البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الفصل الأول مسائل "المفتي" الأصولية

المبحث الثامن: مسألة خلو العصر من مجتهد

112 views

الخلوُّ في اللغة الفراغ عن الشيء؛ يقول ابن فارس: «الخاء واللام والحرف المعتل أصلٌ واحدٌ يدل على تعري الشيء من الشيء؛ يقال: هو خلو من كذا. إذا كان عروًا منه»([1])، وخلا المكان أو الزمان أو الشيء يخلو خلوًّا وخلاءً: إذا لم يكن فيه أحدٌ أو شيءٌ؛ فهو خالٍ([2]).

فالخلو هنا معناه: عدم وجود المجتهد.

والعصر لغةً يأتي بمعنى الدهر والزمن يُنسَب إلى ملكٍ أو دولةٍ أو جيلٍ من الناس([3])؛ قال الزبيدي: «هو كل مدة ممتدة غير محدودة تحتوي على أممٍ تنقرض بانقراضهم»([4]).

والمراد بخلو العصر عن مجتهد ألا يبقى فيه مجتهدٌ؛ أعم من ألا يوجد فيه أصلًا أو يوجد ثم يُفقَد([5])، وقد اختلف الأصوليون في جواز خلو العصر عن مجتهد قائم بحجج الله يبين للناس ما نُزِّل إليهم؛ ومعناه: أنه هل يجوز عقلًا وشرعًا([6]) أن يخلو زمانٌ ممن يُبيِّن للناس التكاليف ويمكن تفويض الفتاوى إليه([7]) سواء كان مجتهدًا مطلقًا أم مجتهدًا في مذهب المجتهد؟([8]).

ومحل الخلاف فيما قبل الحد الذي يتداعى فيه الزمان بتزلزل القواعد بسبب زوال الدنيا في آخر الزمان؛ فإن تداعى بأن أتت أشراط الساعة الكبرى جاز الخلو عنه([9])؛ لإخباره صلى الله عليه وسلم بأنه لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس([10]).

والخلاف في المسألة على قولين:

القول الأول: يجوز خلو العصر عن المجتهدين.

وهو قول جمهور الأصوليين([11]).

قال الآمدي: «اختلفوا في أنه هل يجوز خلو عصر من الأعصار عن مجتهد يمكن تفويض الفتاوى إليه؟ فمنع منه قوم كالحنابلة وغيرهم، وجوَّزه آخرون، وهو المختار»([12]).

وقال الزركشي: «المختار عند الأكثرين أنه يجوز خلو عصر من الأعصار عن الذي يمكن تفويض الفتوى إليه، سواء كان مجتهدًا مطلقًا أم مجتهدًا في مذهب المجتهد»([13]).

وقال المرداوي: «أصحابنا وعبد الوهاب وجمع، وأومأ إليه أبو المعالي، وابن برهان: لا يجوز خلو عصر عن مجتهد…وقال الأكثر: يجوز»([14]).

ويقول ابن أمير حاج: «يجوز خلو الزمان عن مجتهد كما هو المختار عند الأكثر»([15]).

واحتجوا بأمورٍ؛ منها:

  • الأحاديث النبوية التي ظاهرها الدلالة على غربة الدين في آخر الزمان وأن الساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق؛ نحو قوله عليه السلام: «لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله»([16])، وقوله صلى الله عليه وسلم: «فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحًا طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر فعليهم تقوم الساعة»([17])، وقوله: «بدأ الإسلام غريبًا وسيعود كما بدأ غريبًا فطوبى للغرباء»([18])، ووجه الاستدلال من هذه الأحاديث ونحوها أن الساعة لا تقوم إلا على قومٍ لا يتأتى ذكر الله على ألسنتهم، وهؤلاء هم شرار الخلق، ولا ريب أن المجتهدين وأهل الفتوى ليسوا منهم، وكل هذا من غربة تأتي على الإسلام في آخر الزمان ليعود غريبًا كما بدأ، وهذا يدل على أنه يأتي زمان يخلو فيه عن مجتهد يمكن تفويض الفتاوى إليه([19]).
  • ما ورد في السنة النبوية مما يؤيد ذلك؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يُقبَض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يَبقَ عالم -أو: حتى إذا لم يُبقِ عالمًا- اتخذ الناس رؤساء –أو: رءوسًا- جُهَّالًا؛ فأفتوا بغير علم؛ فضلوا وأضلوا»([20])؛ فإنه يدل صريحًا على خلو الزمان عن العلماء([21])؛ قال الصفي الهندي: «هذا الخبر بصراحته يدل على خلو العصر عن المفتي»([22])، ووجه الدلالة أن العلماء سيُقبضون جميعًا ويُقبض العلم بقبضهم فلا يبقى عالمٌ في الأرض؛ حتى يلجأ الناس إلى الجهال فيستفتونهم فيفتونهم بغير علم.
  • أن خلو الزمان عن مجتهدٍ لا يستلزم محالًا لذاته؛ فيجوز عقلًا([23]).

وأجيب عن الدليل الأول بأن هذه الأحاديث لفظها على العموم، والمراد منها الخصوص؛ فمعناها: لا تقوم الساعة على أحدٍ يوحِّد الله تعالى إلا بموضع كذا؛ إذ لا يجوز أن تكون الطائفة القائمة بالحق التي توحد الله تعالى هي شرار الخلق([24])، وقد جاء مبيَّنًا في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون»([25]).

وأما الاستدلال بقوله عليه السلام: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا…» فأجيب بأنه محمولٌ على طرفٍ من الأطراف أو صُقعٍ من الأصقاع، أو أراد به: قلة القوم، مثل قولنا: “لم يبق في البلد رجلٌ”، نعني به: قل الرجال([26])، كما أجيب عنه بأن غاية ما يلزم منه خلو الزمان عن العالِم، والنزاع إنما وقع في خلوه قبل وقوع أشراط الساعة؛ فما لزم غير المدَّعى وما هو مدَّعى غير لازم([27]).

وأجيب عن الدليل الثالث بأن الاستدلال فيه غير صحيح؛ لأنه استدلال على إثبات الإمكان الخارجي بمجرد الإمكان الذهني، وهو غير كافٍ في ذلك؛ لأن الإمكان الخارجي إنما يثبت بالعلم بعدم الامتناع، والإمكان الذهني عبارة عن عدم العلم بالامتناع، وعدم العلم بالامتناع لا يستلزم العلم بعدم الامتناع([28]).

القول الثاني: لا يجوز خلو العصر عن مجتهد.

ذهب الحنابلة وبعض الشافعية([29]) كأبي إسحاق الإسفراييني([30])، واختاره ابن دقيق العيد([31])؛ إلى أنه لا يجوز خلو العصر عن مجتهدٍ يجوز للعامي تقليده؛ فلابد أن يكون في كل قطرٍ وزمانٍ مَن يقوم به الكفاية؛ وذكر ابن الصلاح أن الذي رآه في كلام الأئمة يُشعِر بأنه لا يتأتى فرض الكفاية بالمجتهد المقيد، قال: «يظهر أنه يتأدَّى به فرض الكفاية في الفتوى وإن لم يتأدَّ به فرض الكفاية في إحياء العلوم التي منها استمداد الفتوى؛ لأنه قد قام في فتواه مقام إمام مطلَق، فهو يؤدي عنه ما كان يتأدى به الفرض حين كان حيًّا قائمًا بالفرض فيها»([32]).

واحتج المانعين خلو العصر عن مجتهدٍ بأمور؛ منها:

  • قوله عليه السلام: «لا تزال طائفةٌ من أمتي ظاهرين حتى يأتي أمر الله»([33])، والمراد بـ”أمر الله” قيام الساعة كما بينته الرواية الأخرى بلفظ: «لا تزال طائفةٌ من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة»([34]) فصرح بعدم الخلو إلى القيامة؛ لأن ظهور طائفة على الحق في عصرٍ مستلزم وجود العلم والاجتهاد فيه؛ لأن القيام بالحق لا يمكن إلا بالعلم؛ فيكون المجتهد موجودًا في كل عصر، وهو المطلوب([35]).
  • قول علي رضي الله عنه: «لن تخلو الأرض من قائمٍ لله بحجة لكيلا تبطل حجج الله وبيناته؛ أولئك هم الأقلون عددًا الأعظمون عند الله قدرًا»([36]).
  • أنه لا طريق للعامة إلا التقليد، ولا يجوز لهم التقليد إلا لمجتهدٍ؛ فلو خلا العصر من مجتهد لانقطع طريق الاتباع والإصابة لحكم الله، فلا عالم يجتهد ولا عامي يمكنه التقليد مع فقد المجتهد؛ فتبقى الأمة في الحيرة والضلال، وقد ضمن الله سبحانه حفظ الأمة وحراستها عن الضلالة([37]) بقوله صلى الله عليه وسلم: «أمتي لا تجتمع على ضلالة»([38]).
  • أن الاجتهاد فرض كفاية؛ فيستلزم انتفاؤه في عصرٍ من الأعصار اتفاقَ المسلمين على الباطل؛ لأنه إذا انتفى الاجتهاد في عصرٍ تكون الأمة في هذا العصر متفقين على ترك الواجب، وهو باطل([39]).
  • أن الإجماع قد قام على أن الإجماع دلالةٌ معصومةٌ قطعيةٌ، وليس الإجماع إلا اتفاق أهل الاجتهاد على حكم الحادثة؛ فإذا عُدِمَ المجتهد عُدِمَ الإجماع، وأفضى إلى بقاء الأمة بغير معصوم يخلف النبي المعصوم([40]).
  • أن الله تعالى لو أخلى زمانًا من قائمٍ بحجةٍ لزال التكليف؛ إذ التكليف لا يثبُت إلا بالحجة الظاهرة، وإذا زال التكليف بطلت الشريعة([41]).

وأجيب عن الأول بأن الحديث الثابت دلَّ على عدم خلو الزمان عن طائفة ظاهرين على الحق، ولا يدل على نفي جواز خلو الزمان عن المجتهد، ومع التسليم بأن الحديث دالٌّ على نفي الجواز فقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يقبض…»([42]) أظهر؛ لأنه يدل صريحًا على خلو الزمان عن العلماء، وهذا ليس بصريحٍ في نفي الجواز؛ لأن القائم بالحق أعم من المجتهد، ولو سُلِّمَ أنه لا يكون أظهر فيتعارضان ويسلم الدليل القاضي بعدم استلزام خلو العصر عن مجتهدٍ محالًا عن المعارض([43]).

ورُدَّ القول بأنه لا يدل على نفي جواز الخلو عن خصوص المجتهد بأنهم كيف يكونون ظاهرين على الحق وليس فيهم مَن يبينه لهم، وهل يَعرف الحق إلا مفتٍ أو عالم مجتهد؟!([44]).

وأجيب عن الدليل الثاني بأنه إذا فُرِضَ موت العلماء لم يمكن الاجتهاد، وإذا لم يُمكِن فلا يكون فرضَ كفاية؛ فاتفاق الأمة على ترك الاجتهاد في عصر لا يكون باطلًا([45]).

وأجيب عن الدليل الرابع بأن الخلو من المجتهد المطلق لا يلزم منه الإجماع على الباطل؛ لجواز أن يوجد في كل عصرٍ مجتهد أقل رتبة يستفتيه الناس، كما لو كان مجتهدًا في المذهب أو مجتهدًا في بعض مسائله([46]).

وأجيب عن الدليل الخامس بأن الإجماع بالاتفاق أحد الأدلة الشرعية المعتبرة، ولكنه ليس الدليل الوحيد الذي تتوقف الفتوى عليه؛ لوجود أدلة أخرى معتبرة أيضًا، كما لا تتقف الفتوى على وجود المعصوم؛ فليس كل الفتاوى تحتاج إلى هذه العصمة التي هي من ميزات الإجماع؛ فإذا وجد مَن يُفتي بالفتوى القائمة على أصولها الشرعية بأدلة أخرى كان كافيًا في الدلالة على عدم خلو العصر من مجتهد تُفوَّض الفتاوى إليه([47]).

كما أجيب عن الأدلة المنبنية على بطلان الشريعة بخلو الزمان عن مجتهد بأنه لا يُسلَّم أنه يؤدي إلى ذلك؛ لأنه يحتمل أن تُنقل إليهم الأحكام من أهل عصرٍ قبلهم نقلًا يغلب على الظن صدقه([48]).

ورُدَّ بأن هذا يمكن أن يُقبل في المسائل التي وقعت سابقًا وأفتى فيها السابقون، ولكنه لا يجري على الحوادث الجديدة التي تحتاج إلى مجتهد ينظر فيها ويستنبط حكمها وقد خلا العصر منه، كما أن اللازم من الجواب دوام اعتقاد الحق لا دوام وقوع الاجتهاد، والمطلوب دوام وقوع الاجتهاد؛ فإن المطلوب شرعًا هو بذل الجهد في تعرُّف الحق، وهذا باستطاعة المجتهد دون إصابته فعلًا؛ فهذا ليس باستطاعته في كل حال([49]).

وقوع خلو العصر عن المجتهد:

اختلف القائلون بجواز خلو العصر عن المجتهد في وقوع هذا الخلو على قولين:

القول الأول: أنه وقع.

وهو قول جمهور الأصوليين القائلين بجواز خلو العصر عن المجتهد عقلًا([50]).

ويذكر ابن عقيل في شُبَه القائلين بالجواز ما يدل على استدلالهم على الوقوع؛ فمنها([51]):

  • أن شروط الاجتهاد قد تعذَّرَت؛ إذ كانت علومًا شتى؛ بين لغة وعربية وحفظ كتاب الله وسنة رسوله ومعرفة أحكام القرآن والحديث، ومعرفة القياس بتفاصيله وغير ذلك من الأدلة، وذلك لا يكمُل فيه أحدٌ في عصره على حسب ما يُعرَف.
  • أن العلماء في عصره بين محقق في النظر وتشقيق المعاني ليس له قدمٌ في الكتاب والسنة، أو محقق في الكتاب والسنة قاصرٌ في القياس، ولا تجتمع علوم الاجتهاد لأحد إلا ويقصر في بعض إذا تفرد فيه بعض؛ قال: «فإن بدر من يُومَأ إليه بالتكافل كان فاسقًا بمخالطة ظلمة السلاطين وأكل الحرام ولبس الحرير وغير ذلك من الأسباب الموجِبَة للفسق، وإذا كان ذلك متعذرًا بما يُعلَم ويُقطَع به كان إثبات الاجتهاد الصالح للاستفتاء وانعقاد الإجماع كإثبات الرافضة الإمام المعصوم الذي لا نعرفه.

وقد أجاب ابن عقيل عن الأول بأنه لا يُشترط في المجتهد أن يحيط بسائر العلوم إحاطة كاملة؛ بل الشرط معرفة ما جمعته كتب الفقهاء في أصول الفقه وفروعه من معرفة الأدلة وذلك لا يقصر عنه منتدَبٌ للفتيا، وأجاب عن الثاني بأن العصر لا يخلو من عاملٍ بعلمه عدلٌ؛ ولئن جاز دعوى ذلك وجب أن ينسد طريق الأخبار والشهادات؛ فإن العدالة المعتبرة في الفتوى والاجتهاد الحاصل ممن ينعقد به الإجماع معتبرة لرواة الأحاديث التي عليها تنبني أحكام الشريعة([52]).

القول الثاني: أنه لم يثبت وقوعه:

وهو اختيار التاج السبكي([53]).

والذي أرجحه في المسألتين هو قول الجمهور بجواز خلو العصر من مجتهدٍ عقلًا؛ وذلك لأنه لا يمتنع في بداهة العقل عدم وجود مجتهد ولا يستلزم ذلك محالًا، أما مسألة الوقوع فالراجح هو أنه قد وُجد مجتهدٌ في كل عصرٍ من العصور؛ وذلك لأمور:

أولًا: أنه لو خلا عصر من العصور من المجتهد، ولو المنتسب، لزال التكليف الشرعي؛ لعدم معرفة أحكام النوازل الحديثة، وهذا يخالف النصوص القاضية بأن الشريعة باقية.

ثانيًا: أنه قد نُسب الاجتهاد المطلَق إلى كثير من العلماء في كل عصرٍ؛ كابن دقيق العيد وابن تيمية وتقي الدين السبكي والكمال بن الهمام والسيوطي وغيرهم؛ فهؤلاء قد قاموا بعلوم الاجتهاد على الوفاء والكمال، وبلغوا من المعارف العلمية ما يعرفه من يعرف مصنفاتهم حق معرفتها، وكل واحد منهم إمام كبير في الكتاب والسنة وعلومهما؛ محيط بعلوم الاجتهاد إحاطة متضاعفة؛ عالم بعلوم خارجة عنها([54])؛ قال الزركشي: «ولم يختلف اثنان في أن ابن عبدالسلام بلغ رتبة الاجتهاد، وكذلك ابن دقيق العيد»([55]).

خلو العصر من مجتهد في التطبيق المعاصر:

يمكن لنا أن نقرر هنا ما سبق ورُجِّحَ من وجود مجتهدٍ في كل عصر؛ أما المجتهد المطلَق الفرد؛ فيُرجَّح عدم وجوده في العصر الحالي لا لضعفٍ في العلماء بل لأن الاجتهاد المطلَق في المسائل الحديثة لا يمكن أن يقوم به فردٌ واحد؛ وذلك لتشعب المسائل وتعقدها واحتياج تصورها إلى تخصصات أخرى من غير علماء الشريعة، وأما المجتهد المنتسب فإنه موجودٌ في العصر الحالي؛ سواءٌ كان معروفًا أو غير معروف؛ ومن المنتسبين مَن بلغ الدرجة العليا ومنهم من يجتهد اجتهادًا جزئيًّا في أعيان المسائل.

ولكن يمكننا أن نقول إن “الاجتهاد المطلق” يتمثل في العصر الحالي في المجامع الفقهية بخاصة؛ حيث تقوم المجامع الفقهية بدور “المجتهد” كشخصية اعتبارية مقابل الشخصية الحقيقية للمجتهد قديمًا؛ ذلك أن المجامع الفقهية تستوعب طوائف من أكابر علماء الفقه والشريعة واللغة والعلوم المختلفة الشرعية وغيرها، وتقوم آلية الاجتهاد فيها على المناقشات بين العلماء لتصور المسائل وتكييفها لتخرج بحكمٍ شرعي فيها قد استوفى جميع وجوه الاجتهاد التي كان يقوم بها “المجتهد” قديمًا؛ ومن هنا يمكننا أن نقول إن جميع الصفات التي اشترطها العلماء قديمًا في المجتهد المطلَق الفرد متحققة في هذه الشخصية الاعتبارية التي هي المجامع الفقهية، ومثلها دور الإفتاء التي تعتمد آلية الإفتاء الجماعي في المسائل المطروحة كدار الإفتاء المصرية.

وقد خلص مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في دورته الثامنة إلى نحو ذلك؛ فبيَّن أن حاجة العصر إلى الاجتهاد حاجة أكيدة؛ لما يعرض من قضايا لم تعرض لمن تقدَّم عصرنا، وكذلك ما سيحدث من قضايا جديدة في المستقبل، وباستمرارية الاجتهاد تُحفظ للإسلام جدته وصلاحيته للعصور كلها؛ وأولى طرق الاجتهاد أن يكون اجتهادًا جماعيًّا بصدوره عن مجمعٍ فقهي يُمثَّل فيه علماء العالم الإسلامي([56]).

ويتميز الإفتاء بنوعٍ آخر من المجتهدين، وهم المجتهدون في الاختيار بين الأقوال بناء على المناسب لمقاصد الشريعة ومصالح المكلفين في العصر، والمجتهدون في استنباط أحكام النوازل من نصوص الشريعة وأقوال العلماء، وهذا كله نوعٌ من الاجتهاد الجزئي.

الاجتهاد في العصور الحديثة:

الحق أن اجتهاد المفتي في استنباط أحكام النوازل أمرٌ لا ينفك عن الإفتاء في الزمن الحالي؛ فلم يعد بمقدور المفتي عدم ممارسة الاجتهاد والاكتفاء بتقليد الأئمة أو القياس على اجتهاداتهم؛ إذ أن كثيرًا من الوقائع مستحدثة تمامًا ولا نظير لها مطلقًا؛ وقد مارس المفتون الاجتهاد فعليًّا طوال العصور الإسلامية؛ وخاصة في العصر الحديث، ولو بصورة جزئية ومحدودة، وربما عن وعي منهم بحقيقة أن ما يفعلونه هو اجتهاد([57])، ولعل من أدل الأمور على ممارسة المفتين في العصور الحديثة للاجتهاد في المسائل المعاصرة مسألة “التلقيح” فقد أفتى فيها الشيخ عليش باجتهاده لأنه لم يجد نصًّا قديمًا فيها؛ ثم قال في آخر فتواه: «ومن وَقَفَ على نصٍّ قديمٍ فيها فليُلحقه بهذا وأجره على الله تعالى»([58]).

وتحققُ الاجتهاد في العصور الحديثة أيسر بكثير من العصور المتقدمة؛ وذلك لسهولة الوصول إلى مختلف النصوص والاطلاع على الإجماع والاختلاف وآراء العلماء في التفسير والأحاديث وسهولة تصور المسائل والتحقق من المآلات ونحو ذلك من آليات الاجتهاد، وقد تنبه العلماء قديمًا إلى هذا المعنى فقالوا: إن الاجتهاد في هذا الزمان أسهلُ منه في الزمن الأول؛ لأن الآلات من الأحاديث وغيرها قد دُوِّنَت وسهُل مراجعتها؛ بخلاف الزمن الأول؛ فلم يكن فيه شيء من آلات الاجتهاد مدوَّنٌ([59]).

فإذا كان العلماء قد تنبهوا إلى هذا التطور وأثره في الاجتهاد في القرن السادس وما بعده؛ فالأولى أن يتحقق كلامهم في العصر الحالي مع ظهور التقنيات الحديثة؛ فقد توفرت منذ سنوات وبعد انتشار استخدام الحاسوب البرامج والموسوعات في مختلف العلوم الإسلامية التي احتوت على المئات والآلاف من الكتب الشرعية في مختلف التخصصات مع إمكانية البحث والاقتباس؛ مما وفر على الباحثين الوقت والجهد والمال في سبيل الحصول على المعلومات، تزامنًا مع ظهور تلك البرامج على الحاسب التي يسرت مراجعة الكتب وإجراء العمليات المختلفة عليها مع تسهيل إعدادها للطباعة والنشر؛ فيسرت الاطلاع على التراث الإفتائي لفقهاء المسلمين القدامى والمعاصرين وغير ذلك مما جعل الوصول إلى مرتبة الاجتهاد؛ ولو المقيد أو الجزئي؛ أيسر([60]).

ومثال ذلك أنه مما ذهب إليه الأصوليون اشتراط معرفة آيات وأحاديث الأحكام للوصول إلى درجة الاجتهاد، وهذه المعرفة لا تعني بالضرورة حفظها عن ظهر قلب، وإنما يكفيه من ذلك أن يكون عالمًا بمواضعها بحيث يستطيع مراجعتها وقت الحاجة إلى الفتوى، وقُل مثل ذلك في الإجماع والناسخ والمنسوخ ونحو ذلك مما مر ذكره في الكلام على شروط المجتهد([61])؛ ولهذا قام بعض مَن له خبرة في وضع الفهارس في القرون السابقة بوضع فهرسة دقيقة لألفاظ الكتاب والسنة ليسهل على الباحثين والمفتين الوصول الآيات والأحاديث؛ أما في عصرنا الحاضر فقد سخَّر الله لنا من الوسائل ما يُعين على الوصول إلى هذه المعرفة المشترطة في المجتهد؛ فقد كثُرت البرامج المتخصصة الجامعة للكتب والمصادر المزدة بمحركات بحثٍ يستطيع من خلالها المفتي الوصول إلى ما يريده من آيات وأحاديث وآراء والمقارنة بينها([62]).

 

([1]) مقاييس اللغة لابن فارس (2/ 204)، وانظر: لسان العرب لابن منظور (14/ 239)، مادة (خلا).

([2]) انظر: لسان العرب لابن منظور (14/ 237)، مادة (خلا).

([3]) انظر: تاج العروس للزبيدي (13/ 60)، وتهذيب اللغة للأزهري (2/ 10)، والمعجم الوسيط (2/ 604)، مادة (عصر).

([4]) تاج العروس للزبيدي (13/ 60) مادة (عصر).

([5]) انظر: حاشية العطار على شرح المحلي لجمع الجوامع (2/ 438).

([6]) قال العطار في حاشيته على شرح المحلي لجمع الجوامع (2/ 438): «في النجاري أن الاستدلال بالأحاديث الآتية يدل على أن المراد الجواز الشرعي، وظاهر استدلال ابن الحاجب كالآمدي أن المراد به العقلي، وفي حواشي المولى سعد الدين ما يُشعر بتجويز كلٍّ منهما».

([7]) كما هو ظاهر فإن هذه المسألة من مسائل أبواب الإفتاء في أصول الفقه؛ ويؤيد ذلك وضع الصفي الهندي لها في الفصل الخاص بالمفتي في كتابه نهاية الوصول (8/ 3887).

([8]) انظر: الأحكام للآمدي (4/ 233)، ونهاية الوصول للصفي الهندي (8/ 3887)، وتشنيف المسامع للزركشي (4/ 615)، وإرشاد الفحول للشوكاني (2/ 211).

([9]) انظر: التقرير والتحبير لابن أمير الحاج (3/ 339).

([10]) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب: قوله صلى الله عليه وسلم: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم، حديث رقم (1924)، (3/ 1524).

([11]) انظر: الأحكام للآمدي (4/ 233)، ومختصر ابن الحاجب بشرحه بيان المختصر للأصفهاني (3/ 355)، ونهاية الوصول للصفي الهندي (8/ 3887)، وتشنيف المسامع للزركشي (4/ 615)، والتحبير للمرداوي (8/ 4059)، والتحرير للكمال بن الهمام وشرحه التقرير والتحبير لابن أمير الحاج (3/ 339).

([12]) انظر: الأحكام للآمدي (4/ 233).

([13]) جمع الجوامع للسبكي بشرحه تشنيف المسامع للزركشي (4/ 615).

([14]) انظر: التحبير للمرداوي (8/ 4059).

([15]) انظر: التحرير للكمال بن الهمام وشرحه التقرير والتحبير لابن أمير الحاج (3/ 339).

([16]) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب: ذهاب الإيمان آخر الزمان، حديث رقم (148)، (1/ 131).

([17]) أخرجه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب: ذكر الدجال وصفته ومَن معه، حديث رقم (2937)، (4/ 2250).

([18]) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب: بيان أن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا وإنه يأرز بين المسجدين، حديث رقم (145)، (1/ 130).

([19]) انظر: شرح الكوكب المنير لابن النجار (4/ 566)، وخلو العصر من المجتهد وآثاره الأصولية، فيصل بن سعود بن عبدالعزيز الحليبي، بحث منشور بمجلة الجمعية الفقهية السعودية، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، المملكة العربية السعودية، العدد السادس والعشرون، 1436هـ، 2015م، (38).

([20]) متفق عليه؛ أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب: كيف يقبض العلم؟، حديث رقم (100)، (1/ 31)، ومسلم في كتاب العلم، باب: رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان، حديث رقم (2673)، (4/ 2058).

([21]) انظر: الإحكام للآمدي (4/ 235)، وبيان المختصر للأصفهاني (3/ 362)، والتقرير والتحبير لابن أمير الحاج (3/ 339).

([22]) نهاية الوصول للصفي الهندي (8/ 3887).

([23]) انظر: الإحكام للآمدي (4/ 235)، وبيان المختصر للأصفهاني (3/ 362)، والتقرير والتحبير لابن أمير الحاج (3/ 339).

([24]) انظر: شرح الكوكب المنير لابن النجار (4/ 566).

([25]) أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق وهم أهل العلم»، حديث رقم (7311)، (9/ 101).

([26]) انظر: الواضح لابن عقيل (5/ 426).

([27]) انظر: فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت للبهاري، عبدالعلي محمد بن نظام الدين محمد السهالوري الأنصاري اللكنوي، تحقيق: عبدالله محمود محمد عمر، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1423هـ، 2002م، (2/ 431).

([28]) انظر: خلو العصر من المجتهد لفيصل بن سعود بن عبدالعزيز الحليبي (ص 45). وراجع: درء تعارض العقل والنقل، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام بن تيمية، تحقيق: محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، المملكة العربية السعودية، الطبعة الثانية، 1411هـ، 1991م، (1/ 31).

([29]) انظر: الواضح لابن عقيل (5/ 421)، والمسودة لآل تيمية (ص 472)، والتحبير للمرداوي (8/ 4059)، والتحرير للكمال بن الهمام وشرحه التقرير والتحبير لابن أمير الحاج (3/ 339).

([30]) انظر: البحر المحيط للزركشي (8/ 240).

([31]) انظر: جمع الجوامع للسبكي بشرحه تشنيف المسامع للزركشي (4/ 615)، وتقرير الاستناد في تفسير الاجتهاد للسيوطي، (ص 33)، وإرشاد الفحول للشوكاني (2/ 213).

([32]) أدب المفتي والمستفتي لابن الصلاح (ص 95).

([33]) سبق تخريجه$$.

([34]) أخرجه الترمذي في أبواب الفتن، باب: ما جاء في الشام، حديث رقم (2192)، (4/ 485)، وابن ماجه في افتتاح الكتاب في الإيمان وفضائل الصحاب والعلم، حديث رقم (6)، (1/ 4)، وقال الترمذي: «حسن صحيح».

([35]) انظر: بيان المختصر للأصفهاني (3/ 364)، والتقرير والتحبير لابن أمير الحاج (3/ 339)، وتقرير الاستناد في تفسير الاجتهاد للسيوطي، (ص 33).

([36]) أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/ 79)، وانظر: تقرير الاستناد في تفسير الاجتهاد للسيوطي (ص 34)، وراجع فيه شواهد أخرى لهذا المعنى.

([37]) انظر: الواضح لابن عقيل (5/ 422).

([38]) أخرجه أبو داود في كتاب الفتن والملاحم، باب: ذكر الفتن ودلائلها، حديث رقم (4253)، (4/ 98)، والترمذي في أبواب الفتن، باب: ما جاء في لزوم الجماعة، حديث رقم (2167)، (4/ 466)، وابن ماجه في كتاب الفتن، باب: السواد الأعظم، حديث رقم (3950)، (2/ 1303)، قال ابن كثير في تحفة الطالب (ص 120) عن رواية أبي داود: «في إسناد هذا الحديث نظر»، وضعَّف رواية ابن ماجه (ص 122)، وقال الترمذي عن روايته: «غريب من هذا الوجه»، ولكن قال عنه السخاوي في المقاصد الحسنة (ص 717): «هو حديث مشهور المتن، ذو أسانيد كثيرة وشواهد متعددة في المرفوع وغيره».

([39]) انظر: الواضح لابن عقيل (5/ 422)، وبيان المختصر للأصفهاني (3/ 364)، والتقرير والتحبير لابن أمير الحاج (3/ 340)، وتقرير الاستناد في تفسير الاجتهاد للسيوطي، (ص 33).

([40]) انظر: الواضح لابن عقيل (5/ 422).

([41]) انظر: الواضح لابن عقيل (5/ 422)، والأحكام للآمدي (4/ 234)، وإرشاد الفحول للشوكاني (2/ 212).

([42]) سبق تخريجه$$.

([43]) انظر: بيان المختصر للأصفهاني (3/ 364)، والتقرير والتحبير لابن أمير الحاج (3/ 340).

([44]) انظر: جواز خلو العصر عن المجتهد للحليبي (ص 47).

([45]) انظر: بيان المختصر للأصفهاني (3/ 364)، والتقرير والتحبير لابن أمير الحاج (3/ 340).

([46]) انظر: فواتح الرحموت للكنوي (2/ 432)، وجواز خلو العصر من المجتهد للحليبي (ص 52).

([47]) انظر: جواز خلو العصر من المجتهد للحليبي (ص 51).

([48]) انظر: نهاية الوصول للصفي الهندي (8/ 3890).

([49]) انظر: فواتح الرحموت للكنوي (2/ 432)، وجواز خلو العصر من المجتهد للحليبي (ص 50).

([50]) انظر: البحر المحيط للزركشي (8/ 240)، والتحبير للمرداوي (8/ 4068)، وغاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري (1/ 160)، وتهذيب الفروق لمحمد بن علي بن حسين (2/ 122)، والفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي للحجوي (2/ 512).

([51]) انظر: الواضح لابن عقيل (5/ 423).

([52]) انظر: الواضح لابن عقيل (5/ 424).

([53]) انظر: جمع الجوامع للسبكي بشرحه تشنيف المسامع للزركشي (4/ 615).

([54]) انظر: إرشاد الفحول للشوكاني (2/ 214).

([55]) البحر المحيط للزركشي (8/ 241).

([56]) راجع: قرارات المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة، الدورات: من الأولى إلى السابعة عشرة، القرارات: من الأول إلى الثاني بعد المائة، (1398-1424هـ/ 1977-2004م)، رابطة العالم الإسلامي، المجمع الفقهي الإسلامي، الطبعة الثانية، والقرار المذكور هو الثالث في الدورة الثامنة المنعقدة بمبنى رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة في المدة ما بين 27 ربيع الآخر 1405هـ، و8 جمادى الأولى 1405هـ الموافق 18-29 يناير 1985م، (ص 169).

([57]) انظر: الفتوى والحداثة.. تطور علاقة الدولة بالشريعة في مصر القرن التاسع عشر، فاطمة حافظ، مركز نماء للبحوث والدراسات، دراسات فكرية (19)، بيروت، الطبعة الأولى، 2019هـ، (ص 166).

([58]) فتح العلي المالك للشيخ عليش (2/ 167).

([59]) انظر: الواضح لابن عقيل (5/ 425)، وتقرير الاستناد في تفسير الاجتهاد للسيوطي، (ص 36)، ومنح الجليل للشيخ عليش (8/ 261).

([60]) انظر: التجديد الفقهي.. الضوابط والضرورات، ويليه: الاجتهاد والفتوى.. أركانهما وشروطهما ومجالاتهما، ويليه: أثر الفتوى في وحدة الأمة، عبدالملك بن عبدالرحمن السعدي، دار النور المبين للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، الطبعة الأولى، 2018م، (ص 86).

([61]) راجع: المسألة الرابعة من المطلب الثالث من هذا المبحث، والمعنونة بـ”اشتراط الكفاية العلمية في النظر القديم والمعاصر”.

([62]) انظر: تفسير المنار لرشيد رضا (5/ 166)، والفكر السامي للحجوي (2/ 498)، والنوازل المتعلقة بالمفتي والمستفتي لطارق بادريق (ص 141)، وعولمة الفتوى.. ما لها وما عليها، محمد عمر الحاجي، دار المكتبي، الطبعة الأولى، 1431هـ، 2010م، (ص 263).

اترك تعليقاً