البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

التمهيد

المبحث الثاني: الحكم التكليفي للإفتاء

108 views

منصب الإفتاء من المناصب الدينية الجليلة، وله منزلة كبيرة، بينتها النصوص الشرعية الشريفة، منها قوله تعالى:﴿ﮱ ﯓ ﯔﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﴾ [النساء: ١٢٧]، فأخبر الحق سبحانه بأنه يفتي عباده، فالفتوى تصدر أساسا عن الله فهي خطاب من الله كالحكم الشرعي تماما.

ووظيفة الفتوى لم تكن وليدة عهد متأخر في الأمة الإسلامية بل كانت معها منذ اللحظة الأولى، فكان أول من مارسها إمام المفتين وحبيب رب العالمين سيدنا محمد  كما نص على ذلك الإمام ابن القيم في أول كتابه المشهور “إعلام الموقعين عن رب العالمين”، فقال:” وأول من قام بهذا المنصب الشريف: سيد المرسلين، وإمام المتقين، وخَاتَم النبيين، عبدُ اللَّه ورسوله، وأمينه على وَحْيه، وسفيره بينه وبين عباده؛ فكان يُفتي عن اللَّه بوَحْيه المبين، وكان كما قال له أحكم الحاكمين: ﴿ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﴾ فكانت فتاويه  جوامعَ الأحكام، ومشتملة على فصل الخطاب، وهي في وجوب اتِّبَاعها، وتحكيمها، والتحاكم إليها ثانية الكتاب، وليس لأحدٍ من المسلمين العُدُولُ عنها ما وجَدَ إليها سبيلًا، وقد أمر اللَّه عباده بالرَّدِّ إليها حيث يقول: ﴿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﴾ [النساء: ٥٩](1).

وقد تأهل بعض الصحابة لهذه الوظيفة في حياته فقد عدّ الإمام الخزاعي (المتوفى: ٧٨٩هـ) الإفتاء من الوظائف التي كانت على عهد النبي  في كتابه الفريد “تخريج الدلالات السمعية على ما كان في عهد رسول الله من الحرف والصنائع والعمالات الشرعية” الذي صنفه لما رأى البعض يعترض بلا علم على بعض الوظائف الدينية؛ فيقول في مقدمته:” فإني لما رأيت كثيرا ممن لم ترسخ في المعارف قدمه، وليس لديه من أدوات الطالب إلا مداده وقلمه، يحسبون من دفع إلى النظر في كثير من تلك الأعمال في هذا الأوان مبتدعا لا متبعا ومتوغلا في خطة دنيّة، ليس عاملا في عمالة سنية، استخرت الله عز وجل أن أجمع ما تأدى إليّ علمه من تلك العمالات في كتاب يضم نشرها، ويبين لجاهليها أمرها، فيعترف الجاهل، وينصف المتحامل”(2).

وما أشبه الليلة بالبارحة فقد شكى مما نشكو منه الآن، فقد استنكر بعضهم وجود المؤسسات الدينية عموما والإفتائية خصوصا بل غالى بعضهم فأنكر وظيفة الفتوى مطلقا ويروجون لباطلهم لمآرب خبيثة يضمرونها بين جوانحهم –نعوذ بالله تعالى من الخذلان- وقد استدل الإمام الخزاعي على ذلك بـ”أن الناس كانوا يستفتون أهل العلم من الصحابة رضي الله تعالى عنهم في نوازلهم في عهد النبي فيفتونهم، روى مالك رحمه الله تعالى في «الموطأ» عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني -رضي الله تعالى عنهما- أن رجلين اختصما إلى رسول الله  فقال أحدهما: يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله، وقال الآخر، وهو أفقههما، أجل يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله وايذن لي في أن أتكلم فقال: تكلم، قال: إن ابني كان عسيفا على هذا فزنا بامرأته، فأخبرت أن على ابني الرجم، فافتديت منه بمائة شاة وجارية ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني أنّ ما على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأخبروني أنما الرجم على امرأته. فقال رسول الله : أما والذي نفسي بيده لأقضينّ بينكما بكتاب الله: أمّا غنمك وجاريتك فردّ عليك؛ وجلد ابنه مائة وغرّبه عاما، وأمر أنيسا الأسلميّ أن يأتي امرأة الآخر، فإن اعترفت رجمها، فاعترفت فرجمها”، فأقره النبي  على سؤاله أهل العلم ولم ينكر عليه، ثم يقول:” ترجم أبو الفرج الجوزي -رحمه الله تعالى- في «المدهش» فقال: تسمية من كان يفتي على عهد رسول الله : أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعبد الرّحمن بن عوف وابن مسعود وأبيّ ومعاذ وعمار وحذيفة وزيد بن ثابت وأبو الدرداء وأبو موسى وسلمان رضي الله تعالى عنهم أجمعين”.

وإنه لشرف عظيم أن يقوم المفتي بأمر هو في الأصل يصدر عن رب العالمين، وباعتبار التبليغ يصدر عن سيد الخلق أجمعين، فالمفتي خليفة النبي  في أداء وظيفة البيان، وقد تولى هذه الخلافة في حياة النبي  ومن بعده الصحابة الكرام ثم أهل العلم من بعدهم، كما سيأتي بيانه مفصلا في باب أطوار الفتوى.

حكم الإفتاء:

والذي يهمنا الأن هو بيان الحكم الشرعي لهذه الوظيفة الدينية، فهي من فروض الكفايات، فالإفتاء فرض على الكفاية، إذ لا بد للمسلمين ممن يبين لهم أحكام دينهم فيما يقع لهم، ولا يحسن ذلك كل أحد، فوجب أن يقوم به من لديه القدرة، المستجمع للشروط المعتبرة.

ولم يكن الإفتاء فرض عين؛ لأنه يقتضي تحصيل علوم جمة، ومعارف يطول الزمان لتحصيلها، فلو كلفها كل واحد لأفضى إلى تعطيل أعمال الناس ومصالحهم، لانصرافهم إلى تحصيل علوم الإفتاء، وانصرافهم عن غيرها من العلوم النافعة، والأعمال التي تعمر بها الأرض.

ودليل فرضيتها قول الله تبارك وتعالى: ﴿ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﴾ [آل عمران: ١٨٧]، وقول النبي : “من سئل عن علم ثم كتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار”(3)

قال الإمام النووي: “الإفتاء فرض كفاية فإذا استفتي وليس في الناحية غيره تعين عليه الجواب فإن كان فيها غيره وحضرا فالجواب في حقهما فرض كفاية وإن لم يحضر غيره فوجهان أصحهما لا يتعين … والثاني يتعين وهما كالوجهين في مثله في الشهادة: ولو سأل عامي عما لم يقع لم يجب جوابه”(4)

وقال أيضا: “ومن فروض الكفاية القيام بإقامة الحجج العلمية، وحل المشكلات في الدين، ودفع الشبه، والقيام بعلوم الشرع كالتفسير والحديث والفروع الفقهية بحيث يصلح للقضاء والإفتاء للحاجة إليهما”(5)

متي يكون الإفتاء فرض عين:

الإفتاء –كما بينا- فرض كفاية، لكنه قد يتعين بمعنى أن يصير فرض عين على أحد المفتين، بحيث يأثم بتركه، ولا يتعين الإفتاء على المسئول إلا بشروط منها:

الأول: أن لا يوجد في الناحية غيره ممن يتمكن من الإجابة، فإن وجد عالم آخر يمكنه الإفتاء لم يتعين على الأول، بل له أن يحيل على الثاني، قال عبد الرحمن بن أبي ليلى: أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُسأل أحدهم عن المسألة، فيردها هذا إلى هذا وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول.

وقيل: إذا لم يحضر الاستفتاء غيره تعين عليه الجواب.

الثاني: أن يكون المسئول عالما بالحكم بالفعل أو بالقوة القريبة من الفعل، وإلا لم يلزم تكليفه بالجواب، لما عليه من المشقة في تحصيله.

الثالث: أن لا يمنع من وجوب الجواب مانع كأن تكون المسألة عن أمر غير واقع، أو عن أمر لا منفعة فيه للسائل، أو غير ذلك.(6)

هذا هو الحكم الأصلي للإفتاء وقد تعتريه الأحكام التكليفية الخمسة وهي الوجوب والندب والتحريم والكراهة والإباحة، بسبب حال السائل أو موضوع السؤال وقد بين ذلك الإمام الشاطبي في حديثه عن جواب العالم للمتعلم فقال: “فيلزم الجواب إذا كان عالما بما سئل عنه متعينا عليه في نازلة واقعة أو في أمر فيه نص شرعي بالنسبة إلى المتعلم، لا مطلقا، ويكون السائل ممن يحتمل عقله الجواب، ولا يؤدي السؤال إلى تعمق ولا تكلف، وهو مما يبنى عليه عمل شرعي، وأشباه ذلك، وقد لا يلزم الجواب في مواضع، كما إذا لم يتعين عليه، أو المسألة اجتهادية لا نص فيها للشارع، وقد لا يجوز، كما إذا لم يحتمل عقله الجواب، أو كان فيه تعمق أو أكثر من السؤالات التي هي من جنس الأغاليط”(7).

1 إعلام الموقعين عن رب العالمين، ابن قيم الجوزية (١/٩).

2 تخريج الدلالات السمعية على ما كان في عهد رسول الله من الحرف والصنائع والعمالات الشرعية، الخزاعي (ص ٢٢).

3 (رواه أحمد في مسنده) رقم (٧٥٧١).

4 المجموع شرح المهذب للنووي (١/ ٤٥).

5 كنز الراغبين شرح منهاج الطالبين، لجلال الدين المحلي (٢/٥٥٦)، وأصل الكلام للإمام النووي والذي زادة جلال المحلي في النهاية، عبارة “والإفتاء للحاجة إليهما”.

6 راجع تقديم الدكتور على جمعة لكتاب الإفتاء المصري من الصحابي عقبة بن عامر إلى الدكتور علي جمعة، الدكتور عماد أحمد هلال (١/٣٠).

7 الموافقات ، الشاطبي (٥/٣٧٢، ٣٧٣).

اترك تعليقاً