البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الباب الأول: أطوار الفتوى

الفصل الأول: الفتوى في عصر الرسالة

104 views

ويأتي الحديث عن الفتوى في عصر الرسالة في المبحثين التاليين:

  • المبحث الأول: المتصدرون للفتوى في عهد الرسالة.
  • المبحث الثاني: سمات الفتوى في عصر الرسالة.

المبحث الأول

المتصدرون للفتوى في عهد الرسالة

الطور الأول من أطوار الفتوى كان في عصر الرسالة، ولم تكن الفتوى في هذه المرحلة من عمل الناس، بل كان مصدرها الأساس هو صاحب الرسالة ، حيث كان الناس يستفتونه فيما يعرض لهم من شئون، وما يطرأ على أحوالهم من تغير، أو ينزل بساحتهم من أحداث، فيفتهم بوحي من الله تعالى يتنزل به القرآن الكريم كما جاء في قوله تعالى: ﴿ ﮱ ﯓ ﯔﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﴾ [النساء: ١٢٧]، وقوله تعالى: ﴿ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﴾ [النساء: ١٧٦]، أو يفتيهم باجتهاده عليه الصلاة والسلام ثم يقره الله تعالى على هذا الاجتهاد.

قال ابن القيم: “أول من قام بهذا المنصب الشريف سيد المرسلين، وإمام المتقين، وخاتم النبيين، عبد الله ورسوله، وأمينه على وحيه، وسفيره بينه وبين عباده؛ فكان يفتي عن الله بوحيه المبين، وكان كما قال له أحكم الحاكمين:﴿ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﴾ [ص: ٨٦] فكانت فتاويه –  – جوامع الأحكام، ومشتملة على فصل الخطاب، وهي في وجوب اتباعها وتحكيمها والتحاكم إليها ثانية الكتاب، وليس لأحد من المسلمين العدول عنها ما وجد إليها سبيلا، وقد أمر الله عباده بالرد إليها حيث يقول: ﴿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﴾ [النساء: ٥٩]”(1).

وقد ذكر الإمام القرافي أن الإفتاء من المناصب الدينية التي تولاها النبي  في حياته فقال: “اعلم أن رسول الله –  – هو الإمام الأعظم والقاضي الأحكم والمفتي الأعلم فهو –  – إمام الأئمة وقاضي القضاة وعالم العلماء فجميع المناصب الدينية فوضها الله تعالى إليه في رسالته وهو أعظم من كل من تولى منصبا منها في ذلك المنصب إلى يوم القيامة فما من منصب ديني إلا وهو متصف به في أعلى رتبة غير أن غالب تصرفه –  – بالتبليغ لأن وصف الرسالة غالب عليه ثم تقع تصرفاته –  – منها ما يكون بالتبليغ والفتوى إجماعا ومنها ما يجمع الناس على أنه بالقضاء ومنها ما يجمع الناس على أنه بالإمامة ومنها ما يختلف العلماء فيه لتردده بين رتبتين فصاعدا فمنهم من يغلب عليه رتبة ومنهم من يغلب عليه أخرى ثم تصرفاته –  – بهذه الأوصاف تختلف آثارها في الشريعة فكل ما قاله –  – أو فعله على سبيل التبليغ كان ذلك حكما عاما على الثقلين إلى يوم القيامة فإن كان مأمورا به أقدم عليه كل أحد بنفسه وكذلك المباح وإن كان منهيا عنه اجتنبه كل أحد بنفسه وكل ما تصرف فيه – عليه السلام – بوصف الإمامة لا يجوز لأحد أن يقدم عليه إلا بإذن الإمام اقتداء به – عليه السلام – ولأن سبب تصرفه فيه بوصف الإمامة دون التبليغ يقتضي ذلك وما تصرف فيه –  – بوصف القضاء لا يجوز لأحد أن يقدم عليه إلا بحكم حاكم اقتداء به –  – ولأن السبب الذي لأجله تصرف فيه –  – بوصف القضاء يقتضي ذلك”(2).

فالقائم بالفتوى في عصر الرسالة هو النبي  حيث كان إليه المنتهى في كل الأمور الدينية فكان يفتي الناس فيما يحتاجون فيه الفتوى من جملة قيامه بأعمال الرسالة ووظيفة البيان والبلاغ التي كلفه الحق سبحانه وتعالى بها.

وجدير بالذكر أن هناك عددا من الصحابة باشر الفتوى في عهد الرسالة إلا أنهم لم يفعلوا ذلك إلا في حال عدم قدرتهم على الأخذ المباشر من رسول الله ، “فلم يكن من الناس في عصر النبي  اجتهاد إلا إذا كانوا بعيدين عنه، ويعرض لهم ما لا يجدونه فيما علموا من قرآن أو فتاوى الرسول، فيجتهدون، وإذا لقوه عليه الصلاة والسلام عرضوا عليه ما توصلوا إليه، فيقرهم إن كانوا مصيبين، ويبين لهم الحق إن كانوا مخطئين”(3)

ويزيد الشيخ أبو زهرة الأمر وضوحا فيقول: “فما كان المسلمون الأولون في عهده يرجعون فيما يشكل عليهم من أمورهم إلى الكتاب رأسا، بل كان النبي يبينه لهم، ويوضح ما يخفى عليهم من أحكامه، فالنبي –- كان المرجع في كل شيء في بيان القرآن وفي الفتيا فيما لم ينزل فيه قرآن، وفي الأقضية بينهم، وكل ذلك بوحي يوحى أو باجتهاده الذي يقره الله عليه، وبهذا الإقرار وعدم التنبيه على الخطأ يرتفع إلى منزلة الموحى به ما دام في أمر يتصل بالشرع الشريف وحكم من أحكامه”(4)

فالفتيا في عصر الرسالة كانت من وظيفة النبي  تبليغا لرسالته، وتعليما لأمته من بعده، ولكن إن كان بعض المسلمين بعيدا عنه، أو أرسله إلى من يعلمهم أمور دينهم، فإن الفتيا في هذه الحالة يقوم بها من اختاره الرسول  لذلك ممن يعلم فيه قوة الإدراك والفقه في الدين، كما اشتهر ذلك عن الصحابي الجليل معاذ بن جبل لما أرسله النبي  إلى اليمن فقال له: “كَيْفَ تَقضِي إذَا عَرَض لَكَ القَضَاء؟ قال: أقضي بكتاب اللَّه، قال: فإن لم تَجِدْ في كِتَابِ اللَّه؟ قال: فبِسُنَّة رسول اللَّه --، قال: فَإنْ لَمْ تَجِدْ في سُنة رسول اللَّه --، ولا في كتاب اللَّه؛ قال: أجتهد رأي، ولا آلُو، فضربَ رسول اللَّه -- صَدْره، وقال: الحمدُ للَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رسولَ رسولِ اللَّه لما يُرضي رسولَ اللَّه --“.

المفتون من الصحابة في عصر الرسالة:

ذكر صاحب كتاب “تخريج الدلالات السمعية على ما كان في عهد رسول الله من الحرف والصنائع والعمالات الشرعية” أن الناس كانوا يستفتون أهل العلم من الصحابة رضي الله تعالى عنهم في نوازلهم في عهد النبي  فيفتونهم، واستدل على ذلك بما رواه الإمام مالك رحمه الله تعالى في «الموطأ» عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني -رضي الله تعالى عنهما- أن رجلين اختصما إلى رسول الله -- فقال أحدهما: يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله، وقال الآخر، وهو أفقههما، أجل يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله وايذن لي في أن أتكلم فقال: تكلم، قال: إن ابني كان عسيفا على هذا فزنا بامرأته، فأخبرت أن على ابني الرجم، فافتديت منه بمائة شاة وجارية ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني أنّ ما على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأخبروني أنما الرجم على امرأته. فقال رسول الله : أما والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله: أمّا غنمك وجاريتك فردّ عليك؛ وجلد ابنه مائة وغرّبه عاما، وأمر أنيسا الأسلميّ أن يأتي امرأة الآخر، فإن اعترفت رجمها، فاعترفت فرجمها”.

ومحل الاستشهاد من هذه الرواية أن الرجل استفتى من لا علم له، فأفتاه أن على ابنه الرجم، مما أوقعه في ورطة افتداء ابنه من أن يدعي زوج الزانية عليه، فلما استفتى أهل العلم أخبروه أن ليس على ابنه رجم، فطالب زوج الزانية برد ماله فرفض، فاحتكما إلى رسول الله ، فأقره على سؤاله أهل العلم ولم ينكر عليه.

وعد لنا صاحب الكتاب المذكور أسماء من كان يفتي في عهد رسول الله  فقال:” ترجم أبو الفرج الجوزي -رحمه الله تعالى- في «المدهش» فقال: تسمية من كان يفتي على عهد رسول الله : أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعبد الرّحمن بن عوف وابن مسعود وأبيّ ومعاذ وعمار وحذيفة وزيد بن ثابت وأبو الدرداء وأبو موسى وسلمان رضي الله تعالى عنهم أجمعين”.(5)

وقد نظم بعضهم أسماء الذين أفتوا في عهد سيدنا رسول الله  في قوله:(6)

لقد كان يفتي في زمان نبيّنامع الخلفاء الراشدين أئمة
معاذ وعمّار وزيد بن ثابتأبيّ بن مسعود وعوف حذيفة
ومنهم أبو موسى وسلمان حبرهمكذاك أبو الدرداء وهو تتمة
وأفتى بمرآه أبو بكر الرّضىوصدّقه فيها وتلك مزيّة(٦)

1 إعلام الموقعين عن رب العالمين (١/ ٩).

2 الفروق، (١/ ٢٠٥، ٢٠٦).

3 الملكية ونظرية العقد في الشريعة الإسلامية، الشيخ محمد أبو زهرة، (ص٧).

4 الملكية ونظرية العقد في الشريعة الإسلامية، (ص١٣).

5 تخريج الدلالات السمعية، (ص٩٥).

6 شذرات الذهب في أخبار من ذهب، ابن العماد، (١٠/ ٢١٨).

المبحث الثاني

سمات الفتوى في عصر الرسالة

اتسمت الفتوى في عصر الرسالة بسمات خاصة تميزها عن غيرها من العصور التي تلتها وذلك مستمد من شخص رسول الله  باعتباره المشرع للأمة والمفتي الأول الذي ينتهى إليه لما لأقواله من الحجية، ويمكن إبراز هذه السمات فيما يلي:

١- اعتماد الفتوى على مصدرين اثنين فقط هما القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة:

فلم يكن هناك حاجة إلى مصادر أخرى كالإجماع والقياس وغيرها؛ وذلك لأن النبي  كان موجودا وإليه المرجع والمنتهي في الفتوى.

فكل ما صدر من فتاوى وكل “ما شرع من الأحكام في عهد الرسول كان مصدره الوحي الإلهي أو الاجتهاد النبوي، وكان صدوره بناء على طروء حاجة تشريعية اقتضته.

وكانت وظيفة الرسول بالنسبة لما شرع بالمصدر الأول تبليغه، وتبيينه تنفيذًا لقول الله سبحانه: ﴿ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ ﴾ ولقوله عز شأنه: ﴿ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﴾ وكان ما صدر عن المصدر الثاني وهو الاجتهاد النبوي تارة تعبيرًا عن إلهام إلهي، أي أن الرسول إذا أخذ في الاجتهاد ألهمه الله حكم ما أراد معرفة حكمه، وتارة استنباطًا واستمدادا للحكم بما تهدي إليه المصلحة وروح التشريع، والأحكام الاجتهادية التي يلهم الله بها الرسول هي أحكام إلهية ليس للرسول فيها إلا التعبير عنها بقوله أو فعله، والأحكام الاجتهادية التي لم يلهم الله بها الرسول بل صدرت عن بحثه، ونظره هي أحكام نبوية بمعانيها وعباراتها، وهذه لا يقره الله عليها إلا إذا كانت صوابا، وأما إذا لم يوفق الرسول فيها إلى الصواب فإن الله يرده إلى الصواب، ومثال ذلك حادث افتداء أسرى بدر، فإن المسلمين في غزوة بدر وقع في أيديهم سبعون أسيرًا من المشركين، ولم يكن قد شرع حكم الأسرى فاجتهد الرسول فيما يفعل بهم واستشار بعض الصحابة، فأشار أبو بكر بأخذ الفدية ممن يفتدي منهم وبين وجهة نظره بقوله للرسول: “قومك وأهلك، استبقهم لعل الله يتوب عليهم، وخذ منهم فدية تقوي أصحابك”. وأشار عمر بأن لا يقبل منهم فدية وأن يقتلوا. وبين وجهة نظره بقوله للرسول: “كذبوك وأخرجوك، فقدمهم واضرب أعناقهم هؤلاء أئمة الكفر والله أغناك عن الفداء”. وقد أدى اجتهاد الرسول إلى قبول الفداء فبين الله له الصواب بقوله سبحانه: ﴿ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﴾ ومثاله أيضا حادث إذن الرسول لمن اعتذروا وتخلفوا عن عزوة تبوك، فإن الله سبحانه بين له الصواب بقوله: ﴿ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﴾.”(1)

فمن هذا ينتج أن الإفتاء في عهد الرسول كان إلهيًّا كله؛ لأن مصدره إما وحي الله في القرآن، وإما اجتهاد الرسول الذي هو تعبير عن إلهام إلهي، وإما اجتهاد الرسول ببحثه ونظره ولكنه ملحوظ برعاية الله له، فإن جاء صوابا أقره الله عليه، وإن جاء غير صواب رد الله رسوله إلى الصواب فيه.

وأما ما ورد عن بعض الصحابة رضي الله عنهم أنه اجتهد في عهد الرسول  وأفتى في بعض الوقائع فهذا مجرد تطبيق لما فهمه وعلمه من رسول الله  في القضاء والإفتاء، وفهم الصحابي واجتهاده في عهد الرسالة لا يعد مصدرا للفتوى ولا يلتزم به عامة المسلمين إلا إذا أقره الرسول  عن طريق الوحي، فيكون بشقيه – الكتاب والسنة- هو المصدر الوحيد للفتوى في هذه الفترة.

وعلى هذا فاجتهاد أصحاب الرسول في عهده واجتهاده عليه الصلاة والسلام لم يكن مصدرا فقهيا وإنما المصدر هو الوحي حتى مع القول بأن الصحابة اجتهدوا في عهده في حكم مسألة فقهية؛ لأنهم لم يقفوا عند اجتهادهم وإنما عرضوا الأمر على الرسول .

وإذا كان الاجتهاد لا يعتبر مصدرا فقهيا في عهد –فترة الإيحاء- فلا وجود للقياس أيضا في هذا العصر باعتباره مصدرا تشريعيا، إذ القياس ضرب من ضروب الاجتهاد، وإذا كان لا اجتهاد فلا اختلاف ولا اتفاق، وعلى هذا فلا وجود للإجماع أيضا ويكون المصدر التشريعي هو الوحي فقط.(2)

٢- إقناع السائل بالحجة والبرهان:

فعلى الرغم من أن قول النبي  حجة بنفسه إلا أنه كان لا يكتفي بذلك عند السؤال بل يبين له ما يقنعه، ومن تأمل فتاوى النبي  رآها مشتملة على التنبيه على حكمة الحكم ونظيره، ووجه مشروعيته، فمن ذلك قوله لعمر بن الخطاب –رضي الله عنه-، وقد سأله عن قُبلة امرأته وهو صائم فقال: “أرأيت لو تمضمضت، ثم مججته أكان يضر شيئًا قال: لا”(3).

فنبه على أن مقدمة المحظور لا يلزم أن تكون محظورة، فإن غاية القُبلة أنها مقدمة الجماع، فلا يلزم من تحريمه تحريم مقدمته، كما أن وضع الماء في الفم مقدمة شربه وليست المقدمة محرَّمة.

٣- ضرب المثال لتفهيم السائل:

ومن ذلك ما رواه أبو هريرة –رضي الله عنه-” أن أعرابيًا أتى رسول اللَّه ، فقال: إن امرأتي وَلَدَتْ غلامًا أسْوَدَ، وإني أنكَرْتُه، فقال له رسول اللَّه : هل لَكَ من إبل؟ قال: نعم، قال: فما ألوانها؟ قال: حُمْر، قال: هل فيها من أوْرَقَ؟ قال: إن فيها لوُرْقًا، قال: فأنَّى ترى ذلك جاءها؟ قال: يا رسول اللَّه عِرْق نَزَعه، قال: ولعلَّ هذا عرق نزعه”(4).

وسئل : يا رسول اللَّه كيف يجمعنا ربنا بعد ما تمزِّقنا الرياح والبلى والسباع؟ فقال للسائل: “أُنبئك بمثل ذلك في آلاء اللَّه، الأرض أشْرفتَ عليها، وهي مَدَرة بَالية، فقلت: لا تحيى أبدًا، ثم أرسل ربك عليها السماء فلم تلبث عليك إلا أيامًا، ثم أشرفتَ عليها وهي شَرْبةٌ واحدة ولعمر إِلهك! لهو أقدر على أن يجمعهم من الماء على أن يَجمَع نباتَ الأرض”(5).

وسئل  عن تقطيع قضاء رمضان، فقال: “ذلك إليك، أرأيت لو كان على أحدكم دين قضى الدرهم والدرهمين، أَلم يكن ذلك قضاء؟ فاللَّه أحق أن يعفو ويغفر”(6).

وسألته امرأة فقالت: إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها؟ فقال: “أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته أكان يؤدي ذلك عنها؟ ” قالت: نعم، قال: “فصومي عن أمك”(7).

٤- مراعاة حال السائل في الفتوى:

كان النبي  يجيب كل سائل على حسب حاله وما يصلح له وما ينفعه في دنياه وأخراه، فمن ذلك ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده، أَنّ شابًا سأله فقال: أقبل وأَنا صائم؟ قال: “لا”، وسأله شيخ: أقبل وأَنا صائم؟ قال: “نعم”، ثم قال: “إن الشيخ يملك نفسه”(8)، وفي رواية أخرى: أن رجلا سأل النبي  عن المباشرة للصائم، «فرخص له»، وأتاه آخر، فسأله، «فنهاه»، فإذا الذي رخص له شيخ، والذي نهاه شاب(9).

ومنه أيضا اختلاف أجوبته  على سؤال أي الأعمال أفضل أو أحب إلى الله أو خير؟ فكان يختلف الجواب على حسب كل مستفتٍ وما يطيق من العمل فقد سئل : أي الأعمال أحبُّ إلى اللَّه؟ قال: “الحال المرتحل”، وهو أن يضرب من أول القرآن إلى آخره كلما حل ارتحل(10).

وسئل  عن خير الأعمال وأزكاها عند اللَّه وأرفعها في الدرجات؟ فقال: “ذكر اللَّه”(11).

وسئل  أيضًا: أي الأعمال أفضل؟ قال: “أن تحب للَّه وتبغض للَّه وتعمل لسانك في ذكر اللَّه” قال السائل: وماذا يا رسول اللَّه؟ قال: “أن تحبَّ للناس ما تحب لنفسك، وأن تقول خيرًا أو تصمت”(12).

وسئل أي الأعمال أفضل؟ قال: “طول القيام”(13).

وسئل أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان لا شك فيه، وجهاد لا غلول فيه، وحج مبرور”(14).

وسئل أي الأعمال خير؟ قال: أن تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف”(15).

وسأله  عقبة عن فواضل الأعمال فقال: “يا عقبة صِلْ مَنْ قطعك وأعط من حرمك وأعرض عمَّن ظلمك”(16).

إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة في هذا المعنى، قال القسطلاني عن هذه الأحاديث وما شابهها: واستشكلت للمعارضة الظاهرة، وأجيب: بأنه  أجاب كلاًّ بما يوافق غرضه وما يرغبه فيه، أو على حسب ما عرف من حاله وبما يليق به وأصلح له توقيفًا له على ما خفي عليه، وقد يقول القائل: خير الأشياء كذا ولا يريد تفضيله في نفسه على جميع الأشياء، ولكن يريد أنه خيرها في حال دون حال ولواحد دون آخر(17).

٥- إفادة السائل بأكثر مما سأل بما ستكون له إليه مسيس حاجة:

وقد أفاد ذلك البخاري في “صحيحه” فذكر في كتاب العلم بابا وترجمه “من أجاب السائل بأكثر مما سأل عنه” ثم ذكر حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-: ما يلبس المحرم فقال: رسول اللَّه : “لا يلبس القُمُصَ، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا الخِفَاف إلا أن لا يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين”.

فسئل رسول اللَّه  عمَّا يلبس المُحْرِم؟ فأجاب عما لا يلبس، فتضمن ذلك الجواب عما يلبس، فإن ما لا يلبس محصور، وما يلبسه غير محصور، فذكر لهم النوعين وبيَّن لهم حكم لبس الخف عند عدم النعل، قال الحافظ ابن حجر: “قال ابن المنير: موقع هذه الترجمة التنبيه على أن مطابقة الجواب للسؤال غير لازم بل إذا كان السبب خاصا والجواب عاما جاز وحمل الحكم على عموم اللفظ لا على خصوص السبب لأنه جواب وزيادة فائدة ويؤخذ منه أيضا أن المفتي إذا سئل عن واقعة واحتمل عنده أن يكون السائل يتذرع بجوابه إلى أن يعديه إلى غير محل السؤال تعين عليه أن يفصل الجواب ولهذا قال فإن لم يجد نعلين فكأنه سأل عن حالة الاختيار فأجابه عنها وزاده حالة الاضطرار وليست أجنبية عن السؤال لأن حالة السفر تقتضي ذلك”(18).

ومن ذلك أيضا حديث أبي هُرَيْرَةَ –رضي الله عنه- قال: سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللهِ ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا نَرْكَبُ البَحْرَ، وَنَحْمِلُ مَعَنَا القَلِيلَ مِنَ الْمَاءِ، فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا، أَفَنَتَوَضَّأُ مِنَ الْبَحْرِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ : هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الحِلُّ مَيْتَتُهُ”(19).

فأجابهم عن مسألتهم وزادهم مسألة أخرى يقتضيها سفر البحر فقال: “الحل ميتته” ولعلهم كانوا ذاهلين عنها، وعلم  باحتياجهم إليها، وهذا من كمال رأفته ورحمته، ﴿ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ﴾ [التوبة: ١٢٨].

٦- محاورة السائل، وإشعاره بالسكينة والطمأنينة خاصة فيما يستحي السائل من ذكره:

فقد كان نبينا  يقدم بين القول الذي يُستحيى من ذكره ما يرفع هذا الحرج على السامع كما قدم بين يدي تعليمه الصحابة آداب الاستنجاء قوله: “إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ مِثْلُ الْوَالِدِ أُعَلِّمُكُمْ”.

وأحسن ما يطمئن السائل فيما يستحيا منه المحاورة بالحسنى، وليس الإلقاء المجرد الذي يظل معه السامع واقفا حيث هو، وهذا إنما يصنعه المفتي المربي الذي ينزل الناس منزلة أهله وولده، فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ –رضي الله عنه- قَالَ: إِنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ  فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا، فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ وَقَالُوا: مَهْ، مَهْ، فَقَالَ: «ادْنُهْ، فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا». قَالَ: فَجَلَسَ قَالَ: «أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟» قَالَ: لَا، وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ»، قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ؟» قَالَ: لَا، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ» قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ؟» قَالَ: لَا، وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ»، قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟» قَالَ: لَا، وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ» قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟» قَالَ: لَا، وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ»، قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ» فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ(20).

٧- حض السائل على الخير وإن قلّ:

فقد سئل  عن المعروف فقال: “لا تحقرنَّ من المعروف شيئًا ولو أَن تعطي صلة الحبل ولو أن تعطي شسع النعل، ولو أَن تفرغ من دلوك في إناء المُستسقي، ولو أَن تنحي الشيء من طريق الناس يؤذيهم ولو أن تلقى أخاك، ووجهك إليه طلق ولو أَن تلقى أَخاك فتسلِّم عليه، ولو أَن تؤنس الوحشان في الأرض”(21).

وفي رواية أخرى: “وسأله  رجل أن يعلمه ما ينفعه، فقال: “لا تحقرنَّ من المعروف شيئًا ولو أن تُفرغ من دلوك في إناء المستقي، ولو أن تُكَلِّم أخاك، ووجهك مُنبسطٌ إليه، وإن امرؤ شتمك بما يعلم فيك، فلا تشتمه بما تعلم منه، فإنَ أجره لك، ووباله على مَنْ قاله”(22).

٨- إرشاد السائل إلى الأكمل الذي يعود عليه بالنفع وإن كان ظنه خلافه:

ومن ذلك قوله لأبي النعمان بن بشير، وقد خصَّ بعض ولده بغلام نَحَله إياه؛ فقال: “أيسرُّك أن يكونوا لك في البِرِّ سواء؟ “. قال: نعم. قال “فاتقوا اللَّه واعدلوا بين أولادكم” وفي لفظ: “إن هذا لا يصلح”، وفي لفظ: “إني لا أَشْهد على جور”، وفي لفظ: “أَشْهِد على هذا غيري”.

٩- صرف السائل عما لا ينفعه إلى ما ينفعه بلطف الحيلة:

فقد سأل عدي بن حاتم النبي  فقال: إن أبي كان يصلُ الرحم، وكان يفعل ويفعل؟ فقال: “إن أباك أراد أمرًا فأدركه” يعني الذِّكْر.

فقد كان حاتم يلمح بسؤاله معرفة حال أبيه أفي الجنة هو أم في النار، فصرفه النبي  عن ذلك بلطف الحيلة بقوله: “إن أباك أراد أمرًا فأدركه” يعني الذِّكْر، أي أنه ما قصده من الذكر قد حصّله، فلا يذكر الجود إلا بحاتم الطائي.

وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: بينما أنا والنبي  خارجان من المسجد، فلقينا رجل عند سدة المسجد، فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ قال النبي : «ما أعددت لها؟»، فكأن الرجل استكان، ثم قال: يا رسول الله، ما أعددت لها كبير صيام، ولا صلاة، ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، قال: أنت مع من أحببت”(23).

١٠- التيسير في الفتوى وعدم إعنات المستفتي:

فقد سأله  رجل فقال: لم أشْعُر فحلقت قبل أَن أذبح، فقال: “اذبح ولا حرج” وسأله  آخر فقال: لم أشعر فنحرت قبل أَن أَرمي، فقال: “ارم، ولا حرج” فما سئل النبي  عن شيء قُدِّم، ولا أُخَّر إلا قال: “افعل، ولا حرج”(24).

وعند أحمد: “فما سئل يومئذ عن أمر مما يَنْسى المرء أو يجهل من تقديم بعض الأُمور على بعض وأشباهها إلا قال: “افعل ولا حرج”، وفي لفظ: أنه سئل عمَّن ذبح قبل أَن يحلق أو حلق قبل أَن يذبح قال: “لا حرج”، وقال: كان الناس يأتونه فمن قائل: يا رسول اللَّه سعيت قبل أَن أَطوف وأخَّرتُ شيئًا، وقدمت شيئًا، فكان يقول: “لا حرج إلا على رجل اقترض عِرْض مسلم وهو ظالم فذلك الذي حَرِج وهلك”(25).

١١- جبر قلب السائل وتطييب خاطره ما لم يكن إثما:

فمن ذلك إذن النبي  بفعل المباح الذي تركه أولى من فعله تطييبا للخاطر فعندما سألته  امرأة فقالت: “إني نذرت إن ردَّك اللَّه سالمًا أن أضربِ على رأسك بالدفِّ، فقال: “إن كنتِ نذرتِ فافعلي، وإلا، فلا”. قالتْ إني كنت نذرت، فقعد رسول اللَّه  فضربت بالدف”.

يقول ابن القيم: “أباح  لها الوفاء بالنذر المباح تطييبًا لقلبها، وجبرًا وتأليفًا لها على زيادة الإيمان وقوته وفرحها بسلامة رسول اللَّه  (26).

١٢- إرشاد السائل إلى البديل والمخرج الشرعيين:

فقد روى البخاري في “صحيحه” من حديث أبي هريرة وأبي سعيد “أن رسول اللَّه  استعمل رجلًا على خيبر، فجاءهم بتمرٍ جَنيبٍ، فقال: أكلُّ تمر خيبر هكذا؟ قال: إنا لنأخذ الصالح من هذا بالصَّاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال: لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبًا”، فأرشده إلى الحيلة على التخلص من الربا بتوسط العقد الآخر.

وسألته  ضباعة بنت الزبير فقالت: إني أريد الحجَّ، وأَنا شاكية؟ فقال النبي : “حجي واشترطي أَنَّ مَحلِّي حيث حبستني”(27).

واستفتته أم سلمة في الحج، وقالت: إني أشتكي، فقال: “طوفي من وراء الناس، وأنت راكبة”(28).

١٣- الترغيب في التوبة وعدم التيئيس منه رحمة الله تعالى:

فقد سئل  عن رجل قد أوجب، فقال: “أعتقوا عنه رقبة يعتق اللَّه بكل عضو منه عضوًا منه من النار”(29).

أوجب: أي استوجب النار بذنب عظيم ارتكبه.

وسأله  رجل فقال: يا رسول اللَّه ما تقول في رجل لقي امرأة لا يعرفها فليس يأتي الرجل من امرأته شيء إلا قد أتاه منها غير أنه لم يجامعها؟ فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية: ﴿ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﴾ [هود: ١١٤] فقال له النبي : “توضأ، ثم صلِّ” فقال معاذ: فقلت يا رسول اللَّه أله خاصة أم للمؤمنين عامة؟ قال: “بل للمؤمنين عامة”

١٤- التفرقة بين سؤال العناد وسؤال التفهم:

فقد سأل لقيط بن عامر رسول الله: كيف يجمعنا ربنا بعد ما تمزِّقنا الرياح والبلى والسباع؟ فقال للسائل: “أُنبئك بمثل ذلك في آلاء اللَّه، الأرض أشْرفتَ عليها، وهي مَدَرة بَالية، فقلت: لا تحيى أبدًا، ثم أرسل ربك عليها السماء فلم تلبث عليك إلا أيامًا، ثم أشرفتَ عليها وهي شَرْبةٌ واحدة ولعمر إِلهك! لهو أقدر على أن يجمعهم من الماء على أن يَجمَع نباتَ الأرض”(30).

ولكن عندما جاء أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، بِعَظْمٍ نَخِرٍ، فَجَعَلَ يَذْرُوهُ فِي الرِّيحِ، فَقَالَ: أَيُحْيِي اللهُ هَذَا يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ النَّبِيُّ : ” نَعَمْ، يُحْيِي اللهُ هَذَا، وَيُمِيتُكَ، وَيُدْخِلُكَ النَّارَ”(31).

فالأول إنما سأل مستفهما متعلما والثاني ما سأل إلا معاندا مستكبرا.

١٥- الدلالة على التوازن في الأمور كلها:

فقد كان –- يحض على العدل والإحسان في كل شيء حتى فيما يظن أنه من باب التخلي عن الدنيا والتقرب إلى الله عز وجل، فقد ظن بعض الصحابة أن الإكثار من العمل مع الإهمال لشؤون الدنيا هو الخير فردهم النبي  إلى الجادة كما فعل مع عبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي الدرداء وغيرهما وأصداء نصيحته لهم لا تزال تتردد على آذاننا:” إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَلِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِوَلَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ”.

ومن ذلك أيضا أن رجلا سأل النبي فقال: يا نبي اللَّه مررت بغَارٍ فيه شيء من ماء فحدَّثت نفسي بأن أقيم فيه فيقوتني ما فيه من ماء وأصيب ما حوله من البقل وأتخلّى عن الدنيا؟ فقال النبي : “إنّي لم أُبعث باليهودية، ولا بالنصرانية، ولكني بعثت بالحنيفية السمحة، والذي نفس محمد بيده لغدوة أو روحة في سبيل اللَّه خير من الدنيا وما فيها، ولمقام أحدكم في الصف خيرٌ من صلاته ستين سنة”(32).

١٦- الجواب “بلا أدري” عما لا يعلمه:

فقد سُئل النبي أي البلاد شرّ فقال؟ “لا أدري حتى أسأل جبريل”، فسأله فقال: أسواقها”(33).

وبهذا تأسى الصحابة –رضي الله عنهم- والتابعين، قال عقبة بن مسلم: صحبت ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- أربعة وثلاثين شهرًا، فكان كثيرًا ما يُسأل فيقول: لا أدري، وسئل الشعبي عن مسألة فقال: لا أدري، فقيل له: ألا تستحيي من قولك: لا أدري، وأنت فقيه أهل العراق؟ فقال: لكن الملائكة لم تستحي حين قالوا: ﴿ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﴾ [البقرة: ٣٢].

وبهم تأسى أصحاب المذاهب قال الإمام مالك: من فقه العالم أن يقول: “لا أعلم”؛ فإنه عسى أن يتهيأ له الخير، وقال: سمعتُ ابن هرمز يقول: ينبغي للعالم أن يُورث جلساءه من بعده: “لا أدري”، حتى يكون ذلك أصلًا في أيديهم يفزعون إليه وقال الشافعي: سمعت مالكًا يقول: سمعتُ ابنَ عجلان يقول: إذا أغفل العالم “لا أدري” أُصيبت مقاتله، وقال أبو داود: سمعت أحمد وسئل عن مسألة فقال: دعنا من هذه المسائل المحدثة، وما أُحصي ما سمعت أحمد سئل عن كثير مما فيه الاختلاف من العلم فيقول: لا أدري. وسمعته يقول: ما رأيت مثل ابن عيينة في الفُتيا أحسن فتيًا منه كان أهون عليه أن يقول: “لا أدري” مَنْ يحسن مثل هذا؟ سل العلماء.

1 علم أصول الفقه وخلاصة تاريخ التشريع، عبد الوهاب خلاف، (ص٢٢٢، ٢٢٣).

2 راجع المدخل للفقه الإسلامي، محمد سلام مدكور، (ص٦٦).

3 أخرجه أبو داود (ح٢٣٨٥).

4 أخرجه البخاري (٥٣٠٥)، ومسلم (ح ١٥٠٠).

5 مسند الإمام أحمد (١٦٢٠٦).

6 أخرجه الدارقطني (٢٣٣٣).

7 أخرجه مسلم (١١٤٨).

8 أخرجه أحمد في مسنده (٦٧٣٩).

9 رواه أبو داود (ح٢٣٨٧).

10 الترمذي (ح ٢٩٤٨).

11 أخرجه الترمذي (ح٣٣٧٧)، وابن ماجه (ح٣٧٩٠).

12 أخرجه أحمد (٢٢١٣٢).

13 أخرجه أبو داود (ح١٣٢٥).

14 أخرجه أحمد في “مسنده” (٧٥١١)، (٨٥٨٠).

15 متفق عليه : أخرجه البخاري (ح١٢)، ومسلم (ح٣٩).

16 أخرجه أحمد (١٧٣٣٤)، (١٧٤٥٢).

17 إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، القسطلاني (٣/٩٦).

18 فتح الباري شرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني (١/ ٢٣١).

19 أخرجه أبو داود (ح٨٣)، والترمذي (ح٦٩)، وغيرهما.

20 أخرجه أحمد في المسند(٢٢٢١١).

21 أخرجه أحمد في المسند (١٥٩٥٥).

22 أخرجه أحمد في المسند، (٢٠٦٣٥).

23 أخرجه البخاري (ح٦١٧١).

24 متفق عليه : أخرجه البخاري (ح٨٣)، ومسلم (ح١٣٠٦).

25 أخرجه أبو داود (ح٢٠١٥).

26 إعلام الموقعين (٤/ ٢٤٥).

27 أخرجه مسلم (ح١٢٠٧).

28 متفق عليه: أخرجه البخاري (ح٤٦٤)، ومسلم (ح١٢٧٦).

29 أخرجه أبو داود (ح٣٩٦٤).

30 سبق تخريجه.

31 أخرجه عبد الرزاق في التفسير (ح٢٤٩٨).

32 أخرجه أحمد في مسنده (٢٢٢٩١).

33 أخرجه ابن حبان في “صحيحه” (ح١٥٩٩).

اترك تعليقاً