البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الباب الأول: اعتماد الفتوى على المنهج الشرعي المتكامل في حفظ النفوس

الفصل الرابع: إظهار الفتوى لكون حفظ النفوس أحد مقاصد الشرع

75 views

حفْظُ النفوس من جانب الوجود ومن جانب العدم هو من مقاصد الشريعة الكلية، والتي تسمى بالكليات الخمس، أو الضروريات الخمس.

وقد عملت الفتوى قديمًا وحديثًا على إظهار مدى حرص الشارع على حفظ الضروريات الخمس، وجعلها الأساس الذي تدور حوله تشريعات الدين، وعلى رأسها حفظ الدين وحفظ النفس.

والمقاصد الشرعية بالنظر إلى المصالح التي جاءت لحفظها ثلاثة أنواع:

النوع الأول: المقاصد الضرورية التي لا بد منها، لا يمكن للبشر أن يعيشوا بدونها ما لا بد منه في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تَجْرِ مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج، وفوت الحياة أصلًا، وفي الآخرة فوت النعيم، والرجوع بالخسران المبين.

النوع الثاني: المقاصد الحاجية، وهي التي إذا فقدها الإنسان لم يصل إلى الهلاك ولكن تصيبه مشقة شديدة.

والنوع الثالث: المقاصد التحسينية وهي: ما لا تصل إلى درجة الحاجيات ولا الضروريات.

فحقوق الإنسان التي بني عليها الفقه الإسلامي وبنيت عليها الفتاوى يدل الاستقراء والدراسة والبحث في النصوص الشرعية والتأمل بأن هذا الشرع جاء لتحقيق مصالح الناس الضرورية والحاجية والتحسينية، وأن الأحكام كلها شرعت لخدمة هذه الثلاثة، وما من حكم شرعي إلا قصد به تحقيق أحد هذه المصالح أو أكثر، بحيث يكفل التشريع تحقيق المصالح بأقسامها الثلاثة بالكليات الخمس، وهي: الدين، والعقل، والنسل، والمال، والنفس.

فمقصود الشرع من الخلق خمسة: أن يحفظ عليهم دينهم، أن يحفظ عليهم أنفسهم، أن يحفظ عليهم عقولهم، أن يحفظ عليهم نسلهم، أن يحفظ عليهم أموالهم.

وكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول الخمسة فهو مفسدة.

قال الإمام الشاطبي رحمه الله: “اتفقت الأمة بل سائر الملل على أن الشريعة وضعت للمحافظة على هذه الضروريات الخمس، وهي: الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل”([1]) اهـ.

وقال: “وحفظ الشريعة للمصالح الضرورية وغيرها يتم على وجهين، يكمل أحدهما الآخر، وهما: حفظها من جانب الوجود لا يحققها، يوجدها، يثبتها ويرعاها وحفظها من جانب العدم بإبعاد كل ما يزيلها أو ينقصها، أو يجعلها تختل أو تتعطل، سواءً كان شيئا واقعا أو متوقعا الشرع يمنعه، أي شيء يخل بالضروريات، أو ينقصها، أو يعطلها، أو يخل بها يمنعه الشرع، سواءً كان واقعًا أو متوقعًا، فإذا كان واقعًا فالشرع يريد رفعه وإزالته، وإذا كان متوقعًا فالشرع يريد منع وقوعه وتجنبه”([2]) اهـ.

وتتبيَّن أهمية هذه الضروريات الخمس في كون مصالح الدين والدنيا مبنية على المحافظة على هذه الأمور الخمسة؛ ذلك أن قيام هذا الوجود الدنيوي مبني عليها، حتى إذا انخرمت لم يبق للدنيا وجود، وكذلك الأمور الأخروية لا قيام لها إلا بذلك.

فلو عدم الدين عدم ترتب الجزاء المرتجى، ولو عدم المكلف لعدم من يتديَّن، ولو عدم العقل لارتفع التدين، ولو عدم النسل لم يكن في العادة بقاء، ولو عدم المال لم يبق عيش، ويستوي في ذلك الطعام والشراب واللباس على اختلافها، وما يؤدي إليها من جميع المتمولات فلو ارتفع ذلك لم يكن بقاء([3]).

وحفظ الدين هو أهم هذه الضروريات الخمس، بل هو أصل مقاصد الشريعة وما عداه متفرع عنه محتاج إليه احتياج الفرع إلى أصله، ولو تعرض الدين للضياع أو التحريف والتبديل لضاعت المقاصد الأخرى وخربت الدنيا بأسرها.

ويدل على أن الدين أصل المقاصد كلها قوله تعالى: ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ﴾ [المؤمنون: 71].

فهذه الآية تدل على أنه يلزم من اتباع الأهواء الفساد؛ وذلك لأن أهواء الناس تختلف ومصالحهم تتعارض، فإذا لم يكن هناك دين يضبط المصالح وينظم الحياة فإن كل شخص سيفعل ما يراه مصلحة له بحسب ما يمليه عليه هواه؛ فيحصل الاعتداء على الأنفس والأموال والأعراض والأنساب.

وكذلك يدل على أن الدين أصل المقاصد كلها أن الإيمان بالدين يجعل الإنسان محجمًا عن الاعتداء على المقاصد المذكورة حتى في السر حين لا يراه أحد؛ فبالدين تكون المقاصد المذكورة محفوظة ظاهرًا وباطنًا؛ لأن المؤمن يعلم أن الله يعلم السر وأخفى.

وأما النفس فقد عنيت الشريعة بحفظها؛ فشرعت من الأحكام ما يجلب المصالح لها ويدفع المفاسد عنها، وذلك مبالغة في حفظها وصيانتها ودرء الاعتداء عليها؛ إذ بتعريض النفس للهلاك يُفقد المكلف الذي يتعبد لله تعالى، وهذا يؤدي إلى عدم إقامة الدين كما ذكرنا.

وأما العقل فقد جاءت الشرائع كلها بالمحافظة عليه؛ إذ إنه النعمة التي أنعم الله بها على الإنسان وميَّزه به على سائر الحيوان؛ فلو فقد الإنسان العقل لأصبح كالأنعام التي لا تعقل ولا تدرك المصالح. وقد أولت الشريعة الإسلامية العقل مزيدًا من العناية للمحافظة عليه.

وأما النسل فإن حفظه هو الأساس في بقاء النوع الإنساني، وهو من أسباب عمارة الأرض، وقد عني الإسلام بالنسل وبالمحافظة عليه ودرء الفساد عنه.

وأما المال فإن حفظه مما لا تقوم مصالح الدنيا إلا به، كما قال تعالى: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ [النساء: 5]؛ لذلك عني الإسلام به.

ما به تحفظ الضروريات:     

وحفظ الضروريات الخمس يكون بأسلوبين متكاملين: أحدهما: تحريم ما يهدد وجودها، والثاني: الأمر بكل ما يؤدي إلى صيانتها وإقامتها.

فمن أجل حفظ الدين حرم الشرع الشرك والطرق المؤدية إليه، كما حرم الردَّة؛ لأنها طعن في صحة الدين، كما أمر بكل ما يؤدي إلى صيانته وإقامته، حيث أوجب الله تعالى الدعوة إلى الدين والدفاع عنه.

ومن أجل حفظ النفس حرم ما يهدد وجودها ونهى عن الاعتداء عليها، ومن أجل ذلك شرع عقوبة القصاص في النفس والأطراف، وفي المقابل أمر بكل ما يؤدي إلى صيانتها وحفظها فشرع تناول أصل المأكولات والمشروبات والملبوسات والمسكونات مما تتوقف عليه الحياة.

ومن أجل حفظ العقل شرع ما شرع لحفظ النفس من تناول الغذاء الذي تتوقف عليه الحياة والعقل، كما أمر بتحصيل العلوم والمعارف التي تقي العقل من الجهل والانحراف، وفي المقابل أوجب إقامة الحد على شارب المسكر لما له من أثر في الكف عن الشرب المفسد للعقل.

ومن أجل حفظ النسل شرع النكاح، وفي المقابل دَرَأ مفسدة الاعتداء عليه بإقامة الحد على الزاني.

ومن أجل حفظ المال شرع أصل المعاملات من انتقال الأملاك بعوض أو بغير عوض، وفي المقابل شرع حد القطع للسارق وتضمين قيم الأموال.

([1]) الموافقات: 1/ 31.

([2]) السابق: 2/ 552.

([3]) السابق: 2/ 32.

اترك تعليقاً