البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الباب الثالث: الفتوى والاقتصاد الوطني

الفصل الأول: دور الفتوى في مواجهة معوقات التنمية الاقتصادية

118 views

تمهيد: التنمية الاقتصادية وأهدافها:

هي تطوير سبل المعيشة في دولةٍ ما عن طريق زيادة مدخولات الأفراد، وتوفير فرص العمل لكل فرد، وزيادة إنتاج السلع بكفاءة وجودة عاليتين وبأساليب حديثة ومتطورة، وتقديم أفضل الخدمات لأفراد الدولة في شتى الميادين الحياتية وبطريقة عادلة، وتنمية المهارات البشرية وإعادة الهياكل التنظيمية لتتماشى مع متطلبات التنمية، ووضع السياسات الاقتصادية المناسبة، والتخطيط المحكم الجيد القائم على بيانات دقيقة وحقائق ثابتة([1]).

وبما أن التنمية الاقتصادية تسعى إلى تحقيق رفاهية الأفراد عن طريق استخدام الموارد الطبيعية بشكل أفضل وتكوين رأس المال وتوفير الأمن والاستقرار وفرص العمل وتحسين السلع والخدمات، لذا فإنها تنطوي على أهداف عديدة تسعى لتحقيقها، أهمها ما يلي:

1-توفير العناصر التي تجعل المواطن عاملًا منتجًا وقادرًا على البذل والعطاء.

2-تنمية الصناعة بصورة إيجابية وتعديل الهيكل الإنتاجي.

3-تنمية واستغلال الموارد الطبيعية لتحقيق الرفاه الاقتصادي.

4-تنمية بناء البنية الأساسية للطاقة والمواصلات والاتصالات.

5-زيادة الدخل القومي المتمثل في السلع والخدمات التي تنتجها الموارد الاقتصادية المختلفة.

6-رفع مستوى المعيشة لتحقيق الضرورات المادية الأساسية للحياة، وتوخي العدالة في ذلك.

7-التخفيف من حدة الفوارق الكبيرة في توزيع الدخول والثروات بين شرائح المجتمع المختلفة لتحقيق العدالة الاجتماعية.

ويعتبر الاستخدام الأمثل للموارد البشرية هو أساس التخطيط للتنمية الاقتصادية والاجتماعية؛ فالتنمية الاقتصادية تؤدي إلى التنمية الاجتماعية، كما أن التنمية الاجتماعية تؤدي بدورها إلى التنمية الاقتصادية فكلاهما يؤثر ويتأثر بالجانب الآخر([2]).

معوقات التنمية الاقتصادية:

تواجه التنمية الاقتصادية معوقات كثيرة تحد من كفاءتها وفاعليتها، وتعوق قدرتها على الوصول إلى أهدافها، وهي تختلف من مجتمع لآخر.

واستراتيجيات مواجهة هذه المعوقات تختلف ما بين دولة وأخرى على حسب قدراتها ومواردها وطبيعة شعبها وبيئتها الجغرافية، وفيما يلي نتناول أهم هذه المعوقات على النحو التالي:

المبحث الأول: ارتفاع معدلات النمو السكاني:

لقد بدأ التفكير في استشعار مخاطر الزيادة السكانية في أواخر القرن الثامن عشر، حيث طرح «توماس مالتس» في عام 1798م نظريته الشهيرة في النمو السكاني وتأثيره السلبي على مستويات المعيشة في المدى الطويل، ومفهوم هذه النظرية بشكل مبسط أنه مع ثبات كمية الأرض فإن النمو السكاني سيؤدى في النهاية إلى انخفاض كمية الموارد التي يستهلكها كل فرد مما يتسبب في الأمراض والمجاعات والحروب.

والطريقة لتجنب هذا هو «قيد أخلاقي» يتمثل بالامتناع عن إنجاب مزيد من الأطفال، فهو لم يتنبأ بالتقدم التكنولوجي الذي يرفع إنتاجية الزراعة ويقلل من الأمراض، غير أن فكرته الأساسية بأن النمو السكاني يشكل تهديدًا محتمًا للتنمية بقيت مؤثرة وفاعلة في سياسات وأجندة التنمية العالمية خاصة منذ خمسينيات وستينيات القرن الماضي حين شهدت أغلب الدول النامية نموًّا سكانيًّا سريعًا غير مسبوق([3]).

وفي بوخارست (رومانيا) عام 1974م عُقد المؤتمر العالمي للسكان، والذي انتهى إلى خطة عمل تدعو الدول المتقدمة إلى إعطاء أولوية أساسية لبرامج تنظيم الأسرة للسيطرة على هذا الخطر الداهم الذي يهدد التنمية الاقتصادية في هذه الدول، وهو النمو السكاني.

الآثار الاقتصادية للزيادة السكانية:

للزيادة السكانية المطَّردة آثار اقتصادية سلبية تتمثل فيما يأتي:

1-زيادة الاستهلاك لدى الأفراد، ومن ثم تقليل مدخراتهم التي يدخرونها لأغراض استثمارية، مما يؤدي إلى الحد من إمكانية رفع مستوى الدخل القومي للأفراد، حيث يصبح الدخل القومي أقل من معدلاته السابقة، وهذا يؤدى بدوره إلى انخفاض مستوى المعيشة.

2-زيادة نفقات الدولة على الخدمات الأساسية كالتعليم والصحة والمواصلات والحماية والأمن والإسكان، حيث يؤدي ارتفاع التعداد السكاني إلى النقص فيها وزيادة الطلب عليها بحيث يكون هذا الإنفاق الاستهلاكي على حساب نفقات التنمية والأموال المخصصة للمشروعات الاستثمارية كالصناعة والزراعة والتجارة مما يؤدي إلى استنزاف الموارد.

3-انتشار ظاهرة البطالة بين الأفراد، وبخاصة في صفوف المتعلمين مما يؤدي إلى هجرة الكفاءات العلمية إلى الخارج.

4-الانخفاض الواضح في نسبة الأجور في القطاعين الخاص والحكومي وذلك بسبب توفر الكثير من الأيدي العاملة، كما أن الزيادة السكانية قد تؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع والخدمات نتيجة زيادة الطلب عليها بصورة لا تتناسب مع نسبة الأجور مما يؤدي إلى انخفاض مستوى معيشة الأفراد.

5– ارتفاع أسعار الوحدات السكنية نظرًا لصعوبة توفير الأعداد اللازمة لتلبية احتياجات الأسر الجديدة بالإضافة إلى أن الزيادة السكانية تؤدي إلى الزحف العمراني على الأراضي الزراعية وانخفاض الإنتاج الزراعي، ومن ثم التأثير على اقتصاد الدولة.

6-انهيار المرافق العامة نتيجة زيادة الضغط عليها وعدم كفاية الاستثمارات اللازمة لتجديدها والتوسع فيها([4]).

 

دور الفتوى في مواجهة الزيادة السكانية:

لقد أدركت دار الإفتاء المصرية أهمية قضية محاربة الانفجار السكاني التي تُعد إحدى أهم القضايا التي تحتاج إلى رفع درجة الوعي والإدراك لدى المصريين، حيث أصبح المواطن مدركًا تمامًا للعواقب الوخيمة التي تنتج عن الزيادة السكانية غير المنظمة، ومن ثم نراها تسهم في حل هذه المشكلة بالفتاوى التي تبين بالأدلة الشرعية مشروعية تحديد النسل كوسيلة للحد من الزيادة السكانية التي تلتهم ثمار التنمية وتستنزف الموارد المحدودة، من هذه الفتاوى: فتوى دار الإفتاء المصرية التي تبين أن الدعوة لتنظيم الأسرة لا تتعارض مع دعوة الشرع بالتكاثر في الأولاد، فقد جاء في هذه الفتوى:

المراد بـ”تنظيم النسل”، أو ما يُعْرَف بـ “تنظيم الأسرة” -كما تُعَرِّفه منظمة الصحة العالمية-: أن يتخذ الزوجان باختيارهما واقتناعهما الوسائل التي يريانها كفيلة بتباعد فترات الحمل، أو بإيقافه لمدة معينة من الزمن يتفقان عليها فيما بينهما؛ لتقليل عدد الأسرة بصورة تجعل الأبوين يستطيعان القيام على رعاية الأبناء رعايةً متكاملةً من غير خَلَلٍ.

وهذا المعنى المراد من تنظيم الأسرة أمرٌ جائزٌ لا تَأباه نصوص الشرع، ما دام هناك أسباب معتبرة شرعًا تدعو إلى تأخير الإنجاب مؤقتًا، وبشرط موافقة الزوجين عليه؛ وذلك بالقياس على جواز “العزل” -وهو عدم إنزال الرجل المني أثناء الجماع داخل رَحِم زوجته حتى لا تَحْمَل-، وبشرط أن لا يترتب على هذا التأخير ضررٌ؛ فالعاقل مَن يجعل النظام شعارًا له في كل شيء؛ لأن النظام ما وُجِد في شيء إلا زانه؛ قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر:21].

وقد جمع العلماء النيات التي تستدعي “العزل”، وجعلوا منها: الخوف من كثرة الأولاد والوقوع في الحرج بسببهم؛ وقد بَيَّن ذلك الإمام الغزالي في كتابه “إحياء علوم الدين”: فقال: [النيات الباعثة على العزل خمس: .. الثالثة: الخوف من كثرة الحرج بسبب كثرة الأولاد، والاحتراز من الحاجة إلى التعب في الكَسْب ودخول مداخل السوء، وهذا أيضًا غير منهيّ عنه؛ فإنَّ قِلة الحرج معين على الدين، نعم؛ الكمال والفضل في التوكّل والثقة بضمان الله حيث قال: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]، ولا جرم فيه سقوط عن ذروة الكمال وترك الأفضل، ولكن النظر إلى العواقب وحفظ المال وادخاره مع كونه مناقضًا للتوكل لا نقول إنه منهيٌّ عنه]([5]).

و”العَزْل” قام به عدد من الصحابة رضوان الله عليهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يُؤثَر عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عنه؛ فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك نبي الله صلى الله عليه وسلم، فلم ينهنا»([6]). فلو كان العَزْلُ حرامًا لنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن فعله؛ قال الإمام ابن حَجَر العَسْقلاني في “فتح الباري”: [فكأنه يقول: فعلناه في زمن التشريع، ولو كان حرامًا لم نقرّ عليه]([7]).

وجمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية على جواز العزل بإذن الزوجة ورضاها، وهو رأيٌ عند الشافعية أيضًا، وهو جائز للحاجة عند الحنابلة.

يقول الإمام الكاساني الحنفي في “بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع”: [وإن كان العزل برضاها لا يكره؛ لأنها رضيت بفوات حقها]([8]).

ويقول الإمام ابن عبد البر القرطبي المالكي في “الكافي في فقه أهل المدينة”: [وليس له أن يعزل عن المرأة إلا بإذنها]([9]).

ويقول الشيخ سليمان الجَمَل الشافعي في “حاشية الجمل على شرح المنهج”: [ويحرم ما يقطع الـحَبَل من أصله. أما ما يبطئ الـحَبَل مدة ولا يقطعه من أصله فلا يحرم كما هو ظاهر، بل إن كان لعذر؛ كتربية ولد لم يكره أيضًا]([10]).

وقال الإمام ابن قدامة المقدسي الحنبلي في “المغني”: [ولأن لها في الولد حقًا، وعليها في العزل ضرر، فلم يجزْ إلا بإذنها]([11]).

وأجاز الحنفية للزوج أن يعزل عن الزوجة ولو بغير رضاها كلما خاف الولد السوء؛ قال الإمام ابن عابدين الحنفي في “رد المحتار على الدر المختار”: [إن خاف من الولد السوء في الحرة يسعه العزل بغير رضاها لفساد الزمان، فليعتبر مثله من الأعذار مسقطًا لإذنها]([12]).

وبعد هذا التفصيل يتبين لنا أنه لا تتعارض الدعوة إلى تنظيم النسل مع دعوة الشرع إلى التكاثر، بل يُعدُّ التنظيم وسيلة لإخراج أجيال تأخذ حقها في الرعاية المتكاملة، وتنال الاهتمام الكافي؛ مما يؤهلهم إلى تَحمُّل المسؤولية؛ فقوله صلى الله عليه وسلم: «تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ؛ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ»([13]). المقصود به: الكَثْرة المؤمنة الصالحة القوية المنتجة المتقدمة؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يباهي بكثرة ضعيفة متخلفة في مناحي الحياة المختلفة؛ لأنها إن خرجت عن ذلك فكانت كثرة ضعيفة لا قيمة لها ولا نفع، فتصبح تلك الكثرة التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: «يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا». قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: «أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ تَكُنْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ» رواه أحمد؛ أي كثرة ضعيفة لا قيمة لها، لا تضرُّ عدوًا ولا تنفع صديقًا.

وقد جاء في كتاب “نظرة الإسلام إلى تنظيم النسل” لمحمد سلام مدكور: [الكثرة منشودة لذاتها أم لما يترتب عليها من صالح الأسرة ومصلحة المجتمع والشعب؟ فالتناسل متحققٌ مع التقليل منه، والكثرة مطلوبة إذا اقتضتها مصلحة، وأمكن التحكم في توجيهها توجيهًا نافعًا، والقيام بأعبائها دون حرج ولا ضيق، والقليل النافع خير من الكثرة المهملة التي تترك دون تقويم وإعداد]([14]).

وبناءً على ما سبق فقد انتهت الفتوى إلى أن تنظيم النسل أمرٌ جائزٌ شرعًا بشرط موافقة الزوجين عليه؛ قياسًا على جواز العزل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يتعارض ذلك مع دعوة الإسلام إلى التكاثر([15]).

البطالة:

تعد البطالة من أشد معوقات التقدم والتنمية في المجتمع، والتي تهدد أمنه واستقراره وتماسكه، وتؤدي إلى خفض مستوى المعيشة وزيادة معدل الفقر.

وهي ظاهرة تمثل أزمة عالمية، ويندر أن يوجد بلد لا يعاني منها ومن آثارها، ولذلك حظيت هذه المشكلة بالاهتمام بها على المستويين المحلي والعالمي، فقد اهتمت منظمة العمل الدولية في اتفاقياتها وتوصياتها وتقاريرها بالتأمين ضد البطالة وتحقيق التوظيف الكامل.

تعريفها:

هناك من عرَّف البطالة بأنها: ندرة توافر العمل المناسب لشخصٍ ما راغب فيه وقادر عليه نظرًا لزيادة القوى البشرية المؤهلة عن حجم فرص العمل التي يتيحها المجتمع سواء أكانت إنتاجية أم خدمية.

وهناك من عرَّفها بأنها: عدم القدرة على تحقيق التشغيل الكامل للأفراد، سواء تم ذلك لعدم توافر فرص العمل الكافية للراغبين في العمل، أم تم ذلك بمحض اختيار الأفراد الناجم عن زهدهم في العمل([16]).

تأثير البطالة على التنمية الاقتصادية:

البطالة من معوقات التنمية الاقتصادية فلها آثار سلبية عديدة على الاقتصاد الوطني ومعدلات التنمية، ومن هذه الآثار ما يلي:

1-عدم استغلال عنصر العمل، والذي يعد أحد الموارد الاقتصادية يضيع على الاقتصاد الوطني فرصة إشباع الحاجات التي كانت ستوفرها القوى العاملة الراغبة والقادرة على الإنتاج، ومن ثم تطور الاقتصاد.

2-تؤدي البطالة إلى تدني في إجمالي التكوين الرأسمالي والناتج المحلي، والذي يؤدي بدوره بمرور الزمن إلى انخفاض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي.

3-ضعف القوة الشرائية في السوق المحلية مما يؤدي إلى تأثيرات في العرض والطلب في السوق.

4-تؤدي البطالة إلى إجبار العديد من الكفاءات العلمية والمتعلمين إلى الهجرة الخارجية بحثًا عن فرصة عمل أفضل لتحسين مستوى المعيشة، فتستفيد الدول التي تستقبل هؤلاء المهاجرين حيث تحصل على أيدي عاملة ذات كفاءة دون أن تتحمل مصاريف التعليم، التي تحملتها دول هؤلاء المهاجرين ولم تستفد منها، وقد قُدِّرت الخسائر التي مُنيت بها الدول العربية بسبب هجرة العقول بـ(11) مليار دولار في السبعينات، أما في الألفية الجديدة فقد تضاعفت هذه الخسائر عشرين مرة لتصل إلى (200) مليار دولار تقريبًا، حسب تقديرات منظمة العمل العربية، والأخطر من ذلك ما قاله الكندي ريفيين برنز في كتابه «القرن المالي»: إذا افترضنا أن تعلم أحد المهاجرين العرب يكلف بلده في المتوسط عشرة آلاف دولار فإن ذلك يعني تحويل (18) مليار دولار من الأقطار العربية إلى الولايات المتحدة وأوروبا كل عام([17]).

دور الفتوى في مواجهة البطالة:

إيمانًا من دور الإفتاء بخطورة قضية البطالة وتأثيرها على المجتمع والاقتصاد الوطني، صدرت بعض الفتاوى التي بيَّنت خطر هذه الآفة، وأرشدت إلى بعض السبل التي تساهم في الحد منها والقضاء عليها، وذلك من خلال إظهار عظمة الإسلام الذي حثَّ على العمل والإنتاج، وإبراز عظمة الحضارة الإسلامية التي ازدهرت فيها الزراعة والصنائع والحِرَف المختلفة، ومن خلال إيراد النصوص التي ترفض البطالة وتحذِّر من سؤال الناس لغير حاجة أو عذر، وما أُعد للسائلين غير المحتاجين أو المحترفين من العقاب الأخروي، ومن خلال إيراد نماذج من الهدي النبوي تحضُّ على العمل، وتنفِّر من سؤال الناس، وتوجيه النداء إلى الجهات المسئولة للقضاء على ظاهرة البطالة وتوفير فرص العمل، ومن خلال التشجيع على إقامة المشاريع التي توفر فرص العمل ولو كانت من أموال الزكاة.

ومن الفتاوى التي جابهت ظاهرة البطالة فتوى دار الإفتاء المصرية عن حكم الشرع في التسوُّل وحكم إعطاء المتسولين المنتشرين في الأماكن العامَّة.

فقد ذكرت الفتوى أنَّ الأصلَ في سؤال الناس مِن غير حاجةٍ أو ضرورةٍ داعية أنَّه مذمومٌ في الشرع؛ لأنه يتضمَّن المذلةَ والمهانةَ للمسلم، وهو مما يُنَزِّهُه عنهما الشرعُ الشريفُ، وقد روى مسلمٌ عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: «كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، تسعة أو ثمانية أو سبعة، فقال: «ألا تبايعون رسول الله؟» وكنا حديث عهد ببيعة، فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثم قال: «ألا تبايعون رسول الله؟» فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثم قال: «ألا تبايعون رسول الله؟» قال: فبسطنا أيدينا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فعلام نبايعك؟ قال: «على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، والصلوات الخمس، وتطيعوا -وأسرَّ كلمة خفية- ولا تسألوا الناس شيئًا» فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم، فما يسأل أحدًا يناوله إياه»([18]).

وروى الإمام أحمد وابن حِبَّان واللفظ له عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه سلم قال: «لا يفتح إنسان على نفسه باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر، لأن يعمد الرجل حبلًا إلى جبل فيحتطب على ظهره، ويأكل منه خير من أن يسأل الناسَ مُعْطًى أو ممنوعًا»([19]).

وذكرت الفتوى أنَّ السائل إن كان مضطرًّا للسؤال لفاقةٍ أو لحاجةٍ وقع فيها أو لعجز منه عن الكسب، فيباح له السؤال حينئذٍ ولا يحرم، ودليل ذلك ما رواه أبو داود من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة: لذي فقر مُدْقِع، أو لذي غُرْم مُفْظِع، أو لذي دَمٍ مُوجِع»([20]).

والفقر المدقع هو الشديد، والغُرم المفظع؛ أي الغرامة أو الدَّين الثقيل، والدم الموجع المراد به: دم يوجع القاتل أو أولياءه بأن تلزمه الدية وليس لهم ما يؤدي به الدية، فيطالبهم أولياء المقتول به فتنبعث الفتنة والمخاصمة بينهم([21]).

وذكرت الفتوى أنَّ إعطاء المتسولين ليس على إطلاقه، بل هو منوط بغلبة الظن بحاجة السائل وصدقه، وإذا رأى المعطي أن يتحرَّى عن حاله فله ذلك خاصَّة في أموال الزكاة التي أوجب الله صرفها لمستحقيها، وتظهر أهمية ذلك في بعض الأماكن التي أصبح التسول فيها حرفة يتكسب منها أصحابها، بل مهنة تُمتهن ويُساق إليها الأطفال لتعلمها من صغرهم، ولا شكَّ أن ذلك مؤشر خطر على أمن المجتمع وسلامته، وانتشارُ التسول وصيرورتُه ظاهرةً هو دليلٌ على تخلُّف الشعوب والأمم، وشاهد على قلة التكافل والتعاون فيما بين الناس.

ووجهت الفتوى النُّصحَ للجهات المسؤولة في الدولة، فقالت: يجب على الجهات المسؤولة أن تبحث في هذه الظاهرة وأسبابها؛ لتعمل على الحدِّ منها بكفاية الفقراء والمحتاجين، ومنع من تُسَوِّل له نفسه التسول والتعرض للناس من غير حاجة([22]).

وهناك بعض الفتاوى التي أرشدت إلى بعض السبل لمواجهة هذه الظاهرة، وذلك عن طريق إقامة المشروعات التي توفر فرص العمل ولو كان ذلك من أموال الزكاة والصدقات. ومن هذه الفتاوى نذكر فتوى دار الإفتاء المصرية الخاصة بتوجيه الزكاة لصندوق تحيا مصر، فقد أجازت الفتوى توجيه أموال الزكاة لصندوق تحيا مصر، استنادًا إلى أن من نشاط وأهداف صندوق تحيا مصر من أوجه وأبواب الزكاة إقامة المشروعات الصغيرة والمتوسطة: مشروعات تمكين الشباب، ومشروعات تمكين المرأة المعيلة، فقد جاء في الفتوى:

جعلت الشريعةُ الإسلامية كفايةَ الفقراء والمساكين آكد ما تصرف فيه الزكاة؛ فإنهم في صدارة مصارفها الثمانية في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60]؛ تأكيدًا لأولويتهم في استحقاقها، وأن الأصلَ فيها كفايتُهُم وإقامةُ حياتهم ومعاشهم؛ سَكَنًا وكِسوةً وإطعامًا وتعليمًا وعلاجًا، وخَصَّهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالذكر في حديث إرسال معاذٍ رضي الله عنه إلى اليمن: «فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فَتُرَدُّ على فقرائهم»([23]).

وذكرت الفتوى أن إقامة المشروعات الصغيرة والمتوسطة؛ بعمل مشروعات للشباب والمرأة المعيلة: فهو داخل في مصارف الزكاة؛ وذلك لأن العطاء في الزكاة مبني على أن يأخذ مستحقُّها منها ما يُخرِجه من حدِّ الحاجة إلى حدِّ الكفاية والاستغناء عن الناس؛ فإن كان صاحب حرفة أُعطِي من الآلات في حرفته ما يكفيه لتمام النفقة عليه وعلى عياله، وإن كان صاحب علم أُعطي من المال ما يُغنِيه وعياله ويُفَرِّغه لهذا العلم طيلة عمره من كُتُب وأُجرة تعلُّم ومعلِّم وغيرها، وهكذا.

وخلصت الفتوى إلى أنه يجوز استثمار الزكاة في المشاريع الإنتاجية والاستثمارية التي تخدم مستحقي الزكاة من الفقراء والمحتاجين والغارمين وغيرهم، وذلك بشرط أن يتم تمليك المشروع للفقراء، ولا تكون ملكيتها للصندوق، وإلا صارت وقفًا لا زكاة، واشتراط التملك للفقراء يدل عليه ظاهر الآية الكريمة: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ…} الآية. واللام تقتضي الملك([24]).

ومن هذه الفتاوى أيضًا: فتوى دائرة الإفتاء الأردنية في بيان الحكم الشرعي في حثِّ المواطنين على التبرُّع لمشاريع الوقف الخيرية الأخرى غير المساجد، كالوقف لبناء المدارس أو المراكز الصحية أو التبرع لإقامة مشاريع وقفية اقتصادية يعود ريعها إلى أبواب الخير المختلفة بحسب شرط الواقف للمساهمة في الحدِّ من الفقر والبطالة، فقد ذكرت الفتوى في جوابها:

الوقف باب عظيم من أبواب الخير، وهو من أعظم أنواع الصدقات، فهو صدقة جارية ثوابها دائم لا ينقطع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له»([25]).

وقد أجمع العلماء على جواز الوقف الذي يُحقِّق المنفعة والمصلحة للمسلمين، وهو لا يقتصر على بناء المساجد فقط، بل يشمل جميع جوانب الخير الأخرى، كالوقف على المستشفيات والمدارس وإقامة المشاريع الاقتصادية التي تسهم في معالجة مشكلة الفقر والبطالة.

وأضافت الفتوى: أن التبرع لهذه المشاريع، ووقف الأموال لصالحها من الأمور المندوبة التي يثاب صاحبها، وتبقى صدقة جارية له بعد موته شرعًا([26]).

تدهور الأوضاع الصحية:

تعبِّر الحالة الصحية لأيٍّ من المجتمعات عن مستوى المعيشة ومستوى الرفاهية ومدى حصول هذه المجتمعات على الخدمات التعليمية والصحية اللازمة لتحقيق حياة صحية منتجة وعمر صحي مديد، حيث تؤثر الصحة الجيدة والتغذية الصحية المناسبة تأثيرًا عظيمًا على إنتاجية العاملين، ومن ثم تنمية الدخل ورفع مستوى المعيشة، كما تتأثر الحالة الصحية بالحالة التعليمية والاقتصادية والاجتماعية والاستقرار السياسي تأثرًا كبيرًا أيضًا.

ولذلك تولي الحكومات اهتمامًا بالغًا بالرعاية الصحية لمواطنيها؛ لما لهذه الرعاية من تأثير على الإنتاجية، وتزداد نسبة الإنفاق على هذه الرعاية من ميزانيات الحكومات في الدول التي تضع الرعاية الصحية من ضمن أولوياتها، وقد نص الدستور المصري عام 2014 في المادة (18):

«لكل مواطن الحق في الصحة وفي الرعاية الصحية المتكاملة وفقًا لمعايير الجودة، وتكفل الدولة الحفاظ على مرافق الخدمات الصحية العامة التي تقدم خدماتها للشعب ودعمها والعمل على رفع كفاءتها وانتشارها الجغرافي العادل. وتلتزم الدولة بتخصيص نسبة من الإنفاق الحكومي للصحة لا تقل عن 3% من الناتج القومي الإجمالي تتصاعد تدريجيًّا حتى تتفق مع المعدلات العالمية. وتلتزم الدولة بإقامة نظام تأمين صحي شامل لجميع المصريين يغطي كل الأمراض، وينظم القانون إسهام المواطنين في اشتراكاته أو إعفاءهم منها طبقًا لمعدلات دخولهم. ويجرم الامتناع عن تقديم العلاج بأشكاله المختلفة لكل إنسان في حالات الطوارئ أو الخطر على الحياة. وتلتزم الدولة بتحسين أوضاع الأطباء وهيئات التمريض والعاملين في القطاع الصحي. وتخضع جميع المنشآت الصحية، والمنتجات والمواد، ووسائل الدعاية المتعلقة بالصحة لرقابة الدولة، وتشجع الدولة مشاركة القطاعين الخاص والأهلي في خدمات الرعاية الصحية وفقًا للقانون».

والوضع الصحي لرأس المال البشري عامل لا ينحصر دوره في تيسير التنمية الاقتصادية، وإنما أيضًا في إرساء أساسها؛ إن سوء الصحة يحصر المواطن في الفقر. ويُذكر من بين المزايا الاقتصادية لتحسن الأحوال الصحية الإسراع بوتيرة النمو من خلال الأيدي العاملة الصحيحة

والقوية، ومن هنا يمكن أن تعزى معدلات النمو السريع لدى بعض البلدان إلى تحقق هذا الشرط الأساسي من جملة عوامل أخرى. وعلى الرغم من أن تراكم رأس المال المادي ونقل التكنولوجيا يُعدَّان عاملين أساسيين لتحقيق النمو الاقتصادي السريع، فقد بينت دراسات أجريت حديثًا أن الأصحاء أكثر إنتاجية من غيرهم؛ لذلك فإن الاقتصادات التي لديها قوة عمل تتمتع بوضع صحي سليم ومستدام تحقق معدلات نمو أعلى. وبالتوازي مع ذلك يعيش المواطنون في البلدان الأكثر ثراء لآجال أطول، ويعانون بدرجة أقل في المتوسط من الأمراض مقارنة بنظرائهم في البلدان الفقيرة.

ويسهم سوء الأحوال الصحية في إعاقة النمو الاقتصادي؛ ففي دراسة حالة أجريت في عام 1995م حول تكاليف تحسين السيطرة على مرض السُّل في تايلند قدرت تكاليف العلاج بحوالي 343 دولارًا لكل حالة. كما قدر الباحثون قيمة إجمالي التكلفة غير المباشرة لفاقد الإنتاجية في تايلند كنتيجة للمرض بــ(57) مليون دولار.

وفي إندونيسيا وُجِد أن إنتـاجية الرجال المصابين بالأنيميا تقل بنسبة 20 ٪ عن الخالين منها، مما يدل على أن المرض عامل مناوئ لفرص تحقيق التنمية من خلال جعل بعض المناطق غير صالحة للسكن، وردع التجارة الدولية والاستثمارات الخارجية، وتهديد التنمية في بعض القطاعات مثل السياحة. وقد يتسبب أيضًا تناقصُ فرص استقطاب التدفقات الدولية للمعرفة والتكنولوجيا في إعاقة التنمية الاقتصادية؛ إذ قد تتردد الشركات في إرسال ممثلين إلى المناطق المصابة بالأمراض. لذلك، فإن أمراضا مثل الملاريا قد تكون سببًا أيضًا في التخلف، وليس فقط نتيجة له.

كما توصلت دراسات أجريت مؤخرًا إلى أن معدل العيش أو العمر المتوقع عامل مؤثر في التنبؤ بمستويات الدخل وما يتبع ذلك من نمو اقتصادي([27]).

 

دور الفتوى في مواجهة انتشار الأمراض والوقاية منها:

لقد قامت الفتوى بدور مهم في التوعية بضرورة الرعاية الصحية لأفراد المجتمع، وذلك من

خلال التوعية بضرورة الاهتمام بالصحة بتجنُّب العدوى والتي تكون سببًا رئيسًا في إصابة البدن بالمرض، وذلك باتخاذ الإجراءات التي ورد بها الشرع، وضرورة الأخذ بالأسباب والعلاج عند حلول المرض، وحث أولياء الأمور على توفير الرعاية الصحيَّة لأفراد المجتمع.

ونجد أن من أقدم الفتاوى التي دلَّت على اهتمام الإسلام بالرعاية الصحيَّة فتوى الشيخ حسنين محمد مخلوف رحمه الله بتاريخ 28/ 10/ 1947م عن حكم المصافحة باليد حال تَفَشِّي وباء الكوليرا.

فقد ذكر الشيخ مخلوف في فتواه: سألني كثير من الناس بمناسبة تفشي وباء (الهيضة) -الكوليرا- في البلاد عن الحكم الشرعي في ترك المصافحة باليد عند اللقاء، فأجبتهم بأن دفع الضرر ودرء الخطر عن الأنفس واجب؛ لقوله تعالى: {وَلَا تُلۡقُواْ بِأَيۡدِيكُمۡ إِلَى ٱلتَّهۡلُكَةِ} [البقرة: 195]، وكل ما كان وسيلة إلى ذلك فهو واجبٌ شرعًا، ومن ذلك ترك المصافحة بالأيدي عند اللقاء وعقب التسليم من الصلاة، كما يفعل كثير من المصلين؛ فقد تكون اليد مُلَوثة وقد تنقل العدوى وينتشر الوباء بواسطتها، فمن الواجب شرعًا اتِّقَاءُ ذلك بترك المصافحة؛ صيانةً للأرواح وأخذًا بأحد أسباب السلامة والنجاة.

ومن ذلك التبليغ فورًا عمن أصيبوا بهذا المرض، فهو من أكبر الواجبات الشرعية، والتقصير فيه من كبائر الذنوب، والمُقَصِّر فيه مع التمكُّن منه أشبه بالتَّسَبُّب في قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، ومن ذلك التداوي واتباع ما يُشير به الأطباء للوقاية والعلاج، وإهمالُ ذلك إثٌم كبير([28]).

فقد نبَّهت الفتوى على ضرورة الأخذ بأسباب السلامة والنجاة من العدوى، وأن ذلك من الواجبات الشرعية حفظًا للنفس.

وكذلك فتوى دار الإفتاء المصرية عن كيفية التعامل مع الأمراض المعدية؛ كوباء كورونا المستجد.

فقد ذكرت الفتوى تعريف العدوى، والوسائل التي وردت في الشرع الحنيف للتعامل مع الأمراض المعدية، وهي: الفرار من العدوى باتقاء الأمراض المعدية، والفرار من المصابين بها.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فِرَّ مِنَ المَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ» أخرجه البخاري في صحيحه.

وأشارت إلى إرساء الإسلام مبادئ الحَجْر الصحي، فقد سبقت الشريعة الإسلامية إلى نظم الوقاية من الأمراض المُعدِية والاحتراز من تفشيها وانتشارها؛ منعًا للضرر، ودفعًا للأذى، ورفعًا للحرج؛ حيث أمرت باجتناب ذوي الأمراض المعدية ومخالطتهم؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أيضًا، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يُورِدَنَّ مُمرِضٌ على مُصِحٍّ» متفق عليه.

كما نهت الشريعة أيضًا عن الدخول إلى أرض انتشر فيها الوباء أو الخروج منها؛ حمايةً للأنفس وصيانةً لها من التعرض للتلف؛ فعن أسامة بن زيد رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الطَّاعُونُ رِجْزٌ أَوْ عَذَابٌ أُرْسِلَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَوْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِه بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ» متفقٌ عليه.

وذكرت الفتوى أن المسلمين قد طبقوا هذه القواعد عبر التاريخ، حتَّى أُقيمت المستشفيات والحجور الصحيَّة الخاصة بالمجذومين، كما في عهد الوليد بن عبد الملك سنة (88هــ- 706م)؛ فيما قاله الإمام ابن كثير في “البداية والنهاية”([29])، حتى نقل: أن سنة ثنتين وسبعين وخمسمائة، أمر الخليفة بإخراج المجذومين من بغداد لناحية منها؛ ليتميزوا عن أهل العافية.

ورغَّبت الفتوى أفراد المجتمع في الاهتمام بالطهارة والنظافة كطريق للوقاية من الأمراض، فذكرت أنَّ النظافة أمر مطلوبٌ عقلًا وشرعًا وعرفًا، وهي باب من أبواب الفوز بمحبة الله سبحانه وتعالى، فمن أسمائه تعالى “القدوس”، وهو الْمُنزَّه عن كل نقص، والطاهر من كل عيب، ومن تخلَّق بشيء من صفاته ومعاني أسمائه الحسنى كان محبوبًا له مقربًا عنده؛ فقد أخرج الترمذي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ يُحِبُّ الطِّيبَ، نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ، كَرِيمٌ يُحِبُّ الكَرَمَ، جَوَادٌ يُحِبُّ الْجُودَ، فَنَظِّفُوا أَفْنِيَتَكُمْ وَلَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ)).

وقد حث الشرع الشريف على أهمية النظافة والتطهير؛ في الثوب والبدن والمكان؛ قال تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرۡ} [المدثر: 4]، وقال سبحانه عن مسجد قباء: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْۚ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلۡمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108]، وجعل ذلك شرطًا في صحة الصلاة التي يقف فيها المسلم بين يدي ربه فلا تُقبل صلاة أحد إلا بالطهارة.

كما جعل الشرع الشريف الطهارة شطر الإيمان في الأجر والثواب؛ تأكيدًا على أهميتها ومبالغةً في الحث على فعلها؛ ففي الحديث: «الطُّهُور شَطْر الإيمان» أخرجه الإمام مسلم في “الصحيح”، من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.

كما ذكرت الفتوى أنه مع الأمر بالنظافة ودوام الحفاظ عليها فإن الشرع الشريف قد أمر بطرق للوقاية من الأمراض، ومن أهم طرق الوقاية من الأمراض: غسل اليدين، وقد ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غسل اليدين قبل الأكل وبعده؛ فقد أخرج أبو داود والترمذي عن سلمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده»([30]). والمراد بالوضوء في هذا الحديث: هو غسل اليدين والفم، وتنقيتهم من القاذورات ومن الشحم والدسم، وذلك من باب إطلاق الكل، وهو الوضوء، على الجزء وهو غسل اليد والفم. والغسل قبله يكون تنقيةً لها مما لحق بها من استعمالها قبل الأكل في أعمالٍ، فغسلها يكون نظافة لها وحماية للإنسان مما قد يلحق بالطعام من الأذى عند عدم الغسل، وغسلها بعده يكون مما لحق بها من الطعام وبقاياه.

وذكرت الفتوى أنه لما كان كثير من الأمراض والأوبئة تكون من المعدة فقد حض الشرع الشريف الإنسان أن ينظم أمر طعامه وشرابه؛ فقد أخرج الترمذي عن مقدام بن معدي كرب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما ملأ آدمي وعاء شرًّا من بطن، بحسب ابن آدم أكلات يُقِمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لِنَفَسه»([31]).

فالحديث الشريف يبين أن الشرَّ في امتلاء المعدة بالطعام والشراب، ثم إن كان الإنسان لا محالة عن ملئه لمعدته، فجاء الشرع بتنظيم هذا الأمر بالقسمة الثلاثية، لكي تستقيم صحة الإنسان، ويحفظ نفسه من الأمراض التي يكون سببها الإكثار من الطعام والشراب([32]).

ومن الفتاوى التي صدرت في خصوص ضرورة العلاج من الأمراض: الفتوى الصادرة عن دار الإفتاء المصرية بتاريخ 5/ 10/ 2003م عن حكم التطعيم ضد شلل الأطفال.

فقد أجابت الفتوى بأن التطعيم ضد شلل الأطفال نوعٌ من العلاج الوقائي، وهو مطلوب شرعًا، وتَحثُّ عليه أحكام الشريعة الإسلامية، ويجب على المسلمين أن يتعاونوا في سبيل تطعيم أطفالهم وحمايتهم من الأمراض التي تفتك بهم عند عدمه([33]).

ومن أمثلة هذا القسم أيضًا: فتوى دار الإفتاء المصرية بتاريخ 11/ 10/ 2015م عن مدى إمكانية اعتبار التبرع من أجل القضاء على الالتهاب الكبدي الفيروسي (C) في مصر بابًا من أبواب الزكاة.

ذكرت الفتوى في مطلعها أن القضاء على الأمراض والأوبئة الفتاكة من أهم مقومات حياة الإنسان ومعيشته، وفيه تحقيق لأعظم المقاصد الكلية العليا للشريعة الغراء وهو حفظ النفس.

وقيام الدولة المصرية بتَبنِّي برنامج قومي للقضاء على فيروس سي: من خلال إنشاء مراكز علاج متخصصة، وتوفير أحدث علاج متوفر عالميًّا، إضافة إلى الرعاية المتكاملة للمريض حتى يُشفى يصح دخوله في مصارف الزكاة دخولًا أوليًّا من أكثر من جهة: فهو من جهة أُولَى: داخلٌ في مصرف الفقراء والمساكين؛ لأن أغلب المرضى هم من المحتاجين الذين يفتقدون الرعاية الصحيَّة المناسبة والتغذية السليمة التي تحول دون وصول هذا الوباء إليهم، وهم المستفيد الأعظم من خدمات هذا البرنامج القومي المتكامل.

وهو من جهة ثانيةٍ: داخلٌ في مصرف في سبيل الله؛ لأنه عبارة عن إنشاء منظومة متكاملة لعلاج قطاع كبير من المواطنين الذين يؤدي تحسُّنُ مستواهم الصحي إلى تَطَوُّر معدلات التنمية المجتمعية، وزيادة القوة الاقتصادية للدولة؛ فإن العقل السليم في الجسم السليم، وكل ذلك يساهم في إعداد القوة المأمور به شرعًا. وتطوُّرُ العصر وتنوع آليات القوة فيه يستتبع تطوُّرَ أسباب الإعداد وتنوع جهاته وتعدد وسائله، كما هو الشأن في تحسين منظومة التعليم والبحث العلمي؛ فإن موازين القُوَى لم تَعُدْ محصورة في وسائل الحرب، كما أن بناء القوة يبدأ مِن بناء الفرد وقدرته على الإنتاج.

وقد توسَّع كثيرٌ من العلماء في مفهوم هذا المصرف؛ فجعلوه مجالًا لصرف الزكاة عند الحاجة في كل القُرَب وسُبل الخير ومصالح الناس العامة؛ أخذًا بظاهر اللفظ في قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ ٱللَّهِ} [التوبة: 60] وهو ما عليه فتوى دار الإفتاء المصرية.

وخلصت الفتوى إلى أنه يجوز الإنفاق من أموال الزكاة على البرنامج القومي للقضاء على فيروس (سي)، وذلك من خلال إنشاء مراكز العلاج المتخصصة، وتوفير العلاج، والرعاية المتكاملة للمريض حتى يُشفى([34]).

تخلف وضع المرأة من حيث نسبة مساهمتها في النشاط الاقتصادي:

لقد باتت المساواة بين الجنسين ضرورة من ضرورات أي دولة تتطلع إلى السلام والازدهار والاستدامة، ويتجسد ذلك في سياق عمل الأمم المتحدة من خلال الأهداف الإنمائية للألفية، حيث تعد أربعة من أهداف الألفية الثمانية الموضوعة للحد من الفقر مرتبطة بشكل مباشر بالنساء، وكذلك أهداف التنمية المستدامة التي يتمثل الهدف الخامس منها في تحقيق المساواة بين الجنسين وتمكين جميع النساء والفتيات.

وعلاوة على ذلك فإن ثمة علاقة وارتباطًا بين المساواة بين الجنسين من جهة وبين التنمية الاقتصادية من جهة أخرى، فقد أظهرت بعض الدراسات التطبيقية أن عدم المساواة بين الجنسين في التعليم والصحة يعرقل تكوين رأس المال البشري، الذي يؤدي إلى عرقلة تحقيق النمو الاقتصادي. ويبدو أن هذا التأثير يعمل من خلال مزيج من أثر المساواة بين الجنسين على إنتاجية العمل عمومًا في الاقتصاد، وأثرها على صحة الأطفال ورفاهتهم داخل الأسرة، ومن ثم على إنتاجية ورفاهة الجيل القادم من العمال.

كما يخلص تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2002م إلى أن ضعف تمكين المرأة يشكل أحد العوامل التي أعاقت بقوة التنمية البشرية في المنطقة على مدى العقود الثلاثة الماضية.

وقد تضمنت استراتيجية التنمية المستدامة 2030 لمصر ضمن أهداف العدالة الاجتماعية أهدافًا مثل أن تكون مصر من أفضل 20 دولة في معدل تحسن المساواة بين الجنسين خلال الفترة 2015-2030، وزيادة نسبة النساء اللاتي لديهن عمل دائم في قطاع العمل الرسمي بنحو 30%.

ويتضح من ذلك أن تعزيز المساواة بين الجنسين وتمكين المرأة هما من بين أهم الأهداف التي تسعى الدولة إلى تحقيقها، وبخاصة بعد إقرار دستور 2014م الذي تتناول المادة (11) منه تحقيق المساواة بين المرأة والرجل في جميع الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، واتخاذ كافة التدابير التي تكفل ضمان تمثيل المرأة تمثيلًا مناسبًا في المجالس النيابية، وحقها في تولي الوظائف العامة ووظائف الإدارة العليا في الدولة والتعيين في الجهات والهيئات القضائية دون تمييز ضدها.

كما ألزم الدستور الدولة بحماية المرأة من كل أشكال العنف، وتمكينها من التوفيق بين واجبات الأسرة ومتطلبات العمل، وبتوفير الرعاية والحماية للأمومة والطفولة والمرأة المعيلة والنساء الأشد احتياجًا. وتتوافق هذه الأهداف مع ما ورد في مقترح الأمم المتحدة لأهداف التنمية المستدامة([35]).

ولقد أثَّر التعليم في تغيير وضع المرأة ومكانتها بإسهامها في العمل، ونظرًا للتغيرات الحادثة وتحديات المجتمع اقتحمت المرأة مجالات المجتمع المختلفة سياسية واقتصادية واجتماعية، وبدأت تتحرر من دورها التقليدي إلى آفاق جديدة لتشارك في تطوير المجتمع وتغييره للأفضل.

وقد تأثرت المرأة بالبرامج التنموية والحياتية التي تستطيع فيها مواصلة دورها في التنشئة الاجتماعية حيث اعتبرت البرامج التعليمية من أكبر القطاعات التي تتقدم فيها المرأة وتحقق النجاح، كذلك العمل الاجتماعي الذي يتأثر به قطاع كبير من المجتمع في مواجهة مشكلاتهم لمساعدتهم على التكيف الاجتماعي في المجتمع، بالإضافة إلى المساهمة في الأعمال الحرة التي تدرُّ بها دخلًا على أسرتها لتحسين مستوى المعيشة مثل الأسر المنتجة، وقد استطاعت المرأة أن تكون مؤثرة في الحراك الاجتماعي والاقتصادي.

ونعرض فيما يلي الأدوار التي يمكن أن تساهم بها المرأة في المجتمع لتحقيق التنمية:

أولًا: المشاركة الاجتماعية:

فمن الأدوار الاجتماعية التي تقوم بها المرأة لتفعيل التنمية الاقتصادية:

1-دور المرأة في رعاية الأبناء: فتنشئة الأم للأبناء على حب الوطن وغرس الانتماء وقيم الرجولة فيه وتحريره من مظاهر الفساد وتوجيه طاقاته إلى أهداف إيجابية يحمي بها نفسه ومجتمعه هو الطريق الموصل إلى حدوث التنمية والتغيير إلى الأفضل، فدور المرأة في تكوين الشخصية الواعية والقوية التي تشعر بأوضاع المجتمع وتسعى إلى الإصلاح هو أساس التقدم.

2-دور المرأة في التكافل الاجتماعي: فقد رفع الإسلام شأن المرأة في الأمة لمساهمتها المادية لكل محتاج إليها؛ فالحث على استثمار الطاقات البشرية والمادية في مرضاة الله وتحسين أحوال المعيشة للأفراد هو من أفضل العبادات؛ فعن أبي هريرة، قال: قالوا: يا رسول الله، فلانة تصوم النهار، وتقوم الليل، وتؤذي جيرانها، قال: «هي من أهل النار»، قال: قالوا: يا رسول الله، فلانة تصلي المكتوبات، وتتصدق بالأثوار من الأقط ولا تؤذي جيرانها، قال: «هي من أهل الجنة»([36])([37]).

ثانيًا: المشاركة السياسية:

فقد كانت المرأة في صدر الإسلام تمارس النشاط السياسي، حيث أعطى الإسلام المرأة حق الشورى في الأمور المهمة في الدولة، ومن الأدلة على ذلك: أنه حين بويع أبو بكر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان علي والزبير يدخلان على فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشاورونها ويرتجعون في أمرهم([38])، كما أعطاها الحق في الإجارة والأمان، وهو ما يسمى في العصر الحديث «حق اللجوء السياسي» إذ روي عن أنس أن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أجارت أبا العاص بن الربيع فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم جوارها([39]). كما قامت المرأة بممارسة العمل السياسي في البيعة للرسول الكريم، وفي عهد عمر بن الخطاب تولَّت امرأة تسمى الشفاء حسبة السوق.

وتقوم المرأة بالإسهام في تحقيق التنمية من خلال ممارسة النشاط السياسي؛ لما لها من حق الحرية في التملك والتصرف، والمشاركة في الدفاع عن الوطن، وهي بتوليها الوظائف العامة في الدولة وبما لها من حق الانتخاب والترشح للمجالس النيابية والمحلية والمهنية تستطيع تخفيف الأعباء المادية عن كاهل أفراد الشعب محدودي الدخل وتجاوز العقبات التي تواجه الشباب بالاستمرار في المشروعات القومية والمحلية التي يديرها المستثمرون وأنظمة الدولة، كما تقوم بتشجيع المرأة على الإنتاج وإتاحة فرص العمل أمامها للمشروعات الصغيرة والمتناهية الصغر سواء في الإنتاج الزراعي أو التجاري أو الحرفي([40]).

ثالثًا: المشاركة الاقتصادية:

تمتعت المرأة منذ أربعة عشر قرنًا بشخصيتها الاقتصادية المستقلة وحريتها الكاملة في التصرف بأموالها دون إذن زوجها، وكذلك لها أن تبيع وتشتري وتعقد الصفقات التي تنفع بها الآخرين.

وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم النساء إلى مجتمع إنتاجي، فمن ذلك دعوته المرأة إلى تربية الحيوانات للمساهمة في زيادة الثروة الحيوانية، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اتخذي غنمًا يا أم هانئ فإنها تروح بخير، وتغدو بخير»([41]). وفي رواية: «اتخذي غنمًا فإن فيها بركة»([42]).

كما كانت تمارس التجارة ملتزمة بضوابط الشرع في البيع والشراء، فعن قَيْلَة أم بني أنمار، قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض عُمَره عند المروة، فقلت: يا رسول الله إني امرأة أبيع وأشتري، فإذا أردت أن أبتاع الشيء سُمْتُ به أقل مما أريد، ثم زدت، حتى أبلغ الذي أريد، وإذا أردت أن أبيع الشيء سمت به أكثر من الذي أريد، ثم وضعت حتى أبلغ الذي أريد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تفعلي يا قيلة، إذا أردت أن تبتاعي شيئًا فاستامي به الذي تريدين، أعطيت أو منعت، وإذا أردت أن تبيعي شيئًا فاستامي به الذي تريدين، أعطيت أو منعت»([43]).

وحين بنى النبي صلى الله عليه وسلم المجتمع الإسلامي في المدينة كان يدفع به إلى التنمية والتقدم، فقد اعتبر أن متابعة الناتج الزراعي والاهتمام به من الضروريات التي تخرج فيها المرأة في فترة العِدَّة لأن زيادة هذا الناتج من شأنه توفير الغذاء لعامة الناس، فعن جابر بن عبد الله قال: طُلِّقَتْ خالتي، فأرادت أن تَجُدَّ نَخْلَها، فزجرها رجل أن تخرج، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «بلى فجدي نخلك، فإنك عسى أن تَصَدَّقي، أو تفعلي معروفًا»([44]).

كما كانت المرأة تمارس بعض الحرف لكسب المال رغبة في المال وحبًّا للإنفاق في سبيل الله، وهذا بدوره يسهم في تحقيق الرخاء بين المسلمين، فتقول السيدة عائشة رضي الله عنها عن أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها: «كانت تعمل بيدها وتَصَدَّق»([45])، وهي بذلك تساهم في الناتج القومي ورفع مستوى حالة الفقراء بإشباع حاجاتهم الأساسية.

وكذلك زينب امرأة عبد الله بن مسعود كانت تمتلك القدرة المالية أكثر من زوجها، فتسأل النبي هل يكفيها الإنفاق على زوجها وأيتام في حجرها عن التصدق، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: «نعم، لها أجران، أجر القرابة وأجر الصدقة»([46]).

فقد وافق الرسول على ذلك كنوع من ترشيد الإنفاق وعدالة توزيع الثروات، وهما ما تدور حولهما الدراسات الاقتصادية.

والنهضة التنموية في مصر الآن تحتاج إلى جهود وطاقات المرأة في ميادين الزراعة والصناعة والحرف المهنية استكمالًا لدورها في التنمية الاقتصادية، فنجد أن المرأة قد أقامت المشروعات الصغيرة في الزراعة (مثلًا زراعة أسطح المنازل وإقامة المشاتل… إلخ) والتجارة (في الأغذية الجاهزة أو تصنيع وبيع الملابس أو تدوير المخلفات البيئية للصناعة…إلخ)([47]).

وفي الاقتصادات التي تتزايد فيها الشيخوخة بمعدل سريع يمكن أن تؤدي زيادة مشاركة الإناث في القوى العاملة إلى إعطاء دفعة للنمو الاقتصادي عن طريق تخفيف أثر انكماش القوى العاملة. كما في اليابان.

كما يمكن أن يُسهم تحسين فرص المرأة لكسب الدخل والتحكم فيه في توسيع نطاق التنمية الاقتصادية في الاقتصادات النامية عن طريق رفع معدلات التحاق الفتيات بالتعليم على سبيل المثال؛ فالمرأة يتاح لها بدرجة أكبر من الرجل أن تستثمر جزءًا كبيرًا من دخل أسرتها المعيشية في تعليم أبنائها. وتشير منظمة العمل الدولية إلى أن عمل المرأة -مدفوع الأجر وغير مدفوع الأجر- يمكن أن يكون أهم عامل على الإطلاق للحد من الفقر في الاقتصادات النامية، ومن ثم فيمكن أن تُسفر زيادة مشاركة الإناث في القوى العاملة وحصولهن على دخل أكبر عن زيادة الإنفاق على التحاق الأطفال -بمن فيهم الفتيات- بالتعليم مما يتسبب في التقدم والتنمية حين تصبح النساء المتعلمات قدوة للإناث([48]).

مساهمة الفتوى في دعم مشاركة المرأة في الأعمال المجتمعية والسياسية:

لقد ساهمت فتاوى دار الإفتاء المصرية في الإعلاء من شأن المرأة ودحضت الشبهات التي تهدف إلى الحط من قدر المرأة وتهميش دورها في المجتمع، وعدم تمتعها بالحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية التي يتمتع بها الرجل، وقد ظهر هذا الاتجاه في العديد من الفتاوى، نذكر منها: فتوى دار الإفتاء المصرية عن حكم مشاركة المرأة في الأعمال المجتمعية والسياسية، حيث جاء فيها:

معارضة مشاركة المرأة في الأعمال المجتمعية والسياسية إنْ كان القصد منها هو الحط من قَدْرِ المرأة وتهميش دورها في بناء المجتمع، فهذا مخالف لما أصَّله الشرع الشريف من التساوي بين الجنسين في أصل الحقوق والواجبات، ومخالف أيضًا لما قرَّره من مبدأ التساوي بين الجنسين في الأهلية القانونية؛ والله تعالى يقول: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228]، وروى أبو داود والترمذي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ».

وهذه المشاركة الآن قد أصبحت واقعًا لا يُنكَر؛ فالمرأة تشارك الرجل في أغلب الدول الإسلامية والعربية في جميع وظائف الدولة والحياة السياسية والعلمية؛ فالمرأة سفيرة ووزيرة وأستاذة جامعية وقاضية منذ سنوات عديدة، وهي تتساوى مع الرجل من ناحية الأجر والمُسَمَّى الوظيفي في كل تلك الوظائف، فالمطلوب هو جعل هذه المشاركة المحمودة في نفسها في إطار الأحكام والآداب الشرعية والأعراف التي تحفظ للمرأة كرامتها، وتصون عرضها، وتعمر بيتها، وترضي ربها([49]).

ومن الفتاوى الصادرة عن دار الإفتاء المصرية في هذا الصدد: فتوى تولي المرأة المناصب القيادية، وهي من الفتاوى المبسوطة المفصَّلة، فقد جاء في هذه الفتوى: أن الأصل في الإسلام المساواة بين المرأة والرجل، إلا في حالات مخصوصة محددة تُلتَمس في مظانها، استدعتها حِكَمٌ بالغة، ومصالح مُحققة.

وقد ورد في الشريعة الإسلامية جملة من الشواهد والأدلة تشير إلى رجاحة ووفور عقل المرأة لا سيما في الأمور الجسام والقضايا المصيرية؛ فمن ذلك المشورة الحكيمة لأم المؤمنين السيدة أم سلمة رضي الله تعالى عنها في صلح الحديبية، والتي نفع الله عز وجل بها الأمة الإسلامية ممثَّلة في رعيلها الأول من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث أنجاهم من حدَثٍ جَللٍ وأمر عصيب وذلك عندما التبَسَ الأمرُ عليهم، فتوقفوا عن النحر والحلق حين أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، فأشارت عليه السيدة أم سلمة رضي الله تعالى عنها؛ كما جاء في “إرشاد الساري”: “فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ الله.. اخْرُجْ، ثُمَّ لَا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ. فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ، حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ نَحَرَ بُدْنَهُ، وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ. فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ، قَامُوا فَنَحَرُوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا”([50]).

وقد أشار إلى هذا العلامة ابن بطال في “شرح صحيح البخاري”؛ فقال: [شاورَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أمَّ سلمة؛ فأراه الله بركةَ المشورةِ، ففعل ما قالت؛ فاقتدى به أصحابه.. ففي هذا من الفقه أن الفعل أقوى من القول؛ وفيه: جواز مشاورة النساء ذوات الفضل والرأي]([51]). ومما يشهد ويدل على رجاحة عقلها وحكمة مشورتها إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لمشورتها والعمل بها.

من هنا يرى العلامة الشيخ محمد متولي الشعراوي أن المرأة قد تتعدَّى مرحلةَ المساواة مع الرجل إلى مرحلة التفوُّق والتميُّز عليه؛ فيقول في “الخواطر”: [ولعل المرأة تشير برأي قد يعزُّ على كثير من الرجال، ولنا المَثَل من زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة رضي الله تعالى عنها، وموقفها في صلح الحديبية]([52]).

وقالت الفتوى: وتجدر الإشارة إلى أن مسألة تولي المرأة للولايات العامة من المسائل التي اختلف فيها الفقهاء؛ حيث تباينت آراؤهم فيها، فذهب فريق منهم إلى جواز ذلك، وذهب فريق آخر إلى عدم جوازه.

ولقد ذخرت الشريعة الغراء بجملة من الأدلة والشواهد تشير إلى تولي المرأة لمناصب رفيعة في ديار الإسلام؛ ومن ثمَّ يترجح بها مذهب مَن قال بالجواز. وقد ذكرت الفتوى جملة من هذه الشواهد.

وخلصت الفتوى إلى أنَّ تولي المرأة للمناصب القيادية أمرٌ جائز شرعًا، والشريعة الإسلامية لم تنظر إلى النوع، إنما اعتبرت الكفاءة والقدرة على إنجاز الأمور على أتم وجه، وفي مواقف سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحض على الثقة بالمرأة وإعطائها من الحقوق والقيادة ما تكون مؤهلة له([53]).

ومن الفتاوى في هذا الصدد أيضًا: فتوى دار الإفتاء المصرية في تفنيد شبهة عدم مساواة المرأة بالرجل، جاء في هذه الفتوى: لقد ساوت شريعةُ الإسلام بين الرجل والمرأة في أصل الخلقة، وفي القيمة الإنسانية؛ حيث خلقهما الله تعالى من أصلٍ واحدٍ، وطينةٍ واحدة من غير فرقٍ بينهما في الأصل والفطرة، فلا فضلَ لأحدهما على الآخر بسبب عنصره الإنساني وخلقه الأول، فالناس جميعًا ينحدرون من أب واحد وأم واحدة، قال الله تعالى: {وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا} [فاطر: 11].

كما تقرَّر في ميزان الشريعة أنَّ المرأة مساوية للرجل في تحمُّل مسؤولية أعمالها، قال تعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21].

وأضافت الفتوى: وتجدر الإشارة في هذا المقام إلى أنَّ ما يبدو في الظاهر من وجود عدم تساوٍ بين المرأة والرجل في بعض الأمور لا يرجعُ إلى وجود تفضيل بينهما على أساس من الجنس؛ وإنما يعود إلى وجود أسبابٍ وأُسس موضوعية لها مبرراتها العقلية، ولعلَّ من أهم هذه الأسس الموضوعية وجودَ تبايُنٍ في الوظائفِ والخصائصِ بين الرجل والمرأة في بعض الأمور أدَّت إلى تباين مراكزهما القانونية، بحيث لا يتحقق العدل عند المساواة بينهما في ظل هذا التباين، والمركز القانوني هو ما يميز فردًا ما عن غيره، أو طائفةً ما عن غيرها، وما يترتب على ذلك من حقوق أو واجبات.

ومعنى ذلك أنَّ الشريعة الإسلامية حين تمنح الرجل مركزًا قانونيًّا يتميَّز به عن المرأة في أمر ما، لا تمنحه ذلك على أساس من التفضيل الجنسي؛ بل بناءً على كونه واجبًا يقعُ على عاتقه تكلفه به، وهذا لا يعني تفضيلَ الرجل على المرأة، كما لا يعني أيَّ انتقاصٍ من حقوق المرأة؛ مثال ذلك: زيادة حصَّة الرجل عن حصَّة المرأة في بعض حالات الإرث، فإنه لا يأتي بناءً على كونه رجلًا، وكونها امرأةً؛ وإنما يأتي على أساس تباين المهام والأعباء المالية بين الرجل والمرأة في الحياة العائلية، فقد كلَّفت الشريعة الرجلَ بوجوب النفقة على المرأة التي يتزوجها، في حين أنها لم تكلف المرأة بوجوب النفقة، حيث أعْفتها الشريعة من أعباء المعيشة، وألزمت زوجها نفقتها دون أن تكلفها أي عبء في نفقات الأسرة مهما كانت موسرة، وكما أن هناك حالاتٍ ترثُ المرأةُ فيها النصف من نصيب الرجل، فإن هناك حالاتٍ ترثُ فيها المرأةُ مثلَ الرجل، وهناك حالات ترث فيها المرأةُ أكثرَ من الرجل، بل يوجد حالاتٌ ترث فيها المرأةُ ولا يرث نظيرها الرجل.

وأضافت الفتوى: ولقد سادت في مجتمعاتنا المعاصرة تصوراتٌ مغلوطةٌ عن علاقة الرجل بالمرأة، تقوم على فهوم خاطئة تعتبر أنهما خُلِقَا مُتنافِسَيْنِ، وأنهما في صراعٍ دائمٍ لا ينتهي، لكن في واقع الأمر هذه التصورات المغلوطة والفهوم الخاطئة لا تمُّت للحقيقة بأدنى صلة؛ فالرجل والمرأة خُلِقَا مُتكامِلَيْنِ، يكمل كلٌّ منهما الآخر، فالأصل في الحياة الإنسانية أن يتكامل كلٌّ من الرجل والمرأة وكأنهما جسد واحد، وعقل واحد، وكيان واحد، مصداق ذلك قوله تعالى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء: 1]، فالرجل والمرأة خلقهما الله سبحانه وتعالى متكامِلَيْنِ متعاونَيْنِ، وليسا متعاندَيْنِ ولا مُتنافسَيْنِ.

ولقد أشار البيان القرآني الحكيم في غير ما موضع من آي الذكر الحكيم في تناسب بليغ إلى قضية التكامل بين الرجل والمرأة، وذلك في قول الله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ۞ وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ۞ وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [الليل: 1-3].

في هذه الآيات الكريمة ينبِّه القرآن الكريم على العلاقة التكاملية بين الرجل والمرأة، فيبدأ بوصف التكامل في تعاقب الليل والنهار، وأثر ذلك في استقامة الحياة، فجعل الليل سكنًا لراحة الأبدان، وجعل النهار للعمل والاجتهاد؛ فقال تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ۞ وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل: 1-2]؛ وهو ما يظهر من قوله تعالى: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [الأنعام: 96]. وقوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} [الفرقان: 47].

ثم ينتقل القرآن الكريم بعد ذلك إلى الحديث عن العلاقة التكاملية بين الرجل والمرأة في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [الليل: 3]، إشارة إلى أن الحياةَ والكون قد استقرَّا بالليل والنهار معًا وبتتابعهما؛ وكذلك الذكر والأنثى تَعاونهما وتكاملهما واشتراكهما معًا لتستقر الحياة الإنسانية، وليستمر النسل، وينعم البشر جميعًا بحياة هادئة مسقرة تملؤها السكينة والسعادة والمودة والرحمة كما أرادها الله عز وجل في قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21].

وخلصت الفتوى إلى أن العلاقة بين الرجل والمرأة علاقة تكاملية، وما يبدو في الظاهر من عدم وجود تساوٍ بين المرأة والرجل في بعض الأمور لا يرجع إلى وجود تفضيل بينهما على أساس الجنس، وإنما هي أسباب وأسس موضوعية من أهمها تباينهما في الوظائف والخصائص، مما يجعل العدل لا يتحقق عند المساواة بينهما، والشريعة الإسلامية حين تمنح الرجل شيئًا لا تمنحه للمرأة، فإن ذلك لا يكون على أساس من التفضيل الجنسي، وإنما لكونه واجبًا يقع على عاتقه تكلفه به، وهذا لا يعني تفضيل الرجل على المرأة، كما لا يعني أيَّ انتقاص من حقوق المرأة([54]).

 

التلوث البيئي:

لقد جاء التقدم الصناعي الي أحرزه الإنسان بهجوم كاسح على الموارد الطبيعية، خاصة غير المتجددة منها، مثل الفحم والنفط وبعض الخامات المعدنية والمياه الجوفية، وهي الموارد الطبيعية التي احتاج تكوينها إلى انقضاء عصور جيولوجية طويلة، ولا يمكن تعويضها بصورة طبيعية إلا بعد آلاف السنين.

وظهرت في أعقاب تفشي الصناعات مواد وغازات لوثت الهواء والمياه وحوَّلت بعض السحب إلى حامض الكبريتيك وهطلت منها أمطار حمضية أتلفت الغابات والغطاء النباتي للأرض وأحدثت أضرارًا بالمباني لا سيما التاريخية العريقة، وألقت المصانع بمخلفاتها ونفاياتها الكيميائية السامة في البحيرات والأنهار وفي باطن التربة.

والتلوث لا يعرف الحدود، فالغلاف الجوي متصل ببعضه البعض، والمواد الملوثة تسير عبره من مكان لآخر، والبحار مفتوحة تنقل تياراتها المواد الملوثة إلى أقاصي الأرض، وتنقل الرياح والطيور المواد المشعة من مناطق التجارب النووية إلى أماكن أخرى بعيدة، ومع ازدياد أعداد السكان في العالم ارتفعت معدلات التلوث البيئي.

وهناك مظاهر تشير إلى عالمية مشكلة التلوث، فقد أخذت مثلًا تتساقط على كثير من الدول الأوروبية كميات هائلة من الملوثات قادمة من مناطق أخرى عن طريق الأمطار الحمضية، كذلك تساهم الأنهار والبحار والمحيطات في توحيد العالم من ناحية التلوث البيئي، فعلى سبيل المثال تتوزع مسئولية تلويث البحر الأبيض المتوسط بين (120) مدينة من (18) دولة مطلة عليه، فتحول هذا البحر إلى مستنقع كبير، وكذلك فإن تصدير واستيراد المواد الغذائية من مناطق ملوثة يساهم في تداول التلوث بين الدول كافة، وهكذا تتحول مشكلة التلوث إلى مشكلة عالمية([55]).

وقد ظهرت الحركات المطالبة بحماية البيئة في مطلع ستينات القرن العشرين، وظهور هذه الحركات يعتبر بمثابة القلق على البيئة من الأخطار المحدقة بها، وهو قلق لم يكن جديدًا على الإنسان حيث إن قلقه على البيئة بسبب تدهورها بفعل التعامل مع مواردها هو قلق قديم يمتد إلى العصور التي انتقل فيها الإنسان إلى حياة الزراعة، ولعل ظهور الكثير من الأعراف والتقاليد في المجتمعات الزراعية التي تهدف إلى تنظيم عملية جني المحاصيل والتحطيب، وحتى نوعية المواشي التي يتم ذبحها وغيرها من العادات والتقاليد التي لا يزال بعضها موجودًا حتى الآن كل ذلك يدل على اهتمام الإنسان المبكر بحماية البيئة ومواردها، ولعل ذلك ما جعل الصينيين القدامى يقومون بتعيين مفتشين لضمان عدم تدهور الأرض الزراعية نتيجة لسوء الاستخدام. أما ما يتعلق بالأضرار البيئية الناجمة عن التلوث فقد أشارت بعض الأبحاث إلى أن الفيلسوف اليوناني «أفلاطون» كتب في قوانينه ما يمكن اعتباره مبدأ تغريم مسبب التلوث، كما صدر في بريطانيا أول قانون لتخفيف انبعاث الدخان وتصريف النفايات، وذلك في العام 1273م.

والعلاقة بين الإنسان والبيئة هي علاقة فطرية وأزلية؛ إذ البيئة هي الإطار الذي يحصل الإنسان منه على مقومات حياته، وقد تنامت وتصاعدت هذه العلاقة خلال العصور البشرية المختلفة وهي العلاقة الفطرية التي كان فيها الإنسان يراجعها بشكل عفوي وفطري إلا أن البيئة قد تعرضت للأضرار في عصور لاحقة وهو عصر الثورة الصناعية التي بدأت مع اختراع جيمس وات للآلة البخارية في العام 1763م، حيث ظهرت العديد من الكوارث البيئية، وكانت أول كارثة ثم تسجيلها في العام 1948م في ولاية ديلاوير الأمريكية المقام فيها عدد من المصانع الخاصة بالصلب وحامض الكبريتيك وإنتاج الزنك، حيث أدت إلى وفاة عشرين شخصًا ومرض 5900 إضافة إلى ذلك حدوث كوارث بيئية أخرى في لندن وغيرها من البلدان الصناعية الأخرى، وذلك في حقبة الخمسينيات والستينيات، لكن أشهرها الكارثة التي تعرضت لها لندن عام 1952م جرَّاء تلوث الجو بالضباب الدخاني مما أدى إلى وفاة أربعة ألاف شخص بسبب تركز ثاني أكسيد الكبريت في الجو.

وعلى هذا النحو استمر الاستنزاف والإضرار بالبيئة من أجل التنمية، وقد ظهرت كوارث ومشكلات أكثر خطورة مما دفع الأمم المتحدة إلى عقد مؤتمر التنمية البشرية في العام 1972م في مدينة ستوكهولم السويدية، والذي أنتج الإعلان عن إنشاء برنامج الأمم المتحدة للبيئة حيث أصدر مجموعة من خبراء الأمم المتحدة في أواخر السبعينات من القرن الماضي تقرير مستقبلنا المشترك الذي خرج بمفهوم التنمية المستدامة، وهي التنمية التي تلبي احتياجات الحاضر دون المساس باحتياجات الأجيال القادمة، وكان لتقرير مصيرنا المشترك الصادر عن جماعة بورتلاند في العام 1978م دوره في وضع حد للخلاف الدائر بين البيئة والتنمية، وعلى هذا الأساس تحركت القضايا والاعتبارات البيئية إلى أفق أوسع حتى أصبحت جزءًا مهمًّا من السياسات والفلسفات الاقتصادية والتنموية([56]).

وهو الأمر الذي دعا كثير من التشريعات في جميع الدول إلى تخصيصها جانبًا كبيرًا من أحكامها لتنظيم الأنشطة الإنسانية التي قد ينجم عنها أضرار ملوثة للبيئة، فضلًا عن اتخاذ التدابير اللازمة لمكافحة التلوث البيئي بهدف الحد منه والسيطرة عليه.

تعريف التلوث البيئي:

هناك عدة تعاريف للتلوث البيئي تتقارب فيما بينها، فيعرَّف على أنه: «الطارئ أو غير المناسب الذي أُدخل في التركيبة الطبيعية –أي الكيميائية والفيزيائية والبيولوجية للمياه أو للأرض أو للهواء- مما يؤدي إلى تغير أو فساد أو تدني في نوعية تلك العناصر، مما يلحق الضرر بحياة الإنسان أو مجمل الكائنات الحية، وتلف الموارد الطبيعية».

وهناك تعريف آخر، هو أن التلوث البيئي: «كل تغير غير مرغوب في الصفات الطبيعية والكيميائية والبيولوجية في الوسط المحيط (هواء، ماء، تربة) بما يسبب تأثيرات ضارة على الإنسان والكائنات الحية الأخرى، وكذلك الإضرار بالعملية الإنتاجية والموارد المتجددة»([57]).

وعرَّف المشرع المصري التلوث بأنه «أي تغير في خواص البيئة مما قد يؤدي بطريق مباشر أو غير مباشر إلى الإضرار بالكائنات الحية أو المنشآت أو يؤثر على ممارسة الإنسان لحياته الطبيعية»([58]).

أشكال التلوث البيئي:

هناك أشكال عديدة للتلوث البيئي، هي:

تلوث الهواء:

وهو إدخال مباشر أو غير مباشر لأي مادة في الغلاف الجوي بالكمية التي تؤثر على نوعية تركيبته، بحيث ينتج ذلك آثارًا ضارة على الإنسان والأنظمة البيئية وعلى إمكانية الانتفاع بالبيئة بوجه عام. ومن أهم مظاهر هذا التلوث الاحتباس الحراري.

تلوث الماء:

هو كل تغير في الصفات الطبيعية للماء يجعله مصدرًا للأضرار بالاستعمالات المقصودة منه، وذلك بإضافة بعض المواد الغريبة التي تسبب تعكير الماء أو تكسبه رائحة أو لونًا أو طعمًا، وقد يتلوث الماء بالميكروبات.

تلوث التربة:

والتربة هي الدعامة التي ترتكز عليها الحياة النباتية، والمقصود بتلوث التربة: هو إدخال مواد غريبة في التربة تسبب تغيرًا في الخواص الفيزيائية أو الكيميائية أو البيولوجية التي من شأنها القضاء على الكائنات الحية التي تستوطن التربة، وتساهم في عملية التحلل للمواد العضوية التي تنزع منها قيمتها وقدرتها على الإنتاج.

تلوث الضوضاء:

تعرف الضوضاء بأنها: تداخل مجموعة من الأصوات المرتفعة والحادة الغير مرغوب فيها فتسبب إزعاجًا للإنسان ويتولد عنها آثار التوتر العصبي والجهاز الهضمي وأمراض القلب([59]).

 

تأثير التلوث على التنمية:

تقوم التنمية على استغلال الموارد البيئية والإمكانيات البشرية بما فيها المنجزات العلمية والتكنولوجية، وذلك من أجل تحقيق عدد من الأهداف أهمها تلبية الاحتياجات البشرية وتحسين وتطوير نوعية حياه البشر، ويقاس مستوى النهوض والتقدم التنموي في أي مجتمع وذلك فيما تحدثه (التنمية) من تغييرات في البنية الاجتماعية والاقتصادية تتجلى في تحسين

الحياة المعيشية لأفراد المجتمع وزيادة الدخل القومي.

وبناء على ما تقدم يمكن أن نلاحظ العلاقة الوثيقة بين التنمية والبيئة؛ فالأولى تقوم على موارد الثانية، ولا يمكن أن تقوم التنمية دون الموارد البيئية، ومن ثم فإن الإخلال بالموارد من حيث إفسادها سيكون له انعكاساته السلبية على العملية التنموية والإخلال بأهدافها، كما أن شحة الموارد وتناقصها سيؤثر أيضًا على التنمية من حيث مستواها وتحقيق أهدافها حيث أنه لا يمكن أن تقوم التنمية على موارد بيئية متعدية كما أن الإضرار بالبيئة ومواردها يضر بالاحتياجات البشرية، وعليه ينبغي على التنمية أن تقوم أساس وضع الاعتبار للبيئة وأن ينظر إلى البيئة والتنمية باعتبارهما متلازمين فالتنمية لن تحقق أهدافها دون الأخذ بسياسات بيئية سليمة([60]).

من هنا نقول: إنه يترتب على التلوث أضرار اقتصادية تثقل كاهل الدول علاوة على تأثيره السلبي على توازن البيئة، وتسعى الدول إلى التخفيف منه إذ أنه لا يمكن التخلص تمامًا منه.

ويترتب على التلوث البيئي أضرار لها تأثيرها السلبي على الاقتصاد، من أهمها ما يلي:

1-التكاليف الاقتصادية بسبب فقدان أو تدهور الصحة البشرية بسبب التلوث كالخسائر الإنتاجية الناجمة عن حالات الوفاة المبكرة، وحالات الإصابة بأمراض التلوث، وكذلك التكاليف المتزايدة للرعاية الصحية بما في ذلك تكاليف البحوث اللازمة للوقاية من الآثار الصحية للتلوث.

2-التأثير السلبي على إنتاجية الأنظمة الطبيعية كالمحاصيل الزراعية والثروة السمكية وغيرها.

3-تدمير الموارد الاقتصادية (مثل التربة والغابات والمياه… إلخ) مما يعوق تنفيذ خطط التنمية الاقتصادية للدولة، وانخفاض كفاءة مواردها الاقتصادية المتاحة، وانخفاض النمو الاقتصادي على المدى الطويل.

4-التأثير السلبي على توافر واستغلال الموارد الاقتصادية والنشاط الاقتصادي للفرد.

5-الخسائر التي تلحق بالتماثيل والأماكن الأثرية والتاريخية ذات القيمة الجمالية التي لا تقدَّر بثمن.

فالآثار السلبية للتلوث لا تقتصر على الخسائر المادية وحدها، وإنما تشمل ما يتم إنفاقه من أموال باهظة لأجل مكافحة التلوث والوقاية منه، وهو ما يؤثر سلبًا على توفير الأموال اللازمة لتنفيذ الخطط الإنمائية([61]).

دور الفتوى في مكافحة التلوث البيئي:

لقد ساهمت الفتوى في مكافحة التلوث بكافة أشكاله، وقد صدرت فتاوى متعددة عن دار الإفتاء المصرية في هذا المجال، نذكر منها: فتوى إعادة تدوير المخلفات والنفايات، جاء فيها: إعادة تدوير المخلفات Recycling)): هي عمليةٌ صناعية؛ مُدخلاتها المخلفات والنفايات التي تمَّ التَخلص منها، ومُخرجاتها منتجات جديدة، تُعْتَبر المواد الخام لها ما استُخْرِجَ من المخلفاتِ والنفاياتِ، فهي في مجملها تحويل المواد المُستَرَدَّة من النفايات، إلى منتجات جديدة بتغيير خصائصها وإعادة تصنيعها.

وهي عملية اقتصادية تعود بالنفع على البيئة؛ إذ تخلصها من إحدى عوامل التلوث بها، وهي النفايات والمخلفات، مع التقليل من استنزاف مواردها الطبيعية، بإيجاد بديل لها مستخرج من هذه النفايات، وتعود بالنفع أيضًا على المجتمع؛ إذ تساعد على زيادة التنمية الاقتصادية وتوفير المنتجات بصورة أكبر، وإتاحة فرص عمل جديدة في هذا المجال.

وأضافت الفتوى: وقد كان للشريعة الإسلامية السبق في الدعوة إلى إعادة تدوير المخلفات والانتفاع بها، والاستفادة بها كلما أمكن، والتراث الإسلامي حافل بأشكال وصور لعملية تدوير المخلفات وإعادة استخدامها، وإن اختلفت آلية تنفيذها عن الصورة المعاصرة، ومن الأمثلة على ذلك:

-ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من الدعوة إلى الاستفادة بجلود الحيوانات الميتة بدبغها بدلًا من إلقائها في النفايات؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِشَاةٍ مَيِّتَةٍ، فَقَالَ: «هَلَّا اسْتَمْتَعْتُمْ بِإِهَابِهَا؟!» قَالُوا: إِنَّهَا مَيِّتَةٌ! قَالَ: «إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا» متفق عليه واللفظ للبخاري.

وفي رواية مسلم في “صحيحه” أنه قال: «أَلَا أَخَذُوا إِهَابَهَا فَدَبَغُوهُ فَانْتَفَعُوا بِهِ؟!».

-وروى مسلم في “صحيحه” عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: أنها كانت تَدُقُّ النَّوَى لِتُحَوِّلَهُ بذلك إلى علف وغذاء للدواب؛ إذ قالت رضي الله عنها: “تَزَوَّجَنِي الزُّبَيْرُ وَمَا لَهُ فِي الْأَرْضِ مِنْ مَالٍ وَلَا مَمْلُوكٍ وَلَا شَيْءٍ غَيْرَ فَرَسِهِ”، قَالَتْ: “فَكُنْتُ أَعْلِفُ فَرَسَهُ، وَأَكْفِيهِ مَئُونَتَهُ، وَأَسُوسُهُ، وَأَدُقُّ النَّوَى لِنَاضِحِهِ، وَأَعْلِفُهُ”.

واشتمال هذه المخلفات على بعض النجاسات، أو تنجسها باختلاطها بأشياء نجسة لا يمنع من مشروعية الاستفادة منها، وذلك بعد تدويرها وتحويلها إلى مواد جديدة مختلفة العناصر والتراكيب؛ لما تقرر في الفقه الإسلامي أن النجاسات إنما تطهر باستحالتها، والاستحالة: هي انقلاب الشيء من حقيقته إلى حقيقة أخرى، أو تغير الشَّيْء عن طبعه ووصفه إلى اسم ووصف غيره مع بقاء حاله؛ فإعادة تدوير المخلفات وتحويلها من حالة لا تصلح للاستخدام وهي عليها، إلى حالة نافعة يستفيد الإنسان منها: هي صورة من صور الاستحالة التي جاء بها التشريع الإسلامي وأباح بها الأشياء التي لم تكن مباحة من قبل استحالتها([62]).

ومن الفتاوى التي تناولت قضية تلوث المياه: فتوى دار الإفتاء المصرية بخصوص إلقاء القمامة والحيوانات النافقة في مياه النيل والترع، جاء في هذه الفتوى: حرصَ الإسلامُ على النظافةِ، وحثَّ أتباعه على اقتفائها، وشَرَع لهم من العبادات ما يحقِّق هذه الغاية، وهذا يأتي في سياق أن الدين الإسلامي قد وضع ضوابط وآدابًا تَصون كرامةَ الفرد، ويُراعَى فيها شعور المجتمع وتحميه من كل أذًى وعدوان. ومن تلك الآداب: الحفاظُ على الماء، فقد جعله الله تعالى أصل الحياة؛ قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء: 30].

وسخَّر الله تعالى الماء للإنسان؛ فقال سبحانه: {اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ} [إبراهيم: 32].

وقال تعالى: {وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} [البقرة: 164].

وجاء في الفتوى: وقد بلغ من حِرْصِ الشريعة على الحفاظ على الماء أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الإسراف في استعمال الماء؛ فقد مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بِسَعْدٍ رضي الله عنه وَهُوَ يَتَوَضَّأُ فَقَالَ: «مَا هَذَا السَّرَفُ؟» فَقَالَ: أَفِي الْوُضُوءِ إِسْرَافٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهَرٍ جَارٍ» رواه الإمام أحمد وابن ماجه.

ومن الآداب التي أرشدنا إليها الإسلام: النهيُ عن تلويث الماء؛ فقد حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من تلويث الماء، ونهى أن يُبال في الماء الراكد، والعلَّة في ذلك: حمايتُه من أن يكون موطنًا للأمراض والأوبئة، وهذه العلة متحققة في إلقاء الـمُخلَّفات -كالقمامة والحيوانات النافقة- في مياه النيل والترع التي يَسقِي منها الناس زَرعَهم وبهائمهم؛ لأن هذه المخلفات تُحوِّل هذه المياه إلى بيئةٍ راعيةٍ للأمراض والأوبئة.

وأضافت الفتوى: أن الـمُشرِّع المصري حرص في سنِّه للقوانين على النصِّ على ما يحمي نهر النيل والمجاري المائية من التلوث، فشرَّع قانونًا يفي بذلك، وهو القانون رقم 48 لسنة 1982م، والذي ينص في مادتيه الأولى والثانية على ما يلي:

[المادة الأولى: تعتبر من مجاري المياه في تطبيق أحكام هذا القانون:

1.مسطحات المياه العذبة، وتشمل:

أ) نهر النيل وفرعيه، والأخوار.

ب) الرياحات، والترع بجميع درجاتها، والجنابيات.

2.مسطحات المياه غير العذبة، وتشمل:

أ) المصارف بجميع درجاتها.

ب) البحيرات.

ج) البرك، والمسطحات المائية، والسياحات.

3.خزانات المياه الجوفية.

المادة الثانية: يحظر صرف أو إلقاء الـمُخلَّفات الصلبة أو السائلة أو الغازية من العقارات والمحالِّ والمنشآت التجارية والصناعية والسياحية ومن عمليات الصرف الصحي وغيرها في مجاري المياه على كامل أطوالها ومسطحاتها، إلا بعد الحصول على ترخيص من وزارة الريِّ في الحالات ووفق الضوابط والمعايير التي يصدر بها قرار من وزير الريِّ بناءً على اقتراح وزير الصحة، ويتضمن الترخيص الصادر في هذا الشأن تحديد المعايير والمواصفات الخاصة بكل حالة على حدة] اهـ.

وخلصت الفتوى إلى أن إلقاء الـمُخلَّفات -كالقمامة والحيوانات النافقة- في مياه النيل والترع بالمخالفة للقانون في ذلك يُعَدُّ أمرًا محرَّمًا شرعًا ومجرَّمًا قانونًا، ولا يجوز للإنسان أن يرتكب ما يضرُّ بوطنه ويحرمه الشرع ويجرمه القانون، ولا يخفى أن في الخروج على تلك القوانين سعيًا في الأرض بالفساد([63]).

ومن الفتاوى التي بيَّنت حرص الشارع على الحفاظ على البيئة فتوى دار الإفتاء المصرية عن صيد الأسماك بالصعق الكهربائي، جاء في هذه الفتوى: من طرق صيد الأسماك التي ظهرت في هذه الآونة: الصيد بالصعق الكهربائي؛ ويتم فيه توصيل سلكين كهربائيين بالماء لصنع دائرة كهربائية كاملة، ويتم استخدام التيار الناتج عنها في صعق الكائنات البحرية التي تدخل في حيز التيار الكهربائي؛ من الأسماك الكبيرة والصغيرة، والعوالق البحرية، ومضاداتِ المناعة التي تتغذَّى عليها الأسماك، وبيض الأسماك، والكائنات الدقيقة، والنباتات المائية.

وهذا التيار المستخدَم قد يكون مباشرًا، فتكون قوته عاليةً جدًّا، ويؤدي حينئذٍ إلى القتل التام لكل الكائنات المائية، وأحيانًا يكون منخفضًا فلا يؤدي إلى الموت، بل يؤدي إلى إحداث خللٍ أو شللٍ في الخلايا العصبية للأسماك وتخديرٍ لأعصابها لفترة معينة، فيفقدها القدرة على السباحة ويعوقها عن الهرب، مما ييسر عملية الصيد فيتمكن الصيادون من أخذها بسهولة، وهي طريقة تشتمل على مخاطر كثيرة، وتؤثر تأثيرًا سلبيًّا على البيئة المائية.

وهذه الطريقة في صيد الأسماك فيها من المضار الكثيرة والآثار السيئة على الثروة السمكية والبيئة المائية في الحاضر والمستقبل ما يستوجب القول بتحريمها؛ فقد نهى الإسلام عن إيقاع الضرر بالنفس والإضرار بالغير، وذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» أخرجه الإمام مالك والشافعي وأحمد، من حديث عمرو بن يحيى المازني عن أبيه مرسلًا، وأخرجه ابن ماجه في “السنن” والحاكم في “المستدرك” وصححه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

ومن هذه المضار التي تنتج عن طريقة صيد السمك بالكهرباء:

ثانيًا: أن الصيد بالصعق الكهربائي يؤثر على مخزون الأسماك في المياه وتناسلها؛ حيث إنه لا يفرق بين السمك الصغير (الزريعة) الممنوع صيدُه في الحال؛ لأجل الحفاظ على مصادر الأسماك للسنوات والأجيال القادمة، وبين الأسماك الكبيرة المسموح بصيدها؛ فإن كل سمكة تكون داخل المجال الكهربائي سيتم صعقها؛ سواء كانت كبيرة أو صغيرة، بل إن السمك الصغير (الزريعة) هو أكثر أنواع السمك تأثرًا بالكهرباء حتى ولو كان التيار منخفضًا لا يؤدي إلى وفاة السمك الكبير؛ إذ إن الصغير لا يتحمَّل ما يتحمَّله الكبير، وهذا بخلاف وسائل الصيد الأخرى؛ كالشبك الذي تكون عيونه واسعة؛ بحيث لا يصطاد إلا السمك الكبير اللائق بالصيد.

ولا ريب أن الحفاظ على المخزون السمكي في المياه الطبيعية أمر مهم لاستمرار دورة حياته، واستمرار صيد الأسماك سنة بعد سنة؛ ومن أجل ذلك فقد نُظِّمَت في العالم كلِّه عمليات صيد الأحياء المائية بطريقة تحمي المخزون السمكي؛ فهناك أوقات ومواسم ومناطق يُحظَر فيها الصيد؛ إذ من المفترض أن يُترَك السمكُ أثناء فترات توالده وتكاثره حتى يستمر وجودُه حفاظًا على التوازن البيئي، وحتى تستمر عملية الصيد.

وقد راعى الشرع الشريف استمرارَ تجددِ الموارد الطبيعية فيما سخره الله للإنسان من الكائنات المنتجة المنتفع بها من حيوان أو نبات؛ فإن من حكمة الله تعالى أن جعل لكل كائن حيٍّ دورةَ نموٍّ تتناسب مع منظومة الغذاء البيئية أخذًا وإعطاءً؛ بما يحافظ على بقاء سلالته مع استمرار الانتفاع به، ويضمن حصول التوازن البيئي في الطبيعة، ومنَعَ تدخُّلَ الإنسان بما يفسد هذه المنظومة أو يحدث فيها الخلل، فمن ذلك: أنه جعل للأضحية حدًّا لا تجزئ قبله؛ مراعاةً لبقاء النسل الحيواني، وعمل على حماية الزروع والثمار بالنهي عن بيعها قبل بُدُوِّ صلاحها مخافة انقطاع نتاجها؛ فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار حتى يبدوَ صلاحُها، وعن بيع النخل حتى يزهُوَ، وعن بيع السنبل حتى يبيَضَّ ويأمنَ العاهةَ، كما في حديث “الصحيحين” عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

ولا يخفى أن حظر الصيد في أوقات معينة أو أماكن معينة للمصلحة هو أمر مشروع؛ فإن المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة، وقد أعطى الشرع للحاكم حق تقييد المباح للمصلحة؛ كما هو الحال في “الحِمَى” التي يمنع الإمام فيها العامَّةَ من الانتفاع بموضع معين للمصلحة العامة.

ومن القواعد الفقهية المقررة شرعًا أنه “يمنع الخاص من بعض منافعه إذا ترتب عليه ضرر عام”، فالمصالح الشخصية موقوفة إذا ما تعارضت مع المصالح العامة، والمصلحة العامة هنا تقتضي منع صيد الأسماك بالصعق لِمَا يترتب عليه من فقدان الأجيال القادمة التمتع بالثروة السمكية حيث يقضي الصعق الكهربائي على جيل الأسماك الصغيرة، وحيث يضر بالبيئة المائية التي تعيش فيها الأسماك، ثم إنه إذا كان تسهيل صيد السمك وتيسير الحصول عليه في نفسه حلالًا فإن الإضرار بالبيئة حرام، واجتماع الحاظر والمبيح على فعل واحد يجعله محظورًا، والقاعدة: أنه “إذا اجتمع الحلال والحرام غلِّب الحرام”، كما هو مقرر في قواعد الفقه.

كما أنه قد تقرر في قواعد الشرع أن “درء المفاسد مقدم على جلب المصالح”، ولا يخفى أن درء مفسدة إهلاك أجيال الأسماك مقدم على مصلحة زيادة كمية الصيد وسهولة الحصول عليه.

رابعًا: أن السماح بمثل هذه الطريقة في الصيد سبيل أكيد إلى حصول الاختلال البيئي؛ فإن الصعق الكهربائي قد يتسبب في الإفناء الجماعي للحيوانات المائية، ومحو مظاهر الحياة البحرية، وقد راعى الإسلام مسألة بقاء الوجود الحيواني في الطبيعة، ونهى عن التصرفات التي قد تؤدي إلى إحداث الاختلال في التوازن البيئي، والتناسل الحيواني، وأمرنا بالحفاظ على البيئة بكل أشكالها ورعايتها وحمايتها؛ قال تعالى: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61].

والحفاظ على البيئة يشمل ما على وجه الأرض من جماد ونبات وحيوان وكائنات دقيقة كما نَبَّه إلى ذلك القرآن الكريم؛ فقال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام: 38].

وقد نعى القرآن الكريم على من يسعى في الأرض بالإفساد، وجعل من صور ذلك إهلاكَ الحرث والنسل؛ فقال سبحانه: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205].

وحذَّر النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم من إفناء السلالات الحيوانية في الطبيعة، وهذا من مظاهر إعمار الكون، وحرص الإسلام على بقاء التوازن البيئي بعدم انقراض أنواع الحيوان المختلفة:

فأخرج الإمام أحمد في “مسنده”، وأصحاب “السنن الأربعة”، وابن حبان في “صحيحه” من حديث عبد الله بن مغفَّل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَوْلَا أَنَّ الْكِلَابَ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ لَأَمَرْتُ بِقَتْلِهَا، فَاقْتُلُوا مِنْهَا الْأَسْوَدَ الْبَهِيمَ»، قال الترمذي: حسن صحيح، ورواه ابن أبي عاصم في “الآحاد والمثاني” بلفظ: «لَوْلَا أَنَّ الْكِلَابَ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ أَكْرَهُ أَنْ أُفْنِيَهَا لَأَمَرْتُ بِقَتْلِهَا» وبنحو لفظه رواه الروياني في “مسنده”.

قال الإمام أبو سليمان الخطابي في “معالم السنن” (4/ 289، ط. المطبعة العلمية): [معناه: أنه صلى الله عليه وسلم كَرِهَ إفناءَ أمةٍ مِن الأمم، وإعدامَ جيلٍ مِن الخلق حتى يأتي عليه كلِّه فلا يبقى منه باقية؛ لأنه ما مِن خلقٍ لله تعالى إلا وفيه نوعٌ مِن الحكمة وضربٌ مِن المصلحة]([64]).

خامسًا: أن هذا النوع من الصيد يؤذي الصيادين أنفسهم ويعرض حياتهم وحياة غيرهم ممن يكونون في تلك الأماكن لخطر الموت بالكهرباء.

وضرر هذه الطريقة من الصيد معلوم عند كل العقلاء؛ ولذلك نصَّت قوانين الدول على حظرها وتجريمها، ومنها القانون المصري؛ فقد نُصَّ في القانون الخاص بصيد الأسماء والأحياء المائية رقم (124) لسنة 1983م في مادته (13) على أنه: [لا يجوز الصيد بالمواد الضارة، أو السامة، أو المخدِّرة، أو المميتة للأحياء المائية، أو المفرقعات، كما لا يجوز الصيد بالحواجز، أو الحوض، أو اللبش، أو الزلاليق، أو أي نوع من السدود والتحاويط، كما لا يجوز حيازة أو استعمال آلات رفع المياه داخل البحيرات أو على شواطئها إلا بتصريح من الهيئة العامة لتنمية الثروة السمكية، وتسري أحكام هذه المادة على الصيد في المياه التي تغطي الأراضي المملوكة للأفراد، وتتصل بالمياه المصرية] اهـ.

كما صدر قرارٌ من السلطات التنفيذية بمحافظة الدقهلية –والتي تقع فيها بحيرة المنزلة- برقم (24) لسنة 2016م نُصَّ فيه على ما يأتي: [يُحظَر صيد الأسماك ببحيرة المنزلة (بنطاق محافظة الدقهلية) بالأدوات والآلات والشباك الممنوع الصيد بها، أو المرخص بها، أو بالمواد السامة أو الضارة أو المميتة للأحياء المائية، أو المفرقعات، أو بالصعق بالكهرباء. يحظر صيد الزريعة من بحيرة المنزلة، وتضبط جميع السيارات المحملة بالزريعة غير المعلومة المصدر، وتسلم الزريعة لمنطقة الثروة السمكية بالمنزلة]([65]).

عجز الموازنة العامة:

تُعد الموازنة العامة للدولة من أهم أدوات السياسة المالية، ومن ثم فإنها تعتبر ركيزة أساسية في تحقيق أهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ويمثل عجز الموازنة العامة للدولة المشكلة الاقتصادية المحورية لمعظم دول العالم نظرًا لما له من آثار مباشرة على أداء النشاط الاقتصادي بصفة عامة، وأصبح علاج عجز الموازنة العامة أمرًا بالغ الأهمية، ولا بد أن يحتل مكانة بارزة في أي برنامج يستهدف الإصلاح الاقتصادي؛ لأن استمرار العجز يعني المزيد من تفاقم معدلات التضخم وانفجار أزمة المديونية الخارجية.

وتعرف الموازنة بأنها: خطة مالية شاملة تتضمن تقدير لنفقات الدولة وإيراداتها، ومن ثم فهي: برنامج مالي عملي وسنوي، ومحوره الأساسي تقدير نفقات الدولة وإيراداتها.

ويُعرف العجز في الموازنة بأنه: زيادة النفقات عن الإيرادات في موازنة الدولة العامة، بحيث لا تستطيع الإيرادات مجاراة الزيادة المطَّردة في نفقات الدولة العامة.

ولقد تغيَّرت النظرة إلى الموازنة العامة للدولة وأصبح لها وظائف جديدة بعد أن كانت قاصرة على التوازن الحسابي بين إيرادات الدولة ونفقاتها، فاتُّخذت أداة للتدخل الاقتصادي عن طريق الاستعانة بالسياسات المالية التي تستخدم الوسائل المالية (الإيرادات، النفقات، القروض) لتحقيق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية من القضاء على البطالة والمحافظة على استقرار الأسعار وتحقيق النمو الاقتصادي، ومن ثم الرخاء الاقتصادي والاجتماعي([66]).

وتقوم الحكومة بتمويل عجز الموازنة العامة للدولة من خلال ثلاثة طرق: الضرائب، الاقتراض، الإصدار النقدي، وتعتبر الضرائب أفضل هذه الطرق؛ لأنها لا تشكل أعباء مستقبلية على الحكومة كما في حالة الاقتراض، ولا ينشأ عنها ضغوط تضخم كالتي يمكن أن تنشأ من الإصدار النقدي، ولأن التوسع في تحصيل الضرائب يمكن أن يسبب حالة من الركود الاقتصادي فإن الحكومات تفضل الحد من التوسع في أسلوب الضرائب والسماح بقدر من العجز في الموارد عن طريق تخفيض النفقات العامة ثم الاستعانة بأسلوب الاقتراض لتمويل ذلك العجز في موازنة الدولة؛ وعلى ذلك فإن الاقتراض من الأسواق والمؤسسات المالية يعتبر أنسب وسائل تمويل عجز الموازنة، وجدير بالذكر أن الاقتراض لا يمكن أن يكون مصدرًا مفتوحًا لسد احتياجات الدولة حيث أنه يعني ترحيلًا للأعباء من جيل إلى جيل، ويستوجب ذلك أن يتم الاقتراض بدون توسع، وفي إطار يحقق العدالة والملاءمة([67]).

مساهمة الفتوى في دعم سد عجز الموازنة العامة:

لقد اتجه عجز الموازنة العامة في مصر خلال السنوات الأخيرة إلى التزايد المستمر وصاحبه ارتفاع في الدين العام، وقد نتج عن ذلك الكثير من الآثار السلبية على الاقتصاد المصري، مما أدى إلى اتجاه الدولة إلى الاعتماد على أذون وسندات الخزانة العامة في تمويل عجز الموازنة لتجنب الآثار السلبية الناجمة عن استخدام المصادر الأخرى في التمويل، كالاقتراض الخارجي.

وقد دعمت الفتوى اتجاه الدولة إلى الاستثمار في أذون الخزانة لتمويل احتياجاتها السنوية لمواجهة النفقات العامة، وقد ذهبت إلى إباحتها شرعًا بناءً على أنها عقود تمويل وليست قروضًا، ومن ثم فإنها تنتفي عنها شبهة الربا.

فقد جاء في فتوى الدكتور علي جمعة: أذون الخزانة هي نوع من الأوراق المالية التي يقوم بإصدارها البنك المركزي لحساب وزارة المالية؛ أي أن البنك يكون وسيطًا بين الأشخاص والدولة، وتتميز بأنها قصيرة الأجل لا تزيد غالبًا على عام، ويصدر إذن الخزانة عادة بخصم إصدار؛ أي إنه يباع بأقل من قيمته الاسمية، وتلتزم الحكومة دفع القيمة الاسمية للإذن كاملة في تاريخ الاستحقاق، والفرق بين القيمة الاسمية والمبلغ المدفوع في الإذن هو مقدار العائد الذي يجنيه المستثمر.

وبيَّنت الفتوى أن الهدف من إصدار هذه الأذون كما هو مقرر في علم الاقتصاد: هو دعم الوعي الادخاري لدى جمهور المتعاملين، وتمويل خطة التنمية في الدولة وتمويل عجز الموازنة؛ مما يقلل من مشكلة التضخم المالي في الدولة، ويُجنِّب مشكلات إصدار البنكنوت وزيادة كمية المعروض منه في المجتمع وما يترتب عليه من زيادة في الأسعار وظلم بَيِّنٍ لمحدودي الدخل؛ فهو من قبيل السياسات النقدية التي لا بد منها مع جَعْل وسيط التبادل بين الناس هذه الأوراق المطبوعة والخروج عن قاعدة ربطها بالذهب وهو ما يُعرَف بالتعويم.

والأرباح المقدمة على هذه الأذون إنما هي لتشجيع الأفراد على الاكتتاب فيها؛ حتى يمكن للدولة مواجهةُ المشكلات المشار إليها سابقًا.

كما أن الدولة هي المنوطة بإصدار الأوراق النقدية، وهي التي يمكنها سداد هذه الأذون بطبع قيمتها في الوقت المناسب لذلك؛ فتدرأ المشكلات وتحافظ على مستويات الأسعار وتدفع عجلة التنمية بأسلوب حكيم.

وبيَّنت الفتوى خلو أذون الخزانة من الغرر والضرر وشبهة الربا، فقالت: وهذه الأذون إنما هي في الحقيقة عقود تمويل وليست قروضًا؛ لأن القرض عقد إرفاق مبناه على الفضل ومكارم الأخلاق بسد الحاجات وكشف الكُرَب، فإذا كان فيه استغلال الغني لحاجة الفقير بإغراقه في الفوائد وتراكم الديون المركَّبة كان ظلمًا بيِّنًا، أما إذن الخزانة فهو عقد جديد قائم على تبادل المصالح والمنافع التي سبق الإشارة إليها، والذي عليه العمل والفتوى أنه يجوز إحداث عقود جديدة من غير المُسمَّاة في الفقه الموروث كما رجَّحَه الشيخ ابن تيمية وغيره من الفقهاء.

وأما الاعتراض على هذا العقد بأن فيه غررًا أو ضررًا أو رِبًا فليس بصحيح، ويجاب عنه بأن الواقع المعيش قد تغيَّر بمجموعة من العلوم الضابطة؛ كدراسات الجدوى وبحوث العمليات والإحصاء والمحاسبة، وتغير فيه كنه الاتصالات والمواصلات والتقنيات الحديثة، وهذا كله يستوجب تحديد معنًى جديد للغرر والضرر لا يوجد في أذون الخزانة، بل يوجد في عدم إصدارها.

أما الحكم على هذه الأذون بأنها من الربا فليس بوجيه؛ بل إنها عكس الربا تمامًا، ولقد خرج الذهب والفضة من تعامل الناس كوسيطٍ للتبادل ومخزونٍ للقيمة ومعيارٍ للأثمان وكانا مقبولَيْنِ قبولًا عامًّا، وأصبح وسيطُ التبادل يفتقد مِعيارِيَّته للأثمان وخَزْنَه للقيمة؛ فلا يجري الربا في هذه الأوراق النقدية بعد تعويمها وفصلها عن قاعدة الذهب أصلًا عند جميع المذاهب السُّنِّيَّة؛ لأن علة الربا قاصرة لا يُتعدَّى بها عن موطنها، والمحل فيها جزء علة كما نص عليه جماعة من الفقهاء([68]).

فهذه الفتوى داعمة للاقتصاد الوطني من خلال ربط الاقتصاد المعاصر بقواعد ومقاصد الشريعة الإسلامية، وقد نفت كل شبهة يمكن أن يُعترض بها على إباحة الاستثمار في أذون الخزانة.

 

استثمار الأموال وتوظيفها بالطرق غير القانونية:

ومن معوقات التنمية الاقتصادية الممارسات الاقتصادية التي تضر بالاقتصاد الوطني، وهي ممارسات مخالفة للقانون، ومن أشهرها: شركات توظيف الأموال، وظاهرة المستريح:

وفيما يلي نتناول كلًّا من هاتين الظاهرتين:

1-شركات توظيف الأموال:

نود الإشارة أولًا إلى أن هناك التباسًا مستمرًّا بين شركات «توظيف» الأموال وشركات «تلقي» الأموال، فقد كانت هناك في مصر مئات الشركات الناجحة لتوظيف الأموال، والتي كانت تعمل في ظل قانون الاستثمار، وتستثمر أموال مؤسسيها ولا تتلقى أموالًا ولها مشروعات عديدة.

ويُقصد بشركات توظيف الأموال تلك الشركات التي تنشئ مجموعة من الشركات المتنوعة الأنشطة عادة وتمويلها بإسهام المواطنين في ملكية رأس مال الشركات التابعة؛ إذ تتولى شركات توظيف الأموال بيع الأسهم للعملاء ثم شراء أصول مالية ذات عائد تصدرها الشركات التابعة، وبذلك نجد أن شركات توظيف الأموال تختلف عن الشركات أو البنوك القابضة من حيث أن شركات التوظيف لا تمتلك أسهم الشركات التابعة بل تكون مملوكة بواسطة العملاء، ومن الممكن أن تسهم شركات التوظيف بجزء من الأسهم لا يزيد عادة عن 5% من مواردها.

ولم يقتصر وجود هذه الشركات على مصر فقط، بل إن هناك العديد من مثل هذه الشركات في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.

ونجد أن شركات توظيف الأموال التي تعمل بالفعل في مصر في ظل القانون 43 لسنة 1974 لاستثمار المال العربي والأجنبي والمناطق الحرة تعمل بأموال المؤسسين للشركة، ومحظور على هذا النوع من الشركات تلقي الأموال من الغير، ولكن من الممكن لها الاقتراض من البنوك، كما أن من حق هذه الشركات الاكتتاب العام لمشروعاتها، وقد اتضح أن هذا النوع من الشركات منضبط ويعمل في خدمة الاقتصاد، وله دور مهم في تنويع الأوعية الادخارية والاستثمارية.

وتشير البيانات المتاحة أن حملة استخدامات شركات توظيف الأموال بلغ في عام 1983م نحو 1563.5 مليون جنيه، خص الاستثمارات منها في مشروعات حوالي 1136 مليون جنيه تمثل 73% من إجمالي الاستخدامات إلى جانب الأصول الرأسمالية الأخرى، والتي تبلغ قيمتها 427.4 مليون جنيه بنسبة 27%.

كما اتضح أن شركات توظيف الأموال تتركز استثماراتها في مجالات السياحة والفنادق والإسكان والأمن الغذائي حيث استأثرت تلك الأنشطة بنحو 897.4 مليون جنيه تمثل نحو 80% من جملة استثمارتها.

وهذه الشركات لتوظيف الأموال تختلف عن الشركات محل البحث التي جاءت تسمية القانون الجديد 146 لسنة 1988 لها بشركات «تلقي» الأموال([69]).

نشأة شركات توظيف الأموال:

وقد بدأ نشاط هذه الشركات في مصر يظهر إلى حيز الوجود في أعقاب انتهاج الدولة لسياسة الانفتاح الاقتصادي عام 1974م حينما استدعت الظروف الاقتصادية والسياسية والمحلية والدولية السائدة في أعقاب حرب أكتوبر عام 1973م إلى إعادة النظر في نظام تقسيم العمل داخل الاقتصاد المصري بين القطاعين العام والخاص الذي كان سائدًا في حقبة السبعينات، وتتلخص معالم هذا التقسيم للعمل في انحسار دور القطاع الخاص في السيطرة على قطاع الأعمال غير المنظم، بينما تحمَّل القطاع العام مسئولية قيادة وتنفيذ خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي اختارتها الدولة منهاجًا لرسم حياتها الاقتصادية.

واستهدفت سياسة الانفتاح الاقتصادي في المقام الأول العمل على تحرير القيود المفروضة على النشاط الاقتصادي المصري، وإعطاء مزيد من الحرية الاقتصادية للمبادرات الفردية وإنشاء الكيانات الكبرى المتمثلة في الشركات المساهمة وخلق الضمانات القانونية والمالية للقطاع الخاص بشقيه المحلي والأجنبي، وإعطاء الإعفاءات والامتيازات الضريبية للمشروعات الصناعية الوليدة التي تقيمها رءوس الأموال الوطنية والعربية بالاشتراك مع رءوس الأموال الأجنبية([70]).

وقد نشأت شركات توظيف الأموال في أول أمرها كشركات أشخاص (شركات تلقي الأموال كما سماها القانون الجديد)، ولم يكن لهيئة سوق المال أو لهيئة الاستثمار أو لمصلحة الشركات تدخل في إعطاء موافقات بالنسبة لها، حيث كانت هذه الشركات تقوم على الفور بمجرد حصولها على سجل تجاري، وكان الإيداع لديهم يقوم على ثقة مجموعة من الناس، ولم يكن هناك حينئذ وسيلة لدى هذه الشركات سوى استغلال جزء من هذه الأموال في التجارة وتمويل الصفقات التجارية البحتة، كما استُخدم جزء آخر منها في تجارة العملة، وبطبيعة الحال كان الإيداع في مثل هذه الأنشطة يدر عائدًا مرتفعًا لأنها لا تُستخدم في إنشاء مشروعات إنتاجية.

ونتيجة لارتفاع هذا العائد وذيوع صيته وجدت هذه الشركات إقبالًا كبيرًا من المواطنين، وبدأ هذا التيار يأخذ صورًا متعددة وأنشئت العديد من الشركات لمجرد حيازة هذه الأموال واستخدامها في التجارة.

ومما يدعو إلى الأسف أن جانبًا كبيرًا من هذه الأموال التي أودعت لدى هذه الشركات كان يعاد إيداعها في البنوك الأجنبية أو يُضارَب بها في البورصات العالمية، الأمر الذي يعرضها لمخاطر جسيمة، علاوة على حرمان الاقتصاد الوطني من هذه الأموال وخصوصًا حصيلة النقد الأجنبي المتدفق من المصريين العاملين بالخارج.

وقد بدأت هذه الشركات تعلن عن نفسها بقوة عن طريق وسائل الإعلام المختلفة، وقد استغلت هذه الشركات الجانب الديني في المجتمع المصري الحريص على القيم والمبادئ الإسلامية فأكدت أن استثماراتها تتم وفقًا لأحكام الشريعة الإسلامية، وأن الربح حلال وليس فيه شبهة الربا.

واتضح للمسئولين عن النشاط الاقتصادي والمالي بالدولة أن هذه الشركات خالفت القوانين منذ بداية نشاطها؛ ذلك أن جمع الأموال أو تلقي الودائع أمر قاصر على البنوك وحدها، ولا يجوز أن تقوم به الشركات إلا بعد موافقة وزير الاقتصاد وبعد موافقة هيئة سوق المال أو الهيئة العامة للاستثمار (إذا كانت شركة تتبع القانون 43 لسنة 1974).

كما أن هذه الأموال لا بد من إيداعها في حساب خاص بأحد البنوك الخاضعة لرقابة البنك المركزي، ولا يجوز تحويل أية مبالغ منها إلى الخارج أيضًا إلا من خلال الأنظمة النقدية المطبقة، كذلك لا يجوز استخدامها إلا في الأغراض المخصصة لها والتي وافقت عليها الجهات المسئولة مقدمًا([71]).

وارتكزت هذه الشركات في تجميع الأموال على فكرة رئيسية مؤداها منح العملاء إيصالات بالإيداعات النقدية بالعملة المحلية والأجنبية، مع إتمام غالبية المعاملات الاقتصادية باسم صاحب الشركة أو مجموعة الشركات (في حالة مجموعة شركات الريان والسعد والهدى مصر)، ولا شك أن هذا النمط للمعاملات الاقتصادية يولد الشكوك والريبة حول مصير ودائع ومدخرات المواطنين المقدمة لهذه الشركات بغرض الاستثمار، على الرغم من ارتفاع العوائد الموزعة على الودائع والتي كانت تفوق أي عائد استثماري في مصر([72]).

ونتيجة لهذه المخاطر لجأت الحكومة إلى وضع ضوابط لعملية دعوة المواطنين إلى الاكتتاب العام فصدر القانون 89 لسنة 1986 الذي حرم على كل شخص طبيعي أو معنوي توجيه الدعوة للاكتتاب العام في أية أوراق مالية أو حصص أو مشاركات أو دفع مبالغ نقدية مقابل عائد مالي أو مادي إلا بعد موافقة وزير الاقتصاد بعد العرض على الهيئة العامة لسوق المال.

كما أكَّد القانون على أهمية إيداع المبالغ المدفوعة في حساب خاص بأحد البنوك الخاضعة لإشراف البنك المركزي، كما منع تحويل أية مبالغ منها إلى الخارج دون الحصول على موافقة وزير الاقتصاد وموافقة البنك المركزي.

أما العقوبات التي فرضها القانون على المخالف لأحكامه فهي الحبس لمدة لا تقل عن سنتين، وغرامة لا تقل عن عشرة آلاف جنيه ولا تزيد على مئة ألف جنيه([73]).

وقد صدر هذا القانون في 25 يونيو عام 1986م، وصار نافذًا اعتبارًا من 27 يونيو عام 1986م لحماية أموال المودعين وتنظيم عملية الاكتتاب العام حتى لا يتعرض الناس لعمليات الخداع والنصب التي يقوم بها بعض الأفراد لجمع أموالهم ومدخراتهم والهروب بها إلى الخارج كما حدث في أحيان كثيرة([74]).

وفي 15 مايو عام 1988م وجه المحامي العام عدة اتهامات إلى عدد من أصحاب هذه الشركات ومنعهم من السفر، وفي 17 مايو 1988م أعلن رسميًّا أن الحكومة بصدد إصدار مشروع قانون جديد لتنظيم شركات توظيف الأموال، وبالفعل صدر القانون رقم 146 لسنة 1988 بشأن الشركات العاملة في مجال تلقي الأموال، وصدر قرار وزاري رقم 344 لسنة 1988 باللائحة التنفيذية للقانون.

وقد وضع هذا القانون العديد من القواعد التي استهدفت ضبط نشاط تلقي الأموال من الجمهور لاستثمارها، وإخضاع هذا النشاط لرقابة جهة الاختصاص المعنية وألزم الشركات التي تعمل في هذا المجال بعدة شروط من أهمها:

1-عدم مخالفة النشاط والنظام العام وتوجيهه بما يتفق مع المصلحة الاقتصادية العامة والأمن القومي.

2-اتباع الضوابط التي يقرها مجلس الوزراء في شأن توزيع الاستثمارات في المجالات المختلفة وامتناع الاستثمار في المجالات التي يحددها أيضًا مجلس الوزراء.

3-اتباع قواعد الإشراف والرقابة التي يضعها مجلس إدارة الهيئة العامة لسوق المال، ومنها ما يتعلق بنسبة الأموال السائلة التي يجب الاحتفاظ بها لدى البنوك وضوابط إصدار صكوك بالنقد الأجنبي.

4-إيداع الأموال المتلقاة خلال أسبوع في حساب خاص بأحد البنوك المعتمدة الخاضعة لإشراف البنك المركزي المصري مع حظر تحويلها إلى الخارج إلا بموافقة البنك المركزي([75]).

 

2-ظاهرة المستريح:

انتشرت في الآونة الأخيرة في مصر «ظاهرة المستريح»، في المحافظات المختلفة سواء في جنوب مصر أو شمالها.

والمستريح: هو شخص يتمتع بالذكاء يجمع أموال البسطاء بزعم توظيفها واستثمارها في مجالات مختلفة كتجارة العقارات أو المواشي أو المحاصيل الزراعية والسيارات وغيرها، مقابل وعود زائفة بأرباح مالية ضخمة، ثم يختفي على نحو مفاجئ.

وهذه الظاهرة لا تُعد جديدة على المجتمع المصري وإنما تعتبر امتدادًا لما ظهر في حقبة السبعينات والثمانينات من القرن المنصرم من شركات توظيف الأموال مثل شركة الريان والسعد وغيرها، والتي كانت تجمع الأموال من الناس بغرض استثمارها مقابل عائد مادي مرتفع يفوق ما كانت تعطيه البنوك المصرية من فوائد وأرباح متدنية وقتئذٍ، وقد ظهرت هذه الشركات خلف ستار ديني فنظر إليها البعض على أنها منهاج جديد لتطبيق مبادئ الاقتصاد الإسلامي لاعتمادها على أدوات الاستثمار الإسلامي كصكوك المضاربة أو المرابحة مما جذب كثيرًا من المودعين الذين ينأون بمدخراتهم واستثماراتهم عن شبهة الربا أو الفائدة المحددة سلفًا، وقد كان الجهاز المصرفي أول المعارضين لهذه الشركات إذ كان يرى فيها مجرد كيانات مالية غير منظمة تعمل من وراء ظهر القانون وتشكل خطرًا داهمًا على مسيرة التنمية الاقتصادية والاجتماعية للاقتصاد المصري.

وقد ضاعت أموال المودعين في مضاربات وهمية وتجارة في البورصات العالمية بطريقة عشوائية لا تقوم على دراسات جادة.

وقد عادت هذه الظاهرة للظهور من جديد عام 2014م، من خلال أحمد مصطفى، الذي اشتهر بلقب «المستريح»، واستطاع أن يجمع من أهل قريته في صعيد مصر أكثر من 53 مليون جنيه لاستثمارها في تجارة بطاقات شحن الهواتف المحمولة، وتم القبض عليه في 2015م، وحصل على حكم نهائي بالحبس لمدة 15 عامًا، ورد 266 مليون جنيه للمدعين بالحق المدني في قضايا تتعلق بالاحتيال المالي([76]).

وإلى هذا الرجل يرجع إطلاق لقب «المستريح» الذي صار يُطلق على المحتال الذي يستولي على أموال الناس بزعم استثمارها، باعتباره أول المحتالين ظهورًا، وقد كان يلقب بهذا اللقب.

وقد تبع هذا المحتال في الظهور عشرات «المستريحين» في أسوان، وظهر مستريح في محافظة قنا استولى على مبالغ مالية بلغت 10 مليون جنيه، كما ظهر بعض المستريحين في محافظات الوجه البحري نذكر منهم: مستريح الدقهلية الذي جمع 750 ألفًا من ضحاياه لتوظيفها بتجارة الأدوية، ومستريح الغربية الذي استولى على مبلغ خمسة مليون وستمائة ألف جنيه، ومستريح بورسعيد الذي جمع حوالي ربع مليار جنيه من 400 شخص، ومستريح المنوفية الذي استولى على مبلغ 200 مليون جنيه، ومستريح السويس الذي استولى على مبلغ 40 مليون جنيه.

أسباب ظهور ظاهرة المستريح:

هناك بعض الأسباب التي أدت إلى ظهور ظاهرة المستريح، نذكر من أهمها: ما يلي:

1-الطمع في الثراء والتطلع إلى الكسب السريع دون عناء أو مشقة، وفي هذا مخالفة لمنهج الإسلام الذي حثَّ على العمل ونهى عن البطالة والتكاسل عن طلب الرزق، وقد قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15]،

ويروى عن عمر بن الخطاب أنه قال: «لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق يقول: اللهم ارزقني فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة»([77]).

فإن الثراء لا يتحقق بالتواكل والتقاعس عن الأخذ بالأسباب، والسعي على الرزق بالعمل والجد.

2-الجهل والأمية وتدهور المستوى الثقافي وقلة الوعي، فالذين يقعون في براثن النصب والاحتيال إنما هم من غلبت عليهم السذاجة وعدم الإدراك للأمور؛ فلا يعقل أن تحقق المبالغ المودعة للاستثمار أضعاف قيمتها في مدة وجيزة، ولا ينساق وراء تصديق ذلك إلا مَنْ قَلَّ وعيهم وضعف إدراكهم للأمور.

3-انتشار الفتاوى التي تحرم إيداع الأموال في البنوك:

فقد أدى انتشار الفتاوى التي ترى أن فوائد البنوك ربا إلى اتجاه البعض إلى استثمار أمواله عند المستريحين، وهي الفتاوى نفسها التي دعمت شركات توظيف الأموال من قبل، ويستغل المحتالون هذه الفتاوى في جذب المودعين مع إغرائهم بعائد أعلى من عائد فوائد البنوك فيقعون في شراكهم وتتبخَّر أموالهم وتضيع.

 

مخالفة ظاهرة المستريح لمقاصد الشريعة الإسلامية:

تُعد ظاهرة «المستريح» مخالفة لمقاصد الشرع الإسلامي الحنيف التي ترمي إلى عدم الاعتداء على أموال الناس بكافة صوره وأشكاله، وصون المال من الضياع والإتلاف؛ فالمستريح يستولي على أموال الناس بدون وجه حق ويأكلها بالباطل، وهو ما يخالف نصوص القرآن والسنة مخالفة صريحة، فقد قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]، وقال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188].

قال النسفي: «أي: لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل بالوجه الذي لم يبحه الله ولم يشرعه»([78]).

كما ثبت في السنة النبوية الشريفة حرمة أكل أموال الناس بالباطل فقال صلى الله عليه وسلم: «كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه»([79]).

كما وردت نصوص عديدة في السنة النبوية المطهرة تتوعد آكل أموال الناس بالباطل بعذاب الله وعقابه الشديد، منها: عن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من حلف على مال امرئ مسلم بغير حقه لقي الله وهو عليه غضبان»([80]).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدَّى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله»([81]).

قال الملا علي القاري: «(أتلفه الله): أي: لم يعنه ولم يوسع عليه رزقه بل يُتلف ماله لأنه قصد إتلاف مال مسلم… وإنما قال: «أتلفه» لأن إتلاف المال كإتلاف النفس أو لزيادة زجره فإن معنى أتلفه أهلكه»([82]).

كما أن أكل أموال الناس ظلمًا سبب لإفلاس المرء من الحسنات يوم القيامة وما يترتب على ذلك من طرحه في النار، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «أتدرون ما المفلس؟» قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: «إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطُرِحت عليه، ثم طُرِح في النار»([83]).

فهذه الأحاديث بمجموعها تدل على إثم الشخص المستريح الذي يأكل أموال الناس بالباطل وعلى عقابه الشديد يوم القيامة.

ومن جهة أخرى نهى الشارع الحكيم المرء عن تضييع المال وإتلافه؛ فنهى الله تعالى الأولياء أن يؤتوا السفهاء أموالهم، والعلة في ذلك هي خشية إفسادها وإتلافها، فقال تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5].

يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي: «نهى الله الأولياء أن يؤتوا هؤلاء أموالهم خشية إفسادها وإتلافها؛ لأن الله جعل الأموال قيامًا لعباده في مصالح دينهم ودنياهم، وهؤلاء لا يحسنون القيام عليها وحفظها»([84]).

كما أوضحت السنة النبوية الشريفة أن الله تعالى نهى عن إضاعة المال فقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله حرَّم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومَنْعًا وهاتِ، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال»([85]).

قال الإمام النووي: «وأما إضاعة المال فهو صرفه في غير وجوهه الشرعية، وتعريضه للتلف، وسبب النهي أنه إفساد، والله لا يجب المفسدين، ولأنه إذا أضاع ماله تعرض لما في أيدي الناس»([86]).

وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة بتطبيقه النموذج العملي على عدم تضييع المال، وذلك حينما انقطع عِقْد للسيدة عائشة رضي الله عنها في بعض أسفار النبي صلى الله عليه وسلم فأقام النبي بالجيش يبحثون عن عقد أم المؤمنين رضي الله عنها. قال الإمام ابن بطال: «وفيه: النهى عن إضاعة المال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقام على تفتيش العقد بالعسكر ليلةً، وقد ذُكر في غير هذا الحديث أن العقد كان لأختها، وكان ثمنه اثني عشر درهمًا»([87]).

فقد عُلم من هذا أن من أضاع أمواله بإعطائها للمستريحين الذين يستولون عليها بدون وجه شرعي هو آثمٌ شرعًا لإخلاله بمقصد حفظ المال الذي دعا إليه الإسلام.

التأثير السلبي لظاهرة «شركات توظيف الأموال» و«المستريح» على الاقتصاد الوطني:

تُعد ظاهرة شركات توظيف الأموال والمستريح معاولَ هدمٍ للاقتصاد الوطني؛ فإن ركون بعض الناس إلى تحقيق المكسب السهل من شأنه أن يؤدي إلى ركود المشروعات الصغيرة والمتوسطة التي يمكن أن تقوم بتمويلها الأموال المنهوبة والمهربة إلى الخارج، وذلك له تأثيره على الاستثمار الذي يُنعش الاقتصاد الوطني ويوفر كثيرًا من الوظائف وفرص العمل، ويؤثر ذلك أيضًا بالسلب على حصيلة الضرائب والرسوم الجمركية والتأمين الاجتماعي والصحي، ويفضي ذلك بدوره إلى إحداث فجوة في توزيع الدخول وزيادة الفقر، علاوة على تأثيره على الموازنة العامة للدولة.

فالمصارف والبنوك الرسمية الوطنية تقوم بدور مهم في تمويل عمليات الاستثمار من خلال ما تقدمه للاقتصاد القومي من تسهيلات ائتمانية وقروض مصرفية لجميع القطاعات العاملة في الدولة، مما يُسهم في التقدم الاقتصادي للدولة، وانصراف الناس عن إيداع أموالهم في المصارف والبنوك الرسمية وتوظيف أموالهم خارج نطاق المؤسسات الاقتصادية الرسمية من شأنه أن يُحدث خللًا في الاقتصاد القومي وتحقيق الرفاهية للناس.

 

معالجة الفتوى لظاهرة «شركات توظيف الأموال» و«المستريح»:

لقد عالجت فتاوى دار الإفتاء المصرية ظاهرة «شركات توظيف الأموال» و«المستريح» من خلال اضطلاعها بمهمة دعم الاقتصاد الوطني، ويمكن بيان دور الفتوى في معالجة هذه الظاهرة من خلال المبادئ التالية:

أولًا: بيان أن مقصد حفظ المال من المقاصد الشرعية الضرورية، فقد جاء في فتوى لدار الإفتاء المصرية:

المعاملات الجارية بين الناس يراعى فيها ابتداءً تحقُّقُ شروط العقود عامة؛ من أهلية المتعاقدين، وحصول الرضا بينهما، وانتفاء الغرر، وكذلك خلو المعاملة من الشروط الممنوعة شرعًا، وقد جاء في الحديث الشريف أنه صلى الله عليه وسلم قال: «المسلمون عند شروطهم، إلا شرطًا حرَّم حلالًا أو شرطًا أحلَّ حرامًا»([88]).

ومن مقاصدِ الشرع الشريف التي نصَّ عليها أئمَّةُ الأصول؛ حفْظُ المال؛ قال الإمام القرافي: «ومقصود الشرع حفْظُ المال عن الضياع»([89]).

وعليه فكلُّ معاملةٍ مالية لا بدَّ فيها من أن تكونَ موافقةً في الجملة للشرع الشريف بموافقتها لمقصد حفظ المال؛ بأن توافقَ الشروطَ الشرعيةَ للتعاقد، ولا تشتمل على أي شرط يخالفُ القواعدَ والمقاصدَ الشرعية([90]).

وجاء في فتوى أخرى: حفظ المال من المقاصد التي راعتها الشريعة الإسلامية، وقد أَمَرنا الله تعالى بالمحافظة على المال لأنَّه قوام الحياة؛ فقال تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5]؛ ففي هذه الآية نهيٌ للأولياء عن أن يؤتوا الذين لا رُشْد لهم أموالهم فيضيعوها.

قال الإمام أبو حامد الغزالي في “المستصفى”: «ومقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة»([91]).

وملكية المال خاصة وعامة؛ فالخاصة هي المتعلقة بآحاد الأفراد، والعامة هي المتعلقة بمجموعهم؛ بحيث يُنتَفَع بها دون اختصاص فرد معين بها؛ كالطرق والجسور والمنشآت العامة.

وكلٌ مِن هذين النوعين له حرمة وصيانة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه»([92]). ففي الحديث إخبارٌ بتحريم الدماء والأموال والأعراض، وهو معلوم من الشرع علمًا قطعيًّا.

وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ الله كَرِه لكم ثلاثًا: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال»([93]).

لكنَّ الاعتداء على المال العام أفحش وأسوأ من الاعتداء على المال الخاص؛ فبالإضافة إلى أنَّه عمل مُحَرَّم شرعًا؛ فإنه أيضًا اعتداء حاصل على مجموع الأفراد، فلا يتوقَّف أثره السلبي على فردٍ بعينه، بل يعود على المجتمع ككل؛ لذا جاء الوعيد الشديد للذين يتصرفون في المال العام بما لا يرضاه الله تعالى؛ فعن خولة الأنصارية قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن رجالًا يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة»([94]).

والتَّخَوُّض: هو التَّصرُّف والتَّقلُّب، والمعنى: يتصرَّفون في مال الله بما لا يرضاه، وهو شامل لكل مُتَصرِّف بالمال في وجوه مَغاضِب الله تعالى.

وخلصت الفتوى إلى أن الاعتداء على المرافق العامة؛ كالطرق والمحاور المرورية، بتخريبها أو سرقتها أو بأي نوع من أنواع الاعتداء؛ عمل مُحَرَّم شرعًا، وفعل مُجَرَّم قانونًا؛ وفاعل ذلك آثم شرعًا، ويجب على ولي الأمر الضَّرْب على يده بالعقوبة الرادعة له ولأمثاله([95]).

ثانيًا: بيان أن تلقي المال للاتجار فيه واستثماره مما يجوز للشخصية الاعتبارية ولا يجوز للشخصية الفردية.

ففي فتوى بخصوص رجل أعطى لآخر مبلغًا من المال على سبيل الاستثمار ليعمل به في تجارته، ويحدد له التاجر مبلغًا ثابتًا منسوبًا إلى رأس المال، وليس إلى الأرباح؛ مع تحمُّل التاجر للخسارة إن حدثت، وذلك بالتراضي بينهما. وهل هذا حلالٌ أم حرام؟

ذهبت الفتوى إلى أن هذه الصورة تعدُّ مضاربةً فاسدة شرعًا وقانونًا، واستندت الفتوى إلى أنَّ تلقي المال للاتجار فيه وفق معطيات السؤال مما يجوز للشخصية الاعتبارية ولا يجوز للشخصية الفردية؛ وذلك لأن الشخصية الاعتبارية المتمثلة في الدولة والهيئات والجمعيات العامة الرسمية لها من الأحكام ما يختلف عن أحكام الشخصية الطبيعية، حيث اعتبر الفقهاء أربع جهات لتغير الأحكام؛ منها تغير الحكم لتغير الأشخاص.

بالإضافة إلى أن القانون المصري حظر على الأفراد جمع الأموال من غيرهم من أجل استثمارها أو توظيفها؛ حيث نصت المادة الأولى من القانون رقم 146 لسنة 1988م على أنه: [لا يجوز لغير شركة المساهمة التي تطرح أسهمها للاكتتاب العام والمقيدة في السجل المعد لذلك بالهيئة أن تتلقى أموالًا من الجمهور بأية عملة وبأية وسيلة وتحت أي مسمى لتوظيفها أو استثمارها أو المشاركة بها سواء أكان هذا الغرض صريحًا أو مستترًا. كما يحظر على غير هذه الشركات توجيه دعوة للجمهور بأية وسيلة مباشرة أو غير مباشرة للاكتتاب العام أو لجمع هذه الأموال لتوظيفها أو استثمارها أو المشاركة بها] اهـ.

فهذا النصُّ يحدد كيف أنَّ الدولة حدَّدت على سبيل الحصر من يُسمح له بتلقي الأموال من الجمهور، كما رتَّب عقوبة على كل من يخالف أحكام هذا القانون بالحبس والغرامة وفقَ تفاصيلِ المخالفات المرتكَبة، وعليه فكلُّ تلَقٍّ للأموال على خلاف أحكام هذا القانون يعَدُّ مخالفة لولي الأمر الذي نظَّم التعاملات في هذا الباب بشكل مفصل؛ حفظًا لأموال الناس من الضياع.

وبالتالي فهذه المعاملة المسؤول عنها وفق أحكام هذا القانون رقم 146 لسنة 1988 تكون غيرَ جائزةٍ؛ بل وتستوجب التعزيرَ من ولي الأمر؛ لانتهاك أحكام القانون.

وأوضحت الفتوى أن سبب مَنْع ولي الأمر غير الشركات المساهمة من تلقي الأموال أنَّ شركة الأشخاص لا يلتزم الشركاء فيها تجاه المتعاملين مع الشركة إلا في حدود حصصهم في الشركة، وهو ما يؤدي لعدم ضمان مال المتعاملين مع الشركة في هذه الحالة إلا في حدود معينة، وهو ما يتعارضُ مع مقصد حفْظِ المال الذي يتوجَّب على المفتي أن يراعِيَه([96]).

ثالثًا: إباحة التعامل مع البنوك، وأخذ فوائدها. فقد جاء في فتوى لدار الإفتاء المصرية:

والذي استقرت عليه الفتوى بدار الإفتاء المصرية وقرره مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف: أن الإيداع في البنوك ودفاتر التوفير وشهادات الاستثمار ونحوها هو من باب العقود المستحدثة التي يبرمها أطرافها بقصد الاستثمار، وليست من باب القروض التي تجر النفع المحرم، ولا علاقة لها بالربا، وهي جائزة شرعًا؛ أخذًا بما عليه التحقيق والعمل من جواز استحداث عقود جديدة إذا خلت من الغرر والضرر.

وقد كان تصوير هذه العقود مختلفًا فيه قبل صدور قانون البنوك: فمن العلماء المعاصرين من سلك بها مسلك القروض؛ فحرم الزيادة من غير نظر إلى القصد من العقد. ومنهم من نظر إلى مقصودها الاستثماري التي هو غرض العقد وغايته؛ فجعلها من باب التمويل، حتى صدر قانون البنوك المصري رقم 88 لسنة 2003م، ولائحته التنفيذية الصادرة عام 2004م؛ ليقطع بتصوير العلاقة بين البنوك والمتعاملين معها على أنها من باب “التمويل”، وحكم الحاكم يرفع الخلاف، وإذا كانت تمويلًا فليست الفوائد حرامًا؛ لأنها ليست فوائد قروض، وإنما هي عبارة عن أرباح تمويلية ناتجة عن عقود تحقق مصالح أطرافها، ولا علاقة لها بالربا المحرم الذي وَرَدَت حُرْمته في صريحِ الكتابِ والسُّنة، والذي أجمَعَت الأمةُ على تحريمه([97]).

وغني عن البيان أن هذه الفتوى تراعي الواقع؛ فإن البنوك والمصارف في ظل متطلبات العصر أصبحت ضرورة اقتصادية حتمية، فهي ضرورة ملحة لمحاربة الاكتناز وتشجيع الاستثمار بإقامة المشروعات الاقتصادية التي عادة ما تساهم في زيادة الدخل القومي والعائد الاجتماعي. كما تلعب المصارف والبنوك دورًا مهمًّا في الاقتصاد الوطني من خلال تمويل المشروعات التجارية والصناعية، وتقديم الخدمات المالية الأساسية لعدد كبير من العملاء، وتوفير السيولة المصرفية في ظل ظروف السوق الصعبة.

 

 

([1]) اقتصاديات وتخطيط التعليم في ضوء إدارة الجودة الشاملة للدكتورة رافدة الحريري (ص22)، دار المناهج للنشر والتوزيع، عمان-الأردن.

([2]) انظر: السابق (ص22، 23).

([3]) أثر الزيادة السكانية المتسارعة على التنمية المستدامة في مصر خلال الفترة (1977-2018) للدكتورة إيمان محمد عبد اللطيف، بحث بالمجلة العربية للإدارة الصادرة عن المنظمة العربية للتنمية الإدارية التابعة لجامعة دول العربية، المجلد (40)، العدد (2)، يونيو 2020م، (ص146).

([4]) أثر الزيادة السكانية المتسارعة على التنمية المستدامة في مصر خلال الفترة (1977-2018)، (ص144).

([5]) إحياء علوم الدين للغزالي (2/52)، ط. دار المعرفة–بيروت.

([6]) متفق عليه، أخرجه البخاري، رقم (5209)، ومسلم، رقم (1440)، واللفظ لمسلم.

([7]) فتح الباري لابن حجر (9/306)، ط. دار المعرفة-بيروت.

([8]) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني (2/334)، ط. دار الكتب العلمية.

([9]) الكافي في فقه أهل المدينة لابن عبد البر (2/563)، ط. مكتبة الرياض الحديثة-الرياض.

([10]) حاشية الجمل على شرح المنهج للشيخ سليمان الجمل (4/447)، ط. دار الفكر.

([11]) المغني لابن قدامة (7/298)، ط. مكتبة القاهرة.

([12]) رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين (3/176)، ط. دار الفكر-بيروت.

([13]) أخرجه أبو داود، رقم (2050).

([14]) نظرة الإسلام إلى تنظيم النسل لمحمد سلام مدكور (ص66-67)، ط. دار النهضة العربية.

([15]) انظر: موقع دار الإفتاء المصرية، الفتوى رقم (16237)، بتاريخ: 05 سبتمبر 2021م.

([16]) انظر: أسباب وابعاد ظاهرة البطالة وانعكاساتها السلبية على الفرد والاسرة والمجتمع، للدكتور طارق عبد الرءوف محمد عامر (ص12)، دار اليازوري العلمية، عمان-الأردن.

([17]) انظر: مشاريع القطاع الخاص ودورها في الحد من البطالة، للدكتور إسماعيل علي، والأستاذ شكر مجيد مهدي (ص64، 65)، مركز الكتاب الأكاديمي، عمان-الأردن، الطبعة الأولى، 2016م، قضية المناخ وتحديات العولمة البيئية، للدكتور محمد حسان عوض، والدكتور حسن أحمد شحاتة (ص69)، الأكاديمية الحديثة للكتاب الجامعي.

([18]) أخرجه مسلم، رقم (1043).

([19]) أخرجه أحمد في مسنده، رقم (9421)، وابن حبان في صحيحه، رقم (3387).

([20]) أخرجه أبو داود، رقم (1641).

([21]) انظر: عون المعبود، للعظيم آبادي (5/38)، ط. دار الكتب العلمية.

([22]) انظر: موقع دار الإفتاء المصرية، الفتوى بتاريخ: 13 ديسمبر 2010م.

 ([23])أخرجه البخاري، رقم (1496).

([24]) انظر: موقع دار الإفتاء المصرية، الفتوى بتاريخ: 17 يوليه 2016م.

 ([25])أخرجه الترمذي، رقم (1376)، وقال: حديث حسن صحيح.

 ([26])انظر: موقع دائرة الإفتاء الأردنية، فتوى بحثية، رقم (3644)، بتاريخ: 19-09-2021م.

 ([27])الصحة وقضايا الصحة العامة في البلدان الأعضاء بمنظمة المؤتمر الإسلامي: العلاقة بين الدخل والصحة، لأنور هاقان قوناش، بحث بمجلة التعاون الاقتصادي بين الدول الإسلامية، الصادرة عن منظمة المؤتمر الإسلامي، المجلد (25)، العدد (1)، 31 ديسمبر 2004م، (ص115-117).

([28]) انظر: الفتاوى الإسلامية من دار الإفتاء المصرية (15/25، 26)، القاهرة، 2010م.

([29]) البداية والنهاية لابن كثير (9/186)، ط. دار إحياء التراث العربي.

([30]) أخرجه أبو داود، رقم (3761)، والترمذي، رقم (1846).

([31]) أخرجه الترمذي، رقم (2380).

([32]) انظر: موقع دار الإفتاء المصرية: https:/ / www.dar-alifta.org

([33]) انظر: موقع دار الإفتاء المصرية: https:/ / www.dar-alifta.org

([34]) انظر: موقع دار الإفتاء المصرية: https:/ / www.dar-alifta.org

([35]) انظر: تأثير فجوة النوع الاجتماعي في النمو الاقتصادي في مصر، للدكتورة أميرة محمد عمارة، بحث بمجلة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية-جامعة القاهرة، المجلد (19)، العدد (1)، يناير 2018م، (ص3-6).

([36]) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، رقم (9099)، وأحمد في مسنده، رقم (9675).

([37]) انظر: مشاركة المرأة في المسئولية المجتمعية لتحقيق التنمية، دكتورة نيرفانا حسين الصبري، بحث بمجلة مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامي، العدد (63)، 2017م، (ص529، 530).

([38]) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، رقم (37045)، وأحمد في فضائل الصحابة، رقم (532).

([39]) أخرجه الطبراني في معجمه الكبير، رقم (1048)، والحاكم في المستدرك، رقم (6841).

([40]) انظر: مشاركة المرأة في المسئولية المجتمعية لتحقيق التنمية، (ص531، 532).

([41]) أخرجه أحمد في مسنده، رقم (26902).

([42]) أخرجه ابن ماجه، رقم (2304).

([43]) أخرجه ابن ماجه، رقم (2204).

([44]) أخرجه مسلم، رقم (1483).

([45]) أخرجه مسلم، رقم (2452).

([46]) أخرجه البخاري، رقم (1466)، ومسلم، رقم (1000).

([47]) انظر: مشاركة المرأة في المسئولية المجتمعية لتحقيق التنمية، (ص533، 534).

([48]) انظر: مذكرة مناقشات خبراء صندوق النقد الدولي، المرأة والعمل والاقتصاد: مكاسب الاقتصاد الكلي من المساواة بين الجنسين، سبتمبر 2013م، (ص5).

([49]) انظر: موقع دار الإفتاء المصرية، الفتوى رقم (16774)، بتاريخ: 09 نوفمبر 2014م.

([50]) إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري للقسطلاني (4/ 443)، ط. المطبعة الكبرى الأميرية.

([51]) شرح صحيح البخاري لابن بطال (8/124)، ط. مكتبة الرشد.

([52]) الخواطر للإمام محمد متولي الشعراوي (4/2178-2180)، ط. مطابع أخبار اليوم.

([53]) انظر: موقع دار الإفتاء المصرية، الفتوى رقم (15865)، بتاريخ: 29 ديسمبر 2020م.

([54]) انظر: موقع دار الإفتاء المصرية، الفتوى رقم (15738)، بتاريخ: 12 أكتوبر 2020م.

([55]) انظر: شرح التلوث البيئي في قوانين حماية البيئة العربية دراسة مقارنة، للدكتور علي عدنان الفيل (ص8-10)، المركز القومي للإصدارات القانونية-القاهرة، الطبعة الأولى، 2013م.

([56]) انظر: التربة السليمة وصحة الغذاء والإنسان، للدكتور سعد الله نجم النعيمي (ص589-591)، دار الكتب العلمية-بيروت.

([57]) الجوانب الاقتصادية للتلوث البيئي وآليات معالجته في الفكر الاقتصادي للدكتور مسعودي محمد، ولوالبية فوزي، بحث بمجلة التنمية والاقتصاد التطبيقي-جامعة المسيلة بالجزائر، المجلد (3)، العدد (2) 2019م، (ص194).

([58]) انظر: نص الفقرة (7) من المادة (1) من قانون حماية البيئة المصري رقم (4) لسنة 1994.

([59]) الجوانب الاقتصادية للتلوث البيئي وآليات معالجته في الفكر الاقتصادي، (ص194).

([60]) انظر: التربة السليمة وصحة الغذاء والإنسان (ص589).

([61]) انظر: الجوانب الاقتصادية للتلوث البيئي وآليات معالجته في الفكر الاقتصادي، (ص197، 198).

([62]) انظر: موقع دار الإفتاء المصرية، الفتوى رقم (16521)، بتاريخ: 12 ديسمبر 2019م.

([63]) انظر: موقع دار الإفتاء المصرية، فتوى بتاريخ: 02 فبراير 2016م.

([64]) معالم السنن للخطابي (4/289)، ط. المطبعة العلمية.

([65]) انظر: موقع دار الإفتاء المصرية، الفتوى رقم (13266)، بتاريخ: 04 ديسمبر 2016م.

([66]) انظر: عجز الموازنة العامة، للدكتور محمد علي جبران، بحث بمجلة شئون العصر، الصادرة عن المركز اليمني للدراسات الاستراتيجية باليمن، السنة (12)، العدد (29)، إبريل-يونيو، 2008م، (ص83، 84).

([67]) انظر: عجز الموازنة العامة: الحالة المصرية: الأسباب-العلاج، للدكتور عشماوي علي عشماوي، بحث بمجلة مصر المعاصرة، الصادرة عن الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي والإحصاء والتشريع، العدد (451، 452)، يوليو-أكتوبر، 1998م، (ص81).

([68]) انظر: الفتاوى الإسلامية من دار الإفتاء المصرية (35/24-26)، القاهرة، 1431هـ-2010م.

([69]) تقييم ظاهرة شركات توظيف الأموال وآثارها، للدكتورة نجوان السيد الفرارجي، بحث بمجلة المال والتجارة الصادرة عن نادي التجارة، المجلد (22)، العدد (258) أكتوبر 1990 (ص7-9).

([70]) ظاهرة شركات توظيف الأموال وآثارها على الاقتصاد المصري للدكتور سامي عفيفي حاتم، بحث بمجلة علوم وفنون-دراسات وبحوث، الصادرة عن جامعة حلوان، المجلد (1)، العدد (4) أكتوبر 1989م (ص145).

([71]) انظر: تقييم ظاهرة شركات توظيف الأموال وآثارها (ص9).

([72]) ظاهرة شركات توظيف الأموال وآثارها على الاقتصاد المصري (ص145).

([73]) تقييم ظاهرة شركات توظيف الأموال وآثارها (ص10).

([74]) ظاهرة شركات توظيف الأموال وآثارها على الاقتصاد المصري (ص156).

([75]) تقييم ظاهرة شركات توظيف الأموال وآثارها (ص11).

([76]) انظر: موقع BBC news  عربي.

الرابط: https://www.bbc.com/arabic/middleeast-61487103

([77]) انظر: إحياء علوم الدين للغزالي (2/62)، دار المعرفة-بيروت.

([78]) مدارك التنزيل وحقائق التأويل لأبي البركات النسفي (1/163)، دار الكلم الطيب-بيروت.

([79]) أخرجه مسلم، رقم (2564) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

([80]) متفق عليه: أخرجه البخاري، رقم (2356)، ومسلم، رقم (138)، واللفظ له.

([81]) انظر: مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح للملا علي القاري (5/1957)، دار الفكر-بيروت.

([82]) أخرجه البخاري، رقم (2387).

([83]) أخرجه مسلم، رقم (2581).

([84]) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان لعبد الرحمن بن ناصر السعدي (ص164)، مؤسسة الرسالة.

([85]) متفق عليه: أخرجه البخاري، رقم (2408)، ومسلم، رقم (593).

([86]) شرح النووي على صحيح مسلم (12/11)، دار إحياء التراث العربي-بيروت.

([87]) انظر: شرح صحيح البخاري لابن بطال (1/468)، مكتبة الرشد-الرياض.

([88]) أخرجه الدارقطني في سننه، رقم (2892)، والبيهقي في السنن الكبرى، رقم (11430).

([89]) الفروق للقرافي (3/249)، عالم الكتب.

([90]) انظر: موقع دار الإفتاء المصرية، الفتوى رقم (14723)، بتاريخ: 23 أكتوبر 2018م.

([91]) المستصفى للغزالي (ص173)، ط. دار الكتب العلمية.

([92]) تقدم تخريجه.

([93]) تقدم تخريجه.

([94]) أخرجه البخاري، رقم (3118).

([95]) انظر: موقع دار الإفتاء المصرية، الفتوى رقم (15714)، بتاريخ: 17 نوفمبر 2020م.

([96]) انظر: موقع دار الإفتاء المصرية، الفتوى رقم (14723)، بتاريخ: 23 أكتوبر 2018م.

([97]) انظر: موقع دار الإفتاء المصرية، الفتوى رقم (15661)، بتاريخ: 25 أغسطس 2020م.

اترك تعليقاً