البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الباب الثاني: مقاصد الفتوى في المعاملات المالية

الفصل الثالث: دور الفتوى في الالتزام بالمبادئ الشرعية للمعاملات المالية.

69 views

كان للفتوى دور في الحث على الالتزام بالمبادئ التي أقرها الشارع بخصوص المعاملات المالية، والتي سبقت الإشارة إليها والكلام فيها، ونعرض لهذه الجهود الإفتائية من خلال المباحث التالية:

 

المبحث الأول: إسهامات الفتوى في بيان المقصد الشرعي في العدل:

من الجهود الإفتائية التي ساهمت في إجلاء مقصد العدل في المعاملات المالية: فتوى دار الإفتاء المصرية بخصوص حكم الاحتكار وطرق معاملة ولي الأمر للمحتكر، فقد جاء في هذه الفتوى:

الأصل في الاحتكار: حجب السلع عن أيدي الناس إضرارًا بهم حتى يصعب الحصول عليها وترتفع قيمتها؛ فيحصل المحتكرون على الأرباح الباهظة دون منافسة تجارية عادلة، وهو من أشدِّ أبواب التضييق والضرر، والسلع التي يجري فيها الاحتكار هي كل ما يقع على الناس الضرر بحبسها.

وقد دلَّت النصوص الشرعية على أنَّ الاحتكار من أعظم المعاصي، وخاصة إذا أحدث بالناس ضررًا، فقد اشتملت الأخبار على لعن المُحْتَكِر وتوعُّده بالعذاب الأخروي الشديد؛ ومن ذلك ما أخرجه الإمام مسلم عن معمر بن عبد الله العدوي: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحتكر إلا خاطئ»([1]). وأخرج الحاكم في “المستدرك” عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغلي عليهم، كان حقًّا على الله أن يقذفه في معظم جهنم رأسه أسفله»([2])؛ إلى غير ذلك من الأخبار الدالة بعمومها وإطلاقها على حرمة الاحتكار سواء للأفراد أو للشركات المحلية أو الأجنبية أو حتى الحكومات.

وقد قرَّرت الشريعة الإسلامية أساليب عدة لإزالة آثار الاحتكار في المجتمع إذا كان في سلعة ضرورية للناس عملًا بالقاعدة الفقهية: “الضرر يزال”؛ ومن هذه الأساليب أن يُجبَر المحتكر على بيع ما لديه، وأن يُسعَّر عليه حتى يضيع عليه مقصده من الاحتكار.

يقول الشيخ الحطاب المالكي في “مواهب الجليل” عن السلعة المحتكرة: [إن نزلت حاجة فادحة أو أمر ضروري بالمسلمين فيجب على مَن كان عنده ذلك أن يبيعه بسعر وقته؛ فإن لم يفعل أُجبر على ذلك]([3]).

وعرض ما اختزنه المحتكِر من السلع في السوق وإجباره على بيع ما لديه سيؤدي بالضرورة إلى زيادة العرض، وقد يلغي كل آثار الاحتكار؛ حيث ينخفض السعر بزيادة العرض.

فإن أصرَّ المحتكرون على أن يبيعوا بثمن مرتفع فيجوز لولي الأمر الإلزام ببيع هذه السلعة بسعر محدد من قِبَله، وهو ما يُسمى بالتسعير.

وقد ذهب إلى جواز التسعير عند وقوع الضرر على الناس الحنفية والمالكية، وهو وجه للشافعية ورأي ابن تيمية من الحنابلة، واستدلوا بحديث: «من أعتق شِرْكًا له في عبد، فكان له مال يبلغ ثمن العبد قُوِّمَ عليه قيمة العدل»([4])؛ فالشارع لم يُمكِّن الشريك من البيع بما يريد، بل ألزمه بسعر المثل، وهو السعر العدل، وما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه مر بحاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه فوجده يبيع زبيبًا بسعر عالٍ فأمره أن يُقَلِّل السعر أو يخرج من السوق، كما استدلوا بأنَّ المصلحة تقتضي التسعير لما يحدثه ارتفاع الأسعار من قِبَل المحتكرين من ضرر يقع بالناس، ومن القواعد العامة للإسلام إزالة الضرر والمشقة والحرج والظلم، والتسعير على المحتكر يُزِيلُ هذه العلل.

فالتسعير يؤدي إلى خفض ثمن السلعة التي تم احتكارها إلى ثمنها الحقيقي في الظروف المعتادة غير الاحتكارية.

أما عقوبة المحتكر فيما لا يخص السلعة المحتكرة فإنَّ الشرع لم يُقدر للمحتكر عقابًا مُحدَّدًا؛ فلم يرد في السنة النبوية الشريفة ما يدلُّ على أن للاحتكار عقوبة مقدرة، وإذا لم يكن له عقوبة مقدرة في الشرع فتدخل عقوبته في باب التعزير؛ فوليّ الأمر له سلطة الردع عن الاحتكار والحيلولة دون وقوعه وإزالته إذا وقع؛ لأنَّ ولي الأمر له الولاية العامة التي تشمل تنظيم الحياة العامة للمجتمع، ومن أهمها تنظيم المسألة الاقتصادية، ويدل على ذلك ما جاء في كتاب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه ورضي عنه إلى مالك بن الأشتر النخعي -والذي ذكره القلقشندي في “مآثر الإنافة في معالم الخلافة”، وفيه: [فامنع من الاحتكار، فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم منع منه.. فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه فنكِّل به وعاقبه من غير إسراف]([5])، وكذلك ما أخرجه ابن حزم في “المحلى” أنَّ علي بن أبي طالب رضي الله عنه أحرق طعامًا احتُكر بمائة ألف.

قال في “الفتاوى الهندية”: [وإذا رُفع أمر المحتكر إلى الحاكم فالحاكم يأمره ببيع ما فضل عن قوته وقوت أهله على اعتبار السعة، وينهاه عن الاحتكار، فإن انتهى فبها ونعمت، وإن لم ينته ورفع الأمر إلى القاضي مرة أخرى وهو مُصِرٌّ على عادته وَعَظَهُ وَهَدَّدَهُ، فإن رفع إليه مرة أخرى حبسه وَعَزَّرَهُ على ما يرى]([6]).

والتعزير هو كل عقوبة ليس لها حدٌّ مُقَرَّرٌ في الشرع؛ فيجوز للحاكم إن رأى أن المحتكر لا يرتدع إلا بالحبس ونحوه أن يحبسه أو يُعَزِّرَهُ بما يراه رادعًا له ولأمثاله، ومن صور العقوبات التعزيرية: التعزير بالمال، وهو جائز على أحد قولي الحنفية، وهو قول الشافعي في القديم، وقول عند المالكية وأحمد في مواضع مخصوصة من مذهبيهما، ونصره تقي الدين ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وعزاه الخطَّابي للحسن البصري والأوزاعي وإسحاق؛ وذلك لقوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ ٱللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89]، فهذه الآية أصلٌ دالٌّ على مشروعية التغريم بالمال شرعًا؛ إذ الحنث معصية ليست لها عقوبة مقدَّرة تماثلها في الصورة.

ومن السنة النبوية ما رواه أبو داود عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الثَّمر المعلَّق؟ فقال: «من أصاب بفيه من ذي حاجة غير متخذ خُبْنَةً فلا شيء عليه، ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مِثْلَيْه والعقوبةُ»([7])، والخُبْنَة: مِعطَف الإزار وطَرَف الثوب، وهو ما يأخذه الرجل في ثوبه فيرفعه إلى فوق، والمعنى أن مَن أكل مِن ثمر مضطرًّا دون أن يأخذ منه شيئًا فلا عقوبة عليه، وإن أخذ منه شيئًا فعليه الغرامة والعقوبة، وذلك إذا لم يكن من حرزٍ وبلغ النصاب.

ومنها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتفق عليه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أثقل صلاةٍ على المنافقين صلاة العشاء، وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حَبْوًا، ولقد هممت أن آمر بالصلاة، فتقام، ثم آمر رجلًا فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حُزَمٌ من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فَأُحَرِّقَ عليهم بيوتهم بالنار»([8])؛ فهذا صريح في أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم هَمَّ بتحريق بيوت الذين يتخلفون عن صلاة الجماعة، وما مَنَعه عليه الصلاة والسلام من ذلك إلا لما فيها من النساء والذرية، والحرق عقوبة مالية بالإتلاف.

وبجواز العقوبة بالمال أخذ القانون المصري كما في المادة (22 عقوبات)، حيث نصَّت على أنَّ العقوبة بالغرامة إلزام للمحكوم عليه بأن يدفع إلى خزينة الحكومة المبلغ المقدَّر في الحكم، ثمَّ فصَّل القانونُ حدودَ الغرامة لكل جريمة على حدة.

وعلى ذلك: فيجوز تعزير المحتكر بغرامة مالية أو بمصادرة ماله؛ وعلى ذلك نص قانون حماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية رقم (3) لسنة 2005م مع تعديلاته بالقانون رقم (56) لسنة 2014م؛ ففي المادة رقم (8): [يحظر على مَن تكون له السيطرة على سوق معينة القيام بأي ممَّا يأتي:

أ- فعل من شأنه أن يؤدّي إلى منع كلي أو جزئي لعمليات التصنيع أو الإنتاج أو التوزيع لمنتج لفترة أو فترات محددة.. جـ- فعل من شأنه أن يؤدي إلى الاقتصار على توزيع منتج دون غيره على أساس مناطق جغرافية أو مراكز توزيع أو عملاء أو مواسم أو فترات زمنية، وذلك بين أشخاص ذوي علاقة رأسية.. و- الامتناع عن إنتاج أو إتاحة منتج شحيح متى كان إنتاجه أو إتاحته ممكنة اقتصاديًّا] اهـ.

ثم قرَّر القانون العقوبات المترتبة على هذه الأفعال في المادة رقم (22) ونصه: [مع عدم الإخلال بأية عقوبة أشدّ ينص عليها أي قانون آخر يعاقب على كل مخالفة لأحكام أي من المواد (6، 7، 8) من هذا القانون بغرامة لا تقل عن ثلاثين ألف جنيه ولا تجاوز عشرة ملايين جنيه. وللمحكمة بدلًا من الحكم بالمصادرة أن تقضي بغرامة بديلة تعادل قيمة المنتج محلّ النشاط المخالف] اهـ([9]).

والاحتكار ظلم للعباد ووجهه: أن بيع السلع وما يحتاج إليه الناس قد تعلق به حق العامة، فإذا امتنع المحتكر عن بيعه للناس عند شدة حاجتهم إليه فقد منعهم حقهم، ومنع الحق عن المستحق ظلم، فأما الظلم على المستهلكين فلِما يقع فيه من التضييق عليهم في أرزاقهم ورفع الأسعار عليهم، وأما الظلم على التجار فلأن السلع تكون فقط في يد المحتكر دون بقية التجار، وفي ذلك إهدار لحرية التجارة والصناعة وعدم التكافؤ في الفرص، وظلم للسوق حيث ينتج من الاحتكار عدم توفر السلع في السوق؛ فالعقل دال على تحريم مثل هذا الفعل لما فيه من الظلم.

 

المبحث الثاني: إسهامات الفتوى في بيان المقصد الشرعي في منع الغش والتدليس:

ساهمت الفتوى في بيان مقصد الشرع الحنيف في منع الغش والتدليس في المعاملات المالية، ومن هذه الفتاوى نذكر فتوى دار الإفتاء المصرية بخصوص حكم قيام البائع ببيع المنتجات التي بها عيوب في الصناعة دون إظهار هذه العيوب عند البيع، جاء في هذه الفتوى: الأصل في البَيْع حِلّهُ وإباحته؛ لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ ٱللهُ ٱلۡبَيۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰاْ} [البقرة: 275]، أمَّا إذا اشتمل البيعُ على محظورٍ كالغش والمخادعة؛ فإنَّ حكم البيع يتحول إلى الحرمة.

ولقد نهى الله سبحانه وتعالى ورسوله عن الغش خاصة في البيع والشراء؛ روى الإمام مسلم في “صحيحه” عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ على صبرة طعام فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللًا فقال: «ما هذا يا صاحب الطعام؟» قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: «أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، من غش فليس مني»([10]).

وروى الإمام ابن حبان في “صحيحه” عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من غشنا فليس منا، والمكر والخداع في النار»([11]).

وهو من الكبائر؛ فقد عدَّه الإمام ابن حجر الهيتمي الشافعي في “الزواجر عن اقتراف الكبائر” [الكبيرة الموفية المائتين: الغش في البيع وغيره]([12]).

والغش والكذب وكتمان العيب من الأمور التي يستحق بها صاحبها اللعن والمقت والطرد من رحمة الله سبحانه وتعالى؛ فعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «من باع عيبًا لم يبينه لم يزل في مقت الله، ولم تزل الملائكة تلعنه»([13]).

وهو من الأمور التي يترتب عليها أيضًا محق البركة؛ فعن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: قال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: «البَيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا -أو قال: حتى يتفرقا- فإن صدقا وبيَّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا مُحقت بركة بيعهما»([14]).

قال العلامة ابن بطال في “شرح صحيح البخاري”: [قال ابن المنذر: فكتمان العيوب في السلع حرام، ومن فعل ذلك فهو مُتوَّعد بمحق بركة بيعه في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة]([15]).

وبناء على ذلك: فإن كتمان عيوب السلع والبضائع وعدم إظهارها للمشتري وقت البيع أمرٌ محرَّم شرعًا، وهو من الكبائر، ويستحقُّ مَنْ يفعل ذلك اللعن والمقت والطرد من رحمة الله سبحانه وتعالى([16]).

ولدار الإفتاء المصرية أيضًا فتوى في حكم التسوق الشبكي بخصوص نشاط شركة (كيونت)، جاء فيها: “التسويق الشبكي” هو أحد الأفكار الحديثة في عالم التسويق، والواقع يرشدنا إلى أنه ليس معاملة واحدة في تفاصيلها وصورها، وإن اتحدت في معالمها الرئيسة؛ فالحكم الشرعي فيها لا بد أن يُنَزَّل على واقع وتفاصيل محددة بعينها؛ والمعاملة المسئول عنها تعتمد على فكرة مفادها قيام البائع الذي يرغب في التسويق لسلعته ويشجع على ذلك بوضع حافز مادي تشجيعًا للمشتري كلما جاء عدد معين من المشترين الآخرين نتيجة لتسويق ذلك المشتري، وتزيد نسبة الحافز بناء على زيادة عدد المشترين.

وقد تبين أن لهذا النوع من المعاملات تأثيرات اقتصادية واجتماعية واسعة المدى بعد ازدياد الشكوى منها ومن آثارها؛ وقد سبق بحث مثل هذه المعاملة واجتمعت الأمانة في هذا الصدد بالأطراف ذات الصلة بهذه المعاملة؛ حرصًا على الاطلاع المباشر على تفاصيلها، ملتزمةً بالنظر في واقع المعاملة في مصر.

وتبين للجنة إثر هذه اللقاءات ضرورة التأكيد على أصول وأسس مهمة تكشف عن أهم ملامح سياق هذا النوع من المعاملات، ومن أهم هذه الأمور:

أن الراجح من آراء الخبراء الاقتصاديين عدم التفرقة بين التسويق الشبكي والتسويق الهرمي؛ لما تشتمل عليه المعاملتان من الاشتراك في الاعتماد على مفهوم التسويق المباشر، إضافة إلى تبني مفهوم التسويق التشعبي المبني على التشجير والأذرع، وهذا يعني أن التسويق الشبكي والهرمي هما من قبيل الأشباه.

أن هذا النوع من التسويق له خصائص يمكن رجوعها إلى أمرين:

الأول: تخفيض تكلفة التسويق والترويج عن طريق تقليل الوسائط والبيع المباشر.

والثاني: التحكم في التوزيع من خلال المعرفة الدقيقة بحركة المنتجات والعميل.

أن واقع هذا النوع من التسويق في السوقين المصرية والعالمية يكشف عن أن أهم المنتجات التي يتم تسويقها من خلال هذا النظام تتمثل في بعض السلع والخدمات مثل الساعات، والتملك بنظام اقتسام الوقت المعروف باسم “تايم شير” (Timeshare)، وقد تكون سلع يحتاجها الناس كأجهزة المحمول وغيرها من الأجهزة الإلكترونية أو بعض المصوغات الذهبية.

أن واقع الممارسة في عالم التسويق المباشر يشتمل على نوعي الممارسة: الجادة؛ التي تجمع غالبًا بين شراء المنتج والتسويق له، والمحتالة غير الجادة؛ مثل ما وقع من بعض الشركات التي باعت أسطوانات مدمجة لبعض برامج الحاسوب بأضعاف ثمنها على أنها أصلية ومحمية، ليُكْتَشَفَ بعد ذلك أنها متاحة مجانًا على شبكة المعلومات العالمية.

ويرى الخبراء الاقتصاديون أن التفرقة بين هاتين الممارستين صعبة على الشخص العادي؛ وهذا يؤدي إلى عدم توفر الحماية الكافية للمشتري المسوق كما يشير إليه واقع هذه المعاملات، بل يذهب بعضهم إلى انعدامها بالكلية، مما يسهل وقوع التحايل ويؤدي إلى عدم الحصول على الضمان عنده.

من أهم ملامح واقع هذه المعاملة عدم توفر الأطر القانونية الخاصة المنظمة لعمل الشركات في هذا المجال؛ فلا توجد قوانين مسنونة في مصر لتنظيم التعامل بها وضمان حقوق المتعاملين بها.

أن مؤشرات التحليل الاقتصادي لهذه المعاملة تكشف عن أمور ذات واقع سلبي، أهمها:

غياب الرقابة المالية لغياب التنظيم القانوني للنشاط بشكل واضح.

الأثر الخطير على منظومة القيم في المجتمعات، من خلال التشجيع على الاستهلاك غير الرشيد، وعلى الاتجاه نحو الكسب السريع الذي لا ينتج عن تحسن في حجم الإنتاج.

هناك مؤشرات توضح تأثر منظومة العمل التقليدية سلبيًّا بهذه المعاملة؛ حيث تغير مفهوم العمل من العمل المنظم إداريًّا إلى العمل المطلق من قيدي السلطة والمسؤولية اللذين بهما يمكن القيام بالمتابعة والتعديل للأداء، وكذلك المحاسبة على مدى مشروعية الأدوات المستخدمة في العمل.

وهناك مؤشرات أخرى ملموسة توضح عمومَ البلوى بها وتَحَوُّلَ كثيرٍ مِن الممارسين لهذه المعاملة مِن “العمل بعضَ الوقت” (Part time) إلى “العمل كلَّ الوقت” (Full time)، بما يؤذن بانسداد المهن أو تأثرها سلبًا على الأقل، وخير شاهد لذلك: ما رصَدَتْه دار الإفتاء المصرية في معدَّلاتها الإحصائية اليومية للفتاوي اليومية إليها عبر منافذها المختلفة؛ شفوية وهاتفية وإلكترونية ومكتوبة من أسئلة كثيرة عن هذا النوع من المعاملات.

وبخصوص هذه المعاملة محل السؤال -ووفق الأوراق المرفقة- فإنها تشتمل على شرط لأخذ العمولة عن التسويق؛ حيث يشترط في حق المشتري المسوق أن يقوم بالتسويق لعدد محدد من المشترين (على شكل ذراعين يمين ويسار)؛ للحصول على الحافز الذي يترتب على العمل المؤدى من قِبل العميل، وهو الترويج والتسويق لمنتجات الشركة.

وعليه: فإذا كانت صورة المسألة على ما ذكرنا، وفي السياق المشار إليه سلفًا، فإن الفقهاء والعلماء المعاصرين سلكوا مسلكين في تكييفها، هما:

المسلك الأول: وهو تكييف هذه المعاملة من خلال العقود المسماة في الفقه الموروث سواء بجعلها عبارة عن عقدين منفصلين، أم عن طريق جعلها عقدين مركبين.

وقد اختلفوا في تعيين العقدين؛ فقال فريق: هما الشراء والجعالة، وقال الآخر: الشراء والسمسرة.

المسلك الثاني: هو تكييف هذه المعاملة من خلال العقود غير المسماة –التي لم ينص عليها في الفقه الموروث-، وهذا مقتضى ما تشتمل عليه هذه المعاملة من عناصر ومكونات اقتصادية جديدة تمتاز بها عن العقود المسماة في الفقه الموروث.

ويتضح من اختلاف المسلكين أن المعنى المؤثر في تكييف هذه المعاملة يتمثل في عملية التسويق؛ فالمسلك الأول يختلف أصحابه في تعيين العقد الأليق بعملية التسويق سواء تبنَّوْا انفصالها عن عقد الشراء الأول وصيَّروهما عقدين منفصلين، أم تبنَّوا اتصالها به، وصيَّروهما عقدًا مركبًا منهما.

والمعاملة المسؤول عنها -والتي يمكن تسميتها بالشراء التسويقي- قد اشتملت على معانٍ لا تظهر إلا من خلال تتبع المآلات ومراجعة خبراء السوق، وهذا يجعلها حرامًا شرعًا على كلا المسلكين، وأهم هذه المعاني:

مخالفة هذه المعاملة لشرطين من شروط صحة المعاملات المستحدثة وهما:

اشتراط حفاظ المعاملة على اتزان السوق، وهو الشرط الذي من أجله حرم الشرع الشريف الاحتكار وتلقي الركبان مما يجعل هذه المعاملة ذات تأثير سلبي على السوق.

تحقيق مصلحة المتعاقدين؛ حيث إن مصلحة المشتري المسوق تزيد نسبة المخاطرة فيها بشكل واضح نتيجة صعوبة تحقق شرط العائد المادي للتسويق.

فقدان الحماية لمن يمارس هذه المعاملة من الناحيتين الاقتصادية والقانونية، وهذا يجعل المشتري المُسَوِّق يتعرض لخطر كبير متولد من عدم وجود تشريع ينظم العلاقات بين الشركة البائعة والمشتري؛ فليس للأخير ما يضمن حقه بالرجوع على الشركة ومقاضاتها إذا احتاج إلى ذلك في استيفاء حقوقه؛ فالمشتري المُسَوِّق قد يبذل جهدًا ويتكبد في سبيل التسويق لهذه السلعة وقتًا وجهدًا كثيرًا، وهو قد بذل ذلك تحت وعد من الشركة بأداء مقابل لهذا الجهد بالشرط المتفق عليه، ولا يوجد في الحقيقة ما يضمن ذلك من الناحية القانونية.

بالإضافة إلى ما سبق فإن الطريقة التي تجري بها هذه المعاملة تعتبر مجرد وسيلة لكسب المال السريع لا أكثر، سواء بالنسبة لصاحب الشركة أو للعملاء، فإنه مع توسط السلعة في كسب المال هنا، إلا أن السلعة لم تعد هي المقصودة في عملية الشراء، بل أصبحت سلعة صورية وجودها غير مؤثر، فالمقصد الحقيقي الظاهر من هذه المعاملة مجرد التوصل إلى الربح، ولقد قال جمع من الفقهاء بإعمال المعاني والأخذ بها في العقود التي يقوى فيها جانب المعنى.

قال العلامة ابن حجر الهيتمي في “تحفة المحتاج”: [وزعم أن الصحيح مراعاة اللفظ في المبيع لا المعنى غير صحيح؛ بل تارة يراعون هذا وتارة يراعون هذا بحسب المدرك]([17]).

وقال العلامة ابن قاسم العبادي في الحاشية معلقًا على كلام ابن حجر: [والغالب عليهم مراعاة اللفظ ما لم يقو جانب المعنى] اهـ.

كما ورد في الأوراق المرفقة عدة بنود معيبة بخصوص هذا التعاقد تضاف إلى الأمور السابقة المتعلقة بالتسويق الشبكي عامة، ومنها: تنصل الشركة من حقوق كثيرة للمسوق بناء الصلاحيات الواسعة التي تشترطها الشركة لنفسها ومن جهتها من تعديل للبنود أو إلغائها، وهو ما يخل بمبدأ التوازن في العقود بين المتعاقدين ويجعل واقع هذا العقد داخلًا ضمن عقود الإذعان.

وبناء على ذلك كله: فإن هذه المعاملة تكون بهذه الحال المسئول عنها حرامًا شرعًا؛ لاشتمالها على المعاني السابقة، خاصة بعد أن ثبت لدى أهل الاختصاص أن شيوع مثل هذا النمط من التسويق يُخِلُّ بمنظومة العمل التقليدية التي تعتمد على الوسائط المتعددة، وهو في ذات الوقت لا يُنشِئُ منظومة أخرى بديلة منضبطة ومستقرة، ويُضيِّق فرص العمل، ووُجِد أن هذا الضَّرب من التسويق قد يدفع الأفراد إلى ممارسات غير أخلاقية من كذب الموزع أو استخدامه لألوان من الجذب يمكن أن تمثل عيبًا في إرادة المشتري؛ كالتركيز على قضية العمولة وإهدار الكلام عن العقد الأساس -وهو شراء السلعة-، وقد سبق لأمانة الفتوى أن نبهت في الفتوى السابقة بشأن هذه المعاملة إلى أن خلوها من هذه المحاذير شرط في حلها؛ فحصل اللبس بعدم الالتفات إلى هذه القيود، وقد تبين لأمانة الفتوى بعد دراسة واقع هذه المعاملة أنها مشتملة على هذه المحاذير التي تمنع حلها؛ وهذا ما دعاها إلى الجزم بتحريمها صراحةً؛ فلا يحل التعامل بها حينئذ؛ لعدم سلامتها من هذه المحاذير المذكورة؛ حيث لا توجد الحماية القانونية والاقتصادية للمشتري المسوق، وحيث تحققت فيها الصورية في السلعة محل التسويق التي صارت مجرد وسيلة للاشتراك في النظام وليست مقصودةً لذاتها ولا محتاجًا إليها بالفعل، وأصبح إخلالها بمنظومة العمل التقليدية واقعًا صعبًا ملموسًا يحتاج إلى علاج حقيقي وحاسم.

وننبه على أن الفتوى بالتحريم هي تخص فقط نظام التسويق الشبكي أو الهرمي من الدخول فيه وتحصيل عمولات منه على النحو المفصل في الفتوى، ولا تتناول بيع تلك المنتجات بالصورة التقليدية للبيع؛ فما يتم من مجرد بيعٍ لهذه السلعة إذا توفرت فيها شروط الحل فلا حرمة في ثمنها([18]).

المبحث الثالث: إسهامات الفتوى في بيان المقصد الشرعي في منع الإضرار بالمال:

ومن أمثلة الفتاوى التي يتضح فيها جملة من المقاصد الشرعية في المعاملات المالية يأتي في مقدمتها مقصد الحفاظ على المال وعدم الإضرار به: فتوى دار الإفتاء المصرية عن ظاهرة «المستريح»، والتي ظهرت في مصر في الآونة الأخيرة بشكل واسع في العديد من المحافظات المصرية، وهو شخص يجذب أكبر عدد من ضحاياه عن طريق إغرائهم بالمكاسب من طريق مشروع، فيقوم بجمع الأموال من ضحاياه بحجة الاستثمار في المواشي أو السيارات أو غير ذلك ثم يلتزم في أول الأمر بإعطائهم أرباحًا كبيرة ثم يختفي على نحو مفاجئ بعد الاستيلاء على الأموال. فقد جاء في فتوى دار الإفتاء المصرية: أن معاملات “المستريح” تشتمل على جملة من المحاذير والمخالفات الشرعية، وهي:

أولًا: أَنَّ المستريح يبني مَشْرُوعَه على استغلال البسطاء وغيرهم بالتَّخَفِّي وراء مظلة أو صبغة شرعية، فمعايير الكسب الحلال غائبة عن أطراف هذه المعاملات؛ إذ معايير الكسب في هذه الصور قائمة على إغراءات كبيرة مبناها على الغِشِّ، والتدليس، والخيانة، وأكل أموال الناس بالباطل؛ حيث يتم استخدامها لكلا الجانبين كوسيلةٍ لكسب المال السريع، ورغم تَوسُّط السلعة هنا، إلَّا أنها أصبحت صورية، علاوة على استغلال حاجة الناس والإضرار بهم؛ وكلها أمور مُحرَّمة في الشريعة الإسلامية بعموم الأدلة الحاكمة بتحريم الغِشِّ وخيانة الأمانة؛ ومن ذلك قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29]، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27].

وما أخرجه الإمام مسلم عن أبى هريرة رضي الله عنه أَنَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم مَرَّ على صُبْرة طعامٍ، فأَدْخَل يده فيها، فنالت أصابعه بَللًا، فقال: «مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟» قال: أصابته السماء يا رسول الله قال: «أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ حتى يَرَاهُ النَّاسُ؟ مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي»([19]).

فهذا النهي والوعيد على عمومهما؛ فيَدُلَّان على تحريم الغش مطلقًا سواء كان الغش في البيع أو في غيره من المعاملات بين الناس.

ثانيًا: عدم وجود ضمانات قانونية لأصحاب هذه الأموال، ولا يَخْفَى ما في هذا من الغَرَر والجهالة، وإضاعة الأموال التي أَمَرنا الله تعالى بالمحافظة عليها؛ قال تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5]؛ ففي هذه الآية نهيٌ للأولياء عن أن يؤتوا الذين لا رُشْد لهم أموالهم فيضيعوها.

ثالثًا: ما ثبت لدى أهل الاختصاص أن شيوع مثل هذا النمط من المعاملات يترتب عليه أضرار اقتصادية بالغة تتعارض مع المقاصد الشرعية؛ إذ إنَّ حفظ الأوطان اقتصاديًّا مقصد شرعي يأثم مَن يُخِل به؛ حيث قال تعالى: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [البقرة: 60]، وقال سبحانه: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} [الأعراف: 56]؛ ومن أجل ذلك فقد حَظَر الـمُشرِّع المصري الاستثمارَ في غير الشركات المساهمة، وذلك في القانون 146 لسنة 1988م، الخاص بالشركات العاملة في مجال تَلقِّى الأموال لاستثمارها، ولا شك أنَّ معاملات المستريح كلها فيها تَعَدٍّ صارخٍ على نصوص هذا القانون.

وخلصت الفتوى إلى أن ما يقوم به “المستريح” هو مُحرَّم شرعًا، ومُجَرَّم قانونًا؛ لاشتماله على المحاذير والمخالفات الشرعية السابقة.

وقد حثَّت دار الإفتاء المواطنين على ضرورة الانتباه لخطورة هذا النوع من المعاملات، وزيادة الوعي بالعمل تحت مظلة المؤسسات المالية الرسمية التي تَحْظَى باحترام الشرع والقانون([20]).

 

 

 

([1]) أخرجه مسلم، رقم (1605).

([2]) أخرجه الحاكم في مستدركه، رقم (2168).

([3]) مواهب الجليل للحطَّاب (4/227)، ط. دار الفكر.

([4]) أخرجه مسلم، رقم (1501).

([5]) مآثر الإنافة في معالم الخلافة للقلقشندي (3/6)، ط. مطبعة حكومة الكويت.

([6]) الفتاوى الهندية (3/214)، ط. دار الفكر.

([7]) أخرجه أبو داود، رقم (1710).

([8]) متفق عليه: أخرجه البخاري، رقم (657)، ومسلم، رقم (651).

([9]) انظر: موقع دار الإفتاء المصرية، الفتوى رقم (17088)، بتاريخ: 31 يوليه 2017م.

([10]) تقدم تخريجه.

([11]) أخرجه ابن حبان في صحيحه، رقم (5559).

([12]) الزواجر عن اقتراف الكبائر لابن حجر الهيتمي (1/393)، ط. دار الفكر.

([13]) أخرجه ابن ماجه، رقم (2247).

([14]) متفق عليه: أخرجه البخاري، رقم (2079)، ومسلم، رقم (1532).

([15]) شرح صحيح البخاري لابن بطال (6/213)، ط. مكتبة الرشد.

([16]) انظر: موقع دار الإفتاء المصرية، الفتوى رقم (16996)، بتاريخ: 19 فبراير 2017م.

([17]) تحفة المحتاج في شرح المنهاج لابن حجر الهيتمي (4/402)، ط. دار إحياء التراث العربي.

([18]) انظر: موقع دار الإفتاء المصرية، فتوى الأستاذ الدكتور شوقي إبراهيم علام، بتاريخ: 16 يوليه 2018م.

([19]) تقدم تخريجه.

([20]) انظر: موقع دار الإفتاء المصرية، الفتوى رقم (17480)، بتاريخ: 26 يوليه 2022م.

اترك تعليقاً