البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الباب الثالث: الفتوى والاقتصاد الوطني

تمهيد: الأسس التي يقوم عليها الاقتصاد من منظور إسلامي

95 views

لقد قدَّم الإسلام للعالم أجمع نظامًا اقتصاديًّا متكاملًا فريدًا لا نظير له في الاقتصادات التي وضعها الغربيون؛ فإنَّ من يرجع إلى القرآن الكريم والسنة المطهرة والتراث الإسلامي عند العلماء المسلمين مثل ابن خلدون، وإلى التطبيقات الاقتصادية خلال عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد الخلفاء الراشدين من بعده يدرك أن الإسلام قدم لنا نظامًا اقتصاديًّا متكاملًا قبل ظهور العدالة والرخاء في إطار من التكافل والتكامل الاجتماعيين، ويجنب المجتمع النزعة الفردية المسرفة والتي تتمثل في الرأسمالية بشكلها الغربي خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، كما يجنبه الجماعية والشمولية المفرطة، والتي تنكر على الإنسان فطرته وتطلُّعه إلى التملك والحوافز الاقتصادية المحركة له، وتحيله إلى ترس يدور في عجلة المجتمع. والواقع أنه لا مجال للمقارنة بين نظام الاقتصاد الإسلامي والنظم الاقتصادية الوضعية؛ لأن النظام الأول يرتكز على أسس إلهية سامية صادرة عن الخالق سبحانه الذي خلق الإنسان ويعلم دوافعه ومحركات سلوكه وما يحقق خيره وخير مجتمعه، أما النظم الثانية فهي نظم وضعية نشأت نتيجة لوقائع وملابسات تاريخية معينة تتسم بالنسبية والتغير ومعرضة للنقد الهادم سواء من حيث النظرية أو من حيث التطبيق([1]).

ويقوم الاقتصاد الإسلامي على مجموعة من الأسس نوجزها فيما يلي:

أولًا: الاتفاق مع الطبيعة البشرية:

فالإسلام دين الفطرة وقد شرع الله للإنسان ما يتفق مع تكونه البيولوجي والنفسي والاجتماعي ومحركاته السلوكية ودوافعه، فأباح له حق التملك والعمل والربح والدخول في مشروعات اقتصادية بشرط الالتزام بالضوابط التي تستهدف صالح الفرد والجماعة وعدم الظلم أو الاعتداء أو الاستغلال.

ثانيًا: تحقيق التوازن بين الفرد والجماعة وبين دوافع الإنسان:

يحقق الاقتصاد الإسلامي مبدأ الوسطية المتزنة كما يتضح من العديد من التوجيهات الإلهية والنبوية. قال تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء: 29] ، وقال تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا، إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء: 26-27] ويبرز الاتزان في الاقتصاد الإسلامي في موقفه من الملكية.

فالملكية في نظر الإسلام ليست ذات طبيعة فردية مطلقة، كما أنها ليست ذات طبيعة جماعية مطلقة وإنما تحقق التوازن بين الفردية والجماعية، يبرز فرديتها من خلال إقرار الإسلام وحمايتها من كل اعتداء عليها، وتظهر جماعيتها من خلال تقييد نموها واستخدامها بمصالح الجماعة.

ثالثًا: الضوابط الاقتصادية:

فالاقتصاد الإسلامي يقيد التصرفات الفردية بالمصالح الجماعية.

فالفردية المطلقة مرفوضة في الإسلام والاقتصاد الإسلامي اقتصاد أخلاقي يستوجب على المواطن أن يلتزم بعدة أمور منها:

أ- عدم كنز الأموال وضرورة استثمار أمواله لما يعود من ذلك الاستثمار من خير على المجتمع في شكل زيادة في الدخل القومي وفتح فرص جديدة للعمل والأجور وتوافر للسلع … إلخ.

ب- أداء فريضة الزكاة الواجبة والمستحقة ونفقات الأقارب أخرى تحقيقًا للتكافل الاجتماعي.

ج- الامتناع عن ممارسة الربا والغش والاحتكار في كل الأنشطة الاقتصادية.

د- عدم استخدام المال للإضرار بالآخرين، أو للحصول على جاه أو سلطة أو مركز اجتماعي من خلال الرشوة بشكلها المباشر أو غير المباشر هدايا مثلًا.

هـ- الالتزام بنظام الإرث والوصية كما شرعه الإسلام لما يحققه هذا النظام من بر وتعاون وعدالة في التوزيع وحيلولة دون تكديس الأموال وتركيز الثروة واحتكارها من جانب قلة من الناس.

وعدم التقتير لما فيه من كنز للثروة وحرمان للمجتمع وحرمان للشخص صاحب الثروة.

كذلك يوجهنا الدين الحنيف إلى عدم الإسراف، لأن الإسراف فيه إضاعة للمال في اللهو واللعب والمتاع الحرام. وولاة الأمور مطالبون بالتدخل في حالات الإسراف في التقتير أو الإسراف لوضع الأمور في نصابها.

وقد ارتبطت إباحة العديد من التصرفات -في الإسلام- بألا تحمل معنى الإضرار بالغير -كالوصية الشرعية التي لا يجوز أن يكون القصد منها الإضرار بالورثة وإمساك الزوجة بنية الإضرار بها، وطلاقها بنية الهروب من إرثها. قال تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيمًا} [النساء: 12] ، وقال تعالى في شأن الزوجات: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] ، وقال عليه الصلاة والسلام: “لا ضرر ولا ضرار” وهذه تعد من أهم القواعد التي يقوم عليها التشريع الإسلامي.

وتشير القواعد الفقهية إلى جواز تقييد الحقوق الفردية إذا ما ترتب على استخدامها الإضرار بالفرد أو الجماعة، منها: جواز الحجر على السفيه إذا أساء التصرف في أمواله حرصًا على مصلحته ومصلحة وارثيه ومصلحة المجتمع، ومنها جواز مصادرة الأموال المحتكرة وبيعها بسعر المثل حتى لا يكون الاحتكار وسيلة للإثراء غير المشروع على حساب حاجة الناس، ومنها جواز تحديد الأرباح حتى لا يؤدي جشع التجار إلى استغلال المستهلكين.

وهنا تكون إساءة استخدم الحق مبررًا لتدخل ولاة الأمر لحماية مصالح المجتمع من العابثين المستغلين.

رابعًا: إطلاق الطاقات الاستثمارية وتشجيع النشاط الاقتصادي المنتج:

فقد نهى الإسلام عن البطالة والتواكل والإهمال والاكتناز والاعتماد عليه ولم يوجب الإسلام النفقة للفقير القادر على العمل حتى لا يركن إلى الكسل والخمول اعتمادًا على النفقة، وقد دعا الإسلام إلى النشاط الإنتاجي المثمر في مجالات الاقتصاد المختلفة -من زراعة وتجارة وصناعة؛ فقد دعا الإسلام إلى إحياء الأرض الموات- وفي كتب الفقه باب خاص بهذه الناحية، ومن أحيا أرضًا مواتًا تصبح ملكًا له لقول الرسول عليه الصلاة والسلام: «من أحيا أرضًا ميتة فله رقبتها»، وقد انصرف المسلمون إلى إحياء الأرض الموات تحت تأثير هذا التوجيه الكريم وتحت دافع التملك والربح. ولم تكتف الدولة الإسلامية بذلك إنما لجأت إلى أسلوب إقطاع الأراضي العامة لم يقدر على زراعتها واستثمارها لأن الدولة لا تستطيع القيام بهذا الاستثمار، وهذا الأسلوب يؤدي إلى زيادة الدخل القومي وزيادة إنتاج الطعام والمواد الخام اللازمة للصناعة الأمر الذي ينعكس على أعضاء المجتمع انخفاض الأسعار وزيادة الرخاء، والشيء نفسه ينطبق على العمل الصناعي والتجاري حيث يشجع الإسلام على بذل الجهد في هذه الميادين بالضوابط الشرعية المقررة.

خامسًا: الحيلولة دون التضخم المرضي للثروات الخاصة:

إذا كان الإسلام أقرَّ حرمة للمال والثروة الخاصة وكفل حمايتها فقد وضع مجموعة من الضوابط التي تحد من التوسع في الثروات الخاصة نوجز أهمها فيما يلي:

أ- الالتزام بالأساليب المشروعة في تنمية الثروة، وتقوم الأساليب المشروعة على العمل والكسب البعيد عن الاستغلال أو إضرار الغير.

ب- لا يجب توظيف الثروة الخاصة في خدمة تحقيق مصالح المالك لها على حساب الآخرين بأي شكل من الأشكال كالرشوة أو الاحتكار.

ج- يجب على صاحب الثروة أداء حق الله فيها من خلال إخراج فرض الزكاة وواجبات التكافل الأخرى، وعلى الدولة أن تجبره على ذلك إن رفض الامتثال طوعا لأوامر الله، وذلك تحقيقًا لصالح المحتاجين والخير العام.

د- نظام الميراث الإسلامي الذي يضمن عدم تركز الثروة وتوزيعها على المستحقين بشكل عادل.

فهذه ضوابط تكوين الثروة في الإسلام، فإذا استطاع شخص أن ينمي ثروته المشروعة وأن يوفي حقوق الله والمجتمع، فهي ثروة يصونها الإسلام ويحميها ويحترمها([2]).

دور الدولة الاقتصادي من منظور الإسلام:

تأسيسًا على ما سبق فإنه يمكن استنباط الهدف الاقتصادي للدولة من وجهة نظر إسلامية، وهو تحقيق الرفاهية المادية لجميع أفراد المجتمع. وتتحقق الرفاهيـة الماديـة لجميع أفراد المجتمع عندما يتحقق معدل مقبول من النمو الاقتصادي المـستدام في إطار من العدالة التوزيعية وبما ينسجم مع الضوابط الشرعية الإسـلامية.

وانطلاقًا مـن القاعدة الأصولية المعروفة القائلة بأنه ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فإنه يمكن القول بأن الدور الاقتصادي للدولة يشتمل على جميـع مـا يلـزم مـن سياسات وأعمال تقوم بها الدولة لتحقيق هذا الهدف، وهذا ما يعطـى للـدور الاقتصادي للدولة في ظل الإسلام قدرًا كبيرًا من المرونة بحيث يكون التركيز على تحقيق الهدف بشرط ألا تخرج الوسائل عن ثوابت الشريعة.

وتؤيد النصوص والوقائع المستمدة من مصادر المعرفة الإسلامية، وكذلك الاجتهاد على أساس القواعد الأصولية، أن يشتمل الدور الاقتـصادي للدولـة على أربعة وظائف:

1-وظيفة خدمية: وتشمل توفير مقومات النشاط الاقتصادي مثل توفير البنية الأساسية وتوفير الخدمات العامة والاجتماعية.

2-وظيفة توجيهية: وتشمل تحديد الإطـار القـانوني والأخلاقـي للنـشاط الاقتصادي ومراقبة الأسواق وتصحيح أدائها.

3-وظيفة إنتاجية: وتشمل إقامة وتسيير قطاع عام اقتصادي يعمل على دعم النشاط الاقتصادي للمجتمع واستغلال الثروات العامة لصالح جميع فئـات المجتمع.

4-وظيفة توزيعية: وتشمل ضمان العدالة التوزيعية بما في ذلك العمل علـى إرساء التوازن الاجتماعي.

ضرورة دعم الفتوى للاقتصاد الوطني:

من أبرز المحددات التي تنتظم صناعة الفتوى في سياقها: فهم الواقع وإدراكه؛ فالفتوى لا تنفصل عن الواقع بحال، وفهم هذا الواقع بالنسبة إلى المفتي لا يقل أهمية عن فهم النص الشرعي، ودراسة الواقع بكل أبعاده دراسة دقيقة ومتفحصة هي التي تؤهله لعملية تنزيل الحكم الشرعي على هذا الواقع حتى يحدث التكامل والتناغم بين فقه الشرع وفقه الواقع، والتقصير فيه يُفوِّت مقصود الشارع من إقامة العدل والقسط؛ فالواقع في الحقيقة شريك في استنباط الحكم في عملية الفتوى.

وبالإضافة إلى فهم الواقع، يجب أن يدرك المفتي أن الفتوى وسائر أحكام الشرع إنما شُرعت لغاية وهى الحفاظ على المصالح الرئيسية لبنى آدم، ولذلك فإن الفتوى يجب أن تدور مع تلك المصالح وأن تسعى في تحقيقها، وهو ما يجب أن يُدرَك لاسيما في قضايا النوازل المعاصرة، والتي كان منشأ اللغط فيها يعود بشكل كبير إلى غياب إدراك الواقع، والغفلة عن مقصود الشرع في تحقيق مصالح العباد ودرء المفاسد عنهم.

فالفتوى وصناعتها أداة شرعية يتمكن من خلالها المفتي من تعبيد الناس بشرع الله سبحانه وتعالى وفق مقاصد ذلك الشرع الحنيف، وتحقيقًا لمصالحهم التي راعاها الشارع وقصد إلى حفظها وصيانتها، وهو ما يبرز دور الفتوى الصحيحة في عمليات التنمية الشاملة، فلا شك أن جوهر التنمية يقوم على الحفاظ على تلك المصالح وتطويرها وتحسينها بأكبر قدر ممكن، وهو ما يجب أن تسعى الصناعة الإفتائية إلى تحقيقه والعمل عليه.

وعلى ذلك وفي ظل تطور الحياة وتغير الواقع فإن الفتوى ينبغي لها أن تساير هذا الواقع المتغير، ومن مجالات التطور والتغير الواقع في الحياة هو التطور في النظام الاقتصادي والمعاملات المالية، وعلى ذلك فينبغي أن تكون الفتاوى داعمة للاقتصاد الوطني، والفقه الإسلامي واسع وفسيح ويستطيع أن يضع الحلول المتعددة لأي مشكلة تظهر في المجتمع فيما يتعلق بالمسائل الاقتصادية الحديثة.

وكذلك فإن التنمية المستدامة هي أهم أهداف الاقتصاد الحديث، وهي كذلك أحد أهم متطلبات عمارة الأرض؛ وذلك لحرصها الشديد على الموارد الطبيعية والحفاظ على البيئة، وقد بات من الضروري أن يكون الاقتصاد التنموي مُلبِّيًا لاحتياجات الحاضر، وأن تجعل المؤسسات القائمة على أمر الفتوى من تحقيق متطلبات الاقتصاد التنموي معيارًا من المعايير الأساسية الواجب توافرها ومراعاتها فيما يصدر عنها من فتاوى اقتصادية.

ونعرض لقضية ارتباط الفتوى بالاقتصاد الوطني من خلال الفصول الآتية:

الفصل الأول: دور الفتوى في مواجهة معوقات التنمية الاقتصادية.

الفصل الثاني: دور الفتوى في دعم الاقتصاد الوطني.

ويشتمل على ثلاثة مباحث:

المبحث الأول: دور الفتوى في دعم قوانين وأنظمة المعاملات المالية.

المبحث الثاني: دور الفتوى في دعم التعاون والتكامل الاقتصادي العالمي.

المبحث الثالث: دور الفتوى في دعم العدالة الاجتماعية.

 

 

([1]) بناء المجتمع الإسلامي، للدكتور نبيل السمالوطي (ص185)، دار الشروق للنشر والتوزيع والطباعة.

([2]) بناء المجتمع الإسلامي (ص194-198).

اترك تعليقاً