البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الباب الأول: اعتماد الفتوى على المنهج الشرعي المتكامل في حفظ النفوس

الفصل الخامس: بيان الفتوى لكون حرمة إيذاء النفس كحرمة إيذاء الغير

80 views

بيَّنت الفتاوى ما أرسته الشريعة من حرمة قتل الإنسان نفسه بأي طريقة، وأن إيذاء النفس كإيذاء الغير، وأن إثمها عظيم يوم القيامة، وهذا النهي عنصر من عناصر المنهج المتكامل في حفظ النفوس. وأنزلت هذه الأحكام على صورة شائكة وهي صورة الإضراب عن الطعام، فبينت أنها ملحقة بحكم قتل النفس فنصت على:

“إن كان المقصود من الإضراب عن الطعام هو مجرد الامتناع عن نوع معين من الطعام، أي عن وجبة أو أكثر في اليوم مع الإبقاء على البدن مؤهلًا قادرًا للقيام بما يُطالَب به المكلَّف من العبادة والعمارة، ويكون الدافع هو لفت الانتباه للظلم الحاصل أو الإصر الواقع، فهذا مما لا بأس به، ولا يوجد من الأدلة ما يمنعه؛ حيث إنه مظنة حصول مصلحة، بدون ارتكاب محظور ولا وقوع في معصية؛ غايتُه حرمان النفس من بعض ملذَّاتها مع الإبقاء على قوة البدن وحيويته كمطيَّة للعبادة والعمارة، وهذا جائز لا مانع شرعًا منه.

وإن كان المقصود من الإضراب عن الطعام هو الامتناعُ عن الطعام بالكلية، أو عمَّا يساعد على بقاء الحياة، ولعل هذا هو المقصود من السؤال بدليل السؤال التابع، وهو السؤال عن حكم الاستمرار حتى الموت فهو حرام، كما تدل عليه الأدلة الشرعية والقواعد الفقهية المرعيَّة؛ ذلك أن المُضرِبَ عن الطعام بهذا الوصف يكون مرتكبًا لأشد المفسدتين وأعظمهما: وهي السعي في إهلاك النفس؛ لدفع أخفهما وأدونهما وهي بقاء الظلم الواقع عليه- وهذا أمر محرم شرعًا؛ لأن ارتكاب أخف الضررين واجب.

وهذا في الحقيقة نوع من الانتحار الذي حرمه الشرع في مثل قوله تعالى: ﴿وَلَا تُلۡقُواْ بِأَيۡدِيكُمۡ إِلَى ٱلتَّهۡلُكَةِ﴾ [البقرة: 195]، ﴿وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ﴾ [النساء: 29]، وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار))، وهو حديث رواه أحمد وابن ماجه والطبراني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ورواه ابن ماجه والبيهقي عن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه، ورواه الطبراني وأبو نعيم عن ثعلبة بن أبي مالك القرظي رضي الله تعالى عنه.

ولذلك يقول الإمام أبو بكر الجصَّاص في تفسيره: “مَن ترك الطعام والشراب وهو واجدُهما حتى مات فيموت عاصيًا لله بتركه الأكل”([1]) اهـ.

وقد أصدرت دار الإفتاء المصرية فتوى تتحدَّث عن جريمة قتل النفس، وهي فتوى تبدأ ببيان عظم جريمة القتل، وجناية الإنسان على نفسه كجنايته على غيره في الإثم والعقوبة، وساقت على ذلك الأدلة من الآيات والأحاديث؛ فنصت على:

“إن قتل النفس عمدًا من أكبر الكبائر وأشدها عقوبة عند الله، وجناية الإنسان على نفسه كجنايته على غيره في الإثم والعقوبة؛ لأن نفسه ليست ملكًا له، وإنما هي ملك لله سبحانه وتعالى.

وقد ورد في كتاب الله الكريم آيات كثيرة في مواضعَ متعددةٍ تحرم قتل النفس وتفرض أشد العقوبة على فاعله من ذلك ما جاء في سورة النساء قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٖ مِّنكُمۡۚ وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِيمٗا﴾ [النساء: 29]، وقوله: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٍ أَن يَقۡتُلَ مُؤۡمِنًا إِلَّا خَطَ‍ٔٗا﴾ [النساء: 92]، وقوله: ﴿وَمَن يَقۡتُلۡ مُؤۡمِنٗا مُّتَعَمِّدٗا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدٗا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمٗا﴾ [النساء: 93]، وفي سورة الأنعام: ﴿قُلۡ تَعَالَوۡاْ أَتۡلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمۡ عَلَيۡكُمۡۖ أَلَّا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡ‍ٔٗاۖ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنٗاۖ وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَوۡلَٰدَكُم مِّنۡ إِمۡلَٰقٖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُكُمۡ وَإِيَّاهُمۡۖ وَلَا تَقۡرَبُواْ ٱلۡفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَۖ وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ﴾ [الأنعام: 151]، وفي سورة الإسراء قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۗ وَمَن قُتِلَ مَظۡلُومٗا فَقَدۡ جَعَلۡنَا لِوَلِيِّهِۦ سُلۡطَٰنٗا فَلَا يُسۡرِف فِّي ٱلۡقَتۡلِۖ إِنَّهُۥ كَانَ مَنصُورٗا﴾ [الإسراء: 33]، وغير ذلك من الآيات، كما وردت بذلك الصحاح من الحديث؛ فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من حلف بملة غير الإسلام كاذبًا متعمدًا فهو كما قال، ومن قتل نفسه بحديدة عذب بها في نار جهنم))، وفي حديث جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كان برجل جراح فقتل نفسه، فقال الله عز وجل: بدرني عبدي بنفسه، حرمت عليه الجنة))، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الذي يخنق نفسه يخنقها في النار، والذي يطعنها يطعنها في النار))، وغير ذلك كثير من الأحاديث والآثار الصحيحة الدالة على تحريم قتل النفس وبشاعته، ولشدة النكير على فاعله لم يرد في الشريعة الإسلامية ما يبيحه أو يخفف عقوبته لأي سبب من الأسباب، ولا لأي ظرف من الظروف مهما كان خطره، ومهما كانت النتائج المترتبة عليه، حتى نص الفقهاء على أن الإنسان إذا أكره بقتل نفسه على قتل نفس شخص آخر فقتله، فهو آثم”.

كما بيَّنت الفتوى أنَّ من قتل نفسه بشيء عذب به في نار جهنم، وأن قتل الشخص نفسه لأي سبب من الأسباب أو تحت أي ظرف من الظروف مهما كان خطره والنتائج المترتبة عليه محظورٌ في الشريعة الإسلامية، وأنَّه لا يحل للرجل قتل نفسه تخلُّصًا مما هو فيه من تعذيب شديد واضطهاد، فنصت على:

“وهذه سيرة السلف في تعذيبهم واضطهادهم للتخلي عن الإسلام والنطق بكلمة الكفر، وفي حروبهم وتعرُّض بعضهم لما لا تطيقه النفس البشرية لم نسمع ولم نَرَ أن أحدًا منهم أقدم على قتل نفسه للتخلُّص مما هو فيه من تعذيب شديد واضطهاد، وقد سئل الإمام ابن تيمية عن رجل له مملوك هرب ثم رجع، فلما رجع أخذ سكينته وقتل نفسه، فهل يأثم سيده؟ وهل يجوز عليه الصلاة؟ فأجاب: إنه لم يكن له أن يقتل نفسه وإن كان سيده قد ظلمه واعتدى بأي وسيلة، بل كان عليه إذا لم يمكنه رفع الظلم عن نفسه أن يصبر إلى أن يفرج الله… إلى آخر ما جاء بهذه الفتوى.

ومن هذا كله يتبين أن الإنسان لا يجوز له بحال من الأحوال مهما كانت الظروف والدواعي أن يقتل نفسه.

ومن ذلك ما جاء بحادثة هذا السؤال؛ فإنه إذا وقع أحد من المحاربين في الأسر فإنه لا يجوز له أن يقتل نفسه، والواجب عليه شرعًا أن يصبرَ على التعذيب ويكتم سره، ولعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا، ويكون في ذلك المثوبة الكبرى له لإرضائه لربه ورسوله ودينه ووطنه، ولا حرج عليه شرعا أن يدلي للعدو بأقوال غير صحيحة تضليلًا له وللكف عن تعذيبه؛ لأن الكذب في الحروب مباح شرعًا كما وردت بذلك الآيات والأحاديث”([2]).

([1]) الفتوى رقم 172 لسنة 2007، دار الإفتاء المصرية.

([2]) الفتوى رقم 585 تاريخ الفتوى 13/ 2/ 1956.

اترك تعليقاً