في الضمائر، { وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ}، فعاقبوا في الدنيا على ما دَلَّ عليه الظاهر، والله سبحانه يعاقب على ما في القلوب من حب الإِشاعة.

وهذا الوعيد الشديد فيمن أحب وأراد أن تَشيعَ الفاحشة بين المسلمين، فكيف الحال بمن يعمل على نشر الشائعات بالفعل؟!” اهـ.

ثم بيَّنت الفتوى أصل تسمية الشائعة بالإرجاف لما تسببه من ترويج الكذب الذي يتسبب في الخوف والفزع فنصت على:

“وسمَّى الله تعالى ترويج الإشاعات بالإرجاف، ومنه ترويج الكذب والباطل بما يوقع الفزع والخوف في المجتمع؛ فقال تعالى: {لَّئِن لَّمۡ يَنتَهِ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ وَٱلۡمُرۡجِفُونَ فِي ٱلۡمَدِينَةِ لَنُغۡرِيَنَّكَ بِهِمۡ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلَّا قَلِيلٗا٦٠ مَّلۡعُونِينَۖ أَيۡنَمَا ثُقِفُوٓاْ أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقۡتِيلٗا} [الأحزاب: 60، 61].

وأصل الإرجاف من الرجف وهو الحركة، فإذا وقع خبر الكذب، فإنه يوقع الحركة بالناس فسُمِّي إرجافًا.

قال الإمام ابن فورك في “تفسيره” (1/ 394، 2/ 121، ط. جامعة أم القرى): “الرجفة: زعزعة الأرض تحت القدم، ورجف السطح من تحت أهله يرجف رجفًا، ومنه الإرجاف، وهو الإخبار بما يضطرب الناس لأجله من غير تحقق به… والإرجاف: إشاعة الباطل للاغتمام به” اهـ.

وأخرج ابن أبي الدُّنْيَا في “الصمت” موقوفًا على أبي الدَّرْدَاء رضي الله عنه قال: “أَيُّمَا رَجُلٍ أَشَاعَ عَلَى رَجُلٍ كَلِمَة وَهُوَ مِنْهَا بَرِيءٌ لِيُشِينَه بِهَا فِي الدُّنْيَا، كَانَ حَقًّا عَلَى الله أَنْ يُدِنيَه بِهَا يَوْمَ القِيَامَة فِي النَّارِ”.

كما بيَّنت الفتوى أنَّ الشائعة من باب الكذب الذي يدخل صاحبها في زمرة المنافقين، فنصت على:

“كما أن نشر الشائعات -والتي هي في أصلها خبرٌ غير صحيح- داخلٌ في نطاق الكذب، وهو محرَّم شرعًا، والنصوص الدالة على ذلك كثيرة، منها ما أخرجه البخاري في “صحيحه” من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكون صِدِّيقًا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجورَ يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يُكتَب عند الله كذابًا)).

وفي “الصحيحين” من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله سلم قال: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب…)) الحديث.

وقد أشار القرآن الكريم إلى أن نشر الشائعات من شأن المنافقين أو ضعاف النفوس؛ فقال تعالى في شأنهم: {وَإِذَا جَآءَهُمۡ أَمۡرٞ مِّنَ ٱلۡأَمۡنِ أَوِ ٱلۡخَوۡفِ أَذَاعُواْ بِهِۦۖ وَلَوۡ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنۡهُمۡ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسۡتَنۢبِطُونَهُۥ مِنۡهُمۡۗ وَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ وَرَحۡمَتُهُۥ لَٱتَّبَعۡتُمُ ٱلشَّيۡطَٰنَ إِلَّا قَلِيلٗا} [النساء: 83].

قال الإمام النسفي في “مدارك التنزيل” (1/ 378، ط. دار الكلم الطيب): “{وَإِذَا جَآءَهُمۡ أَمۡرٞ مِّنَ ٱلۡأَمۡنِ أَوِ ٱلۡخَوۡفِ} هم ناسٌ من ضعفة المسلمين الذين لم يكن فيهم خبرة بالأحوال، أو المنافقون كانوا إذا بلغهم خبر من سرايا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أمنٍ وسلامة أو خوفٍ وخللٍ {أَذَاعُواْ بِهِۦ} أفشوه، وكانت إذاعتهم مفسدة، يقال: أذاع السر وأذاع به، والضمير يعود إلى الأمر أو إلى الأمن أو الخوف؛ لأن {أَوِ} تقتضي أحدهما {وَلَوۡ رَدُّوهُ}؛ أي ذلك الخبر {إِلَى ٱلرَّسُولِ}؛ أي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم {وَإِلَىٰٓ أُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنۡهُمۡ} يعني كبراء الصحابة البصراء بالأنور أو الذين كانوا يؤمرون منهم {لَعَلِمَهُ} لَعَلِمَ تدبير ما أخبروا به {ٱلَّذِينَ يَسۡتَنۢبِطُونَهُۥ مِنۡهُمۡ} يستخرجون تدبيره بفطنهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحرب ومكايدها” اهـ.

فأمرنا الله عز وجل بِرَدِّ الأمور سواء من الأمن أو الخوف إلى أولي الأمر والعِلم أولًا قبل إذاعتها والتكلُّم فيها؛ حتى يكون الكلام فيها وإذاعتها عن بينةٍ وتَثَبُّتٍ وتَحَقُّقٍ مِن شأنها، ونبَّهنا تعالى إلى أنه متى لم تَرِد الأمور قبل إذاعتها إلى الرسول وإلى أولي الأمر والعلم فإن ذلك يكون اتباعًا للشيطان.

وقد أخرج البخاري ومسلم في “صحيحيهما” عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إِنَّ الله كَرِه لَكُمْ ثَلَاثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَة المَالِ، وَكَثْرَة السُّؤَالِ))، والخوض في أخبار الناس وأحوالهم -فضلًا عن الترويج للأكاذيب والأضاليل وما يثير الفتن- داخلٌ في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((قِيلَ وَقَالَ)).

لهذا كله، جفَّف الإسلام في سبيل التَّصَدِّي لنشر الشائعات منابعَها؛ فألزم الشرعُ المسلمين بالتَّثَبُّت من الأخبار قبل بناء الأحكام عليها؛ فقال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن جَآءَكُمۡ فَاسِقُۢ بِنَبَإٖ فَتَبَيَّنُوٓاْ أَن تُصِيبُواْ قَوۡمَۢا بِجَهَٰلَةٖ فَتُصۡبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلۡتُمۡ نَٰدِمِينَ} [الحجرات: 6].

قال الإمام الزمخشري في “الكشاف” (4/ 371، ط. دار الكتاب العربي): “وإن في الظنون ما يجب أن يجتنب من غير تبيين لذلك ولا تعيين؛ لئلا يجترئ أحدٌ على ظنٍّ إلا بعد نظرٍ وتأمُّلٍ وتمييزٍ بين حقه وباطله بأمارة بينة، مع استشعارٍ للتقوى والحذر” اهـ.

كما بيَّنت الفتوى أن النهي لا يقف عند حدود ناشر الشائعة، بل يتعداه إلى المستمع لها، فنصَّت على:

“وفي سبيل ذلك أيضًا نهى الشرع عن سماع الشائعة كما نهى عن نشرها؛ فقال تعالى: {وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْۛ سَمَّٰعُونَ لِلۡكَذِبِ سَمَّٰعُونَ لِقَوۡمٍ ءَاخَرِينَ} [المائدة: 41].

قال الإمام البيضاوي في “تفسيره” (2/ 127، ط. دار إحياء التراث العربي- بيروت): “ومن اليهود قوم {سَمَّٰعُونَ لِلۡكَذِبِ}؛ أي قابلون لما تفتريه الأحبار، أي: سماعون كلامك ليكذبوا عليك فيه، {سَمَّٰعُونَ لِقَوۡمٍ ءَاخَرِينَ لَمۡ يَأۡتُوكَ}؛ أي: لجمعٍ آخرين من اليهود لم يحضروا مجلسك وتجافَوْا عنك تكبرًا وإفراطًا في البغضاء، والمعنى على الوجهين: أي مُصْغُونَ لهم قابلون كلامهم، أو سماعون منك لأجلهم والإِنهاء إليهم” اهـ.

كما ذمَّ سبحانه الذين يسَّمَّعون للمرجفين والمروجين للشائعات والفتن؛ فقال تعالى: {لَوۡ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمۡ إِلَّا خَبَالٗا وَلَأَوۡضَعُواْ خِلَٰلَكُمۡ يَبۡغُونَكُمُ ٱلۡفِتۡنَةَ وَفِيكُمۡ سَمَّٰعُونَ لَهُمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِٱلظَّٰلِمِينَ} [التوبة: 47].

قال الإمام النسفي في “مدارك التنزيل” (1/ 684، ط. دار الكلم الطيب): “{وَلَأَوۡضَعُواْ خِلَٰلَكُمۡ} ولَسَعَوْا بينكم بالتضريب والنمائم وإفساد ذات البين… والمعنى: ولأوضعوا ركائبهم بينكم، والمراد الإسراع بالنمائم؛ لأن الراكب أسرع من الماشي… {يَبۡغُونَكُمُ} حال من الضمير في أوضعوا {ٱلۡفِتۡنَةَ}؛ أي: يطلبون أن يفتنوكم بأن يوقعوا الخلافة فيما بينكم ويفسدوا نياتكم في مغزاكم {وَفِيكُمۡ سَمَّٰعُونَ لَهُمۡ}؛ أي نـمَّامون يسمعون حديثكم فينقلونه إليهم {وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِٱلظَّٰلِمِينَ} بالمنافقين” اهـ.

وقال الإمام البغوي في “معالم التنزيل” (4/ 377، ط. دار السلام): ” {وَلَأَوۡضَعُواْ}أسرعوا، {خِلَٰلَكُمۡ}  في وسطكم بإيقاع العداوة والبغضاء بينكم بالنميمة ونقل الحديث من البعض إلى البعض. وقيل: {وَلَأَوۡضَعُواْ خِلَٰلَكُمۡ}؛ أي: أسرعوا فيما يخل بكم، {يَبۡغُونَكُمُ ٱلۡفِتۡنَةَ}؛ أي: يطلبون لكم ما تفتنون به” اهـ.

كما بيَّنت الفتوى طريقة الشرع في معالجة الشائعة حتى لا تنتشر ويتسبب عنها ألوان الأذى التي قد تمتد للنفوس، فنصَّت على:

“وقد بيَّن الشَّرعُ الشَّريفُ سِمَات المعالجة الحكيمة عند وصول خبرٍ غير موثوقٍ منه؛ وذلك في سياق الحديث عن حادثة الإفك؛ فيقول تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُو بِٱلۡإِفۡكِ عُصۡبَةٞ مِّنكُمۡۚ لَا تَحۡسَبُوهُ شَرّٗا لَّكُمۖ بَلۡ هُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۚ لِكُلِّ ٱمۡرِيٕٖ مِّنۡهُم مَّا ٱكۡتَسَبَ مِنَ ٱلۡإِثۡمِۚ وَٱلَّذِي تَوَلَّىٰ كِبۡرَهُۥ مِنۡهُمۡ لَهُۥ عَذَابٌ عَظِيمٞ ١١ لَّوۡلَآ إِذۡ سَمِعۡتُمُوهُ ظَنَّ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بِأَنفُسِهِمۡ خَيۡرٗا وَقَالُواْ هَٰذَآ إِفۡكٞ مُّبِينٞ ١٢ لَّوۡلَا جَآءُو عَلَيۡهِ بِأَرۡبَعَةِ شُهَدَآءَۚ فَإِذۡ لَمۡ يَأۡتُواْ بِٱلشُّهَدَآءِ فَأُوْلَٰٓئِكَ عِندَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلۡكَٰذِبُونَ ١٣ وَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ وَرَحۡمَتُهُۥ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِ لَمَسَّكُمۡ فِي مَآ أَفَضۡتُمۡ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ١٤ إِذۡ تَلَقَّوۡنَهُۥ بِأَلۡسِنَتِكُمۡ وَتَقُولُونَ بِأَفۡوَاهِكُم مَّا لَيۡسَ لَكُم بِهِۦ عِلۡمٞ وَتَحۡسَبُونَهُۥ هَيِّنٗا وَهُوَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيمٞ ١٥ وَلَوۡلَآ إِذۡ سَمِعۡتُمُوهُ قُلۡتُم مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَٰذَا سُبۡحَٰنَكَ هَٰذَا بُهۡتَٰنٌ عَظِيمٞ ١٦ يَعِظُكُمُ ٱللَّهُ أَن تَعُودُواْ لِمِثۡلِهِۦٓ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ ١٧ وَيُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡأٓيَٰتِۚ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ١٨} [النور: 11- 18].

وأُولى خطوات السلوك القويم إذا راجت شائعة ما خطيرةٌ: حسنُ الظن بالغير الذي تتعلق به هذه الشائعة.

وثانيها: التحقق ومطالبة مروجي الشائعة بأدلتهم عليها والسؤال عمّن شهدها.

وثالثها: عدم تلقي الشائعة بالألسن وتناقلها.

ورابعها: عدم الخوض فيما لا عِلم للإنسان به ولم يقم عليه دليلٌ صحيح.

وخامسها: عدم التهاون والتساهل في أمر الشائعة، بل اعتبارها أمرًا عظيمًا؛ لما فيها من الوقوع في أعراض الناس، وإثارة الفتن والإرجاف في الأرض.

وسادسها: تنزيه السمع عن مجرد الاستماع إلى ما يسيء إلى الغير، واستنكارُ التلفظ به؛ كما أرشدنا المولى تبارك وتعالى بقوله: {وَلَوۡلَآ إِذۡ سَمِعۡتُمُوهُ قُلۡتُم مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَٰذَا سُبۡحَٰنَكَ هَٰذَا بُهۡتَٰنٌ عَظِيمٞ} [النور: 16].

يقول شيخ الأزهر الراحل فضيلة الأستاذ الدكتور محمد سيد طنطاوي في “التفسير الوسيط” (10/ 98، ط. دار نهضة مصر) عند تفسير هذه الآية الكريمة: “وهكذا يؤدب الله تعالى عبادَه المؤمنين بالأدب السامي؛ حيث يأمرهم في مثل هذه الأحوال أن ينزِّهوا أسماعهم عن مجرَّد الاستماع إلى ما يسيءُ إلى المؤمنين، وأن يتحرَّجوا من مجرَّد النطق بمثل حديث الإفك، وأن يستنكروا ذلك على من يتلفظ به”([9]).

ولذلك فقد نصَّ القرآن على أن عمل الفتَّان أشدُّ من عمل القاتل، فقال تعالى: {وَٱلۡفِتۡنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلۡقَتۡلِ} [البقرة: 191]؛ لأن الفتنة لا تتوقف عند حد، بل هي أوسعُ من القتل وأعظم أثرًا.

 

 

 

المبحث الثاني: التزام المفتي بأحكام القضاء، وتوجيه الأفراد إلى عدم الافتئات على الدولة:

الالتزام بأحكام القضاء من قبل المتصدي للفتوى، وتوجيهه لأفراد إلى ذلك ضمانة لسد أبواب الشر والاعتداء على الأرواح وغيرها؛ لأن عدم الالتزام بالقانون وأحكام القضاء يؤدي إلى العشوائية والهرج وفتح أبواب الفتنة التي قد لا تغلق:

المطلب الأول: التزام المفتي بأحكام القضاء:

من عناصر المنهج المتكامل في حفظ النفوس: التزام الفتوى في مسائل الجنايات والديات بما انتهت إليه أحكام القضاء وعدم تجاوزها.

ومن ذلك ضرورة توقف المفتي عن إبداء الرأي الشرعي في حالة وجود نزاع بين طرفين يستوجب سماعهما والتحقيق معهما، وطبيعة الفتوى أنها تعبر عن الرأي الشرعي في واقعة عين بناءً على كلام المستفتي، ودون حَاجةٍ إلى تحقيق أو سماع باقي الأطراف، وليس من دورها الفصل في النزاعات.

وعلى المفتي أن يَقفَ على الفرق الجوهري بين الإفتاء والقضاء؛ حتى يتميَّز عنده دَور كل منهما عن الآخر؛ فالمفتي مخبرٌ عن الحكم للمستفتي، والقاضي ملزم بالحكم، وله حقُّ الحبس والتعزيز عند عدم الامتثال، كما أن له إقامةَ الحدود والقصاص.

وقد بَيَّن الإمام القرافي الفرق بينهما، فقال: “قاعدة الفتوى وقاعدة الحكم، وإن كان كل منهما خبًرا عن الله تعالى، ويجب على السامع اعتقاد ذلك ويلزم المكلف، إلا أن بينهما فرقًا من وجهين:

الأول: أن الفتوى محضُ إخبارٍ عن الله تعالى في إلزام أو إباحة، أما الحكم فإخبارٌ مآله الإنشاء والالزام، فالمفتي -مع الله تعالى- كالمترجم مع القاضي ينقُل عنه ما وجده عنده وما استفاده من النصوص الشرعية بعبارة أو إشارة أو فعل أو تقرير أو ترك، والحاكم (القاضي) -مع الله تعالى- كنائب ينفذ ويمضي ما قضى به -مُوافقًا للقواعد- بين الخصوم.

والوجه الثاني: أن كلَّ ما يأتي فيه الحكم تتأتى فيه الفتوى ولا عكس؛ ذلك أن العبارات كلها لا يدخلها الحكم (القضاء)، وإنما تدخلها الفتيا فقط؛ فلا يدخل تحت القضاء الحكم بصحة الصلاة أو بطلانها، وكذلك أسباب العبادات كمواقيت الصلاة، ودخول شهر رمضان، وغير هذا من أسباب الأضاحي والكفارات والنذور والعقيقة؛ لأن القول في كل ذلك من باب الفتوى وإن حكم فيها القاضي، ومن ثم كانت الأحكام الشرعية قسمين:

الأول: ما يقبل حكم الحاكم مع الفتوى، فيجتمع الحكمان: كمسائل المعاملات من البيوع، والرهون، والإيجارات، والوصايا، والأوقاف، والزواج، والطلاق.

الثاني: ما لا يقبل إلا الفتوى كالعبادات، وأسبابها، وشروطها، وموانعها.

وتفارق الفتوى القضاء في أن هذا الأخير إنما يقع في خصومة يستمع فيها القاضي إلى أقوال المدعي والمدعى عليه، ويفحص الأدلة التي تقام من بَينةٍ وَإقرارٍ وَقرائنَ ويمين، أما الفتوى فليس فيها كل ذلك، وإنما هي وَاقعةٌ يبتغي صاحبُها الوقوفَ على حكمها من واقع مصادر الأحكام الشرعية.

ويختلف المفتي والقاضي عن الفقيه المطلق؛ بأنَّ القضاء والفتوى أخصُّ من العلم بالفقه؛ لأن هذا أمر كلي يصدق على جزئيات أو قواعدَ متنوعة، وبعبارة أخرى: فإن عمل المفتي والقاضي تطبيقي، وعمل الفقيه تأصيل لقاعدة، أو تفريع على أصل مقرر.

والمقرر أن تعامل الفتوى مع العقوبات من حدودٍ وتعازيرَ هو تعامل محدود؛ حيث إن الأصل أن إقرار الحدود والتعازير هو مهمة القاضي؛ لما يستلزمه ذلك من إجراءات الاستدلال والتحقيق التي لا يملكها إلا القاضي، ولا يملكها المفتي.

والمفتي في مجال إقرار العقوبة وترتيبها على فعل معين إنما يقوم بذلك على وجه التجرد والعموم دون إنزال الحكم على معين، كأن يفتي بأن ألفاظًا معينة تعتبر قَذفًا، لا أن يحكم بأن فلان الذي نطق بلفظ معين يجب أن تطبق عليه عقوبة القذف.

وليس للمفتي أن يقرر وجود ما يستدعي العقوبة على شخص، أو وجود ما يستوجب عدم معاقبته، إلا في حالة قيام المحكمة بتصوير واقعة بعينها، وأن تَضعَ معطياتها أمام المفتي، ثم تطلب منه إصدار فتوى بكون هذه الواقعة جريمةً تستوجب العقوبة من عدمه بناءً على تصوير المحكمة لهذه الواقعة.

كما أن من وجوه علاقة الفتوى بالقانون قاعدة: “حكم الإمام يرفع الخلاف”، وقاعدة “للحاكم تقييد المباح”، وهذه القاعدة دعم لحق الإنسان في الوصول لحقه عن طريق القضاء والقانون.

فالواجب على المفتي أن يَلتزمَ بما قرره الحاكم في حدود السياسةِ الشَّرعيَّةِ مما يصبُّ في مصلحة الدولة والأفراد، كما في تقييد المباح، أو الالتزام بعهود ومواثيق مع دول أخرى، أو حظر التعامل أو حظر استيراد سلع من دول أخرى.

ومعنى هذه القاعدة أن الحاكم إذا اختار رأيًا من الآراء كان على المفتي والقاضي الالتزامُ به، والمراد من وراء تطبيق هذه القاعدة هو ضمان الثبات والاستقرار للأحكام على مستوى القطر أو الدولة التي تخضع لحكم واحد.

قال الإمام القرافي في “الفروق”: “وأما ما يتأتى فيه حكم الحاكم فضبطه الأصل بأربعة قيود، فقال: إنما يؤثر حكم الحاكم إذا أنشأه في مسألة اجتهاديَّة تتقارب في المدارك لأجل مصلحة دنيويَّة، قال: فقيد الإنشاء احتراز من حكمه في مواقع الإجماع، فإن ذلك إخبار وتنفيذ محض، وأما في مواضع الخلاف فهو ينشئ حُكمًا، وهو إلزام أحد القولين اللذين قيل بهما في المسألة، ويكون إنشاؤه إخبارًا خاصًّا عن الله تعالى في تلك الصورة من ذلك الباب”([10]) اهـ.

ودار الإفتاء المصرية تدرك تمام الإدراك في فتاويها متى تدلي بدلوها في التعرُّض للحكم الشرعي، ومتى تتوقف عن بَيانِ الحُكمِ في المسائل المتعلقة بالقضاء حتى يرد لها تصوير كامل للواقعة من قبل المحكمة، ولا تتعرض دار الإفتاء للتحقيق ولا تأخذ بأقوال المستفتين ما لم تخولها المحكمة بأمر التحقيق.

وهذا ما أبدته دار الإفتاء في كثيرٍ من فتاويها، ومنها فتوى بينت فيها دار الإفتاء أن الفتوى الشَّرعيَّة هي مرحلة لاحقة على مرحلة الإثبات، ولا يمكن لها أن تسبقها، وأن إثبات صحة الواقعة محل السؤال وعناصرها هو محض حق المحكمة، ويأتي دور الفتوى بعد ذلك، وقد نصت الفتوى على الآتي:

“تُفيد دار الإفتاء المصرية بأن موضوع التصريح المراد معرفة الحكم الشرعي فيه إنما هو موضوع يتعلق بالإثبات في المقام الأول، وليس متعلقًا ببيان حكم شرعي؛ إذ إن الفصل في هذه المسألة إنما يعتمد أساسًا على تأكد المحكمة من حصول الوقائع المنسوبة للمتهمة، وكذلك الوقائع التي تنسبها المتهمة للمجني عليه دفعًا لمواد الاتهام عنها.

وشأن المحكمة بما لها من سلطة الاستدلال أن تبحثَ في موضوع قيام الزوجية بين المتهمة والمجني عليه، وفي ثبوت كونه قد قام بتطليقها، وفي عدد الطلقات؛ لأن المسألة ما دامت قد دخلت طور التقاضي، فتصوُّرُ دار الإفتاء لعناصر الواقعة فرعٌ عن تصور المحكمة لها؛ إذ الأصل هو اعتماد تصور المحكمة للوقائع لا مجرد تصوير الخصوم لها، وسماع طلبات الخصوم ودفاعاتهم وما لديهم مِن أدلة إنما هو شأن المحكمة بما خُوِّلَ لها مِن سلطة التحقيق والاستدلال وتقييم الأدلة، واستشهاد الشهود، واستجلاب البينات، واستقراء القرائن، وندب الخبراء، وغير ذلك مِمَّا يتناسب مع كون حكمها مُلزِمًا، ويكون دَورُ دار الإفتاء في بيان الحكم تابعًا لمَا كونته المحكمة مِن عقيدة بِناءً على استخلاصها للصورة التي يغلب على ظنها حُصولُها.

وستعمل دارُ الإفتاء المصريَّة على إمداد المحكمة بالرأي الشرعي فيما تحتاجه المحكمة، وذلك في أي مرحلة مِن مراحل الدعوى”([11]) اهـ.

 

 

 

المطلب الثاني: توجيه الأفراد إلى عدم الافتئات على الدولة:

من أكبر أسباب تهديد النفوس خروجُ الأفراد عن منظومة الدولة، ومحاولتُهم خلْقَ قوانينهم بأنفسهم، وتنصيب أنفسهم قضاةً وجلادين.

والخروج عن منظومة الدولة كان هو أساسَ الشرور والاقتتال في الماضي، وهو أشدُّ خطرًا في الحاضر، وقيام الأفراد باقتضاء حقوقهم بأيديهم يؤدي إلى اندلاع شرارة القتل التي قد تحصد الآلاف من البشر، ولذلك فقد تصدَّى الشرع، وتصدَّى الفقهاء قديمًا وحديثًا لظاهرة الافتئات على الإمام، وتطبيق الأحكام بعيدًا عن منظومة الدولة.

وقد تنبهت دار الإفتاء المصرية لخطورة هذه الظاهرة، وما يمكن أن تؤدي إليه من الهرج والفوضى التي قد تتسبب في إزهاق الأرواح وإتلاف الممتلكات.

ومن فتاوى دار الإفتاء التي تعرضت لهذا الموضوع: فتوى بينت أن الشَّرعَ قد رتَّب لولي الأمر جملةً من الاختصاصات؛ ليستطيع أن يقوم بما أُنيط به من المهام، وجعل مزاحمة غيره له في هذه الاختصاصات من المحظورات؛ فنصَّت على:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده سيدنا محمد رسول الله وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.

اطلعنا على الطلب المتضمن: ظهرت في المجتمع المصري مؤخرًا بعض الممارسات التي لم يعهدها من قبل؛ حيث يقوم بعض الناس بتطبيق ما ادَّعوا كونه حُدودًا شَرعيَّة أو عقوباتٍ على غيرهم بدعوى مخالفة هذا الغير للشريعة.

وأيضًا فإن هناك من يدعو إلى أن تنزل طوائفُ الشعب إلى الشارع لحماية المؤسسات العامة مبادرةً منهم بذلك بدلًا من القوات المعنية.

فما الحكم الشرعي في هاتين الصورتين؟

الجواب:

أوجب الله تعالى على الجماعة المسلمة أن تجعلَ لها ولي أمر يدبر شؤونها، ويسوس أمورها، ويتصرف فيها بما فيه مصلحة البلاد والعباد، وهذا القدر محل اتفاق ولا خلاف فيه؛ قال العلامة ابن حجر الهيتمي في “الصواعق المحرقة” (/ 25، ط. مؤسسة الرسالة): “اعلم أيضًا أن الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم أجمعين- أجمعوا على أن نَصبَ الإمام بعد انقراض زمن النبوة واجب، بل جعلوه أهم الواجبات” اهـ.

ومن قبله قال حجة الإسلام الغزالي في كتابه: “الاقتصاد في الاعتقاد” (ص202، ط. الحكمة): “السلطان ضروري في نظام الدنيا، ونظام الدنيا ضروري في نظام الدين، ونظام الدين ضروري في الفوز بسعادة الآخرة، وهو مقصود الأنبياء قطعًا، فكان وجوب نصب الإمام من ضرورات الشرع الذي لا سبيل إلى تركه” اهـ.

وقد رتَّب الشرع الشريف لولي الأمر جملةً من الاختصاصات والصلاحيات والتدابير؛ ليستطيع أن يقومَ بما أُنيط به من المهام الخطيرة والمسؤوليات الجسيمة، وجعل كذلك تطاول غيره إلى سلبه شيئًا من هذه الاختصاصات والصلاحيات أو مزاحمته فيها من جملة المحظورات الشرعية التي يجب أن يُضرَب على يدِ صاحبها؛ حتى لا تشيع الفوضى، وكي يستقِرَّ النظام العام، ويتحققَ الأمنُ المجتمعي المطلوب.

وقد وصف علماء المسلمين من يُنازع ولي الأمر فيما هو له من ذلك بأنه مُفتاتٌ على الإمام؛ والافتيات هو التعدي، أو هو فعل الشيء بغير ائتمار مَنْ حَقُّه أن يُؤتمر فيه. (انظر: الشرح الكبير للشيخ الدردير 2/ 228، ط. دار إحياء الكتب العربية – مع حاشية الدسوقي، التوقيف على مهمات التعاريف للمناوي ص 57، ط. عالم الكتب).

والافتيات على ولي الأمر ممنوع محرم؛ لأنه تَعَدٍّ على حقه بمزاحمته فيما هو له، وتَعَدٍّ على إرادة الأمة التي أنابت حاكمها عنها في تدبير شؤونها.

يقول الإمام شمس الدين الغرناطي في “بدائع السلك في طبائع الملك” (2/ 45، ط. وزارة الإعلام العراقية) -في معرض ذكر المخالفات التي يجب اتقاؤها في حق ولاة الأمور-: “المخالفة الثالثة: الافتيات عليه -أي: ولي الأمر- في التعريض لكل ما هو منوط به، ومن أعظمه فسادًا: تغيير المنكر بالقدر الذي لا يليق إلا بالسلطان؛ لما في السَّمْح به والتجاوز به إلى التغيير عليه، وقد سبق أن من السياسة تعجيل الأخذ على يد من يتشوق لذلك وتظهر منه مبادئ الاستظهار به” اهـ.

كما بيَّنت الفتوى أنَّ من جُملةِ الأمور والاختصاصات التي ليست إلا لولي الأمر أو من ينيبه: إقامة الحدود واستيفاء العقوبات؛ فنصت على:

“ومن جُملةِ الأمور والاختصاصات التي ليست إلا لولي الأمر أو من ينيبه: إقامة الحدود واستيفاء العقوبات، وقد فَوَّض الشرع ذلك إلى الأئمة والحكام؛ كي لا يوقع الاستبداد به في الفتن (انظر: مواهب الجليل للحطاب 3/ 358، ط. عالم الكتب).

وقد روى ابن زنجويه في كتاب “الأموال” (3 / 1152، ط. مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، السعودية) عن مسلم بن يسار، عن أبي عبد الله؛ رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال مسلم: كان ابن عمر يأمرنا أن نأخذ عنه، قال: هو عالم فخذوا عنه، فسمعته يقول: الزكاة والحدود والفيء والجمعة إلى السلطان.

وروى ابن أبي شيبة في “المصنف” (5 / 506، ط. دار الفكر) عن الحسن أنه قال: أربعة إلى السلطان: الزكاة، والصلاة، والحدود، والقضاء.

وعن ابن محيريز أنه قال: الجمعة، والحدود، والزكاة، والفيء إلى السلطان.

وعن عطاء الخراساني أنه قال: إلى السلطان: الزكاة، والجمعة، والحدود.

وهذا هو ما نص عليه أئمة الدين وفقهاء الملة على اختلاف مذاهبهم:

فمن الحنفية: قال الإمام السرخسي في “شرح السير الكبير” (5/ 1938، ط. الشركة الشرقية للإعلانات): واستيفاء الحدود إلى الإمام اهـ.

وقال العلامة الكاساني في “بدائع الصنائع” (7/ 57، 58، ط. دار الكتب العلمية): وأما شرائط جواز إقامتها -أي: الحدود- فمنها ما يعم الحدود كلها، ومنها ما يخص البعض دون البعض، أما الذي يعم الحدود كلها فهو الإمامة؛ وهو أن يكون المقيم للحد هو الإمام أو من ولاه الإمام… وبيان ذلك: أن ولاية إقامة الحد إنما ثبتت للإمام لمصلحة العباد -وهي صيانة أنفسهم وأموالهم وأعراضهم-… والإمام قادر على الإقامة؛ لشوكته ومنعته وانقياد الرعية له قهرًا وجبرًا، ولا يخاف تبعة الجناة وأتباعهم؛ لانعدام المعارضة بينهم وبين الإمام، وتهمة الميل والمحاباة والتواني عن الإقامة منتفية في حقه، فيقيم على وجهها، فيحصل الغرض المشروع له الولاية بيقين… وللإمام أن يستخلف على إقامة الحدود؛ لأنه لا يقدر على استيفاء الجميع بنفسه؛ لأن أسباب وجوبها توجد في أقطار دار الإسلام، ولا يمكنه الذهاب إليها، وفي الإحضار إلى مكان الإمام حرج عظيم، فلو لم يجز الاستخلاف لتعطلت الحدود، وهذا لا يجوز، ولهذا كان عليه الصلاة والسلام يجعل إلى الخلفاء تنفيذ الأحكام وإقامة الحدود اهـ.

ومن المالكية: قال الإمام القرطبي في تفسيره (2/ 245، 246، ط. دار الكتب المصرية): “لا خلافَ أن القصاص في القتل لا يقيمه إلا أولو الأمر، فرض عليهم النهوض بالقصاص وإقامة الحدود وغير ذلك؛ لأن الله سبحانه خاطب جميع المؤمنين بالقصاص، ثم لا يتهيأ للمؤمنين جميعًا أن يجتمعوا على القصاص، فأقاموا السلطان مقامَ أنفسِهم في إقامة القصاص وغيره من الحدود” اهـ.

وقال الإمام ابن رشد في “بداية المجتهد” (4/ 228، ط. دار الحديث): وأما من يقيم هذا الحد -أي: حد شرب الخمر- فاتفقوا على أن الإمام يقيمه، وكذلك الأمر في سائر الحدود اهـ.

وقال في “مختصر خليل” وشرحه لسيدي أحمد الدردير (4/ 239): (القاتل) عمدًا وعدوانًا فإنه معصوم (من غير المستحق) لدمه، وأما بالنسبة لمستحق دمه -وهو ولي المقتول- فليس بمعصوم، لكن إن وقع منه قتل للقاتل بلا إذن الإمام أو نائبه فإنه يؤدب؛ لافتياته على الإمام اهـ.

ومن الشَّافعيَّةِ: قال الإمام العمراني في “البيان” (12/ 376، ط. دار المنهاج): إذا وجب حد الزِّنَا أو السرقة أو الشرب على حُرٍّ لم يجز استيفاؤه إلا للإمام، أو لمن فوض إليه الإمام ذلك؛ لأن الحدود في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي زمن الخلفاء الراشدين رَضِي الله عَنهُم لم تستوف إلا بإذنهم، ولأن استيفاءها يفتقرُ إلى نظر واجتهاد، فلا يصحُّ استيفاؤها إلا من الإمام أو النائب عنه اهـ.

وقال الإمام أبو إسحاق الشيرازي في “المهذب” (3/ 191، ط. دار الكتب العلمية): ولا يجوز استيفاء القصاص إلا بحضرة السلطان؛ لأنه يفتقرُ إلى الاجتهاد، ولا يؤمن فيه الحَيف مع قصد التشفي، فإن استوفاه من غير حضرة السلطان عَزَّره على ذلك… والمنصوص أنه يُعَزَّر؛ لأنه افتيات على السلطان اهـ.

ومن الحنابلة: قال الإمام ابن مفلح في “الفروع” (6/ 53، ط. عالم الكتب): تحرم إقامة حَدٍّ إلا لإمام أو نائبه اهـ.

وجاء في “مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى” (6/ 159، ط. المكتب الإسلامي) للشيخ الرحيباني: (وإقامته)؛ أي: الحد (لإمام أو نائبه مطلقًا) أي: سواء كان الحد لله -كحد زنا- أو لآدمي -كحد قذف-؛ لأنه يفتقر إلى الاجتهاد، ولا يؤمن فيه الحَيف، فوجب تفويضُه إلى نائب الله تعالى في خلقه؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان يقيمُ الحدود في حياته، وكذا خلفاؤه من بعده، ويقوم نائب الإمام فيه مقامَه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ((واغد يا أُنَيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها)) فاعترفت فرجمها، وأمر برجم ماعِز ولم يحضره، وقال في سارق أُتِي به: ((اذهبوا به فاقطعوه))” اهـ.

كما وضحت الفتوى أن إقامة العقوبات في زماننا هو من اختصاص السلطة التنفيذية، وذلك بعد قيام السلطة القضائية بالتحقيق والحكم، وهو ما يضمن حق المجني عليه وحق المتهم؛ فنصت على:

“ونقول أيضًا: إن إقامة العقوبات في العصر الحاضر في ظل دولة المؤسسات إنما تناطُ بجهة محددة تسند إليها ما يسمى بالسلطة التنفيذية، وهذه الجهة لا تستطيع أن تنفذ عقوبة ما إلا بعد أن تَبُت الجهة المختصة بالسلطة القضائية في الأمر، فتقوم بالنظر في الواقعة المعينة، وتستوفي فيها الأدلة والقرائن، وتستنطق الشهود، وتنظر في الملابسات والظروف المحيطة، ثم تقضي بعقوبة مخصوصة فيها، وهذه الجهةُ بدورها لا تستقلُّ بعقوبة لم يُنَصَّ عليها في القانون المعمول به في البلاد، والذي تقوم على اختياره وصياغته الجهة المختصة بالسلطة التشريعية. وكل جهة من هذه الجهات الثلاث تُعَدُّ هي ولي الأمر فيما أقيمت فيه؛ قال العلامة ابن عاشور في “التحرير والتنوير” (5/ 97، 98، ط. الدار التونسية للنشر) عند تفسير قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡ} [النساء: 59]-: أولو الأمر مِن الأمَّة ومِن القوم هم الذين يُسنِد الناسُ إليهم تدبير شؤونهم ويعتمدون في ذلك عليهم، فيصير الأمر كأنَّه مِن خصائصهم… فأولو الأمر هنا هم مَن عدا الرسول مِن الخليفة إلى والي الحسبة، ومِن قواد الجيوش، ومِن فقهاء الصحابة والمجتهدين إلى أهل العلم في الأزمنة المتأخرة، وأولو الأمر هم الذين يُطلَق عليهم أيضًا أهل الحل والعقد” اهـ.

كما بينت الفتوى خطورة قيام آحاد الناس بتطبيق العقوبة بأنفسهم، وأن هذا يعدُّ افتياتًا على الحاكم، ويقود المجتمع إلى الفوضى وإلى الخلل في نظامه العام، فضلًا عن تشويه صورة الإسلام؛ فنصت على:

“ولذلك فإنَّ قيامَ آحاد الناس الآن بتطبيق العقوبات بأنفسهم على متهم بجريمة أو معروفٍ بعدوان فيه افتياتٌ على أصحاب هذه السلطات الثلاث؛ فقد يُعاقَب المجرم بغير ما قُرِّر له من العقوبة في القانون، وقبل ذلك فإنه يُدانُ من هؤلاء المفتاتين بلا تحقيقٍ أو دفاع، أو قد يُدان بغير ما يستوجب الإدانة أصلًا؛ حيث يكون قد فعل أمرًا مشروعًا ولكن يظنه غيره -لجهله وعدم اطلاعه على خلاف العلماء- أنه ليس مشروعًا، ثم إن إنزالَ العقاب يحصل بعد ذلك من غير ذي اختصاصٍ، وكل هذا في النهاية يقودُ المجتمعَ إلى الفوضى وإلى الخلل في نظامه العام، فضلًا عن تشويه صورة الإسلام، والكر على مقصد الدعوة الإسلامية بالبطلان أمام العالمين.

وأما تأمين الحماية للمؤسسات العامة فهو في الأصل من مهام قوات الشرطة أو الجيش بحسب القوانين واللوائح المنظمة لذلك، وليس متروكًا للأفراد؛ وذلك لأن مهمة التأمين تتطلب خبرة من نوع خاص، مع مراعاة للتدرُّج في الردع وغير ذلك مما يعرفه هؤلاء ويدرسونه، وهي تشبه ما تكلم عنه الفقهاء في دفع الصائل؛ حيث لا يُلجَأ إلى الأشد في الدفع مع إمكان الأخف.

وهذه الشرائط والخبرات الشأن في آحاد الناس أنها منتفية عنهم، كما أنها تتطلب تحصيل آلة وسلاح يحصل به التأمين والحماية، وهذا مما لا يسمح به القانون إلا في أحوال مخصوصة لأفراد مخصوصة، فيصدر لهم ترخيص رسمي بحمل سلاح معين، وكذلك فإنه لو تركت مهمة الحماية لآحاد الناس لم يؤمَن معها أن يندس وسطهم من يريد شرًّا ولا يقصد خيرًا، فيختلط الحابل بالنابل، ولا يدرى من الجاني، ومن ثم يتحول الأمر من واجب تقوم به القوات المعنية بأسس مدروسة إلى شجار أخرق واشتباك أحمق بين أبناء البلد الواحد، مما يرسخ العداوة والبغضاء بينهم، وقد تراق فيه الدماء المعصومة بلا سبب شرعي.

ولذلك فإنه لا يسمح شرعًا لآحاد الناس أن يبادروا من عند أنفسهم بمهام الحماية المذكورة ما دامت القوات المسؤولة موجودة لصد العدوان عن المنشآت، وإلا كان في ذلك افتيات عليهم فيما أقيموا فيه، إلا أن تستعين هذه القوات بالغير تحت متابعتها وإشرافها في صورة لجان شعبية مثلًا، فيجوز ذلك حينئذ، شريطة أن يلتزم كل واحد بالدور المطلوب منه ولا يتعداه إلى غيره. وكذلك إذا خلا المكان عمن يدافع عنه وتعرض للنهب أو للتدمير ونحوهما جاز للناس حينئذ تشكيل لجان شعبية تدرأ عن المنشآت والمؤسسات، إن كان لها القدرة على ذلك، دون بغي منهم أو فساد.

وأصله ما رواه البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب، ثم أخذها خالد بن الوليد عن غير إمرة ففتح له)) -قال المهلب في قوله صلى الله عليه وسلم-: ((ثم أخذها خالد بن الوليد من غير إمرة ففتح له)): فيه من الفقه أن من رأى للمسلمين عورة قد بدت أن يتناول سد خللها إذا كان مستطيعًا لذلك، وعلم من نفسه منة وجزالة اهـ. (شرح صحيح البخاري لابن بطال 5/ 223، ط. مكتبة الرشد).

ومما سبق يعلم الجواب عن المسؤول عنه. والله سبحانه وتعالى أعلم”([12]).

 

 

 

 

المبحث الثالث:

الفتوى ومنع الوسائل التي تؤدي للقتل

تعدَّدت الأساليب والصور التي تؤثر على حق الحياة، ولذلك حرصت الفتوى على سد كل الذرائع التي لم تتطرقْ إليها كتب الفقه في السابق.

فالمقرر أنَّ من طرق حفظ الإسلام حقَّ الحياة لجميع الناس سدَّ الذرائع المفضية إليه، وذلك بأن جعل جميع الوسائل المفضية للقتل ممنوعةً محرمةً، وذلك كحمل السلاح وتوجيهه صوب أحدٍ من الناس مهما كانت الغاية والهدف من ذلك، وكذلك منع الإهمال بما قد يؤدي إلى هلاك النفوس أو الإضرار بها، بل إنه قد منع مجرَّد المزاح الذي يحتمل معه إيذاء النفس أو الغير ولو كان هذا الاحتمال بعيدًا.

ومن باب سد الذرائع التي قد تؤدي إلى الإضرار بالنفس: المنعُ من إنكار المنكر إذا كان سيؤدي إلى منكر أكبر منه أو إلى أذى الإنسان في نفسه.

يقول العز بن عبد السلام رحمه الله: “فإن علم الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن أمره ونهيه لا يجديانِ ولا يفيدانِ شيئًا، أو غلب على ظنه، سقط الوجوب؛ لأنه وسيلةٌ ويبقى الاستحباب، والوسائل تسقط بسقوط المقاصد، وقد كان صلى الله عليه وسلم يدخل إلى المسجد الحرام وفيه الأنصاب والأوثان، ولم يكن ينكر ذلك كلما رآه، وكذلك لم يكن كلما رأى المشركين ينكر عليهم، وكذلك كان السلف لا ينكرون على الفسقة والظلمة فسوقهم وظلمهم وفجورهم كلما رأوهم، مع علمهم أنه لا يجدي إنكارهم، وقد يكون من الفسقة من إذا قيل له: اتق الله أخذته العزة بالإثم، فيزداد فسوقًا إلى فسوقه، وفجورًا إلى فجوره”([13]).

ومن ذلك تعريضُ النفس أو الغير للمخاطر بلا ضرورة، فهو منهيٌّ عنه؛ لأنه وسيلة إلى إيذاء النفس أو الغير.

قال العلامة ابن الجوزي: “ليس للآدمي أعز من نفسه، وقد عجبت ممن يخاطر بها، ويعرضها للهلاك! والسبب في ذلك قلة العقل، وسوء النظر، فمنهم من يعرضها للتلف، ليمدح بزعمه، مثل قوم يخرجون إلى قتل السبع! ومنهم من يصعد إلى إيوان كسرى، ليقال: شاطر! وساع يمشي ثلاثين فرسخًا! وهؤلاء إذا تلفوا حملوا إلى النار؛ فإن هلك ذهبت النفس التي يراد المال لأجلها”([14]).

ومن ذلك نهي الإسلام عن توجيه السلاح إلى أحدٍ من الناس وحرَّمه إلا لسببٍ مشروع؛ وذلك سدًّا لذريعة الوصول ولو بطريق الخطأ إلى قتل النفس أو الغير بغير وجه حق، أو حتى مخافة ترويع الناس أو تخويفهم، وحفظًا لأرواح الناس مما ينعكس على ذلك الفعل وينتج عنه إذا ما أودى إلى قتل مسلمٍ أو ترويعه، وقد ورد في ذلك عددٌ من النصوص النبوية، منها ما رُوي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: ((من حَمل عَلينا السلاح فليس منا))([15]).

كما جاء في الحديث الذي رواه أبو هُرَيْرَة رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قَال: ((الْمَلَائِكَةُ تَلْعَنُ أحَدَكُمْ إِذَا أَشَارَ إِلَى أخِيه بِحَدِيدَةٍ، وَإِنْ كَانَ أخَاه لأبِيه وَأمِّهِ))([16]).

كما أمر الإسلام بالتبين والتثبُّت قبل الحكم على الناس حتى لا تزهق أرواح بريئة؛ قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلَا تَقُولُواْ لِمَنۡ أَلۡقَىٰٓ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَٰمَ لَسۡتَ مُؤۡمِنٗا تَبۡتَغُونَ عَرَضَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا فَعِندَ ٱللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٞۚ كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبۡلُ فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيۡكُمۡ فَتَبَيَّنُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا} [النساء: 94].

وقد صدرت فتوى دار الإفتاء المصرية بتحريم حمل السلاح دون ترخيص ودون ضرورة حتى لا يكون ذلك ذريعةً ودافعًا للاعتداء على حق الغير في الحياة، وهو معنى سد الذرائع في الشريعة.

وهذا نص الفتوى: “الحفاظ على النفس والأمن الفردي والمجتمعي مقصد مِن المقاصد الشرعية، وهو إحدى الكليات الخمس العليا في الشريعة الإسلامية، ولذلك جعلت الشريعة الأصل في الدماء والفروج هو الحرمة، وسنَّت من الأحكام والحدود ما يكفل الحفاظ على نفوس الآدميين، ويحافظ على حماية الأفراد واستقرار المجتمعات، وسدَّت من الذرائع ما يمكن أن يمثل خطرًا على ذلك ولو في المآل.

ومن هذا المنطلق جاء تعامُلُ الشريعة الغرَّاء مع قضايا السلاح تصنيعًا، وبيعًا وشراءً، واستخدامًا؛ حيث جعلت ذلك منوطًا بتحقُّق المقاصد الشرعية المعتبرة التي تتوخَّى توفير الأمن والحماية للفرد والمجتمع؛ بحيث يمنع بيعُ السلاح وشراؤه أو استخدامُه عند قدحه في شيء من هذه المقاصد، فحثت الشريعة المكلَّف على استحضار النية الصالحة في صنع السلاح ابتداءً”.

وقد بينت الفتوى ضرورة اتخاذ التدابير الوقائية للأمن من أذى السلاح فنصت على: “وعلى مستوى الأفراد: حرصت الشريعة على اتخاذ التدابير الوقائية، وسد الذرائع للأمن من أذى السلاح، إلى الحد الذي جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأمر باتخاذ الحيطة والحذر عند مناولة السلاح بين الناس؛ فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتعاطى السيف مسلولًا)) أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وحسَّنه، وصححه ابن حبان والحاكم”.

كما بيَّنت الفتوى الجزاء الشديد على من يناول غيره السلاح دون غمده، فنصَّت على: “وسد الذرائع من أبواب الاجتهاد التي لا يُتَوَسَّع فيها إلا حيث يحتاج إلى ذلك، واستخدام السلاح وشراؤه وبيعُه من المواضع التي يحتاج فيها إلى سد الذرائع للحد من سوء استعماله؛ حفاظًا على النفوس والمُهَج، حتى أوصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم التهاون في اتباع الطريقة الآمنة عند تناول السلاح إلى حد اللعن، وهو دليل على شدة نهي الشريعة عن ذلك، وحرصها على الأمن الوقائي؛ فعن أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((أتى رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم على قوم يتعاطَوْن سيفًا مسلولًا، فقال: لَعَنَ الله مَنْ فَعَلَ هَذَا أَوَ لَيْسَ قَدْ نَهَيْتُ عَنْ هَذَا؟، ثُمَّ قَالَ: إِذَا سَلَّ أَحَدُكُمْ سَيْفَهُ، فَنَظَرَ إِلَيهِ، فَأَرَادَ أَنْ يُنَاوِلَه أَخَاهُ، فَلْيُغْمِدْهُ، ثُمَّ يُنَاوِلْه إِيَّاهُ)) أخرجه الإمام أحمد في “مسنده”، والطبراني، والحاكم في “المستدرك” وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه”.

كما بيَّنت الفتوى أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن مجرد الإشارة إلى الغير بالسلاح، فنصت على: “ونهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن مجرد الإشارة بالسلاح، ولو كان ذلك على سبيل المزاح؛ لمَا فيه من مَظِنَّة الأذى، فروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((لَا يُشِيرُ أَحَدُكُمْ عَلَى أَخِيه بِالسِّلَاحِ؛ فَإِنَّه لَا يَدْرِي لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِي يَدِهِ، فَيَقَعُ فِي حُفْرَة مِنَ النَّارِ)) متفق عليه.

وعنه رضي الله عنه أيضًا قال: قَالَ أَبُو الْقَاسِم صلى الله عَلَيْه وآله وَسلم: ((مَن أَشَارَ إِلَى أَخِيه بحديدةٍ فَإِن الْمَلَائِكَة تلعنه حَتَّى يَنْتَهِي، وَإِن كَانَ أَخَاه لَأبِيه وَأمه)) رواه مسلم”.

كما حدَّدت الفتوى الأماكنَ والأزمنة التي يحظر فيها حمل السلاح؛ لكونه أمرًا غير متوقع فيزيد العرضة للأذى، فنصَّت على: “ومن أجل ضمان الاستخدام المشروع للسلاح وتلافي مَظِنّة الاعتداء به فقد قيَّدت الشريعةُ حمْلَه واستعمالَه في بعض المواضع؛ فمنعت حملَه في الأماكنِ الآمنة التي لا يحتاج فيها إليه كالحرم، وفي الأزمنة التي هي مظنة الأمن كيوم العيد؛ لعدم الاحتياج إليه يومئذٍ”.

كما بيَّنت أنه لا داعي لحمل الأفراد السلاح بعد تكفُّل الدولة بحمايتهم، فنصَّت على: “ولـمَّا كانت مهمةُ الدفاع في الماضي موكولةً إلى الأفراد ولم تكن لهم مؤسسات أمنية منظمة تقوم بذلك كان حملُهم السلاحَ مُبَرَّرًا، فلمَّا وُجِدَتْ المؤسسات الأمنية المنظمة في الدولة المدنية الحديثة، وأُنِيطَتْ بها مسؤولية حماية الدولة والأفراد، وتنوعت هذه المؤسسات بما يحفظ الأمن الداخلي، وكذا مهمة الدفاع ضد العدو الخارجي: ارتفعت مهمَّة الدفاع عن كاهل الأفراد، ووُجِدَت الحاجة الداعية إلى تقنين حمل السلاح؛ حتى لا يُتخذ ذريعة لارتكاب الجرائم، ليقتصر ذلك على الحالات التي هي مَظِنّة الحاجة إلى حمله، مع مراعاة اتخاذ التدابير اللازمة للحفاظ على سلامة الأنفس وأمن المجتمع”([17]) اهـ.

كما قرَّر الإسلام عقوبةً على الإهمال الذي يؤدي إلى إزهاق النفوس، فقرَّر عقوبة على القتل الخطأ، وحرص في العقوبة أن تكون عاملًا مساعدًا في تعويض أهل المقتول، كما شرع الكفارة ليشعر المعتدي بجسامة الذنب الذي ارتكبه؛ قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٍ أَن يَقۡتُلَ مُؤۡمِنًا إِلَّا خَطَ‍ٔٗاۚ وَمَن قَتَلَ مُؤۡمِنًا خَطَ‍ٔٗا فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤۡمِنَةٖ وَدِيَةٞ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦٓ إِلَّآ أَن يَصَّدَّقُواْۚ فَإِن كَانَ مِن قَوۡمٍ عَدُوّٖ لَّكُمۡ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤۡمِنَةٖۖ وَإِن كَانَ مِن قَوۡمِۢ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُم مِّيثَٰقٞ فَدِيَةٞ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦ وَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤۡمِنَةٖۖ فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ شَهۡرَيۡنِ مُتَتَابِعَيۡنِ تَوۡبَةٗ مِّنَ ٱللَّهِۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا ٩٢ وَمَن يَقۡتُلۡ مُؤۡمِنٗا مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدٗا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمٗا} [النساء: 92، 93].

وقد صدرت عدة فتاوى من دار الإفتاء المصرية في موضوع القتل الخطأ من حيث العقوبة الدنيوية متمثلة في الدية والكفارة، ومن حيث التحذير من الإهمال الذي قد يؤدي إلى إزهاق الروح، وقد جاء بأحدها:

“أولًا: الدية شرعًا هي المال الواجب في النفس أو فيما دونها، والأصل في وجوبها قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٍ أَن يَقۡتُلَ مُؤۡمِنًا إِلَّا خَطَ‍ٔٗاۚ وَمَن قَتَلَ مُؤۡمِنًا خَطَ‍ٔٗا فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مُّؤۡمِنَةٖ وَدِيَةٞ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦٓ إِلَّآ أَن يَصَّدَّقُواْ} [النساء: 92].

وقد بيَّنتها السُّنة المطهرة فيما رواه النسائي عن عمرو بن حزمٍ عن أبيه عن جده رضي الله عنهم: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتب كتابًا إلى أهل اليمن؛ جاء فيه: ((أَنَّ مَن اعتَبَطَ مُؤمِنًا قَتلًا عن بَيِّنة فإنَّه قَوَدٌ إلا أَن يَرضى أَولِياءُ المَقتُولِ، وأَنَّ في النَّفسِ الدِّية مائة مِن الإبِلِ… -إلى أن قال صلى الله عليه وآله وسلم-: وأَنَّ الرَّجُلَ يُقتَلُ بالمَرأةِ، وعلى أَهلِ الذَّهَبِ ألف دِينارٍ)).

وأجمعت الأمة على وجوبها”.

ثم بيَّنت الفتوى مقدار الدية، وأنها واجبة على العاقلة، ووجوبها مقسَّطة لتحقيق الموازنة بين ظروف القاتل وحق أولياء المقتول، فنصَّت على: “والدية الواجبة شرعًا في القتل الخطأ هي ألف دينار من الذهب، أو اثنا عشر ألف درهم من الفضة، وعلى الأخير الفتوى… وتتحملها عصبة القاتل، وتُدفَع مقسطة فيما لا يزيد على ثلاث سنوات إلا إذا شاءت العاقلة دفعها مُنَجَّزة، فإن لم تستطع فالقاتل هو المكلف بها، فإن لم يستطع فيجوز أخذ الدية من غيرهم ولو من الزكاة”.

ثم وضحت الكفارة الواجبة في القتل الخطأ، فنصت على: “كما أوجب الشرع الكفارة على القاتل خطأً صيام شهرين متتابعين؛ فقال تعالى: {فَمَن لَّمۡ يَجِدۡ فَصِيَامُ شَهۡرَيۡنِ مُتَتَابِعَيۡنِ تَوۡبَةٗ مِّنَ ٱللَّهِ} [النساء: 92]، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا، والصيام مُتعَيِّن على من استطاع، والإطعام يجوز فيه إخراج القيمة”([18]) اهـ.

ومن صور سد الذرائع التي تؤدي إلى قتل الآلاف بل والملايين: تحريم أسلحة الدمار الشامل، والتي عانى منها العالم لسنوات طويلة؛ حيث إن آثارها التدميرية لا تقف عند حدود وقت حصولها، والحروب العالمية وإلقاء القنابل الذرية على أجزاء من العالم وما نتج عنها من آثار تدميرية يشهد بخطورة هذه الأسلحة.

وهذه الأسلحة تتنوع بين أسلحة كيميائية، وأسلحة جرثومية.

والأسلحة الكيمائية هي: عبارة عن استخدام المواد الكيمائية السامة في الحروب لغرض قتل، أو تعطيل الإنسان أو الحيوان، سواء عن طريق التناول بالفم أو الاستنشاق أو الملامسة، وهذه المواد الكيمائية قد تكون غازات أو سائلة سريعة التبخر([19]).

وتشمل الأسلحة الكيمائية ما يلي:

1- غاز الخردل وهو: غاز يتكون من مادة الإيثلين مضافًا إليها كلور الكبريت، ورائحة هذه المادة كرائحة الفجل.

2- غاز للويزيت، وهو غاز من مادة سامة تؤدي إلى تهيُّج الأغشية والأنسجة التي تسقط عليها، وغيرها من الغازات السامة التي لا يتسع المجال لذكرها.

أما الأسلحة الجرثومية فهي عبارة عن استخدام الجراثيم أو سمومها في المعارك لغرض إصابة العدو بالأمراض الوبائية أو السموم القاتلة.

والجراثيم: كائنات حية لا ترى بالعين المجردة كالبكتريا والطفيليات، والفيروسات([20]).

وقد صدرت فتوى من دار الإفتاء المصرية تبيِّن طبيعة هذه الأسلحة وما يتضمنه استخدامها من خطر على حياة الآلاف وربما الملايين، كما فنَّدت دعوى من أجاز استعمالها من الجماعات خارج إطار الدولة وما يحمله ذلك من خطورة تترتَّب على الفعل وعلى رد الفعل، وهذا نصُّ الفتوى:

“ظهرت في الآونة الأخيرة بعض الكتابات والأطروحات من بعض الطوائف والفرق والجماعات التي يدَّعي فيها أصحابُها أنه يجوزُ لهم استعمالُ أسلحة الدمار الشامل ضدَّ الدول غير الإسلامية، زاعمين أنَّ قولهم هذا موافقٌ للشرع، مستدلين ببعض النصوص الفقهية وبالقياس على مسألة التَّتَرُّس والتبييت والتحريق المذكورة في بعض الكتب الفقهية، فهل هذا الكلام صحيح موافق للشرع؟

الجواب:

أسلحة الدمار الشامل تُطلَق في الاصطلاح العسكري ويُراد بها صِنفٌ مِن الأسلحة غير التقليدية شديدة الفتك، تُستَخدَم فتسبب دمارًا هائلًا في المنطقة المصابة، سواء في ذلك الكائنات الحيَّة من البشر والحيوانات والبيئة المحيطة أيضًا، وتنقسم هذه الأسلحة إلى ثلاثة أصناف:

أسلحة ذرية: كالقنبلة النووية والقنبلة الهيدروجينية والقنبلة النيترونية، وهذا النوع مُصَمَّم بحيث ينشر موادَّ إشعاعيةً تدمر البشر والمنشآت وتلوث مُدُنًا بأكملها لمدد زمنية طويلة، وقد يقتصر بعضها على تدمير البشر فقط دون المنشآت.

وأسلحة كيماوية: كالغازات الحربية ذات الاستعمالات المتعددة والمواد الحارقة، ويكون لها تأثير بالغ الضرر قد يصل إلى الموت على أي كائن حي يتعرض لها، كما تصيب أيضًا الزراعات والنباتات، وغالبًا ما تكون هذه المواد السامة في حالة غازية أو سائلة سريعة التبخر ونادرًا ما تكون صلبة.

وأسلحة بيولوجية: ويقصد بها الجراثيم والفيروسات التي تُستَخدَم لنشر الأمراض الوبائية الخطيرة في صفوف العدو، وإنزال الخسائر بموارده الحيوانية أو الزراعية”.

وقد بينت الفتوى أن الأصل في هذه الأسلحة عدم المبادأة بالاستخدام، وإنما اتخاذها على سبيل التخويف وردع من يفكر في الاعتداء، كما بيَّنت الأخطار التي لا حدود لها والتي قد تسببها هذه الأسلحة؛ فنصت على:

“واتخاذ الدول الإسلامية مثل هذه الأسلحة على سبيل ردع المعتدين عنها مطلوبٌ شرعي، ودليل ذلك قول الله تبارك وتعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَيۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ} [الأنفال: 60]، قال العلامة الألوسي في تفسيره: “أي: مِن كل ما يُتَقَوَّى به في الحرب كائنَا ما كان” اهـ (10/ 24 ط: دار إحياء التراث العربي)”.

وقد أمر الله تعالى في الآية سالفة الذكر بردْع الأعداء حتى لا تُسَوِّل لهم أنفسهم الاعتداء على المسلمين، والردع كما هو مبدأ شرعي يظهر في الحدود والتعازير فهو أيضًا مبدأ سياسي معتبر تعتمده الدول في سياساتها الدفاعية كما تقرر في علم الإستراتيجيات العسكرية، فاتخاذ هذه الأسلحة وتحصيلها من مكملات ذلك المطلوب، ومُكَمِّل المطلوب مطلوبٌ، والإذن في الشيء إذنٌ في مُكَمِّلات مقصوده، ولا يخفي ما في ذلك من فائدة خلق التوازن الإستراتيجي والعسكري المتبادل بين الدول؛ إذ يشكل ذلك عاملَ إثناءٍ للدولة التي قد تسول لها نفسها أن تُقدِم على عمل عدائي ضِد بلد مسلم، مما يجنب في النهاية فرضية الدخول في حرب غير مرادة أصلا.

هذا من حيث تحصيل هذه الأسلحة واتخاذها على سبيل التخويف وردع المعتدين، وفرق بين الاتخاذ المقصود به الردع، وبين المبادأة بالاستخدام، والصورة المسؤول عنها فرضها البدء بالاستخدام، وأن هذا الاستخدام مبناه على بعض الاجتهادات الفردية أو الرؤى التي تخصُّ بعض الطوائف والفرق والجماعات، وهذا ممنوع شرعًا، والقول بجوازه ونسبته إلى الشريعة وإلى علمائها كذبٌ وزورٌ وافتراءٌ على الشرع والدين، ويدل على هذا أمور:

كما سردت الفتوى الأدلة على أنه لا يجوز امتلاك هذه الأسلحة خارج إطار القانون وتحت نظام الدولة، فنصَّت على: “أولًا: أن الأصلَ في الحرب ألا تكون إلا تحت راية ولي الأمر المسلم، وأن شأنها موكول إلى اجتهاده، وأنه يجب على الرعية طاعتُه في ذلك، وما وُكِّل ذلك إليه إلا لمعرفته واستشرافه على الأمور الظاهرة والخفية وإدراكه لمآلات الأفعال ونتائجها ومصالح رعيته، ولهذا كان إعلان الحرب وعقد الاتفاقات العامة أو الدولية مُوكلًا إليه بمجرد تنصيبه، وهو بدوره لا يصدر قرارًا بمجرد الهوى والتشهي، بل لا يفعل إلا بعد مراجعة أهل الاختصاص في كل مجال له علاقة بقراره من الخبراء الفنيين والعسكريين والمستشارين السياسيين الذين يُعَدُّون في النهاية مشاركين في صنع القرار الذي لا يمكن أن يستقل ولي الأمر به دون مشاورتهم.

واستقلال فرد أو أفراد من عموم المسلمين بتقرير استعمال مثل هذه الأسلحة ليس افتئاتًا على ولي الأمر فقط، بل هو افتئات على الأمة نفسها؛ إذ إن هؤلاء قد أعطوا أنفسهم حق اتخاذ قرارات تتعلق بمصير الأمة ككل دون أن يرجعوا إليها وإلى أهل الحَل والعقد فيها، وذلك في أمور تعرض البلاد والعباد إلى أخطار داهمة.

قال العلامة البهوتي في شرح منتهى الإرادات: “ويَحرُم غَزوٌ بلا إذن الأمير؛ لرجوع أمر الحرب إليه، لعلمه بكثرة العدو وقلته ومكامنه وكيده “إلا أن يفاجئهم عدو” كفار “يخافون كَلَبه” بفتح اللام أي: شره وأذاه، فيجوز قتالهم بلا إذنه؛ لتعين المصلحة فيه” اهـ (1/ 636، ط: عالم الكتب).

ثانيًا: ما في ذلك من خرق للاتفاقات والمواثيق والعهود الدولية التي رضيتها الدول الإسلامية وانضمت إليها وأقرتها بمحض إرادتها وباختيارها؛ توافقًا مع المجتمع الدولي لتحقيق الأمن والسلم الدوليين بقدر التزام الدول الموقعة عليها بها، وقد قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِ} [المائدة: 1]، والعقود جمع عَقد، والعقد يطلق على كل التزام واقع بين جانبين في فعل ما، قال شيخ الإسلام التونسي العلامة ابن عاشور مُعلقًا على هذه الآية في تفسيره: “التعريف في العقود تعريف الجنس للاستغراق، فشمل العقودَ التي عاقد المسلمون عليها ربهم، وهو الامتثال لِشريعته… ومثل ما كان يبَايع عليه الرسولُ صلى الله عليه وآله وسلم المؤمنين أن لا يشركوا بالله شيئًا ولا يسرقوا ولا يزنوا… وشَمل العقود التي عاقد المسلمون عليها المشركين… ويشمل العقود التي يتعاقدها المسلمون بينهم” اهـ. (التحرير والتنوير 6/ 74، ط: الدار التونسية للنشر).

وروى الترمذي عن عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((المسلمون على شروطهم إلا شرطًا حَرَّم حلالا أو أحلَّ حرامًا)).

ثالثًا: ما يتضمنه هذا الفعل من مباغتة وقتل للغافلين، وقد روى أبو داود والحاكم في المستدرك عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا يفتِك المؤمن، الإيمان قيد الفَتك)).

قال ابن الأثير: “الْفَتْك أَنْ يَأْتِي الرَّجُل صَاحِبه وَهُوَ غَارٌّ غَافِل فَيَشُدَّ عَلَيه فَيَقتُلهُ” اهـ. (النهاية في غريب الحديث والأثر 3/ 775، ط: المكتبة العلمية ببيروت).

ومعنى الحديث: أن الإيمان يمنع عن الفتك كما يمنع القيد عن التصرُّف، وقوله عليه الصلاة والسلام: ((لا يفتك مؤمن)) هو خبر بمعنى النهي؛ لأنه متضمن للمكر والخديعة، أو هو نهي. ولما وقع خبيب الأنصاري رضي الله عنه أسيرًا لدى المشركين، ثم بيع بمكة، فابتاع خبيبًا بنو الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف، وكان خبيب هو من قتل الحارث بن عامر يوم بدر، فلبث خبيب عندهم أسيرًا، وفي يوم استعار خبيب موسى من بنت الحارث ليستحد بها، فأعارته، فأخذ ابنًا لها وهي غافلة، فلما جاءته وجدته مجلسه على فخذه والموسى بيده، ففزعت فزعة، فقال لها خبيب: تخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك. قالت بنت الحارث: والله ما رأيت أسيرًا قط خيرًا من خبيب.

فهذا رجل مسلم أسير لدى أعدائه الذين يدبرون لقتله وهو على شفير الموت، ورغم ذلك عندما تحين له فرصة يمكنه فيها أن يدمي قلوبهم فيها بقتل ابنهم يعف عن ذلك؛ لأن خلق المسلم لا يتضمن الخداع ومباغتة الغافلين.

رابعًا: ما يتضمنه هذا الفعل من قتل وإذاية للنساء والصبيان، وقد روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: ((أن امرأة وُجدت في بعض مغازي النبي صلى الله عليه وآله وسلم مقتولة، فأنكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قتل النساء والصبيان))، وفي رواية أخرى لهما: ((فنهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قتل النساء والصبيان))([21]). قال الإمام النووي: “أجمع العلماء على العمل بهذا الحديث، وتحريم قتل النساء والصبيان إذا لم يقاتلوا، فإن قاتلوا، قال جماهير العلماء: يقتلون” اهـ. (شرح مسلم 12/ 48، ط: دار إحياء التراث العربي).

خامسًا: ما يستلزمه هذا الفعل من قتل وإذاية للمسلمين الموجودين في هذه البلاد من ساكنيها الأصليين أو ممن وردوا إليها، وقد عظَّم الشرع الشريف دم المسلم ورهَّب ترهيبًا شديدًا من إراقته أو المساس به بلا حق؛ قال تعالى: {وَمَن يَقۡتُلۡ مُؤۡمِنٗا مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدٗا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمٗا} [النساء: 93]، وقال سبحانه: {مِنۡ أَجۡلِ ذَٰلِكَ كَتَبۡنَا عَلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ أَنَّهُۥ مَن قَتَلَ نَفۡسَۢا بِغَيۡرِ نَفۡسٍ أَوۡ فَسَادٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعٗا وَمَنۡ أَحۡيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحۡيَا ٱلنَّاسَ جَمِيعٗاۚ وَلَقَدۡ جَآءَتۡهُمۡ رُسُلُنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرٗا مِّنۡهُم بَعۡدَ ذَٰلِكَ فِي ٱلۡأَرۡضِ لَمُسۡرِفُونَ} [المائدة: 32].

وروى النسائي في سننه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((لزوال الدنيا أهونُ عند الله من قتْلِ رجلٍ مسلم))، وروى ابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يطوف بالكعبة ويقول: ما أطيبك وأطيب ريحك، ما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك: ماله، ودمه، وأن نظن به إلا خيرًا)).

وجريمة قتل المسلم عمدًا وعدوانًا كبيرة ليس بعد الكفر أعظمُ منها، وفي قبول توبة القاتل خلاف بين الصحابة ومن بعدهم.

سادسًا: ما سيجرُّه هذا الفعل الأخرقُ من ويلاتٍ ومصائبَ على المسلمين جميعًا، بل والدنيا ككل؛ لأن الدولة المعتدَى عليها قد تقابل هذا التصرُّفَ بتصرُّفٍ مماثلٍ أو أشدَّ نكاية، كما أن الآثار المدمرة الناجمة عن بعض هذه الأسلحة قد تتعدَّى مجرَّد البقعة المصابة وتجرفها الرياح إلى بلاد أخرى مجاورة لا جريرة لها.

فمفاسدُ هذا الفعل العاجلةُ والآجلةُ أعظمُ بكثير من مصالحه إن كان ثَم َّمصلحة فيه أصلًا، ومن القَواعد الشَّرعيَّة العظيمة: أن دفع المفسدة واجب، وأنه مقدم على جلب المصلحة.

سابعًا: ما يترتب على استعمال بعض هذه الأسلحة من إتلافٍ للأموال والمنشآت والممتلكات العامة والخاصة، وإتلاف المال وإضاعته مما جاء الشرع بتحريمه، وتزداد الحرمة وتتضاعف إذا كان هذا المال المتلَف ليس مملوكًا للمتلِف، بل هو مملوك لغيره كما هو الحال هنا، فتتعلق الحرمة بمخالفة نهي الشرع من جهة وبحقوق المخلوقين من جهة أخرى.

ثامنًا: استعمال هذه الأسلحة في بعض صوره يلزمه أن يدخل الفاعل إلى البلاد المستهدفة، وذلك بعد استيفائه الإجراءات الرسمية المطلوبة منه للدخول، وموافقة هذه البلاد على دخول شخص ما إلى بلادها متضمنة أنها توافقُ على دخوله بشرط عدم الفساد فيها، وهو وإن لم يذكر لفظًا إلا أنه معلوم في المعنى، وقد نصَّ الفُقهاءُ على نحو هذا؛ قال الإمام الخِرَقي في مختصره: من دخل إلى أرض العدو بأمان، لم يخنهم في مالهم. قال ابن قدامة شارحًا عبارته: أما خيانتهم فمحرمة؛ لأنهم إنما أعطوه الأمان مشروطًا بتركه خيانتهم، وأمنه إياهم من نفسه، وإن لم يكن ذلك مذكورًا في اللفظ فهو معلوم في المعنى، ولذلك مَن جاءنا منهم بأمان فخاننا كان ناقضًا لعهده، فإذا ثبت هذا لم تحل له خيانتهم؛ لأنه غدر، ولا يصلح في ديننا الغدر” اهـ. (المغني 9/ 237، ط: دار إحياء التراث العربي).

وبناءً على ذلك: فهذه الدعوى من الدعاوى الباطلة، والقول بها والترويج لها من عظيم الإرجاف والإجرام والإفساد في الأرض الذي نهى الله تعالى عنه، وتوعَّد فاعله بأشد العقاب، قال تعالى: {لَّئِن لَّمۡ يَنتَهِ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ وَٱلۡمُرۡجِفُونَ فِي ٱلۡمَدِينَةِ لَنُغۡرِيَنَّكَ بِهِمۡ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلَّا قَلِيلٗا} [الأحزاب: 60]، وقال سبحانه: {وَلَا تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ بَعۡدَ إِصۡلَٰحِهَاۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ} [الأعراف: 85]، وقال عز من قائل: {فَهَلۡ عَسَيۡتُمۡ إِن تَوَلَّيۡتُمۡ أَن تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَتُقَطِّعُوٓاْ أَرۡحَامَكُمۡ ٢٢ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فَأَصَمَّهُمۡ وَأَعۡمَىٰٓ أَبۡصَٰرَهُمۡ} [محمد: 22]” ([22]).

ومن أسباب إزهاق النفوس، والتي تنبهت لها الفتوى، ومنعت منها باعتبار ذلك من باب الوقاية وحماية النفوس من تعريضها للقتل تحريم زرع الألغام.

وقد صدرت فتوى من دار الإفتاء المصرية في هذا الموضوع، محورها أنَّ الاستعداد الكامل للدفاع عن الدين والذود عن النفس والأمر بالاستعداد للقتال كما جاء بالآية الكريمة هو أمنع شيء للقتال.

وكان السؤال: تجري حاليًّا حملات إعلامية على المستوى الدولي بخصوص موضوع الألغام المضادة للأفراد لإقناع الحكومات والدول المصنعة لهذه الأسلحة لإيقاف تصنيعها وتخزينها وتبادلها؛ حيث إنَّ الغالبيةَ العظمى من المتضررين من هذه الألغام هم من المدنيين وبالأخص بعد انتهاء فترة الحرب، ونظرًا للأضرار التي تسببها للأطفال والشيوخ والفلاحين الأمر الذي يعارضه الإسلام وشريعته (السمحة).

ويطلب السائل بيان الحكم الشرعي في ذلك.

الجواب:

يقول الله تعالى في كتابه الكريم: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَيۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ} [الأنفال: 60]، فلقد أمرنا الله تعالى بالاستعداد الكامل للدفاع عن الدين والذود عن النفس والأمر بالاستعداد للقتال والإعداد له كما جاء بالآية الكريمة هو أمْنعُ شيء للقتال، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: ((نصرت بالرعب))، وهناك حكمة يُونانيَّة قديمة تتجه هذا الاتجاه الإسلامي؛ إذ تقول: الحكيم يستعد للحرب في زمن السلم. ومن فلسفات الحرب الحديثة إذا أردت السلم فاستعد للحرب، ولقد سُئل أحد الأشخاص: أين السلام، فأجاب: على فوهات المدافع”.

كما بيَّنت الفتوى أنَّ الحرب في الإسلام لها أخلاقياتها والتي منها قصر الحرب على الجيش المقاتل وحده دون التعرُّض لغير المحاربين من النساء والأطفال والشيوخ والرهبان وعدم ترويع الآمنين، ومن ذلك زرع الألغام؛ فنصَّت على:

“ولقد تناول الإسلام تهذيبَ فكرة الحرب من حيث أسبابها وأسلوبها؛ فلقد وضع للحرب قواعدَ وأصولًا التزم المسلمون باتخاذها: منها ضرورةُ إعلانِ الحرب قبل البدء في أي قتال حتى لا تكون الحربُ وسيلةً للخداع والخيانة، ومنها الكفُّ عن القتال إذا كف عنه الأعداء: {فَإِنِ ٱنتَهَوۡاْ فَلَا عُدۡوَٰنَ إِلَّا عَلَى ٱلظَّٰلِمِينَ} [البقرة: 193]، ومنها الاستجابة إلى السلم إن لاحت بارقة أمل فيه: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلۡمِ فَٱجۡنَحۡ لَهَا } [الأنفال: 61]، ومنها قصر الحرب على الجيش المقاتل وحده دون التعرُّض لغير المحاربين من النساء والأطفال والشيوخ والرهبان وعدم ترويع الآمنين، فقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: ((اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدًا)) أخرجه مسلم، ومنها تحريم التمثيل بالقتلى والإحراق بالنار؛ لأنَّ النارَ على حد قول الرسول صلى الله عليه وسلم ((لا يعذب بها إلا الله))، ومنها تحريم إتلاف الأموال والتخريب في البلاد والإحسان إلى الأسير: {وَيُطۡعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ مِسۡكِينٗا وَيَتِيمٗا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8]، ومنها مراعاة الناحية الإنسانية وتأكيد الرحمة في الحرب والوفاء بالمعاهدات وتحريم الخيانة: {وَأَوۡفُواْ بِعَهۡدِ ٱللَّهِ إِذَا عَٰهَدتُّمۡ وَلَا تَنقُضُواْ ٱلۡأَيۡمَٰنَ بَعۡدَ تَوۡكِيدِهَا} [النحل: 91]، ومنها عدم التفاخر بالنصر أو التظاهر بالقوة: {وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بَطَرٗا وَرِئَآءَ ٱلنَّاسِ} [الأنفال: 47]. وهذه هي الخطوط الرئيسية التي أقرَّها الإسلام للحرب فأصبحت دستورًا يلتزم به المسلمون في حدوده ولا يتجاوزونه من كل ما سبق.

وبناءً على ما ورد بالسؤال: فإنه يتحتم من وجهة النظر الشرعية عدم زراعة الألغام؛ لأن خطرها داهم وخصوصًا على المدنيين الآمنين التي تفتك بهم، وتؤدي إلى هلاكهم وترويعهم، وخير شاهد على ذلك ما تطالعنا به الصحفُ الفترة بعد الأخرى من انفجار بعض الألغام المدفونة منذ الحرب العالمية الثانية في الصحراء الغربية بجمهورية مصر العربية حين يقوم المدنيون بمباشرة أعمالهم اليومية، ولقد أصبحت هذه الأسلحةُ غيرَ ذاتِ جدوى حيث حل محلها التكنولوجيا وأجهزة المراقبة الليلية وغير ذلك مما ذكره السائل، وإن كان يجوز زراعتها عند الضرورة القصوى في ميدان الحرب، وعندما نرى أن العدو قد استعملها في الحرب؛ لقوله تعالى: {فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ عَلَيۡكُمۡ فَٱعۡتَدُواْ عَلَيۡهِ بِمِثۡلِ مَا ٱعۡتَدَىٰ عَلَيۡكُمۡ} [البقرة: 194]، والضرورة رخصة مؤقتة، والضرورة تقدر بقدرها وهي تزول عند زوال أسبابها.

والله سبحانه وتعالى أعلم”([23]).

المبحث الرابع:

إبراز الفتوى لدور وقاية النفوس من المخاطر، ودور الإيجابية في مواجهتها:

الكلام عن حفظ النفوس في الإسلام لا يتوقف فقط عند حدود الكلام عن خطورة الاعتداء على النفس بالقتل وبيان عظم جرمه، والتحذير من الإقدام عليه أو اتخاذ أسبابه، وإنَّما يتناول موضوع حفظ النفوس من كافة جوانبه، والتي من أهمها عدمُ تعريض الإنسان نفسَه أو غيرَه من الدائرة القريبة منه، أو تعريض الغير سواء أكان من المسلمين أو غير المسلمين للخطر، ولذلك أمر الإسلام باتخاذ التدابير الوقائية في حالة الأوبئة والأمراض المعدية.

   فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّه عَنْهُمَا أنَّ عُمَر بْنَ الْخَطَّابِ خَرَجَ إلَى الشَّامِ حَتَّى إذَا كَانَ بِسَرْغٍ لَقِيَهُ أُمَراءُ الأجْنَادِ أبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الجَرَّاحِ وَأصْحَابُهُ، فَأَخْبَرُوهُ أنَّ الْوبَاءَ قَدْ وَقَعَ بالشَّامِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقَالَ لي عُمَرُ: ادْعُ لِي المُهاجرِين الأوَّلِينَ فَدَعَوتُهم، فَاسْتَشَارهم، وَأَخْبرَهُم أنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ، فَاخْتلَفوا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: خَرَجْتَ لأَمْرٍ، وَلَا نَرَى أنْ تَرْجِعَ عَنْهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعَكَ بَقِيَّة النَّاسِ وَأصْحَابُ رسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، وَلا نَرَى أنْ تُقْدِمَهُم عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ، فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي الأَنْصَارَ، فَدعَوتُهُم، فَاسْتَشَارهمْ، فَسَلَكُوا سَبِيلَ المُهاجرِين، وَاختَلَفوا كَاخْتلافهم، فَقَال: ارْتَفِعُوا عَنِي، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِنْ مُهَاجِرةِ الْفَتْحِ، فَدَعَوْتُهُمْ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ مِنْهُمْ رَجُلانِ، فَقَالُوا: نَرَى أنْ تَرْجِعَ بِالنَّاسِ وَلَا تُقْدِمَهُم عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ، فَنَادى عُمَرُ في النَّاسِ: إنِّي مُصْبِحٌ عَلَى ظَهْرِ، فَأَصْبِحُوا عَلَيْهِ. فَقَال أبُو عُبَيْدَةَ بْن الجَرَّاحِ: أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّه؟ فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أبَا عُبيْدَةَ، وكَانَ عُمَرُ يَكْرَهُ خِلافَهُ، نَعَمْ نَفِرُّ منْ قَدَرِ اللَّه إلى قَدَرِ اللَّه، أرأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ إبِلٌ، فَهَبَطَتْ وَادِيًا لهُ عُدْوَتَانِ: إحْدَاهُمَا خَصْبةٌ، والأخْرَى جَدْبَةٌ، ألَيْسَ إنْ رَعَيْتَ الخَصْبَةَ رعَيْتَهَا بقَدَرِ اللَّه، وإنْ رَعَيْتَ الجَدْبَةَ رعَيْتَهَا بِقَدَر اللَّه، قَالَ: فجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَكَانَ مُتَغَيِّبًا في بَعْضِ حَاجَتِهِ، فَقَال: إنَّ عِنْدِي مِنْ هَذَا عِلْمًا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ((إذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأرْضٍ فلَا تَقْدمُوا عَلَيْهِ، وإذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلا تخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ))، فَحَمِدَ اللَّه تَعَالى عُمَرُ وَانْصَرَفَ([24]).

– وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((إذَا سمِعْتُمُ الطَّاعُونَ بِأَرْضٍ فَلَا تَدْخُلُوهَا، وَإذَا وقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ فِيهَا فَلَا تَخْرُجُوا مِنْهَا))([25]).

وقد كان لفضيلة الشيخ عطية صقر فتوى تحدَّثت عن موقف الإسلام من الكوارثِ، وضرورة أن يتخذَ الناسُ الإجراءاتِ الوقائيةَ قبل وقوع الكارثة حفاظًا على النفوس.

وقد عدَّدت الفتوى المجالاتِ التي يمكن أن يلحقَ فيها بالإنسان ضرر على نفسه، أو نفس غيره، ومنهج الإسلام في الوقاية في كل جانب من هذه الجوانب، فنصت على:

“هناك إجراءان لمواجهة الكوارث التي يتدخل فيها الإنسان: أحدهما وقائي، والثاني: علاجي.

ففي الإجراء الوقائي:

هناك تحذير عام من التورُّط فيما يعودُ على الإنسان بالضرر، سواء أكان هذا الضرر خاصًّا به، أو متعديًّا إلى غيره، فالله تعالى يقول: ﴿وَلَا تُلۡقُواْ بِأَيۡدِيكُمۡ إِلَى ٱلتَّهۡلُكَةِ﴾ [البقرة: 195]، ويقول ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ خُذُواْ حِذۡرَكُمۡ﴾ [النساء: 71]، وفي الحديث ((لا ضرر ولا ضرار)) رواه ابن ماجه.

وقد بينت الفتوى سبل الوقاية في مجال الحروب فنصت على:

“1- ففي مجال الحروب دعا الإسلام إلى السلم والأمان فقال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱدۡخُلُواْ فِي ٱلسِّلۡمِ كَآفَّةٗ وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيۡطَٰنِۚ إِنَّهُۥ لَكُمۡ عَدُوّٞ مُّبِينٞ﴾ [البقرة: 208]، وحبب في الصلح قبل أن تقوم الحرب فقال: ﴿وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلۡمِ فَٱجۡنَحۡ لَهَا وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ﴾ [الأنفال: 61].

وأكد الموافقة على الصلح حتى لو كانت نية الطرف الآخر سيئة، ولكن يجب الحذر والاحتياط لمواجهة احتمال الغدر والخيانة، فقال: ﴿وَإِن يُرِيدُوٓاْ أَن يَخۡدَعُوكَ فَإِنَّ حَسۡبَكَ ٱللَّهُۚ هُوَ ٱلَّذِيٓ أَيَّدَكَ بِنَصۡرِهِۦ وَبِٱلۡمُؤۡمِنِينَ﴾ [الأنفال: 62]، مع قوله: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ﴾ [الأنفال: 60].

ومنع الإسلام البدء بالحرب، وجعلها لرد العدوان، مع الاقتصار على الحد الأدنى من الخسائر الكافية للرد، فقال تعالى: ﴿وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ﴾ [البقرة: 190]، ومن أجل الحيلولة دون وقوع الحرب شرع الإسلام إنذار من تبدر منهم بوادر الغدر فقال تعالى: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوۡمٍ خِيَانَةٗ فَٱنۢبِذۡ إِلَيۡهِمۡ عَلَىٰ سَوَآءٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡخَآئِنِينَ﴾ [الأنفال: 58].

وشرعت المرابطة في الثغور لحماية الحدود، مع بث العيون والجواسيس لمعرفة أحوال العدو، والتوصية في الحرب بعدم قتل من لم يشترك فيها من أمثال النساء والأطفال والشيوخ الكبار، وعدم تخريب العامر، أو القتال بما يعم به التدمير من الأسلحة المتنوعة -والتطور الحديث تنفس عن كثير منها- وحكمة التشريع لهذه الأخلاقيات والآداب الحربية اعتبار أن الحرب ضرورة تقدر بقدرها، لا يرتكب فيها إلا ما يتحقق به النصر؛ لأن هذا هو ما يحب أن يعامل به من يعتدى عليه، والأيام دول، والواجب الديني يقتضي أن يحب الإنسان لغيره ما يحبه لنفسه كما ثبت في الحديث”.

ثم نصت على الوقاية في مجال الحريق وفي مجال وقاية البيئة، فنصَّت على:

“2- وفي مجال الحريق كان من هدي الإسلام في الوقاية منه الأمر بعدم ترْك المصباح مضاء في البيت عند النوم؛ حتى لا يعبث به فأر أو غيره، فينشأ عن ذلك حريق، وسيأتي النص بعدُ. وهو صورة لما ينبغي اتخاذه في أيامنا هذه من الاطمئنان على التوصيلات الكهربائية في البيوت والمصانع والمؤسسات المختلفة، وفي حديث البخاري ومسلم: ((إن هذه النار عدو لكم فإن نمتم فأطفئوها)).

3- وفي مجال تلوث البيئة وما ينتج عنه من أمراض نرى للإسلام باعًا طويلًا لا يمكن في هذا الحيز الضيق أن نورده كله أو أكثره، ولكن نكتفي بنماذجَ منه.

أ– فالدين حث على النظافة في كل شيء مادي ومعنوي، ديني ودنيوي، وجعلها شرطًا لصحَّة أداء العبادات التي يتقرب بها إلى الله، كالوضوء الذي تغسل فيه الأعضاء المعرضة للتلوث، مع المبالغة في تنظيف مداخل الأكل والشرب والتنفس، بالمضمضة والسواك، والاستنشاق والاستنثار أي إخراج ما في الأنف مما يلوث مجرى النفس، وكالغسل الذي فرضه لموجبات معينة تحصل به النظافة ويجدد نشاط الجسم، وجعله سنة عند الاجتماعات كصلاة الجمعة والعيدين. ومواطن متعددة في الحج الذي يكثر فيه الزحام، مع ما يتبع هذه الطهارة من الزينة والرائحة الطيبة المسموح بها.

ب- وفي المقابل نهى عن كل ما يتنافى مع النظافة، فحرم البول والغائط في موارد المياه وقارعة الطريق ومواضع الظل، أي الأماكن التي يكثر تردُّد الناس عليها لحاجتهم إليها، وقال في ذلك الحديث الذي رواه مسلم: ((اتقوا اللاعنين، قالوا: وما اللاعنان يا رسول الله؟ قال: الذي يتخلى في طرق الناس أو في ظلهم))، واللاعنان أي الأمران اللذان يجلبان اللعن والشتم، والتخلي هو التبول والتبرز.

وجاء في رواية أبي داود وأحمد أن الملاعن ثلاثة، فزادت على رواية مسلم موارد المياه، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبال في الماء الراكد كما رواه مسلم، بل نهى أن يبال في الماء الجاري كما رواه الطبراني بإسناد جيد. أين من هذا مخلفات المصانع والبيوت؟ ونهى عن البصق في الأماكن العامة التي يكثر فيها اجتماع الناس، ومنها المساجد، وقد كانت في أيام الرسول تفرش بالحصى والرمل. ففي حديث رواه البخاري ومسلم: ((البصاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها)).

كما نهى عن مضايقة الناس بالروائح الكريهة، وبخاصة في أماكن الاجتماعات، ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم ((من أكل ثومًا أو بصلًا فليعتزلنا -أو فليعتزل مساجدنا- وليقعد في بيته)).

وجاء في بعض الروايات النهيُ عن الكراث والفجل، ويقاس على ذلك كل ذي ريح كريهة، ومنه التدخين. وقال عمر بن الخطاب في خطبة الجمعة كما رواه مسلم وغيره عن البصل والثوم: ((رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع)). وهو مقبرة المدينة”.

ثم بيَّنت الفتوى منهج الإسلام في الوقاية من الأمراض، فنصت على:

“ج- وفي مجال الوقاية من الأمراض -إلى جانب ما ذكر- أمر الإسلام بالاعتدال في الأكل والشرب، فقال تعالى: ﴿وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ وَلَا تُسۡرِفُوٓاْۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِينَ﴾ [الأعراف: 31].

وقال صلى الله عليه وسلم: ((ما ملأ ابن آدم وعاء شرًّا من بطنه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه، حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه)) رواه الترمذي، وقال: حسن.

وحرم الإسلام أطعمة ومشروبات ضارة، كالميتة والدم ولحم الخنزير، والخمر وكل مسكر ومفتر، والنصوص في ذلك ثابتة في القرآن والسنة، الآية 3 من سورة المائدة، والآية: 90 من السورة نفسها.

وحذر من التعرُّض للعدوى، فقال صلى الله عليه وسلم: ((فر من المجذوم فرارك من الأسد)) رواه البخاري. وقال: ((إذا سمعتم الطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض أنتم فيها فلا تخرجوا منها)) رواه البخاري ومسلم.

وفي وقاية الطعام والشراب من التلوث -إلى جانب استحباب غسل الأيدي قبل تناول الطعام وبعده- ورد الحديث الذي رواه مسلم: ((غطوا الإناء، وأوكئوا السقاء -اربطوا فم القربة- وأغلقوا الأبواب، وأطفئوا السراج، فإن الشيطان لا يحل سقاء، ولا يفتح بابًا ولا يكشف إناء، فإن لم يجد أحدكم إلا أن يعرض على إنائه عودًا ويذكر اسم الله فليفعل، فإن الفويسقة -الفأرة- تضرم على أهل البيت بيتهم))، وذلك بأن تجر الفتيلة إلى المتاع فيحرق، وقد يراد بالشيطان الحشرات”.

ثم بيَّنت الفتوى منهج الإسلام في الوقاية من أخطار الطرق والمواصلات؛ فنصَّت على:

د- وفي مجال الوقاية من أخطار الطرق والمواصلات حذَّر الإسلام من أي شيء يعوق حركة المرور أو يؤذي المارة أيًّا كان هذا الإيذاء -ومنه التبول والتبرز كما سبق في حديث الملاعن- يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من آذى المسلمين في طرقهم وجبت عليه لعنتهم)) رواه الطبراني بإسناد حسن.

وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم: ((وإماطة الأذى عن الطريق صدقة)).

وفي حديث رواه مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لقد رأيت رجلًا يتقلب في الجنة -أي يتنعم بما فيها- في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين)).

وفي هذا الإطار أثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: “والله لو علمت أن دابة عثرت في أرض العراق لوجدتني مسؤولًا عنها أمام الله لِمَ لمْ أمهد لها الطريق”.

ومن أجل سلامة المارة نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن التزاحم والسرعة في الأماكن الضيقة، وأوقات الذروة -كما يقال بلغة العصر- وذلك عند الإفاضة من عرفات وعند تقبيل الحجر الأسود، فقد روى أحمد والطبراني والبيهقي بإسناد حسن أن الرسول عندما فاض من عرفة سمع وراءه زجرًا شديدًا وضربًا وصوتًا للإبل، فأشار بسوطه وقال: ((أيها الناس، عليكم بالسكينة، فإن البر ليس بالإيضاع))، والإيضاع هو الإسراع.

وروى الشافعي في سننه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله عنه: ((يا أبا حفص، إنك رجل قوي، فلا تزاحم الناس على الركن -وهو الذي فيه الحجر الأسود- فإنك تؤذي الضعيف)).

هـ- ومن الوقاية من الأضرار عامة جاء الأمر بقتل الحشرات والحيوانات المؤذية، وأمر الرسول بحماية الأطفال من الخروج ليلًا إلى الطرقات حيث تسبح الحشرات المؤذية، كما أمر عند خوض المعركة باستعمال الأدوات الواقية، كالدرع والخوذة، ومن ذلك توفير الأمن من الحريق في المصانع وغيرها بإعداد أدوات الإطفاء.

هذه بعض الصور التي جاء بها الدين من أجل الوقاية من الأخطار التي يتسبب فيها الإنسان.

“الإجراء العلاجي”:

ثم بيَّنت الفتوى طريقة التعامل مع هذه الأخطار بعد وقوعها، كما بيَّنت أن الإغاثة في الكوارث واجب على كل فرد وجماعة ودولة، وأنَّ من الخطأ أن يتملص أحد من المسؤولية ويلقيها على غيره، ويتأكد التدخل السريع في حالات الخطر، وأنَّ هذا مما يجب تربية الأولاد عليه، فنصَّت على:

“وإذا نشبت الحرب أو شب الحريق أو حدث التلوث، كان العلاج في مجالين أو في حالتين، الأولى حالة وقوع الخطر، والثانية بعد وقوعه وانتهائه.

إن الحالة الثانية هي نتائج وآثار، وعلاجها يكون على النحو الذي تعالج به الكوارث الطبيعية، وقد تقدم ذلك.

أما في الحالة الأولى فيعالج الخطر بالتدخل السريع لإيقاف الحرب وإخماد النار ومنع التلوث، فالسكوت رضا، والرضا بالخطر مشاركة فيه وفي تبعاته، وقد مر حديث: ((من لم يهتم بأمر المسلمينِ فليس منهم))، كما أن السكوت معاونة على تمادي الضرر ومدرجة إلى أن يصاب بها غير من باشرها، ومنهم الساكت السلبي الذي لا يبالي، والله يقول: ﴿وَٱتَّقُواْ فِتۡنَةٗ لَّا تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمۡ خَآصَّةٗ﴾ [الأنفال: 25].

والحديث يشرح خطر السكوت على المنكر بوجه عام، فيقول: ((مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا -نستقي منه- ولم نؤذ من فوقنا… فلو تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا)) رواه البخاري.

ومعنى ((القائم في حدود الله)) المنكر لها القائم في إزالتها ودفعها، والمراد بالحدود ما نهى الله عنه. ومعنى ((استهموا)) اقترعوا.

ويتأكد التدخل إذا طلبت النجدة، فمن حق المسلم على المسلم كما جاء في الحديث: ((وإن استعان بك أعنته)) أو ((وإذا استنصرك فانصره))، وفي الحديث: ((انصر أخاك ظالما أو مظلومًا. قالوا: يا رسول الله، ننصره مظلومًا، فكيف ننصره ظالما؟ قال: ترده عن ظلمه فذلك نصر له)) رواه البخاري، وفي التحذير من التقصير جاء قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما من مسلم يخذل امرأ مسلمًا في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته)) رواه أبو داود.

وفي الحرب بالذات أمر الإسلام بالصلح بين المتخاصمين: ﴿إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ إِخۡوَةٞ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَ أَخَوَيۡكُمۡ﴾ [الحجرات: 10].

ومن قبلها جاء قول الله تعالى: ﴿وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱقۡتَتَلُواْ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَهُمَاۖ فَإِنۢ بَغَتۡ إِحۡدَىٰهُمَا عَلَى ٱلۡأُخۡرَىٰ فَقَٰتِلُواْ ٱلَّتِي تَبۡغِي حَتَّىٰ تَفِيٓءَ إِلَىٰٓ أَمۡرِ ٱللَّهِۚ فَإِن فَآءَتۡ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَهُمَا بِٱلۡعَدۡلِ وَأَقۡسِطُوٓاْۖ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ﴾ [الحجرات: 9].

والتدخل لمواجهة أمثال هذه الكوارث واجب على كل فرد وجماعة ودولة، ومن الخطأ كل الخطأ أن يتملص أحد من المسؤولية ويلقيها على غيره، ويتأكد التدخل السريع في هذه الحالات، كما تتأكد التضحية والإيثار، مع الإخلاص في هذا التدخل والشعور بأنه يقدم خدمة لنفسه كما يؤديها لغيره، فالنتيجة الضارة يعاني منها الجميع بطريق مباشرة أو غير مباشرة.

وبعد:

فهذه بعض التصورات للخطة الدينية لمواجهة الكوارث، بيَّنَّا فيها موقف الدين منها بقدر يسمح ببيان أهمية الروح الدينية في معالجة الأحداث في كل القطاعات، مؤكدين وجوب الاعتماد على الروح الجماعية التي يكون العمل على ضوئها مضاعف الأجر والثواب، وعلى الإيمان بأن قانون الأسباب والمسببات لا بد أن يراعى في كل الأنشطة وإن كان كل شيء يتم بقضاء الله وقدره ((اعقلها وتوكل)).

والواجب هو غرْسُ هذه المعاني في النفوس بكل الوسائل الممكنة للتعليم والتربية التي لا تقتصر على جهة معينة، بل يشترك فيها كل من يملك أي قدر من القدرة على نشرها، وعلى التمرين على تطبيقها، مع الأخذ في الاعتبار أهمية البيت في هذا المجال، ففيه تغرس القيم، وتطبق بشكل أقوى إن كان المشرفون عليه على مستوًى من التعليم والتديُّن يتناسب مع خطورة تنشئة الأجيال وإعدادها للمستقبل، كما لا يخفى دَور المدرسة ومؤسسات التوجيه وبيوت العبادة في هذا الواجب، والمهم أن تكون كلها متعاونةً تسير في خط واحد، لا يتخلف أحدها ولا يسير في اتجاه مضاد، وإذا صدقت النية وخلص العمل هان الأمر وتحقق الغرض”([26]).

فقد أوضحت الفتوى قيمة الإيجابية، وخطورة أن يتصفَ بالسلبية واللامبالاة والتخلي عما يحتاجونه وقت الأزمات، والإيجابية من الوسائل المهمة في الحفاظ على النفوس.

كما أن الفتاوى كانت سريعةَ التعامل مع الأخطار الحديثة والمتجددة والتي لم تكن موجودة من قبل، وأكبر مثال لذلك هو تعامل دار الإفتاء المصرية مع وباء كورونا، وقد أصدرت دار الإفتاء المصرية كل الفتاوى اللازمة لمن تعرض لهذا الوباء وللمتعاملين معهم ولعموم الناس في مختلف الأماكن والمجالات.

وقد كان من ضمن هذه الفتاوى ما يختصُّ بكيفية التعامل مع هذا الفيروس من جهة وقاية النفوس وعدم تعريضها للخطر الذي يمكن أن ينجم عنه.

وقد بيَّنت الفتوى خطورة هذا الفيروس وكيفية انتقاله وموقف منظمة الصحَّة العالمية منه، كما بيَّنت موقف القانون المصري من الأمراض المعدية وطريقة التعامل معها، فنصَّت على: 

“اطلعنا على الطلب المُقدَّم بتاريخ: 20/ 2/ 2020م، والمتضمن: اجتاح فيروس كورونا بعض مدن الصين وانتقل لدول أخرى، ومات بسببه الكثير من الأشخاص من المسلمين وغيرهم. فما حكم الدخول إلى بلد انتشر فيه فيروس كورونا، أو الخروج منه؟ وهل يحرم الخروج إذا كان للمداواة؟

الجواب:

من أسباب الإصابة بفيروس “كورونا” الوبائي انتقالُه عن طريق العدوى بين الأشخاص من خلال الجهاز التنفسي، أو المخالطة عن قرب دون اتخاذ تدابير الوقاية والنظافة، وكان هذا عاملًا قويًّا في انتشار هذا الفيروس في مدن الصين وغيرها، وأثَّر ذلك في ارتفاع أعداد الإصابات وتضاعف حالات الوفيات حتى استوجب ذلك إعلان منظمة الصحة العالمية (WHO) حالة طوارئ صحية عمومية باعتباره وباءً عالميًّا، حتى أعلن بعض المسؤولين أن فيروس الكورونا يُمثِّلُ حربًا صحية.

وقد أوصت منظمة الصحة العالمية الأشخاص القادمين من المناطق التي تشهد خطرًا شديدًا -كمدينة ووهان الصينية وغيرها- معرفة الأعراض الرئيسية التي أوضحتها السلطات الصحية، وطلب المشورة الطبية، وأوصت المنظمة أيضًا السلطات الصحية بالعمل مع قطاعات السفر والنقل والسياحة لتزويد المسافرين بالمعلومات اللازمة للحد من خطر الإصابة بالعدوى التنفسية من خلال العيادات الصحية ونحوها.

وقد نصَّت المادة (10) من القانون المصري رقــم 137 لسنة 1958م بشأن الاحتياطات الصحية للوقاية من الأمراض المعدية مع عدم الإخلال بأحكام القانون رقم 44 لسنة 1955م في شأن إجراءات الحجر الصحي: أنه يجوز لوزير الصحة العمومية أن يصدر القرارات اللازمة لعزل أو رقابة أو ملاحظة الأشخاص والحيوانات القادمة من الخارج، كما يصدر القرارات التي تحدد الاشتراطات الصحية الواجب توافرها لدخول البضائع أو الأشياء المستوردة من الخارج لمنع انتشار الأمراض المعدية.

وقد منعت السلطات المصرية منذ أيام حركة السفر والانتقالات، وأعلنت الحجر الصحي للمواطنين.

والعدوى -كما يعرفها قطاع الطب الوقائي بوزارة الصحة- هي: انتقال الكائن المسبب لها من مصدره إلى الشخص المعرض للإصابة، وإحداث إصابة بالأنسجة قد تظهر في صورة مرضية (أعراض) أو لا. وهو ما عرف به العلماء في كثير من الأمراض الوبائية: كالجُذام، والجرب، والجدري، ونحو ذلك؛ قال الإمام الطيبي في “الكاشف عن حقائق السنن” (9/ 2979، ط. مكتبة نزار الباز): (العدوى: مجاوزة العلة من صاحبها إلى غيره، يقال: أعدى فلانٌ فلانًا من خلقه أو من علة به، على ما يذهب إليه المتطببة في علل سبع: الجذام، والجرب، والجدري، والحصبة، والبخر، والرمد، والأمراض الوبائية)” اهـ.

وقد بيَّنت الفتوى أنَّ الإسلام قد سبق في بيان نظم الاحتراز من الأمراض، وإجراءات الوقاية من العدوى، وسردت الأدلة على ضرورة اتخاذ هذه الإجراءات، فنصَّت على:

“وقد سبق الإسلام إلى نُظُمِ الاحتراز من الأمراض وإجراءات الوقاية من العدوى، فأمرت الشريعةُ الإنسانَ بالابتعاد عن أسباب المرض والعدوى، ونهته عن التعرُّض للخطر: فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((فِرَّ مِنَ المَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ)) أخرجه الإمام البخاري في “صحيحه”، وفي رواية: ((اتَّقُوا الْمَجْذُومَ كَمَا يُتَّقَى الْأَسَدُ)) أخرجه ابن وهب في “الجامع”، والفاكهي في “فوائده”، وأبو نعيم في “الطب النبوي”، وابن بشران في “أماليه”.

قال الإمام زين الدين المناوي في “فيض القدير” (1/ 138، ط. المكتبة التجارية الكبرى): (أي: احذروا مخالطته وتجنبوا قربه وفروا منه كفراركم من الأسود الضارية والسباع العادية) اهـ. وبما أن فيروس “كورونا” مرض عمَّ الكثير من الناس، فهو بذلك يُمَثِّلُ مرضًا وبائيًّا أشبه بالطاعون؛ فالوباء: هو المرض العام في جهة من الجهات دون غيرها، المخالف للمعتاد من الأمراض في سائر الأوقات. والطاعون: هو المرض العام، والوباء الذي يفسد له الهواء، فتفسد به الأمزجة والأبدان: قال الإمام الباجي في “المنتقى شرح الموطأ” (7/ 198، ط. دار السعادة): (الوباء: هو الطاعون، وهو مرض يعم الكثير من الناس في جهة من الجهات دون غيرها، بخلاف المعتاد من أحوال الناس وأمراضهم، ويكون مرضهم غالبًا مرضًا واحدًا، بخلاف سائر الأوقات، فإن أمراض الناس مختلفة) اهـ. وقال العلامة ابن الأثير في “النهاية” (مادة “طعن”): (والطاعون: المرض العام، والوباء الذي يفسد له الهواء، فتفسد به الأمزجة والأبدان) اهـ.

ولذلك شابَهَ الوباءُ الطاعونَ من هذه الجهة، وأخذ حكمه عند كثير من المحققين؛ فالطاعون على وزن فاعول، من الطعن، غير أنه عُدِلَ عن أصله ووُضعَ دالًّا على الموت العام المسمى بالوباء، كما قال الحافظ بدر الدين العيني في “عمدة القاري” (16/ 58، ط. دار إحياء التراث العربي). وقال أيضًا (14/ 129): (وإنما سمي طاعونًا لعموم مصابه وسرعة قتله، فيدخل فيه مثلُه مما يصلح اللفظُ له) اهـ. فيدخل تحت الطاعون ما كان في معناه من الآيات المخوفة، وما يكثر منه الموت: كالسعال، والريح، ونحو ذلك؛ قال العلامة العَدَوي المالكي في “حاشيته على كفاية الطالب الرباني” (2/ 492، ط. دار الفكر): (وقيل: كل ما يكثر منه الموت كالسعال، والريح، لا خصوص الطاعون)” اهـ.

كما بيَّنت الفتوى نهي الشرع الشريف عن الدخول إلى أرض انتشر فيها الوباء أو الأمراض شديدة العدوى، كما بيَّنت السند الشرعي لموضوع الحجر الصحي وعدم الخروج من البلد التي فشا فيها الوباء إلا لضرورة، فنصت على:

“وقد نهى الشرع الشريف عن الدخول إلى أرضٍ فشا فيها الوباء وانتشرت فيها الأمراض كالطاعون ونحوه من الأوبئة العامة؛ حمايةً للإنسان، وحفاظًا عليه من التعرُّض للتلف، ونهى أيضًا عن الخروجِ منها فرارًا من هذا المرض؛ إثباتًا للتوكل على الله تعالى والتسليم لأمره وقضائه، وهو ما يُعرف الآن على مستوى المنظمات باسم الحَجْرِ الصحي: فعن أسامة بن زيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((الطَّاعُونُ رِجْزٌ أَوْ عَذَابٌ أُرْسِلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَوْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ)) متفقٌ عليه. قال الإمام الخطابي في “معالم السنن” (1/ 299، ط. المطبعة العلمية): (في قوله: ((لَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ)) إثبات الحذر والنهي عن التعرض للتلف، وفي قوله: ((لَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ)) إثبات التوكل والتسليم لأمر الله وقضائه، فأحد الأمرين تأديبٌ وتعليم، والآخر تفويضٌ وتسليم) اهـ. قال الإمام ابن عبد البر في “التمهيد” (12/ 260، ط. وزارة أوقاف المغرب):  (وفيه عندي -والله أعلم- النهي عن ركوب الغرر والمخاطرة بالنفس والمهجة؛ لأن الأغلب في الظاهر أنَّ الأرض الوبيئة لا يكاد يسلم صاحبها من الوباء فيها إذا نزل بها، فنهوا عن هذا الظاهر إذ الآجال والآلام مستورة) اهـ. وحينما اعترض أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه على الصحابة في رجوعهم عن الشام لمَّا أن نزل بها الوباء، وقال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: أفِرارًا من قدر الله؟ قال له عمر رضي الله عنه: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة! نعم، نفرُّ من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل هبطت واديًا له عدوتان إحداهما خصبة، والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فقال: إن عندي في هذا علمًا؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ، فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا، فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ)) قال: فحمد الله عمر، ثم انصرف. أخرجه الإمام البخاري في “صحيحه” من حديث مُطَوَّلٍ عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.

قال القاضي عياض في “إكمال المعلم” (7/ 132، ط. دار الوفاء): وقول عمر رضي الله عنه له: “لو غيرك قالها يا أبا عبيدة” يريد من ليس عنده من العلم ما عندك، وأن رجوعي ليس بفرار من قدر، ولكنه أخذ بالحذر والحزم الذي أمرنا الله به.. وأن هذا من الانتقال من وجهٍ إلى وجهٍ، لا فرق بينه وبين الانتقال من القدوم على الوباء أو الرجوع؛ إذ لا يكون من هذا كله إلا ما قدَّره الله، لكن على الإنسان طلب الأسباب والاكتساب، وهو مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ))([27])، وقوله: ((اعْقِلْهَا وَتَوَكَّل)) اهـ.

أما إذا كان الخروج من البلد المنتشر فيه الوباء لغرضٍ آخر غير الفرار كالعلاج ونحوه فقد أجازته الشريعة الغرَّاء، ونص عليه جماهير العلماء: فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفرٌ مرضى، من حي من أحياء العرب، فأسلموا وبايعوه، وقد وقع الموم وهو: البرسام -الجدري الشديد- فقالوا: يا رسول الله: هذا الوجع قد وقع، لو أذنت لنا فخرجنا إلى الإبل فكنا فيها، قال: نَعَم اخرجُوا فَكُونُوا فِيها)) أخرجه الطحاوي في “شرح معاني الآثار”، ثم قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمرهم بالخروج إلى الإبل، وقد وقع الوباء بالمدينة، فكان ذلك عندنا، والله أعلم، على أن يكون خروجهم للعلاج لا للفرار)، وقال الإمام القرافي المالكي في “الذخيرة” (13/ 325، ط. دار الغرب الإسلامي): (ويجوز الخروج من بلاد الوباء لغرضٍ آخر غيرَ الفرار) اهـ. وقال الإمام ابن حجر الهيتمي في “الفتاوى الفقهية الكبرى” (4/ 10، ط. المطبعة الإسلامية): (والحاصل أن من خرج لشغل عرض له أو للتداوي من علة به طعن أو غيره: فلا يختلف في جواز الخروج له لأجل ذلك) اهـ. وقال الشيخ ابن القيم الحنبلي في “الطب النبوي” (ص: 35، ط. دار الهلال): (من لا يستغني عن الحركة كالصناع، والأجراء، والمسافرين، والبرد، وغيرهم، فلا يقال لهم: اتركوا حركاتكم جملة، وإن أمروا أن يتركوا منها ما لا حاجة لهم إليه، كحركة المسافر فارًّا منه، والله أعلم) اهـ.

غير أن الخروج هنا مرتبطٌ بالقوانين واللوائح المنظمة لحركة السفر والانتقالات بين الدول، وقد بيَّنا أن السلطات المصرية منعت حركة السفر والانتقالات، وأعلنت الحجر الصحي للمواطنين، ولذلك فلا يكون هناك خروج للمداوة أو نحوها إلَّا بالرجوع إليها. ويسري ذلك أيضًا على المدن والمحافظات الداخلية، فإن التنقل من خلالها لا بد أن يكون عن طريق الجهات المختصة.

وبناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فإن فيروس “كورونا” ينتقل من المُصاب إلى غيره بالعدوى عن طريق الجهاز التنفسي، أو مخالطة المصابين أو أماكن تواجدهم، وينبغي على الإنسان أن يتجنب دخول البلد الذي انتشر فيه هذا الفيروس حماية له وحفاظًا عليه، وقد نهى الشرع عن الدخول للبلد الذي انتشر فيه المرض الوبائي كالطاعون ونحوه، أما الخروج من بلد انتشر بها الوباء فيجوز له الخروج ما لم يكن بقصد الفرار، بأن كان للمداواة، أو لغرضٍ آخر غيرَ الفرار، ما دام لا يخالف اللوائح والأنظمة المتفق عليها بين الدول، خاصة في الفترة الراهنة”([28]).

ومن صور الإيجابية في حفظ النفوس إعمال منظومة فروض الكفاية، سواء في جانب كف الظالم عن ظلمه، أو في مجال ضمان الكفاية المجتمعية والتي هي الأساس في استتباب حالة الأمن، والتي هي الضمانة الكبرى لسلامة النفوس والأرواح.

كما أن من فروض الكفايات إيجاد الخبرات والمهارات التي تضمن القيام بالأعمال المختلفة دون أن يترتب عليها ضرر على الأنفس والممتلكات، كوجود الأكفاء في مجالات الكهرباء والمباني، والطرق، والسيارات وغيرها.

ومن ذلك وجود الكفاءات الماهرة في مجال الطب وهو سبب مباشر في حفظ الأرواح.

ابتدع الإسلام نظامًا فريدًا يسمى بفرض الكفاية، وهو نظام له شق مالي وشق عقائدي، وهو نظام ملزم للمجتمع للقيام ببعض الفروض التي تمثل ركنا من الأركان التي يقوم عليها المجتمع الإسلامي، والتي لا يمكن أن يخلوَ المجتمع من وجودها، ولذلك يجب أن تؤدى ببعض أفراد المجتمع رفعًا للإثم عن المجتمع ككل، والشق المالي من فرض الكفاية يتكاتف فيه المجتمع ككل في توفير الحياة الكريمة للعاجز عن الوصول إليها.

ولما كان الإنسان بطبيعته يعجز عن القيام بحاجاته دون معونة من باقي أفراد المجتمع، كما قال تعالى: ﴿يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمۡۚ وَخُلِقَ ٱلۡإِنسَٰنُ ضَعِيفٗا﴾ [النساء: 28]، كان لا بد من تعاون المجتمع فيما بينه، تمشيًا مع الفطرة التي تقضي بالتعاون لتحقيق الحاجات الأساسية التي تعتمد الحياة عليها، فضلًا عن أن بعض الغايات الشرعية الكبرى لا تقوم إلا بمثل هذا التعاون الجماعي، وهي الغايات التي تتعلَّق بالمصالح العامة، ولذلك فقد جعل الشارع هذا النوع من الغايات من فروض الكفاية التي يتولى الجميع مسؤولية القيام به.

وعدم قيام الجماعة بواجبها تجاه الفرد من خلال فروض الكفاية ينتج عنه الكثير من الآثار السلبية، وأولها عجزه عن الوفاء بمتطلبات حياته اليومية، مما قد يدفعُه إلى التفكير في الوصول إليها بطرق محرَّمة تصل ببعض ضعاف الدين إلى القتل أو الخطف، أمَّا في جانب الدول والمجتمعات فإن أثر عدم قيامها بتوفير حاجاتها الأساسية يدعوها إلى الإفراط في استيراد الأجهزة والتقنيات الرئيسية الفاعلة، وعدم قدرة الدولة على التصدي للأمراض المنتشرة، وعجزها عن التخلُّص من المخلفات الضارة بالبيئة في البر والبحر والجو، وهو ما يمثل تهديدًا للنفوس والأرواح.

وقد صدرت فتوى من دار الإفتاء المصرية تحثُّ على الإيجابية فيما تحفظ به الأرواح، ومن ذلك أنَّه يجب على كل من يشتري شرائح الهاتف المحمول أن يقوم بتسجيل البيانات المطلوبة، ويجب على مسؤولي شركات المحمول وموظفيها وموزعيها وبائعي شرائحها وخطوطها أن يحرصوا على تسجيل البيانات الصحيحة لجميع الخطوط بلا استثناء، ويحرم شرعًا على كل مَن له دورٌ إداري أو إجرائي أو تنظيمي في تفعيل هذه الشرائح والخطوط وتشغيلها أن يقوم بذلك قبل أن يستكمل كافة الإجراءات؛ وذلك لما يترتب عليه ذلك من تعريض أرواح الأبرياء للخطر من خلال التفجيرات بواسطة هذه الشرائح فنصت على:

“ما حكم بيع الخطوط المجهولة البيانات والخطوط ذات البيانات الخاطئة؟ وما حكم كل من يعمل ويساعد على تفعيل هذه الخطوط من أول بائع الرصيف، حتى المدير التنفيذي للشركة؛ حيث إن القنابل التي تلقى هنا وهناك يتم تفجيرها من خلال خط أو شريحة مجهولة البيانات أو بيانات خاطئة قامت إحدى الشركات بتفعيلها دون التأكد من بياناتها على حساب الدم؟

الجواب:

الحفاظ على النفس والأمن الفردي والمجتمعي مقصد مِن المقاصد الشرعية، وهو إحدى الكليات الخمس العليا في الشريعة الإسلامية، ولذلك جعلت الشريعة الأصل في الدماء والفروج هو الحرمة، وسنَّت من الأحكام والحدود ما يكفل الحفاظ على نفوس الآدميين، ويحافظ على استقرار المجتمعات، وسدَّت من الذرائع ما يمكن أن يمثل خطرًا على ذلك حالًا أو مآلًا، ولم يُحرِّم الإسلام شيئًا إلَّا حرَّم ما يوصل إليه؛ فقد تقرَّر في قواعد الشريعة أن حَرِيمَ الحرامِ حرامٌ، وأن للوسائل أحكامَ المقاصد، فوسيلة الحرام حرام، ووسيلة الواجب واجبة إذا تعيَّنت سبيلًا لأدائه… وهكذا.

وفي إطار سعي الشرع الشريف لإقرار الأمن المجتمعي والحفاظ على الأرواح خوَّل للحاكم أن يتخذَ من التدابير والإجراءات واللوائح ما يمكنه من تحقيق مقاصد حفظ النفس والعقل والعرض والمال والدين، فالأمر بتحقيق هذه المقاصد أمرٌ بتحصيل وسائلها؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والقاعدة العامة في تصرفات ولي الأمر أنها منوطة بالمصلحة، ومعنى كونها منوطة بالمصلحة: أنها لا تجوز بمحض الهوى والتشهي ومجرد الانتقاء، بل لا بد أن تكون مُغَيَّاةً بمصلحة عاجلة أو آجلة لجماعة المحكومين.

ولا يخفى أنَّ التزام شركات المحمول وبائعي خطوطها باللوائح التي تحتِّمُ عليهم تسجيل بيانات الشرائح والخطوط واستيفاء كامل الإجراءات في ذلك قبل تفعيلها وتشغيلها، وعدم اعتماد بيانات خاطئة لها -هو أمرٌ في غاية الأهمية؛ وذلك لقطع الطريق أمام من يستخدمها في أغراض غير مشروعة، ولسد الأبواب أمام من يحاول التوصل من خلالها إلى ارتكاب فساد أو جريمة؛ حيث صارت تُستَعمَل في الشر كما هي في الخير أيضًا؛ فارتُكِبَت مِن خلالها المعاكسات وإفساد العلاقات الزوجية والاختطاف والجرائم والسرقات والتفجيرات القاتلة، وذلك كله دون معرفة للفاعلين الذين يستخدمونها عارية عن البيانات أو ببيانات خاطئة قصدًا لإخفاء جرائمهم، وكل ذلك مناف لمقاصد الشريعة الكلية؛ من حفظ الأعراض والدماء، ولولا وجود خطوط غير مسجلة لانسدت أبواب كثير من أبواب هذه الجرائم أمام فاعليها؛ ولذلك فقد أصبحت المحافظة على تسجيل البيانات الصحيحة لكل شريحة واجبًا شرعيًّا؛ لتعيُّنه سبيلًا لقطع الطريق على الجرائم والمفاسد التي تُرتَكَب من خلال الشرائح المجهولة.

ولَمَّا كان في تفعيل هذه الخطوط وتشغيلها دون تسجيل بياناتها الصحيحة تسهيلٌ لما يمكن أن يرتكب من خلالها من فساد وجرائم صارت المساهمة في ذلك على خلاف اللوائح التي فرضتها جهة الإدارة حرامًا شرعًا، بل إنه يُعَدُّ نوعَ مشاركة في إثم هذه الجرائم والمفاسد التي تُرتَكَب بسبب تفعيلها من غير استيفاء تامٍّ لبياناتها.

وعليه فيجب على كل من يشتري شرائح الهاتف المحمول أن يقوم بتسجيل البيانات المطلوبة، ويجب على مسؤولي شركات المحمول وموظفيها وموزعيها وبائعي شرائحها وخطوطها أن يحرصوا على تسجيل البيانات الصحيحة لجميع الخطوط بلا استثناء، ويحرم شرعًا على كل مَن له دورٌ إداري أو إجرائي أو تنظيمي في تفعيل هذه الشرائح والخطوط وتشغيلها أن يقوم بذلك قبل أن يستكمل كافة الإجراءات التي تُلزِمُه بها اللوائحُ وجهة الإدارة والقوانين المنظمة لها، وإلا عُدَّ مشاركًا في إثم الجرائم والمفاسد التي تمارس تحت ستار البيانات المجهولة والخاطئة؛ فإنه لولا تشغيل الشريحة لما حصلت الجريمة؛ وذلك كله حتى يمكن قطع الطريق على من يحاولون استخدامها في الإفساد والجرائم والتفجيرات وأعمال الإرهاب والقتل؛ ليتحملوا هم وحدهم مسؤوليتهم على ما فعلوا وحتى يمكن حسابهم على جرائمهم وإفسادهم([29]).

ومن صور الإيجابية تكاتف المجتمع كله في الحفاظ على أسباب الحياة من باب حفظ النفوس من جانب الإحياء؛ وذلك بالمحافظة على الموارد الطبيعية التي بها قوام الحياة، ولأن شح هذه الموارد وقلتها من الأسباب الأساسية في تبادل الاعتداء على النفوس طمعًا في الاستئثار بهذه الموارد.

ويدخل في  كل شيءٍ يحيط بالإنسان ويمثل موردًا من موارد الرزق أو على العكس يكون سببًا في أذاه إذا تعرض له أحد بالإفساد أو التغيير بحيث يؤثر على الصحة، فيشمل بذلك المدينة بكاملها شوارعها وأنهارها ومساكنها وشواطئها وآبارها، كما تشمل كل ما يتناوله الإنسان من شرابٍ وطعامٍ، وكل ما يُرتدى من اللباس، بالإضافة إلى العوامل الكيميائية والجوية وغير ذلك، ووصفها البعض بأنها مجموعةٌ من الأنظمة التي تتشابك مع بعضها البعض لدرجة التعقيد، والتي تحدد بقاء الإنسان، وتؤثر عليه، وتتعامل وفق نظامٍ متكاملٍ متوازنٍ دقيقٍ.

والمبدأ الذي قرَّره القرآن أن موارد الكون ملك للبشرية كلها، ومن ثم فإن مهمة الحفاظ على مقدرات الكون تقع على كاهل كل إنسان، والآيات والأحاديث التي تحثُّ على الحفاظ على الموارد الطبيعية وتنميتها لم تحدد لذلك زمانًا ولا مكانًا بل جاءت مطلقة، ومن هذا المنطلق يكون الحفاظ على مقدرات الطبيعة من مقاصد العلاقات الدولية في الإسلام.

وهذا المبدأ هو ما قرره تعالى في قوله: ﴿هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰٓ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّىٰهُنَّ سَبۡعَ سَمَٰوَٰتٖۚ وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ﴾ [البقرة: 29].

وقال العلامة أبو زهرة في تفسير هذه الآية: “أي أنه سبحانه وتعالى خلق لكم معشر بني آدم الأرض، وما فيها جميعًا، خلق لكم كل ما في الأرض من ثمرات وزروع تنبت بإذن الله تعالى، وما يستنبطون من فلزات، ومعادن سائلة وجامدة، خلق لكم جميعًا كل ما في الأرض مما حوت بطونها، وجرت به أنهارها، ونزَّل من السماء ماءها. ومعنى ﴿لَكُم﴾ اللام فيه للاختصاص أو التمليك، خلقه مملوكًا لكم بتمليك ربكم، وهذا من آلائه ونعمه عليكم، أو نقول: خلق وقدَّر وأنشأ كل ما في الأرض جميعه لأجل أن تنتفعوا به؛ تستطيبون طيباته، وتتركون خبائثه، وجاءكم بالشرائع التي تبين لكم الطيب فتتناولونه مباحًا لكم حلالًا طيبًا، وتبين الخبائث لتجتنبوها، فأنتم في نعم الله دائمًا في هذه الأرض، جعلها فراشًا، وملأها بالنعم على ظاهرها، وفيما اكتنزته بطونها، وبين الطيب ليميز عنه الخبيث”([30]) اهـ.

وقد تناول التشريع الإسلامي أحكامًا أساسية في المحافظة على البيئة لم تعرف قبله على مر عصور التاريخ، وهو ما يعتبر ريادةً مطلقةً للتشريع الاسلامي، كما تناول التشريع مسؤولية أبناء المجتمع المسلم في المحافظة على البيئة بكل مكوناتها على الرغم من أنه لم يثبت تاريخيًّا وجود مشكلة التلوث زمن البعثة النبوية أو قبلها، بل إن هذه المشكلة لم تعرف في العالم كله قبل الحرب العالمية في ثلاثينيات القرن الماضي، وهو ما يثبت أنه تشريعٌ من لدن حكيم عليم، ومع ذلك تناول التشريع الإسلامي المحافظة على البيئة، وهو ما يثبت سبق التشريع الإسلامي في هذا الخصوص والريادة المطلقة له في هذا المضمار.

وموقف الإسلام تجاه البيئة والحفاظ على الموارد الطبيعية لا يتوقف عند حظر الاستغلال المفرط، ولكنه يمتدُّ ليأمرَ بتعهد هذه الموارد بالتنمية المستدامة، وهذا ما أوصى به القرآن الكريم وأوصت به السُّنة النبوية، فقد قرَّر القرآن أنَّ الإنسانَ خليفة الله في أرضه، والخلافة تعني القيام على الأرض بما يصلحها، قال تعالى: ﴿وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَكُمۡ خَلَٰٓئِفَ ٱلۡأَرۡضِ وَرَفَعَ بَعۡضَكُمۡ فَوۡقَ بَعۡضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَبۡلُوَكُمۡ فِي مَآ ءَاتَىٰكُمۡۗ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ ٱلۡعِقَابِ وَإِنَّهُۥ لَغَفُورٞ رَّحِيمُۢ﴾ [الأنعام: 165].

ومن الأمور التي حذَّر الله منها من أجل المحافظة على البيئة والتي تؤدِّي إلى إفسادها: الإسراف؛ لأنَّ هذا الفعل يؤدي إلى استنزاف الموارد الطبيعية التي وهبها الله لنا، ومن يقوم بتبديد هذه الموارد عبثًا آثمٌ في الإسلام، قال تعالى: ﴿يَٰبَنِيٓ ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمۡ عِندَ كُلِّ مَسۡجِدٖ وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ وَلَا تُسۡرِفُوٓاْۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِينَ﴾ [الأعراف: 31]، وقال: ﴿كُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ مِن رِّزۡقِ ٱللَّهِ وَلَا تَعۡثَوۡاْ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِينَ﴾ [البقرة: 60]، وقال تعالى أيضًا محذِّرًا من الإسراف والمسرفين ومبيِّنًا أنَّ المسرفين يفسدون الأرض والبيئة فيها: ﴿وَلَا تُطِيعُوٓاْ أَمۡرَ ٱلۡمُسۡرِفِينَ ١٥١ ٱلَّذِينَ يُفۡسِدُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا يُصۡلِحُونَ﴾ [الشعراء: 151، 152].

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ حُبْشِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ قَطَعَ سِدْرَةً صَوَّبَ اللهُ رَأْسَهُ فِي النَّارِ))([31]) اهـ.

وقد نهى النبي عن أن يبول إنسان في مصدر للمياه أو في الطريق أو في ظل أو في جحر، وهذه القيم تظهر اهتمام الإسلام بتجنب تلوث الموارد الحيوية.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ))([32]) اهـ.

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْجُحْرِ، وَإِذَا نِمْتُمْ فَأَطْفِئُوا السِّرَاجَ، فَإِنَّ الْفَأْرَةَ تَأْخُذُ الْفَتِيلَةَ فَتَحْرِقُ أَهْلَ الْبَيْتِ، وَأَوْكِئُوا الْأَسْقِيَةَ، وَخَمِّرُوا الشَّرَابَ، وَغَلِّقُوا الْأَبْوَابَ بِاللَّيْلِ))([33]) اهـ.

عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ، إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ))([34]) اهـ.

على أن من الإيجابية إماطة الأذى عن طريق الناس.

وقد أصدرت دار الإفتاء المصرية فتوى عن حكم إلقاء القمامة والحيوانات النافقة في مياه النيل، وتبين فضل إماطة الأذى عن الطريق، وأنَّ من آداب الطريق عدمَ رمْي المخلفات في الطريق أو في المياه؛ لأن هذا كلَّه مما يتسبب في الأذى وتعريض الأرواح للخطر؛ فنصَّت على:

“حكم إلقاء القمامة والحيوانات النافقة في مياه النيل والترع.

الجواب:

حرصَ الإسلامُ على النظافةِ، وحثَّ أتباعه على اقتفائها، وشَرَع لهم من العبادات ما يحقِّق هذه الغاية، وهذا يأتي في سياق أن الدين الإسلامي قد وضع ضوابطَ وآدابًا تَصون كرامةَ الفرد، ويُراعَى فيها شعور المجتمع وتحميه من كل أذى وعدوان، ومن ذلك آداب الطريق التي حثَّنا عليها سيدنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ فِي الطُّرُقَاتِ، قالوا: يا رسول الله، ما لنا من مجالسنا بُدٌّ نتحدث فيها، قال: فَأَمَّا إِذْ أَبَيْتُمْ إِلَّا الْمَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ، قالوا: يا رسول الله، فما حق الطريق؟ قال: غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ)) متفق عليه.

كما حثَّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على إماطة الأذى عن الطريق؛ ففي الحديث الصحيح: ((وَتُمِيط الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ)) متفق عليه.

وفي صحيح مسلم من حديث أبي برزة رضي الله عنه، قال: ((قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، عَلِّمْنِي شَيْئًا أَنْتَفِعُ بِهِ، قَالَ: اعْزِلِ الأَذَى عَنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ))؛ أي: أزله من طريقهم؛ حتى تترك للسائرين في الطريق حقهم في السير.

ومن تلك الآداب: الحفاظُ على الماء، فقد جعله الله تعالى أصل الحياة، قال تعالى: ﴿وَجَعَلۡنَا مِنَ ٱلۡمَآءِ كُلَّ شَيۡءٍ حَيٍّۚ أَفَلَا يُؤۡمِنُونَ﴾ [الأنبياء: 30].

وسخَّر الله تعالى الماء للإنسان؛ فقال سبحانه: ﴿ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجَ بِهِۦ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزۡقٗا لَّكُمۡۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلۡفُلۡكَ لِتَجۡرِيَ فِي ٱلۡبَحۡرِ بِأَمۡرِهِۦۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلۡأَنۡهَٰرَ﴾ [إبراهيم: 32].

وقال تعالى: ﴿وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن مَّآءٖ فَأَحۡيَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٖ﴾ [البقرة: 164].

وقد بلغ من حرْص الشريعة على الحفاظ على الماء أنْ أمرَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحفظ الشَّرَاب ليلًا، فقال: ((غَطُّوا الْإِنَاءَ، وَأَوْكُوا السِّقَاءَ، وَأَغْلِقُوا الْبَابَ، وَأَطْفِئُوا السِّرَاجَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَحُلُّ سِقَاءً، وَلَا يَفْتَحُ بَابًا، وَلَا يَكْشِفُ إِنَاءً، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ إِلَّا أَنْ يَعْرُضَ عَلَى إِنَائِهِ عُودًا، وَيَذْكُرَ اسْمَ اللهِ، فَلْيَفْعَلْ، فَإِنَّ الْفُوَيْسِقَةَ تُضْرِمُ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ بَيْتَهُمْ)) متفق عليه.

ومعنى: ((أَوْكُوا السِّقَاءَ)) أَي: اربطوه؛ حتى لا يقع فيه ما قد يؤذي الإنسان أو يَضُرُّ به أو بصحته.

كما نَهَى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يتنفس الشارب في الإناء أو ينفخ فيه، والحكمة من ذلك حماية الماء أو الطعام مما قد يَعلَق فيه من الجوف.

ومن أدبه صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يشرب على ثلاثة أنفاس، ولا يزدرد الماء في جوفه دفعة واحدة، وكان يقول: ((إِنَّهُ أَرْوَى وَأَبْرَأُ وَأَمْرَأُ)) رواه مسلم.

كما نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الإسراف في استعمال الماء، فقد: ((مرَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بِسَعْدٍ رضي الله عنه وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَقَالَ: مَا هَذَا السَّرَفُ؟، فَقَالَ: أَفِي الْوُضُوءِ إِسْرَافٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهَرٍ جَارٍ)) رواه الإمام أحمد وابن ماجه.

ومن الآداب التي أرشدنا إليها الإسلام: النهيُ عن تلويث الماء؛ فقد حذَّر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من تلويث الماء، ونهى أن يبال في الماء الراكد، والعلة في ذلك: حمايتُه من أن يكون موطنًا للأمراض والأوبئة، وهذه العلة متحققة في إلقاء الـمُخلَّفات -كالقمامة والحيوانات النافقة- في مياه النيل والترع التي يَسقِي منها الناس زَرعَهم وبهائمهم؛ لأن هذه المخلفات تُحوِّل هذه المياه إلى بيئةٍ راعيةٍ للأمراض والأوبئة.

وقد وردت أحاديثُ كثيرةٌ تدلُّ على فضائلِ ماء النيل؛ منها: ما في الصحيحين من حديث مالك بن صعصعة رضي الله عنه في حديث المعراج: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((ثُمَّ رُفِعَتْ إِلَيَّ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، فَإِذَا نَبْقُهَا مِثْلُ قِلَالِ هَجَرَ، وَإِذَا وَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الْفِيَلَةِ، قَالَ: هَذِهِ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، وَإِذَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ: نَهْرَانِ بَاطِنَانِ، وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ، فَقُلْتُ: مَا هَذَانِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: أَمَّا الْبَاطِنَانِ فَنَهْرَانِ فِي الْجَنَّةِ، وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ)).

ومنها: ما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((سَيْحَانُ وَجَيْحَانُ وَالفُرَاتُ وَالنِّيلُ كُلٌّ مِنْ أَنْهَارِ الجَنَّةِ)).

فالحديثان يدلان دلالةً واضحةً على تكريم نهر النيل، وإلقاء بقايا الطعام في مياهه فيه امتهانٌ وانتقاصٌ له، وقد حثَّنا الشرع الكريم على الحفاظ على النِّعَم من الامتهان؛ فعن أنس رضي الله عنه قال: مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتمرة في الطريق، فقال: ((لَوْلَا أَنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ لَأَكَلْتُهَا)) متفق عليه.

كما أرشدنا إلى أخذ اللقمة إذا سقطت وإماطة ما عليها وأكلها، ومن أجل ذلك فقد حرص الـمُشرِّع المصري في سنِّه للقوانين على النصِّ على ما يحمي نهر النيل والمجاري المائية من التلوث، فشرع قانونًا يفي بذلك، وهو القانون رقم 48 لسنة 1982م، والذي ينص في مادتيه الأولى والثانية على ما يلي:

المادة الأولى: تعتبر من مجاري المياه في تطبيق أحكام هذا القانون:

  1. مسطحات المياه العذبة، وتشمل:

أ- نهر النيل وفرعيه، والأخوار.

ب- الرياحات والترع بجميع درجاتها، والجنايات.

  1. مسطحات المياه غير العذبة، وتشمل:

أ- المصارف بجميع درجاتها.

ب- البحيرات.

ج- البرك، والمسطحات المائية، والسياحات.

  1. خزانات المياه الجوفية.

المادة الثانية: يحظُر صرف أو إلقاء الـمُخلَّفات الصلبة أو السائلة أو الغازية من العقارات والمحال والمنشآت التجارية والصناعية والسياحية ومن عمليات الصرف الصحي وغيرها في مجاري المياه على كامل أطوالها ومسطحاتها، إلا بعد الحصول على ترخيص من وزارة الري في الحالات ووفق الضوابط والمعايير التي يصدر بها قرار من وزير الري بناءً على اقتراح وزير الصحة، ويتضمن الترخيص الصادر في هذا الشأن تحديد المعايير والمواصفات الخاصة بكل حالة على حدة اهـ.

وبناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فإن إلقاء الـمُخلَّفات -كالقمامة والحيوانات النافقة- في مياه النيل والترع بالمخالفة للقانون في ذلك يُعَدُّ أمرًا محرَّمًا شرعًا ومجرَّمًا قانونًا، ولا يجوز للإنسان أن يرتكبَ ما يضرُّ بوطنه ويحرمه الشرع ويجرمه القانون، ولا يخفى أن في الخروج على تلك القوانين سعيًا في الأرض بالفساد.

والله سبحانه وتعالى أعلم”([35]).

ومن صور الإيجابية: الحفاظُ على حياة كبار السن والمرضى، خاصَّة من قبل هؤلاء المسؤولين عن سلامة أرواحهم.

فإذا كان هناك مريض أو كبير سن أو من يعاني من عاهة عقلية في أسرة، فإنه يجب على جميع أفراد هذه الأسرة التكاتفُ في عدم ترك هذا المريض أو كبير السن دون رعاية تكفل له الحفاظ على حياته وعدم التسبب له في الأذى.

وقد ردَّت دار الإفتاء المصرية على سؤال أحد الشباب الذي يرغب في ترْكِ أبيه وأمه المسنين من أجل الجهاد في فلسطين على خلاف رغبتهما، وأنه يحرمُ على الولد الخروجُ إلى الجهاد بغير إذنهما إذا كان فرض كفاية، تقديمًا لبرهما؛ لأنه فرض عين، وقد نصت الفتوى على: “الجواب كما في شرح الدر المختار وحاشيته وغيرهما أنَّ طاعة الوالدين فرضُ عينٍ، ولا يصحُّ ترك فرض العين للتوصل إلى فرض الكفاية، فيحرم على الولد الخروجُ إلى الجهاد بغير إذنهما إذا كان فرض كفاية، ويجوز لهما منعه منه إذا وجدا من ذلك مشقة شديدة، قال القسطلاني: والجمهور على حرمة الجهاد إذا منع الوالدان أو أحدهما منه بشرط إسلامهما؛ لأن برهما فرض عين، والجهاد فرض كفاية إذا لم يتعين. اهـ ملخصًا. قال عليه الصلاة والسلام للعباس بن مرداس لما أراد الجهاد: ((الزم أمك فإن الجنة تحت رجل أمك))، وفي صحيح البخاري عن ابن مسعود قلت: ((يا رسول الله، أي الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة لوقتها. قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين. قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله، ولو استزدت لزادني)) اهـ. فَقَدَّمَ برَّ الوالدين وطاعتهما على الجهاد، وفيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص: ((جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذن في الجهاد، فقال: أحي والداك؟ قال: نعم. قال: ففيهما فجاهد)) اهـ.

ولا يحل سفر فيه خطر إلا بإذنهما، والخطر: الإشراف على الهلاك، ومنه الجهاد اهـ.

فإذا منع الوالدان أو أحدهما من الخروج للجهاد -وهو فرض كفاية- وجبت طاعتهما، وحرمت مخالفتهما، على أنه قد روي في الصحيح عن زيد بن خالد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من جهز غازيًا في سبيل الله فقد غزا))، والتجهيز بمعنى: تهيئة أسباب سفر الغازي للجهاد تارة يكون بالمال، وتارة بالإعانة المجردة عن بذل المال، والأولى أفضل ولمن يقوم بذلك مثل أجر الغازي بنفسه، وإن لم يغز حقيقة؛ لأن الغازي لا يمكنه القيام بالغزو إلا بعد أن تهيأ له هذه الأسباب الضرورية، فصار من يهيئها له كأنه باشر الغزو بنفسه([36]).

([1]) زهرة التفاسير (5/ 2346).

([2]) مسند أحمد، ت: شاكر (8/ 172).

([3]) مسند أحمد، ت: شاكر (7/ 443).

([4]) الفتوى رقم 298 تاريخ الفتوى 6/ 25/ 1981، المفتي: فضيلة الإمام الأكبر جاد الحق علي جاد الحق.

([5]) الفتوى رقم 405، تاريخ الفتوى 29/ 10/ 1996.

([6]) الفتوى رقم 142، تاريخ الفتوى 6/ 8/ 1988.

([7]) تفسير السعدي= تيسير الكريم الرحمن (ص: 194، 195).

([8]) التحرير والتنوير (26/ 228).

([9]) الفتوى الـمُقيَّدة برقم 417 لسنة 2017م.

([10]) الفروق للقرافي (4/ 91).

([11]) الفتوى رقم 80 لسنة 2014.

([12]) رقم الفتوى 262 تاريخ الفتوى 7/ 1/ 2013م، المفتي: فضيلة الأستاذ الدكتور شوقي إبراهيم عبد الكريم علام.

([13]) قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/ 128).

([14]) صيد الخاطر (ص: 454).

([15]) مسند أحمد ت شاكر (4/ 272).

([16]) موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان، ت: حسين أسد (6/ 100).

([17]) فتوى دار الإفتاء رقم 382 لسنة 2012.

([18]) 219 لسنة 2021م.

([19]) الأسلحة الكيمائية والجرثومية والنووية ص 17، والحرب الكيمائية ص 39.

([20]) انظر: الحرب الكيمائية ص 53، أطروحة في الحرب الكيمائية والوقاية منها ص 26، والأسلحة الكيمائية والجرثومية والنووية، ص 37، والأسلحة الحيوية ص 20. الأسلحة الحيوية، د. فهمي أمين ص 21، وأسلحة الدمار الشامل (الحرب الكيمائية) للواء/ يوسف الليل ص 83.

([21]) متفق عليه: أخرجه البخاري: 3/ 1098، في باب قتل الصبيان في الحرب، من كتاب الجهاد والسير، برقم (2851)، ومسلم: 3/ 1364، في باب تحريم قتل النساء والصبيان في الحرب، من الجهاد والسير، برقم (1744)، ومالك في الموطأ: 2/ 447، في باب النهي عن قتل النساء والولدان في الغزو، من كتاب الجهاد: (964)، ولفظ البخاري: عن نافع أن عبد الله رضي الله عنه أخبره: ((أن امرأة وجدت في بعض مغازي النبي صلى الله عليه وسلم مقتولة، فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل النساء والصبيان)).

([22]) الفتوى رقم 980 لسنة 2009م.

([23]) الفتوى المقيدة برقم 823 لسنة 1997.

([24]) أخرجه مالك “2/ 894″، والبخاري “10/ 155” في الطب: باب ما يذكر في الطاعون، ومسلم “2219” في السلام، باب الطاعون والطيرة والكهانة… وفيه جاء عبد الرحمن بن عوف، وكان غائبًا في بعض خاصته، فقال: إن عندي من هذا علمًا؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وكنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه)) قال: فحمد الله عمر ثم انصرف.

([25]) أخرجه مالك “2/ 894″، والبخاري “10/ 155” في الطب: باب ما يذكر في الطاعون، ومسلم “2219” في السلام، باب الطاعون والطيرة والكهانة… وفيه جاء عبد الرحمن بن عوف، وكان غائبًا في بعض خاصته، فقال: إن عندي من هذا علمًا؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وكنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه))، قال: فحمد الله عمر ثم انصرف.

([26]) أحسن الكلام في الفتاوى والأحكام، ج6 ص632.

([27]) أخرجه البخاري في “الصحيح” “كتاب القدر، باب {وَكَانَ أَمۡرُ ٱللَّهِ قَدَرٗا مَّقۡدُورًا}، 11/ 494/ رقم 6605″، ومسلم في “الصحيح” “كتاب القدر، باب: كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه وكتابه: رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته، 4/ 2040/ رقم 2647.

([28]) الفتوى الـمُقَيَّدة برقم 64 لسنة 2020م.

([29]) الفتوى المقيدة برقم 129 لسنة 2015م.

([30]) زهرة التفاسير (1/ 187).

([31]) شرح مشكل الآثار (7/ 428).

([32]) سنن ابن ماجه، ت: الأرناؤوط (1/ 227) دار الرسالة.

([33]) مسند أحمد ط الرسالة (34/ 372).

([34]) مسند أحمد ط الرسالة (21/ 88).

([35]) الفتوى المقيَّدة برقم 274 لسنة 2015م.

([36]) 613 لسنة 48 حسنين مخلوف.

اترك تعليقاً