البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الباب الأول: اعتماد الفتوى على المنهج الشرعي المتكامل في حفظ النفوس

الفصل السادس: الفتوى والتحذير من التستُّر على القاتل

81 views

ومن عناصر المنهج المتكامل في حفظ النفوس، والذي جرت عليه الفتاوى: مبدأ حرمة التستر على القاتل؛ لأن التستر على القاتل سببٌ كبيرٌ في انتشار القتل؛ حيث يؤدي التستر إلى زيادة الجرأة على القتل، وعلى توسع دائرته، وعلى انتشار ظاهرة القتل المتسلسل، وعلى انتشار التكاتف على القتل، وتكوُّن التشكيلات العصابية التي يتوافق أفرادها على القتل بشكل منظم واحترافي، بل واتخاذها مهنة يعيشون على الدخل الكبير الذي يمكن أن يجنى من ورائها، وكل ذلك لا يردعه إلا التبليغ عن القاتل حتى لا يصل القتل إلى هذه المراحل المتأخرة والتي هي بداية ظهور المافيا والميليشيات، والمنظمات الخارجة عن القانون والتي تصل في بعض البلاد إلى أن تكون أقوى من الدولة.

ومبدأ عدم التستر على الجاني هو مبدأ شرعي أسس له الوحي حين منع كتمان الشهادة، وحين نهى عن شهادة الزور، والشهادة التي تؤدي إلى براءة الجاني هي شهادة زور.

ومن فتاوى دار الإفتاء: فتوى بيَّنت أن من يعين الجاني على إخفاء جرمه وعلى إفلاته من العقاب بعدم الإخبار عنه أو كتمان الشهادة عليه، فإن فعله هذا يعدُّ إعانةً على الإثم، وأذًى بالغًا لجماعة المسلمين، وأن كتمان الشهادة إثم ووزر كبير، وأنَّ يمين الكاذب في الشهادة يمين غموس تغمس صاحبها في النار بعد غمسه في الإثم ولا كفارة لها.

وقد جاء بها: “رفع إلينا استفتاء يتضمن أن بعض الأشرار ينتهكون حرمة الدماء ويعتدون على الأبرياء، ويعلم عنهم بعض الناس ما بيتوا من شر وما دبروا من فتنة وأعدوا من عدة لارتكاب جريمة القتل النكراء، فهل في الإغضاء عن فضح سرهم، والإغماض عن كشف خبيئهم مأثم وجناح؟

الجواب:

شرع الله القصاص في القتل العمد عقوبة على هذا العدوان الأثيم، فقال تعالى: ﴿وَلَكُمۡ فِي ٱلۡقِصَاصِ حَيَوٰةٞ يَٰٓأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 179]، وقال: ﴿وَكَتَبۡنَا عَلَيۡهِمۡ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفۡسَ بِٱلنَّفۡسِ﴾ [المائدة: 45]، فلم يجعل للقاتل المتعمد حرمة، ولا لدمه عصمة؛ لارتكابه هذه الكبيرة الشنيعة، وتعمده عصيان ربه وانتهاك حرماته وتعدي حدوده، ولإفساده في الأرض إفسادًا عظيمًا يهدم البنيان، ويقوض الأركان ويزعج النفوس، ويخيف الآمنين، ويغري ضعفاء النفوس وسفهاء الأحلام بالشر والفتنة، هذا جزاء القتل العمد العدوان في الآخرة والأولى، ومما انعقد عليه الإجماع تأثيم من يعين عليه وييسر وسائله أو يغتبط به، ويرضى عنه؛ إذ الرضا بالمعصية معصية، وكذلك من يعين الجاني على إخفاء جرمه وعلى إفلاته من العقاب بعدم الإخبار عنه أو كتمان الشهادة عليه، فإنَّ في ذلك كله إعانةً أية إعانة على الإثم، وأذًى بالغًا لجماعة المسلمين قال تعالى: ﴿وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ﴾ [المائدة: 2]، وقال: ﴿وَٱلَّذِينَ يُؤۡذُونَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ بِغَيۡرِ مَا ٱكۡتَسَبُواْ فَقَدِ ٱحۡتَمَلُواْ بُهۡتَٰنٗا وَإِثۡمٗا مُّبِينٗا﴾ [الأحزاب: 58]، وقد جعل الله الأمة كلها متكافلة في دفع الشر والأذى عن المجتمع، وأوجب عليها التناهي عن المنكر، وحذرها عواقب إهماله، وأنذرها اللعنة والطرد من رحمته؛ إذا هي تركت حبل كل مجرم على غاربه، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل، فيقول: يا هذا اتقِ الله ودعْ ما تصنع؛ فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه في الغد وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قال: ﴿لُعِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۢ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُۥدَ وَعِيسَى ٱبۡنِ مَرۡيَمَۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعۡتَدُونَ ٧٨ كَانُواْ لَا يَتَنَاهَوۡنَ عَن مُّنكَرٖ فَعَلُوهُۚ لَبِئۡسَ مَا كَانُواْ يَفۡعَلُونَ﴾ [المائدة: 78- 79]، ثم قال: كلا، والله لتأمُرنَّ بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخُذنَّ على يدي الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرًا -يعطفونه عليه-، ولتقصرنه على الحق قصرًا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعنكم كما لعنهم)) رواه أبو داود والترمذي.

وعن أبي بكر رضي الله عنه قال: يا أيها الناس، إنكم تقرؤون هذه الآية: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيۡكُمۡ أَنفُسَكُمۡۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهۡتَدَيۡتُمۡ﴾ [المائدة: 105]، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه))، وزاد فيه في سنن أبي داود: ((ما من قوم يُعمَل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا ولا يغيروا، إلا يوشك أن يعمهم الله بعقاب)).

إن القاتل المتعمد أشدُّ الناس ظلمًا، وأفحشهم نكرًا، وأكثرهم شرًّا، هو خائن غادر، وخاسر فاجر، والأخذ على يديه لاتقاء شره وتجنب خطره واجب محترم، فيجب شرعًا على من يعرف أمره أن يدل عليه، ويرشد إليه، ويؤدي لله الشهادة الحقة بما علمه عنه، ويحرم كتمان الشهادة عليه ما دام في أدائها إقامة حق، وتغيير منكر، قال تعالى: ﴿وَلَا تَكۡتُمُواْ ٱلشَّهَٰدَةَۚ وَمَن يَكۡتُمۡهَا فَإِنَّهُۥٓ ءَاثِمٞ قَلۡبُهُ﴾ [البقرة: 283]، وقال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلۡقِسۡطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ وَلَوۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ أَوِ ٱلۡوَٰلِدَيۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِينَۚ إِن يَكُنۡ غَنِيًّا أَوۡ فَقِيرٗا فَٱللَّهُ أَوۡلَىٰ بِهِمَاۖ فَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلۡهَوَىٰٓ أَن تَعۡدِلُواْۚ وَإِن تَلۡوُۥٓاْ أَوۡ تُعۡرِضُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا﴾ [النساء: 135].

والشهادة أمانة يجب أداؤها، والخروج من عهدتها قال تعالى: ﴿فَلۡيُؤَدِّ ٱلَّذِي ٱؤۡتُمِنَ أَمَٰنَتَهُ﴾ [البقرة: 283]، وقال: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تُؤَدُّواْ ٱلۡأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهۡلِهَا﴾ [النساء: 58]، ومن الإخلال بالأمانة أن يحاول في أدائها الإنكار أو التضليل أو إضاعة الحق أو إهدار الدم البريء؛ لأن ذلك باطل وزور، وقد قال تعالى: ﴿وَٱجۡتَنِبُواْ قَوۡلَ ٱلزُّورِ﴾ [الحج: 30]، وقال: ﴿وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌ﴾ [الإسراء: 36]، وقال: ﴿مَّا يَلۡفِظُ مِن قَوۡلٍ إِلَّا لَدَيۡهِ رَقِيبٌ عَتِيدٞ﴾ [ق: 18]، وفي الصحيحين عن أبي بكر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئًا فجلس، فقال: ألا وقول الزور، وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت)).

وينبغي أن يعلم أن كلمة أشهد تتضمن القسم، وأن يمين الكاذب في شهادته يمين غموس تغمس صاحبها في النار بعد غمسه في الإثم، ولا كفارة فيها.

إن صلاح المجتمع ووقايته من الجراثيم الفاتكة، والأمراض الوبيلة من واجب الحكومة الرشيدة، وعلى الأمة أن تؤازرها في مهمتها، وتعينها على أداء واجبها، فإن هي قصرت في ذلك كان إثمها عظيما، وكان الخطر جسيما”([1]) اهـ.

([1]) رقم الفتوى 189 تاريخ الفتوى 2/ 2/ 1949، المفتي فضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف.

اترك تعليقاً