البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الفصل الأول مسائل "المفتي" الأصولية

المبحث الثالث: اشتراط الإسلام والتكليف في المفتي

92 views

تمهيد في تعريف التكليف:

التكليف لُغةً مصدر “كلَّف يُكلِّف”؛ يقول ابن فارس: «الكاف واللام والفاء أصلٌ صحيح يدل على إيلاع بالشيء وتعلُّق به؛ من ذلك: الكَلَف. تقول: قد كَلِفَ بالأمر يكلَف كَلفًا»، ويقول: «والكُلفة، ما يُتكلَّف من نائبةٍ أو حقٍّ»([1]).

والتكليف اصطلاحًا: الخطاب بأمرٍ ونهي([2])، وقيل: إلزام ما فيه كُلفة([3]). أي: مشقة.

والمراد باشتراط التكليف في المفتي أي: أن يكون مُكَلَّفًا([4])؛ والمراد بالمكلَّف: البالغ، العاقل، المختار، دون الصبي، والمجنون، والمعتوه، والمُكرَه([5]).

والبلوغ: “قوةٌ تحدُث في الشخص يخرُج بها من حال الطفولية إلى غيرها”([6])، ولأن هذه القوة لا يمكن معرفتها على وجه اليقين جُعلت لها علامات تدل على أنها قد وُجدت في الصبي بحيث يُحكم ببلوغه، وهذه العلامات عند الفقهاء إجمالًا نزول مني وحيض؛ فإن لم يوجد فعند أبي حنيفة والمالكية: ببلوغ ثماني عشرة سنة، وقال أبو حنيفة: سبع عشرة للصبية([7])، وعند محمد بن الحسن وأبي يوسف والشافعية والحنابلة: ببلوغ خمس عشرة سنة([8]).

قال الكمال بن الهمام: «بلوغ الغلام بالاحتلام والإحبال والإنزال إذا وطئ، فإن لم يوجد ذلك فحتى يتم له ثماني عشرة سنة، وبلوغ الجارية بالحيض والاحتلام والحبل، فإن لم يوجد ذلك فحتى يتم لها سبع عشرة سنة، وهذا عند أبي حنيفة، وقالا: إذا تم الغلام والجارية خمس عشرة سنة فقد بلغا»([9]).

وقال الخرشي عند قول خليل: «والصبي لبلوغه بثماني عشرة سنة»: «أي: بتمام ثماني عشرة سنة على المشهور»([10]).

وقال ابن قدامة: «وأما السن، فإن البلوغ به في الغلام والجارية بخمس عشرة سنة»([11]).

وقد أجمع علماء الإسلام من أصوليين وغيرهم على أن من شرط المفتي أن يكون مكلَّفًا مسلمًا([12])؛ فلا يجوز أن يتصدر للفتوى صبيٌّ أو مجنون أو كافر، يقول ابن عقيل: «في صفة العالِم الذي يسوغ له الفتوى في الأحكام: هو أن يكون على صفات عامة وخاصة؛ فالعامة التي لا تختص: من ذلك: العقل، والبلوغ، والإسلام»([13])، وقال الإمام النووي: «شرط المفتي كونه مُكَلَّفًا مسلمًا»([14]).

وشرط الإسلام شرطٌ بديهي؛ يقول الإمام الغزالي: «الإسلامُ شرطُ المفتي لا محالة»([15])؛ وذلك لأن المفتي مُخبِر عن حكم الله، ومُبلِّغ لشرعه، ومُطبِّق لأحكامه على الوقائع، فكان لابُدَّ من أن يكون مؤمنًا بالله وبرسوله محمد e، وبشرع الله الذي بَلَّغَه عنه رسولُه الكريم.

كما يجب أن يكون المتصدِّر للإفتاء بالغًا عاقلًا لكي يستوعب خطاب الشارع استيعابًا صحيحًا، ويستشعر خطورة الفتوى وأهميتها، فالمجنون والصبي غير مُؤهَّلَيْن للفُتيا؛ لعدم قدرتهما على فهم أصل الخطاب؛ ولكونهما ليسا بمُكلَّفَيْن، فلا يُسأَلَان عن أعمالهما، ولا يَتحمَّلان مسئولية غيرهما، وبذلك فإنه لا يمكن للصبي مهما بلغ عِلمه، ولا للمجنون أن يَتولَّيَا منصب الإفتاء أو يتصدرا له.

وقد اشترط الأصوليون في المجتهد أيضًا أن يكون مسلمًا بالغًا عاقلًا؛ قال المرداوي: «لأن الصغير ليس بكامل آلة العلم حتى يتصف بمعرفة الفقه على وجهها»([16]).

اشتراط الإسلام والتكليف في المفتي في التطبيق المعاصر:

سبق أن بينَّا أن التطبيق المعاصر لوظيفة المفتي له عدة أشكال: الأول: الإفتاء الرسمي، والثاني: الإفتاء شِبْه الرسمي، والثالث: الإفتاء غير الرسمي.

وأن الأول -وهو الإفتاء الرسمي- يُراد به الإفتاء الذي تنظمه الدولة، ويقع تحت إشرافها عبر مؤسسة وطنية، وفيه تُحدِّد الدولة أعيان المتصدرين للإفتاء، وشروطهم، ومهامهم. والثاني -وهو الإفتاء شِبْه الرسمي- يشمل التصدُّر للفتوى في بلدٍ ليس فيه إفتاء رسمي؛ مثل بلاد الأقليات المسلمة بشرط أن يكون تحت رعايةٍ من دولتهم أو من أحد المؤسسات الرسمية في دولة إسلامية، ومثل التصدر للفتوى في بلدٍ فيه إفتاء رسمي ولكن يُسمَح لعلماء الشريعة من غير الرسميين بالإفتاء تحت رعاية الدولة؛ كإفتاء أساتذة الكليات الشرعية وأئمة المساجد النظاميين من غير مَن وظفتهم الدولة في مؤسسة الإفتاء الرسمي.

ولا ريب أن الإسلام مُشتَرَطٌ في المتصدر للفتوى في سائر هذه الأشكال؛ سواء نُصَّ عليه في القوانين المنظِّمة لمؤسسات الإفتاء الرسمية، أو كان من المعروف المستقر بحيث لا يُعيَّن في وظيفة الفتوى إلا مسلمٌ، وكذا يُقال في غير مؤسسات الإفتاء الرسمية.

ومن المقرر أيضًا أن التكليف شرط للمتصدِّر للفتوى في المؤسسات الرسمية؛ فإن الوظيفة العامة في أي بلدٍ كان يُشترط لها البلوغ والعقل؛ فتضع أغلبيةُ أنظمة الخدمة المدنية حَدًّا أدنى من العمر لدخول الوظيفة العامة، ولا يجوز تعيين مَن لا يكون عمره أقل منها.

وتَشترط التشريعات هذا العمر للتأكد من أن الشخص على درجة من النضج، والإدراك بما يؤهله للقيام بأعباء الوظيفة العامة ومسئوليتها، وتتفق أغلبية الدول على اعتبار سن ثمانية عشرة، أو عشرون سنةً الحد الأدنى لدخول الوظيفة العامة؛ لأن هذا العمر يسمح للمواطن أن يكون قد وصل إلى مرحلة التعليم الثانوي على الأقل، وهي مرحلة إلزامية أو شبه إلزامية في بعض الدول المتقدمة؛ كما أن بلوغ هذا العمر يجعل الإنسان راشدًا ويمكنه التصرف دون موافقة ولي أمره ويكون قد تجاوز سن المراهقة([17]).

 

إشكالات شرط البلوغ في التطبيق المعاصر:

ولكن تظهر بعض الإشكالات في التطبيق المعاصر لشرط البلوغ في المتصدر للفتوى؛ وذلك على مستوى الإفتاء غير الرسمي؛ ذلك أنه من المعروف في بعض البلاد العربية والإسلامية تصدُّر حفاظ القرآن من الصغار المميزين غير البالغين([18]) لإمامة الصلاة([19])؛ وهذا التصدُّر يُوهِم البعض بأهلية هذا الصغير المميِّز للفتوى الشرعية فيتوجهون إليه بالاستفتاءات، ولا شك أن إفتاء هذا الصبي المميِّز غير جائز؛ وفتواه لا يجوز تقليدها؛ ذلك أن المفتي في حكم المخبِر عن الشرع بما لا اختصاص له بشخصٍ فكان كالراوي([20])؛ ولا تُقبَل رواية الصبي المميِّز عند جمهور الأصوليين([21])؛ قال الأصفهاني: «الصبي الغير المميِّز لا يقدر على الضبط فيما يتحمله. والمميِّز لعلمه بأنه غير مكلَّف لا ينزجر عن الكذب؛ ضرورة عدم مؤاخذته به»([22])، ويقول الماوردي: «غير البالغ لا يجري عليه قلمٌ، ولا يتعلق بقوله على نفسه حكمٌ، وكان أولى ألا يتعلق على غيره حكم»([23]). وقال ابن قدامة: «لا يقبل خبر الصبي والمجنون؛ لكونه لا يعرف الله تعالى ولا يخافه، ولا يلحقه مأثم، فالثقة به أدنى من الثقة بقول الفاسق؛ لكونه يعرف الله تعالى ويخافه، ويتعلق المأثم به، ولأنه لا يقبل قوله فيما يخبر عن نفسه -وهو الإقرار- ففيما يخبر به عن غيره أولى»([24]).

والقضاء على هذه الظاهرة يكون عبر طرقٍ:

الأول: توعية عموم المستفتين بالفرق بين مطلق التدين بسماته المختلفة من حفظ لكتاب الله، وتزييٍّ بزي الشُّهْرة الدينية، والتصدر للإمامة؛ بل والتعليم الديني، وبين التأهل للإفتاء الشرعي، وتكون هذه التوعية خاصةً للمسلمين في بلاد الأقليات.

الثاني: ضبط إمامة الجماعات المفروضة في المساجد بتجنيبها الصبيان عملًا بقول الجمهور بعدم صحة إمامة الصبي المميِّز للرجال في الفرض([25]).

قال المرغيناني: «ولا يجوز للرجال أن يقتدوا بامرأة وصبي… وأما الصبي فلأنه متنفل فلا يجوز اقتداء المفترض به»([26]). وقال الدسوقي: «وأما إن اقتدى به –أي الصبي- واحد فصلاة ذلك المقتدي به باطلة على الإطلاق إذا أمَّ في فرض»([27]). وقال البهوتي: «ولا تصح إمامة مميز لبالغ في الفرض… لأن الإمامة حال كمال، والصبي ليس من أهلها»([28]).

الثالث: تعيين جهاتٍ رسمية للإفتاء وتسهيل الوصول إلى المعيَّن منها عبر القنوات المختلفة؛ فروعًا كانت أو وسائل حديثة من قنوات هاتفية وإلكترونية وغيرها.

 

([1]) مقاييس اللغة لابن فارس (5/ 136)، وينظر: الصحاح للجوهري (4/ 1424)، مادة (كلف).

([2]) انظر: روضة الناظر لابن قدامة (1/ 153).

([3]) انظر: البرهان للجويني (1/ 14)، وتشنيف المسامع للزركشي (1/ 237)، وشرح مختصر الروضة للطوفي (1/ 176).

([4]) انظر: مغني المحتاج للخطيب الشربيني (4/ 455).

([5]) انظر: غاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري (1/ 6)، ومبادئ الأصول لابن باديس (ص 19).

([6]) انظر: شرح مختصر خليل للخرشي (5/ 291).

([7]) انظر: فتح القدير للكمال بن الهمام (9/ 270)، وشرح مختصر خليل للخرشي (5/ 291).

([8]) انظر: فتح القدير للكمال بن الهمام (9/ 270)، وتحفة المحتاج لابن حجر الهيتمي (5/ 163)، وشرح منتهى الإرادات للبهوتي (2/ 173).

([9]) انظر: فتح القدير للكمال بن الهمام (9/ 270).

([10]) انظر: شرح مختصر خليل للخرشي (5/ 291).

([11]) المغني لابن قدامة (4/346).

([12]) ينظر: روضة الطالبين للنووي (11/ 99).

([13]) الواضح لابن عقيل (1/ 268).

([14]) آداب الفتوى والمفتي والمستفتي للنووي (ص 19).

([15]) المستصفى للغزالي (ص 343).

([16]) التحبير شرح التحرير للمرداوي (8/ 3869)، ونقل في المسودة أن أبا المعالي الجويني قائلٌ بأن الصبي يُتصور منه الاجتهاد ويصح. ولم أجد هذا مصرَّحًا به في كتب أبي المعالي المطبوعة ولا منقولًا عنه في غير المسودة، وقد نقل في البحر المحيط الاتفاق على أن خلاف الصبي والكافر، وإن أحكما أدوات الاجتهاد، لا يُعتد به. ينظر: المسودة لآل تيمية (ص 456)، والبحر المحيط للزركشي (6/ 428)، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري (1/ 155)، وإرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد للصنعاني (ص 8).

([17]) ينظر: التعيين في الوظيفة العمومية.. دراسة مقارنة، جاكلين تحسين عمرية، رسالة ماجستير مقدمة لكلية الدراسات العليا، جامعة النجاح الوطنية، 2014هـ، (ص 16).

([18]) الصغير: مَن لم يبلغ، وينقسم إلى صغير غير مميِّز: وهو من الولادة إلى أن يتميز، والصغير في هذه المرحلة مِن عمره لا يدرك نتائج تصرفه. ومُمَيِّز: وهو من يفهم الخطاب ويعرف مضاره ومنافعه ويُميِّز بين الخير والشر ظاهرًا ولكنه لم يبلُغ، وقد حدد الجمهور سن التمييز من سبع سنين إلى قبيل البلوغ. ينظر: عوارض الأهلية عند الأصوليين، صبري معارك، ط. المكتبة التوفيقية، 1981م، (ص 128).

([19]) وذلك يصح على رأي الشافعية؛ ينظر: روضة الطالبين للنووي (1/ 353).

([20]) آداب الفتوى للنووي (ص 19).

([21]) انظر: البرهان للجويني (1/ 233)، والمستصفى للغزالي (ص 124)، وروضة الناظر لابن قدامة (1/ 332)، وأصول البزدوي بشرحه كشف الأسرار لعبدالعزيز البخاري (2/ 394)، والمعتمد لأبي الحسين البصري (2/ 137).

([22]) بيان المختصر للأصفهاني (1/ 686).

([23]) الأحكام السلطانية للماوردي (ص 110).

([24]) روضة الناظر لابن قدامة (1/ 332).

([25]) ينظر: الهداية للمرغيناني مطبوع مع فتح القدير لابن الهمام (1/ 357)، والشرح الكبير للدردير بحاشية الدسوقي (1/ 329)، وشرح منتهى الإرادات للبهوتي (1/ 275).

([26]) ينظر: الهداية للمرغيناني مطبوع مع فتح القدير لابن الهمام (1/ 357).

([27]) ينظر: الشرح الكبير للدردير بحاشية الدسوقي (1/ 329).

([28]) ينظر: شرح منتهى الإرادات للبهوتي (1/ 275).

اترك تعليقاً