البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الفصل الأول: تاريخ المذهب المالكي

المبحث الأول: نبذة عن الإمام مالك مؤسس المذهب

97 views

أولًا: اسمه ونسبه:

هو أبو عبد الله مالك بن أنس بن أبي عامر بن عمرو بن غَيْمان بن خُثَيْل بن عمرو بن الحارث، وهو ذو أصبح من حِمْيَر حليف لبني تيم بن مرة من قريش كما هو الصحيح من قول النسابين([1]).

ثانيًا: مولده:

اختلف المؤرخون في سنة ميلاده اختلافًا كثيرًا، والذي يبدو أن ذلك راجع إلى أن الأولين ما كانوا يهتمون بسنة الميلاد اهتمامًا كبيرًا كاهتمامهم بسنة الوفاة.

فقد قيل: إنه ولد سنة 90هـ. وقيل: 93هـ. وقيل: 95هـ. وقيل غير ذلك.

ولعل أشهر الأقوال وأولاها بالقبول ما اختاره القاضي عياض والذهبي وابن عبد البر وغيرهم، وهو أنه ولد سنة 93هـ، ومما يؤيده ما رواه ابن بكير أنه قال: سمعت مالكًا يقول: ولدت سنة ثلاث وتسعين([2]).

ولقد ذكر كتاب المناقب والسير أن أمه حملت به ثلاث سنين، وقيل: إنها حملت سنتين، والمشهور عندهم أنها حملت به ثلاثًا. ويظهر أن أساس هذا الخبر هو ما رواه الواقدي فقد قال: «سمعت مالك بن أنس يقول: قد يكون الحمل ثلاث سنين، وقد حُمل ببعض الناس ثلاث سنين، يعني نفسه»([3]).

يقول الشيخ محمد أبو زهرة: «فكانت هذه الرواية مادة للذين يريدون أن يقرنوا حياة الإمام بالعجائب والغرائب لبيان أنه صنف من الناس ممتاز اقترنت مميزاته بمولده؛ إذ إنه حُمل به ثلاث سنين على حين يُحمل بكل مولود تسعة أشهر فليس كمن يولدون كل يوم فكانت هذه منقبة اقترنت بميلاده كما كانت حياته من بعد كلها مناقب.

وإذا كان لمالك رأي فقهي، وهو جواز بقاء الحمل في بطن أمه ثلاثًا، وأن ذلك الرأي استمده من أخبار بعض الأمهات أو من أقوال نُسبت إلى بعض نساء السلف الصالح فلسنا نستطيع أن نأخذ به؛ لأن الطب يقرر أن الحمل لا يمكن أن يمكث في بطن أمه أكثر من سنة، والاستقراء مع المراقبة الدقيقة يجعلنا نؤمن بأن الحمل لا يمكن أن يمكث في بطن أمه أكثر من تسعة أشهر.

وإذا كان مصدر تلك الرواية التي اشتهرت واستفاضت قول مالك هذا فإن من الحق علينا أن نرفضها، وأن نقرر أن أمه حملت به كسائر الأمهات، وليس في ذلك غض من مقامه ولا نقص من إمامته، ولا نقض لأمر مقرر ثابت في التاريخ؛ لأن الذين يختلفون في وقت ميلاده ذلك الاختلاف الكبير لا يمكن أن يكون قبولهم لتلك الرواية الشاذة في حكم العقل والطب ومجرى العادة أساسه أمر مقرر ثابت»([4]).

وقد وُلِد الإمام مالك رحمه الله بالمدينة ورأى آثار الصحابة والتابعين، كما رأى وعاين قبر النبي صلى الله عليه وسلم والمشاهد العظام ومنذ أن شبَّ انطبع في نفسه تقديس المدينة ولازمه ذلك التقديس حتى وفاته، وكان له أثر في فكره وفقهه، فكان لا يطأ أرضها بدابة قط، وكان لما عليه أهل المدينة مكان من الاعتبار في اجتهاده، بل كان عمل أهل المدينة أصلًا من أصول استنباطه الفقهي([5]).

ثالثًا: طلبه للعلم:

تربى الإمام مالك رحمه الله ونشأ في بيئة علمية عريقة، فقد كان جده من كبار علماء التابعين الذين أخذوا عن عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله وعثمان بن عفان وعائشة رضي الله عنهم. وقد روى عنه -كما قيل- بنوه: أنس أبو الإمام مالك وربيع ونافع المكنى بأبي سهيل. والذي يظهر أن أنسًا أبا مالك لم يكن من المكثرين، فلم يشتغل بالحديث كثيرًا، ولم يُعرف أن مالكًا روى عنه، ولو كان له شأن فيه لكان أول من يروي عنهم من العلماء.

ولقد ذُكر في بعض الكتب: رُوِي عن مالك عن أبيه عن جده عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ثلاث يفرح لهن الجسد فيربو عليهن: الطيب والثوب اللين وشرب العسل»، ولكن المحققين من علماء الحديث قالوا: إن هذا الخبر لا يصح عن مالك فهو ضعيف، ولقد أورد الخطيب البغدادي هذا الخبر وظاهر كلامه أنه لم يَرْوِ عنه غيره([6]).

ولقد اتجه إلى طلب العلم من قبل مالك من إخوته أخوه النضر، فقد كان ملازمًا للعلماء يتلقى عليهم العلم حتى إن مالكًا لما لازمهم كان يُعرف بأخي النضر لشهرة أخيه دونه، فلما ذاع أمره بين شيوخه صار أشهر من أخيه، وصار يُذكر النضر بأنه أخو مالك([7]).

واتجه مالك رحمه الله إلى حفظ القرآن الكريم فحفظه، واقترح على أهله أن يحضر مجالس العلماء كعمه وأخيه من قبل ليكتب العلم ويدرسه، وقد أجابوا طلبه، وكانت أشدهم عناية به أمه إذ ذكر لأمه أنه يريد أن يذهب ليكتب العلم فألبسته أحسن الثياب وعممته ثم قالت له: «اذهب الآن فاكتب» بل لم تكتف بالعناية بمظهره فكانت تختار له من يأخذ عنه وما يأخذه من العلماء فقد كانت تقول له: «اذهب إلى ربيعة فتعلم من علمه قبل أدبه».

وربيعة هذا فقيه اشتهر بالرأي بين أهل المدينة فعرف بربيعة الرأي، فأخذ عنه مالك فقه الرأي وهو شاب صغير على قدر طاقته، حتى قال بعض معاصريه: «رأيت مالكًا في حلقة ربيعة وفي أذنه شَنْف([8])».

وقد أخذ رحمه الله بعد ذلك يتنقل في مجالس العلماء، إلا أنه اختار شيخًا خصَّه بمزيد من الملازمة وجعله مرشدًا له وهو عبد الرحمن بن هرمز، وقد كان مالك معجبًا به ومقدرًا لعلمه فقال عنه: «جالست ابن هرمز ثلاث عشرة سنة في علم لم أبثه لأحد من الناس». وكان يتأدب بأدبه ويأخذ بحكمته([9]).

وكان الإمام مالك رحمه الله يبذل غاية جهده في طلب العلم من كل نواحيه، ويتحمل في سبيله المشاق ويبذل من أجله الغالي والنفيس، حتى كان يبيع سقف بيته ليستمر في طلبه، وكان يتحمل حدة الشيوخ، ويذهب إليهم في هجير الحر وقر البرد.

وفي ذلك يقول رحمه الله: «كنت آتي نافعًا نصف النهار وما تظلني شجرة من الشمس أتحين خروجَه، فإذا خرج أدعه ساعة كأني لم أره ثم أتعرض له فأسلم عليه وأدعه، حتى إذا دخل أقول له: كيف قال ابن عمر في كذا وكذا؟ فيجيبني، وكان فيه حدة»([10]).

ونافع هذا هو مولى عبد الله بن عمر، وناقل علمه وروايته عن النبي صلى الله عليه وسلم وعمل الصحابة، لا سيما أبوه الفاروق عمر رضي الله عنهما.

فيظهر من هذه الرواية صبر مالك رحمه الله على حرارة الشمس وحدَّة شيخه حتى يأخذ عنه علم عبد الله بن عمر، وكيف كان يتجنب الإثقال عليه حتى لا يمل من لجاجة الطلب فينتظره الأمد الطويل فإذا لقيه حيَّاه ثم سكت ثم سأل.

وكذلك كان الإمام مالك حريصًا على أن يأخذ عن ابن شهاب الزهري، فقد كان يحمل علم سعيد بن المسيب وكثير من التابعين، وكان يتحايل للقائه كما كان يتحايل للقاء نافع، فكان يذهب إلى ابن شهاب حيث يتوقع فراغه ليكون تلقيه عنه في جو هادئ لا صخب فيه.

وقد روي عن الإمام مالك أنه قال: «شهدتُ العيد فقلت هذا يوم يخلو فيه ابن شهاب، فانصرفت من المصلى حتى جلست على بابه فسمعته يقول لجاريته: انظري من على الباب. فنظرت فسمعتها تقول: مولاك الأشقر مالك. قال: أدخليه، فدخلت، فقال: ما أراك انصرفت بَعْدُ إلى منزلك؟ قلت لا. قال: هل أكلت شيئًا؟ قلت: لا، قال: فأطعم قلت: لا حاجة لي فيه، قال: فما تريد؟ قلت: تحدثني، قال: هات الألواح. فأخرجت ألواحي فحدثني بأربعين حديثًا. فقلت: زدني، قال: حسبك إن كنت رويت هذه الأحاديث فأنت من الحفاظ»([11]).

وهكذا ابتدأ الإمام بعلم الرواية، وهو علم أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، والعلم بفتاوى الصحابة وتتبعها، وبذلك أخذ الأساس الذي بنى عليه فقهه.

وقد كان يحترم أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم منذ صغره، حتى أنه كان يمتنع عن رواية الأحاديث واقفًا.

فقد جاء في «ترتيب المدارك» أنه سُئل: أسمعت من عمرو بن دينار؟ فقال: «رأيته يحدث والناس قيام يكتبون، فكرهت أن أكتب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا قائم»([12]).

ومرَّ يومًا بشيخه أبي الزناد وهو يحدِّث فلم يجلس إليه، فلقيه بعد ذلك فقال له: ما منعك أن تجلس إلي؟ فقال: كان الموضع ضيقًا فلم أرد أن آخذ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا قائم»([13]).

رابعًا: العلوم التي طلبها:

طلب الإمام العلم من أربع نواحٍ تتلاقى كلها في تكوين العالم الفقيه الذي يعلم الآثار على وجهها وفقه الرأي على وجهه، ويتصل بروح عصره، ويعرف ما يجري حوله، ويبث في الناس من أبواب العلم ما يرى من الخير أن يبثه فيهم.

ففي عصره كثر الكلام حول العقائد، فكان هناك الخوارج ولهم آراؤهم العقدية، وكان هناك الشيعة بمذاهبهم المختلفة من إمامية وزيدية وغيرهم، وكان هناك المعتزلة وآراؤهم العقدية، وغيرهم من الفرق والطوائف الخارجة عن سَنَن الإسلام.

وقد تعلم وجوه الرد على أصحاب الأهواء واختلاف الناس وتباين منازعهم الفقهية وغير الفقهية في عصره، وتلقى ذلك على ابن هرمز، الذي قال عنه الإمام الذهبي رحمه الله: «وكان بصيرًا بالكلام، يرد على أهل الأهواء، كان من أعلم الناس بذلك»([14]). وقد أخبر مالك رحمه الله أنه قد أخذ عن ابن هرمز علمًا كثيرًا لم ينشره بين الناس وإن وجد أن من الضروري أن يعرفه. فقال: «جالستُ ابن هرمز ثلاث عشرة سنة في علم لم أبثه لأحد من الناس»([15]).

وكأنه بذلك يقسم العلم قسمين: علم يُلقى على الملأ والجمهور ولا يختص به أحد؛ إذ لا ضرر فيه لأحد، وكل العقول تقوى على فهمه والانتفاع به، وهو الخاص بأحاديث الرسول وفتاوى الصحابة وبيانها للناس. وقسم لا يعرفه إلا خاصة الناس فلا يُلقى لأن ضرره على بعض النفوس أكبر من نفعه كآراء الفرق المختلفة ورد المنحرف منها؛ فإن ذلك يعسر فهمه وربما يفهمونه على غير وجهه، وربما يكون ترديده والرد عليه موجهًا النفوس المنحرفة إلى ما عليه المنحرفون؛ فيكون الضرر حيث كان يُرجى النفع، ولذلك لم يدعُ إلى كل ما علمه عن ابن هرمز وإن كان قد تلقاه.

وتلقى فتاوى الصحابة عمن أدركهم ومن لم يدركهم من التابعين وتابعي التابعين، فتلقى فتاوى عمر وابن عمر وفتاوى زيد بن ثابت وعائشة وغيرهم من الصحابة، وكان معنيًّا بتعرف فتاوى كبار التابعين فتلقى فتاوى ابن المسيب والقاسم بن محمد وغيرهما من كبار التابعين الذين لم يدركهم.

ولذلك نرى أن فقه الصحابة وكبار التابعين من المصادر الفقهية لكثير من تفريعات الفقه المالكي.

وتلقى فقه الرأي على ربيعة بن عبد الرحمن الملقَّب بربيعة الرأي، والذي يظهر أن الرأي الذي تلقاه عن ربيعة هذا لم يكن القياس وعلله ومناطاته من كل الوجوه بل كان أساسه التوفيق بين النصوص المختلفة ومصالح الناس، ولذلك جاء في المدارك ما نصه: «قال ابن وهب: سئل مالك: هل كنتم تتقايسون في مجلس ربيعة ويكثر بعضكم على بعض؟ فقال: لا والله»([16]).

ويتبين من هذا النص أن مالكًا ما كان يُكثر من الرأي الذي يكثر فيه القياس والتفريع، حتى أنه كان يكره الفقه التقديري الذي يفرض أمورًا لم تقع على أنها واقعة ويبين حكمها. وقد كان ذلك النوع من الفقه يكثر في العراق، وهو وليد كثرة الأقيسة واختيار الأوصاف التي تصلح للتعليل لكي يستقيم القياس.

وتلقى أولًا وآخرًا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يتبع الرواة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وينتقي الثقات المتفقهين منهم، وقد أوتي فراسة قوية في فهم الرجال وإدراك قوة علمهم وفقههم، ولقد أُثر عنه أنه قال: «إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذونه. لقد أدركتُ سبعين ممن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده هذه الأساطين -وأشار إلى المسجد- فما أخذتُ عنهم شيئًا، وإن أحدهم لو اؤتمن على بيت مال لكان أمينًا إلا أنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن([17])»([18]).

خامسًا: جلوسه للدرس والإفتاء:

بعد أن اكتملت دراسة الإمام مالك للآثار والفتيا، واستوثق لنفسه واطمأن إلى أنه يجب أن يُعَلِّم بعد أن تعلَّم اتخذ له مجلسًا في المسجد النبوي للدرس والإفتاء، ويظهر أنه قبل أن يجلس للدرس والإفتاء استشار أهل الصلاح والفضل، وقد روي عنه أنه قال في ذلك: «ليس كل مَنْ أَحَبَّ أن يجلس في المسجد للحديث والفتيا جلس حتى يشاور فيه أهل الصلاح والفضل وأهل الجهة من المسجد، فإن رأوه لذلك أهلًا جلس، وما جلست حتى شهد لي سبعون شيخًا من أهل العلم أني موضع لذلك»([19]).

وقد جلس الإمام للدرس والإفتاء ولم تُعرف سِنُّه على وجه اليقين، ولكن مجموع أخبار حياته يدل على أنه قد بلغ من السن حد النضج وأنه ما جلس حتى بلغ أشده.

والرواة يقولون: أنه مع شهادة السبعين عالـمًا له ما جلس إلا بعد أن اختلف مع ربيعة، وقد ذكر هذا الخلاف في رسالة الليث بن سعد، فقد جاء فيها: «وكان خلاف ربيعة لبعض ما قد مضى مما قد عرفت وحضرت وسمعت قولك فيه وقول ذوي الرأي من أهل المدينة: يحيى بن سعيد وعبيد الله بن عبد الله بن عمر وكثير بن فرقد، وغير كثير ممن هو أسن منه، حتى اضطرك إلى ما كرهت من ذلك إلى فراق مجلسه. وذاكرتك أنت وعبد العزيز بن عبد الله بعض ما نعيت به على ربيعة من ذلك، فكنتما من الموافقين فيما أنكرت، تكرهان منه ما أكرهه، ومع ذلك -بحمد الله- عند ربيعه خير كثير وعقل أصيل وفضل مستبين، وطريقة حسنة في الإسلام، ومودة صادقة لإخوانه عامة ولنا خاصة، رحمه الله وغفر له وجزاه بأحسن من عمله».

وإذا كان ربيعة قد توفي عام 136هـ فقد توفي ومالك قد بلغ الثالثة والأربعين، فإذا كان الأمر كذلك فإنه يتصور أن مخالفة مالك له وهو في سن ناضجة كاملة، وهو المعقول([20]).

وقد سبقت الإشارة إلى أن الإمام مالكًا كان مجلسه في المسجد النبوي الشريف، وهو المكان الذي كان يجلس فيه عمر بن الخطاب للشورى والحكم والقضاء، وكأن مالكًا باختياره ذلك المجلس يقتفي أثر عمر في جلوسه، كما تأثره في فتاويه وأقضيته التي رواها ابن المسيب وغيره من التابعين، ولذلك المجلس أثر آخر فهو مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يجلس فيه في المسجد.

وكذلك فعل في مسكنه فقد كان يسكن في دار عبد الله بن مسعود، فقد جاء في «ترتيب المدارك»: «كانت دار مالك بن أنس التي كان ينزل بها بالمدينة دار عبد الله بن مسعود»([21]).

وذلك لتحف به آثار الصحابة في مقامه ومبيته، كما يعيش في جوهم بفكره ورأيه.

فقد كان رحمه الله يتلقى عن التابعين فتاوى الصحابة ويتتبع أخبار فقهاء الصحابة ويتعرف أقضيتهم وأحكامهم، وكان يرى في أعمال أهل المدينة ومكاييلهم وموازينهم وأحباسهم وأخبارهم ما ينير السبيل أمام الفقيه المقتفي الآثار الذي يستنبط على ضوئها ويسير على هديها.

ولم يلازم الإمام مالك المسجد في درسه طول حياته كما فعل الإمام أبو حنيفة، فقد انتقل درسه إلى بيته عندما مرض بسلس البول، وقد اتفق الجميع على أنه مرض، وبسبب ذلك انتقل درسه من المسجد إلى بيته، بل لقد انقطع عن الخروج إلى الناس وإن لم ينقطع عن العلم والحديث والدرس والإفتاء، وقد استمر على ذلك إلى أن قبضه الله إليه.

وقد جاء في الديباج المذهب ما نصه: «قال الواقدي: كان مالك يأتي المسجد ويشهد الصلوات والجمعة والجنائز ويعود المرضى ويقضي الحقوق ويجلس في المسجد فيجتمع إليه أصحابه ثم ترك الجلوس في المسجد فكان يصلي وينصرف إلى مجلسه، وترك حضور الجنائز فكان يأتي أصحابها فيعزيهم ثم ترك ذلك كله؛ فلم يكن يشهد الصلوات في المسجد ولا الجمعة ولا يأتي أحدًا يعزيه ولا يقضي له حقًّا واحتمل الناس له ذلك حتى مات عليه، وكان ربما قيل له في ذلك فيقول: ليس كل الناس يقدر أن يتكلم بعذره»([22]).

وكان له في درسه مجلسان: أحدهما للحديث، والآخر للمسائل أي الفتيا في أحكام الأمور التي تقع، ولما انتقل درسه إلى بيته كان له أيضًا هذان المجلسان.

قال تلميذه مطرف بن عبد الله اليساري: كان مالك إذا أتاه الناس خرجت إليهم الجارية فتقول لهم: يقول لكم الشيخ تريدون الحديث أو المسائل؟ فإن قالوا المسائل خرج إليهم فأتاهم، وإن قالوا الحديث قال لهم: اجلسوا، ودخل مغتسله فاغتسل وتطيب ولبس ثيابًا جددًا ولبس ساجَهُ -والساج: الطيلسان- وتعمَّم ووضع على رأسه طويلة وتُلقى له المنصة فيخرج إليهم وقد لبس وتطيب وعليه الخشوع ويوضع عود، فلا يزال يبخر حتى يفرغ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم([23]).

وقد انتهى أمره بأن خصص أيامًا للحديث وأخرى للمسائل، والمسائل الخاصة كانت تُرفع إليه ويكتب جوابها لمن يريدها من غير أن ينزل، ويفعل ذلك مع أمير المدينة كما يفعله مع غيره([24]).

سادسًا: مؤلفاته:

ألَّف الإمام مالك رحمه الله كتبًا متعددة في فنون مختلفة، من أشهرها كتاب الموطأ الذي ملأ الدنيا وشغل الناس. وأما بقية تآليفه كما يقول القاضي عياض: «إنما رواها عنه من كتب بها إليه أو سأله إياها أو آحاد من أصحابه ولم تروها الكافة»([25]).

ومنها:

-رسالة إلى ابن وهب في الرد على القدرية.

-كتاب في النجوم وحساب مدار الزمان ومنازل القمر.

-رسالة في الأقضية، كتب بها إلى بعض القضاة.

-رسالة في الفتوى.

-كتاب في التفسير لغريب القرآن.

-كتاب يسمى كتاب السر، من رواية ابن القاسم عنه.

-رسالته إلى الليث بن سعد في إجماع أهل المدينة([26]).

وللإمام إملاءات كثيرة. قال الإمام القرافي: «أملى في مذهبه نحوًا من مائة وخمسين مجلدًا في الأحكام الشرعية، فلا يكاد يقع فرع إلا ويوجد له فيه فتيا»([27]).

سابعًا: وفاته:

اختلف المؤرخون في سنة وفاته كما اختلفوا في سنة ميلاده، إلا أن الذي رجحه أئمة المؤرخين كالقاضي عياض أن وفاته كانت في ربيع الأول سنة 179هـ في يوم الأحد([28]).

ثامنًا: شيوخه:

مما لا شك فيه أن الإمام مالكًا رحمه الله قد أخذ عن شيوخ كثيرين، لكننا سنقتصر على أبرزهم وأكثرهم تأثيرًا فيه، فمنهم:

1-نافع:

هو مولى ابن عمر، وهو أبو عبد الله الديلمي.

وهو إمام مشهور من أئمة التابعين، أخذ العلم عن مولاه عبد الله بن عمر وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري وعائشة وغيرهم.

قال فيه مالك: «كنت إذا سمعت من نافع يحدث عن ابن عمر لا أبالي ألَّا أسمعه من غيره».

وكانت وفاته رحمه الله سنة 117هـ، وقيل: سنة 120هـ، وقيل: سنة 119هـ([29]).

2-ابن شهاب الزهري:

وهو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث، القرشي الزهري، وكنيته أبو بكر.

وهو أحد أئمة التابعين وعالم الحجاز والشام، أخذ العلم عن عبد الله بن عمر بن الخطاب وسهل بن سعد وأنس وجابر وغيرهم.

وقد كان رحمه الله آية في الحفظ والفهم والضبط يقول: «ما استودعتُ قلبي شيئًا قط فنسيتُه»([30]).

وقال مالك: «بقي ابن شهاب وما له في الدنيا نظير»([31]).

وقد كانت وفاته رحمه الله سنة 125هـ، وقيل: 123هـ، وقيل: 124هـ([32]).

3-ربيعة الرأي:

هو ربيعة بن أبي عبد الرحمن فروخ التيمي، ويكنى أبا عثمان.

روى عن أنس والسائب بن يزيد وابن المسيب والقاسم بن محمد وابن أبي ليلى وغيرهم.

وقد أعجب مالك بفقهه، وكان يقول: «ذهبت حلاوة الفقه منذ مات ربيعة».

وقد اختُلف في تاريخ وفاته فقيل: توفي سنة 133هـ، وقيل: سنة 136هـ، وقيل: سنة 142هـ. وقد رجَّح ابن حجر الثاني([33]).

4-ابن المنكدر:

هو محمد بن المنكدر بن عبد الله بن الهدير التيمي القرشي، وكنيته أبو بكر، وقيل: أبو عبد الله.

أخذ عن كثير من الصحابة والتابعين كابن عباس وعائشة وابن عمر وسعيد بن المسيب.

قال عنه مالك: «كان سيد القراء»، وقال: «كلما أجد في قلبي قسوة آتي محمد بن المنكدر فأنظر إليه نظرة فأتعظ أيامًا بنفسي»([34]).

وقد اختُلف في سنة وفاته. فقيل: سنة 130هـ، وقيل: 131هـ([35]).

5-أبو الزناد:

هو عبد الله بن ذكوان المعروف بأبي الزناد الأموي مولاهم، كنيته أبو عبد الرحمن.

كان فقيهًا أمير المؤمنين في الحديث.

وقد أكثر مالك عنه، وإن كان قد رُوي عنه أنه ضعَّفه لعمله مع بني أمية، ولكن المحدثين أنكروا ذلك.

وقد اختلف في سنة وفاته. فقيل: سنة 130هـ، وقيل: سنة 131هـ، وقيل: سنة 132هـ([36]).

6-جعفر الصادق:

هو جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، المعروف بجعفر الصادق.

وقد كان رحمه الله من سادات آل البيت وعُبَّاد تابعي التابعين وعلماء المدينة.

وقد تردد عليه الإمام مالك زمانًا فأخذ عنه الحديث، وكان معجبًا بسمته وأدبه. قال مالك: «اختلفتُ إليه زمانًا فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال إما مُصَلٍّ وإما صائم وإما يقرأ القرآن، وما رأيته يُحَدِّث إلا على طهارة».

وتوفي رحمه الله تعالى سنة 148هـ([37]).

 

 

 

 

([1]) انظر: الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب لابن فرحون اليعمري، تحقيق: الدكتور محمد الأحمدي أبو النور (1/82)، دار التراث للطبع والنشر-القاهرة.

([2]) انظر: ترتيب المدارك وتقريب المسالك للقاضي عياض (1/118)، مطبعة فضالة-المغرب، الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب (1/88)، تزيين الممالك بمناقب الإمام مالك لجلال الدين السيوطي، تحقيق: هشام بن محمد حيجر الحسني (ص24)، دار الرشاد الحديثة-الدار البيضاء-المغرب.

([3]) تزيين الممالك بمناقب الإمام مالك (ص24).

([4]) مالك: حياته وعصره-آراؤه وفقهه للشيخ محمد أبو زهرة (ص24، 25)، مكتبة الأنجلو المصرية-القاهرة، الطبعة الثانية.

([5]) انظر: السابق (ص25).

([6]) انظر: تزيين الممالك بمناقب الإمام مالك (ص20).

([7]) انظر: مالك: حياته وعصره-آراؤه وفقهه (ص28، 29).

([8]) الشنف: ما يُعلَّق في أعلى الأذن للأطفال الذكور.

([9]) انظر: تاريخ المذاهب الإسلامية للشيخ محمد أبو زهرة (ص367، 368)، دار الفكر العربي-القاهرة، بدون طبعة.

([10]) الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب (1/99).

([11]) انظر: ترتيب المدارك وتقريب المسالك (1/134).

([12]) انظر: السابق (1/135).

([13]) انظر: السابق (1/136).

([14]) سير أعلام النبلاء للذهبي (6/379)، مؤسسة الرسالة.

([15]) ترتيب المدارك وتقريب المسالك (1/81).

([16]) السابق (1/136).

([17]) ترتيب المدارك وتقريب المسالك (1/136)، تزيين الممالك بمناقب الإمام مالك (ص25).

([18]) انظر: مالك: حياته وعصره-آراؤه وفقهه (ص39، 40).

([19]) ترتيب المدارك وتقريب المسالك (1/142).

([20]) تاريخ المذاهب الإسلامية (ص376، 377).

([21]) ترتيب المدارك وتقريب المسالك (1/124).

([22]) الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب (1/106، 107).

([23]) ترتيب المدارك وتقريب المسالك (2/14، 15).

([24]) انظر: تاريخ المذاهب الإسلامية (ص377، 378).

([25]) ترتيب المدارك وتقريب المسالك (2/90).

([26]) انظر: ترتيب المدارك وتقريب المسالك (2/90-94).

([27]) الذخيرة للقرافي (1/34)، دار الغرب الإسلامي-بيروت.

([28]) انظر: السابق (2/146).

([29]) انظر: تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني (10/412-414)، مطبعة دائرة المعارف النظامية-الهند.

([30]) انظر: ترتيب المدارك وتقريب المسالك (1/135).

([31]) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (1/20)، دار إحياء التراث العربي-بيروت.

([32]) انظر: تهذيب التهذيب (9/445-450).

([33]) انظر: تهذيب التهذيب (3/258، 259).

([34]) انظر: ترتيب المدارك وتقريب المسالك (2/52).

([35]) انظر: تهذيب التهذيب (9/473، 474).

([36]) انظر: تهذيب التهذيب (5/203-205)، ميزان الاعتدال في نقد الرجال للذهبي (2/418)، دار المعرفة للطباعة والنشر-بيروت.

([37]) انظر: تهذيب التهذيب (2/103-105).

اترك تعليقاً