البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الفصل الثامن: نماذج من فتاوى دور وهيئات الإفتاء بالمذهب المالكي.

المبحث الأول: نماذج من فتاوى دار الإفتاء المصرية.

109 views

تنتهج دار الإفتاء المصرية منهجًا واضحًا في الإفتاء؛ حيث تستعرض مذاهب الفقهاء في المسألة أو القضية أو النازلة محل البحث والفتوى، وتختار لها من الأحكام ما كان أقرب لدلالات النصوص الشرعية، وما تراه محققًا لمقاصد الشريعة ومصالح الناس، مع مراعاة الجهات الأربعة التي تتغير الفتوى بتغيرها، وهي الزمان والمكان والأحوال والأشخاص.

ولذلك فهي لا تلتزم مذهبًا فقهيًّا واحدًا لا تحيد عنه، بل تأخذ من مذاهب الفقهاء جميعًا، حتى وإن كان رأيًا قال به بعض السلف وأحد الأئمة أصحاب المذاهب الفقهية المندثرة، ما دام موافقًا للنصوص الشرعية، ومحققًا لمقاصد الشريعة، ومراعيًا لمصالح الناس، ما لم يكن رأيًا شاذًّا ضعيف المأخذ؛ وذلك للإفادة من التراث الفقهي الزاخر الذي خلفه الفقهاء على تنوع مشاربهم ومذاهبهم.

مع الحرص على المحافظة على الثوابت واعتبار المتغيرات، والربط بين الكليات والجزئيات، واتباع منهج التيسير وفق الضوابط الشرعية.

وتلتزم دار الإفتاء المصرية كذلك بمقررات المجامع الفقهية الإسلامية، وفي مقدمتها مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف، ومجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة التعاون الإسلامي بجدة، والمجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، وخاصة في القضايا العامة في النوازل والمستجدات.

وقد تلجأ دار الإفتاء المصرية إلى استنباط الأحكام من النصوص الشرعية مباشرة، وبخاصة فيما لم يكن موجودًا في مذاهب الفقهاء من المستجدات، وليس ضمن مقررات المجامع الفقهية([1]).

وفيما يلي نعرض لنماذج من الفتاوى التي أخذت فيها دار الإفتاء المصرية بالمذهب المالكي:

أولًا: فتاوى خاصة بالعبادات:

من الفتاوى الخاصة بالعبادات: فتوى الدار عن حكم قراءة القرآن ومس المصحف للحائض، فقد جاء في هذه الفتوى: من المقرر شرعًا أنه يحرم على الـمُحْدِث حَدَثًا أكبرَ مسُّ المصحف؛ لقول الله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79]، كما يحرم عليه تلاوة القرآن؛ لما أخرجه الإمام أحمد في “مسنده” عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يحجزه شيءٌ عن قراءة القرآن إلا الجنابة»([2]).

وأخرج الترمذي في “سننه” عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تَقْرَأُ الْحَائِضُ وَلا الْجُنُبُ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ»([3]). وهذا ما عليه جماهير الفقهاء.

وأما الحائض والنفساء؛ فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى حرمة قراءتهما القرآن، وذهب المالكية إلى أنه يجوز لأي منهما قراءة القرآن في حال استرسال الدم مُطلَقًا؛ خافت النسيان أم لا، فإذا انقطع الدم لَمْ يَجُزْ لها القراءة حتى تغتسل إلا أن تخاف النسيان.

قال العلامة الدسوقي: [(قوله: وكذا بعد انقطاعه) أي وكذا لا تمنع القراءة بعد انقطاعه (قوله: إلا أن تكون متلبسة بجنابة قبله فلا يجوز) حاصل كلامه أن المرأة إذا انقطع حيضها جاز لها القراءة إن لم تكن جنبًا قبل الحيض، فإن كانت جنبًا قبله فلا يجوز لها القراءة، وقد تبع الشارح في ذلك عبق –أي: عبد الباقي الزرقاني- وجعله المذهب، وهو ضعيف، والمعتمد ما قاله عبد الحق، وهو أن الحائض إذا انقطع حيضها لا تقرأ حتى تغتسل؛ جُنُبًا كانت أو لا، إلا أن تخاف النسيان، كما أن المعتمد أنه يجوز لها القراءة حال استرسال الدم عليها؛ كانت جُنُبًا أم لا، خافت النسيان أم لا، كما صَدَّر به ابنُ رشدٍ في “المقدمات” وصَوَّبه، واقتصر عليه في “التوضيح”، وابن فرحون وغير واحد، قال ح -أي: محمد الحطاب-: وهو الظاهر. وفيه أيضًا عن ابن عرفة، قال الباجي: قال أصحابنا: تقرأ الحائض ولو بعد طهرها قبل غسلها، وظاهره؛ كانت متلبسةً بجنابةٍ قبله أم لا([4]).

وأما مَسُّها المصحفَ، فالجمهور على حرمته كذلك، والمالكية على جوازه لِمَن تتعلم القرآن أو تُعلِّمه؛ وذلك حال التعلم أو التعليم، سواء كان كاملًا أو جزءًا منه أو اللوح الذي كتب فيه القرآن؛ قال العلامة الدردير: [(لا) يمنع الحدث مس وحمل (درهم) أو دينار فيه قرآن؛ فيجوز مسه وحمله للمحدث ولو أكبر، (و) لا (تفسير) فيجوز ولو لجنب، (و) لا (لوح لمعلم ومتعلم) حال التعليم والتعلم، وما ألحق بهما مما يضطر إليه كحمله لبيتٍ مثلًا فيجوز للمشقة، (وإن) كان كل من المعلم والمتعلم (حائضًا) لا جُنُبًا؛ لقدرته على إزالة مانعه بخلاف الحائض، (و) لا يمنع مس أو حمل (جزء)، بل ولا كامل على المعتمد (لمتعلم) وكذا معلم على المعتمد (وإن بلغ) أو حائضًا لا جُنُبًا([5]).

وقد خلصت الفتوى إلى أن الأَوْلى العملُ بما عليه جمهور الفقهاء من حرمة قراءة القرآن ومس المصحف للحائض والنفساء؛ لِمَا في ذلك من تقديسٍ للقرآن الكريم، وخروجًا من الخلاف. فمن وجدت في ذلك مشقةً وحرجًا، واحتاجت إلى قراءة القرآن أو مَسِّ المصحف للحفظ أو التعليم أو العمل في التدريس؛ يجوز لها حينئذٍ تقليد المالكية؛ إذ مِن القواعد المقررة في الشرع أنَّ «من ابتُلي بشيءٍ من المختلَف فيه فليقلِّد من أجاز»، ولا إثم عليها في ذلك ولا حرج([6]).

فقد أجازت هذه الفتوى للحائض والنفساء مس المصحف إذا كانت معلمة أو متعلمة، وجدير بالذكر أن المذهب المالكي يجيز للحائض قراءة القرآن مطلقًا، وقد صرَّح في التاج والإكليل بعلة ذلك فقال: «فأما الحائض فلها أن تقرأ لأنها لا تملك طهرها، يريد فإن طهرت ولم تغتسل بالماء فلا تقرأ حينئذ لأنها قد ملكت طهرها»([7]).

-ومن الفتاوى الخاصة بالعبادات أيضًا: فتوى الدار بخصوص طهارة الكلب، وتربية الكلاب بغرض الحراسة، فقد جاء في هذه الفتوى: جاء في السنة النبوية الشريفة ترتيب نقص الأجر على اقتناء الكلاب واتخاذها ما لم يكن ذلك لغرضٍ من أغراض الانتفاع التي أباحها الشرع؛ كالصيد والماشية والزرع؛ فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: «مَنِ اتَّخَذَ كَلبًا إلَّا كَلبَ ماشِيةٍ أو صَيدٍ أو زَرعٍ انتَقَصَ مِن أَجرِه كُلَّ يَومٍ قِيراطٌ»([8]) متفق عليه مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفِي رواية أخرى: «قِيراطانِ»([9])، وقد قاسَ الفقهاء على هذه الأغراضِ غيرَها مِن وجوه الانتفاع الصحيحة؛ كحفظ البيوت وحراسة الدُّرُوب وغيرهما مِمَّا يُمكن أن يُنتَفَع بالكلاب فيه، على اختلافٍ بينهم في توسيع ذلك؛ نظرًا للعِلَّة المفهومة مِن الحديث وهي الحاجة، أو تضييقه؛ وقوفًا عند مَورد النص.

أما بالنسبة لنجاسة المكان الذي يوجد فيه الكلب: فجمهور الفقهاء يرون نجاسة الكلب مستدلين بقوله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ»([10]) متفق عليه، ويرى الإمام مالك طهارته؛ لأن كل حيٍّ طاهرٌ عنده، وأَوَّلَ هذا الحديثَ بأنه على سبيل التعبد من غير علة، وعلى قول الإمام مالك يكون مكان الكلب طاهرًا.

وقد خلصت الفتوى إلى أنه لا مانع من اقتناء الكلاب التي يحتاجها المكلف في حياته وعمله، بشرط ألَّا يروع الآمنين أو يزعج الجيران. واقتناء الكلب المحتاج إليه لا يمنع مِن دخول الملائكة على قول كثيرٍ من أهل العلم. أما عن نجاسة الكلب ومكانه فيمكن الأخذ في ذلك بمذهب السادة المالكية في القول بطهارة الكلب، ويُنصَح بوضعه في حديقة الدار إن وجدت، وإلَّا فليجعل الإنسان لنفسه في بيته مُصلًّى لا يدخله الكلب([11]).

وهذه الفتوى مؤسَّسة على قاعدة فقهية امتاز بها المذهب المالكي، وهي قاعدة (كُلُّ حيٍّ طاهرٌ)، وقد أورد هذه القاعدة بهذا الإطلاق القرافي في الذخيرة بلفظ «الحي كله طاهر»([12]).

وبعضهم صرَّح بشمول هذا العموم والإطلاق للكلب والخنزير أيضًا؛ نظرًا لوجود خلاف معروف عند المالكية في هذه المسألة، وهو خلاف موجود عند غيرهم أيضًا، وممن صرَّح بذلك المقري في القاعدة الرابعة والعشرين حيث قال: «قاعدة الحياة علة الطهارة عند مالك؛ فالخنزير والكلب عنده طاهران»([13]).

وتنص هذه القاعدة على أن حياة الحيوان هي علة طهارته؛ فالطهارة تدور مع الحياة، ولا تتوقف على قضية حِل الأكل من عدمه. وفي المقابل فإن موت الحيوان سبب لاعتباره نجسًا لكن بشرطين: أن يكون الموت لا على سبيل الذكاة، وأن يكون الحيوان من ذوات الدماء أو ما يسمى بذي النفس السائلة.

وقد اعتبروا الذكاة قائمة مقام الحياة في أي حيوان، وإذا كان كل حي طاهر -حتى وإن كان كلبًا أو خنزيرًا- فإن التذكية تقوم مقام الحياة، بحيث يجوز الانتفاع بجلد كل حيوان بعد تذكيته، حتى وإن كان ذلك الحيوان كلبًا، أما الخنزير فهو وإن كان طاهرًا عندهم حال حياته إلا أنهم أخرجوه من هذا العموم فلم تنفع فيه التذكية عندهم لشدة نجاسته.

-ومن الفتاوى الخاصة بالصلاة: فتوى الترخيص في التقدم على الإمام بسبب ضيق المكان، فقد جاء في سؤال وُجِّه للدار، نصه: عندنا مسجد في القرية نصلي فيه الجمعة، ولكن هذا المسجد لا يتسع لمجموع المصلين؛ نظرًا لأنه يقع على الطريق العام، ولا يوجد مكان بجوار المسجد إلا من ناحية القبلة، أي أمام المسجد، وهو مكان يتوضأ المصلون فيه ويتسع لأكثر من خمسين مصلٍّ، مع العلم أن باب المسجد يقع في ناحية القبلة. فهل صلاة مَن يقف أمام الإمام في هذه الحالة صحيحة؟

فجاء في الجواب: لا يجوز تقدم المأموم على الإمام عند جماهير العلماء من الحنفية والشافعية والحنابلة، ولا تصح صلاة المأموم حينئذٍ؛ أخذًا من سنَّة النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الجماعة ومن اللغة التي يُفهَم منها أن الإمام لا بد من تقدمه على المأموم في المكان؛ قال ابن قاسم الغَزِّي الشافعي في “فتح القريب المجيب شرح متن الغاية والتقريب”: [(وأي موضع صلى في المسجد بصلاة الإمام فيه) أي المسجدِ (وهو) أي المأمومُ (عالمٌ بصلاته) أي الإمامِ بمشاهدة المأموم له أو بمشاهدته بعضَ صفٍّ (أجزأه) أي كفاه ذلك في صحة الاقتداء به (ما لم يتقدم عليه)، فإن تقدم عليه بعَقِبه في جِهَته لم تنعقد صلاتُه، ولا تَضُرُّ مساواتُه لإمامه، ويُندَب تخلفُه عن إمامه قليلًا]([14]).

بينما يرى المالكية جوازَ ذلك مع الكراهة، إلا عند الضرورة فيجوز بلا كراهة، ويرون صحةَ صلاةِ المأمومِ إذا أمكنه متابعة الإمام في الأركان؛ أخذًا مِن أنه مسكوت عنه، فهو في حكم العفو ما لم يُخِلَّ بالصلاة إذا كان وقوفه أمام الإمام مانعًا له من المتابعة؛ قال صاحب “مواهب الجليل”: [(فرع) قال في “المدخل”: تَقَدُّمُ المصلي على الإمام والجنازةِ فيه مكروهان؛ أحدهما: تقدمه على الإمام، والثاني: تقدمه على الجنازة. انتهى بالمعنى. فعلى هذا يكون التقدمُ على الجنازة مكروهًا فقط، وتصح الصلاة سواء كان المتقدم إمامًا أو مأمومًا]([15]).

وقال صاحب الفواكه الدواني: [(تنبيهان): الأول: عُلِم مما قررنا أن هذا الترتيب وكذا الوقوف خلف الإمام مستحب، وخلافه مكروه، ومحل كراهة التقدم على الإمام ومحاذاته حيث لا ضرورة]([16]).

وفي “حاشية العدوي على شرح كفاية الطالب الرباني”: وإن تَقَدَّمَ المأْمُومُ لعُذرٍ؛ كضِيقِ المَسجِدِ جازَ مِن غيرِ كَراهةٍ([17]).

والعبرة في التقدم والتأخر والمحاذاة في القائم إنما هو بالعَقِب، وفي القاعد بالألية، وفي المضطجع بالجَنب. والقاعدة الشرعية أن “مَن ابتُلِيَ بشيء من المختلف فيه فليقلد مَن أجاز”.

وعليه وفي واقعة السؤال: فعلى مَن تأخر من المصلين إلى أن امتلأ المسجد ولم يجد مكانًا داخله أن يصلي خارجه بحيث يكون خلف الإمام أو على الأقل محاذيًا له، ولا يتقدم عليه إلا عند فقد الحيلة في الصلاة خلفه أو بحِذائه، وبشرط إمكان متابعته للإمام في الأركان، وينوي تقليد المالكية في ذلك، وصلاته حينئذٍ صحيحة لا شيء فيها، وكذلك تصح صلاة مَن جاء فائتَمَّ بالمسبوق الذي هذه حالُه([18]).

فقد اختارت الفتوى رأي المالكية بأنه لا يشترط في الاقتداء عدم تقدم المأموم على الإمام، فلو تقدم المأموم على إمامه -ولو كان المتقدم جميع المأمومين- صحَّت الصلاة على المعتمد، على أنه يكره التقدم لغير ضرورة، ورأي المالكية هو الراجح لأن البطلان لا دليل عليه.

-ومن الفتاوى الواردة في الصلاة أيضًا: الفتوى الخاصة بحكم الجمع بين الصلاتين لعذر المرض، حيث ذكرت الفتوى في الجواب أن الجمع بين الصلاتين لعذر المرض جائز عند الحنابلة وبعض الشافعية([19]).

وأن المالكية أجازوا للمريض الجمع الصوري بأن يصلي الأولى في آخر وقتها والثانية في أول الوقت خروجًا من الخلاف في جواز الجمع بالمرض؛ يقول العلامة الخرشي في “شرحه على مختصر خليل”: [(وكالمبطون) ثاني أسباب الجمع أي الجمع الصوري، وليس الحكم مخصوصًا بالمبطون، بل يشاركه فيه كل من تلحقه المشقة بالوضوء أو القيام لكل صلاة، فإن كان الجمع للمريض أرفق به لشدة مرض أو بطن منخرق من غير مخافة على عقل جمع بين الظهر والعصر في وسط وقت الظهر وبين العشاءين عند غيبوبة الشفق]([20]).

وبناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فإن صاحب العذر يجوز له أن يجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء، وله أن يصلي الظهر والمغرب في آخر وقتهما، والعصر والعشاء في أول وقتهما: جمعًا صوريًّا كما ذهب إليه المالكية([21]).

والجمع الصوري الذي ذكره المالكية هو ما رجَّحه وجزم به جماعة من أهل العلم منهم إمام الحرمين وابن الماجشون والطحاوي فقد تأوَّلُوا الجمع الوارد في حديث ابن عباس السابق بأنه جمع صوري بأن يكون أخَّر الظهر إلى آخر وقتها وعجَّل العصر في أول وقتها، وذكر الحافظ ابن حجر أن مما يقوي الجمع الصوري أن طرق الحديث كلها ليس فيها تعرُّض لوقت الجمع فإما أن تُحمل على مطلقها فيستلزم إخراج الصلاة عن وقتها المحدود بغير عذر، وإما أن تحمل على صفة مخصوصة لا تستلزم الإخراج ويُجمع بها بين مفترق الأحاديث، والجمع الصوري أولى([22]).

-ومن الفتاوى المتعلقة بالزكاة: فتوى الدار بخصوص وقت إخراج زكاة عروض التجارة لمن ينتظر زيادة الربح عند البيع، فقد جاء في السؤال: أنا رجل أضارب في أسهم بعض الشركات من خلال البورصة، وربما أشتري الأسهم وأنتظر فترة طويلة حتى يرتفع سعر الأسهم ثم أبيعها، وقد يستمر الانتظار فترة طويلة بعد حلول الحول، وهو ما يجعلني مضطرًّا لتأجيل إخراج الزكاة حتى يتم بيع هذه الأسهم، فكيف أُخْرِج الزكاة في هذه الحالة؟

فقد جاء في الجواب: الصورة المسئول عنها تُعْرَف في مصطلح الفقهاء بـ”التَّربُّص”، ويُقْصَد به: شراء السلعة ثم حبسها عن البيع انتظارًا لارتفاع السوق، فتمكث البضاعة عند التاجر أعوامًا، وهو بهذا المعنى مُرَادِف للاحتكار.

وقد نَصَّ فقهاء المالكية على هذا المعنى الاصطلاحي السابق للتَّربُّص، منهم الإمام ابن عبد البر الذي يقول في “الاستذكار”: مذهب مالك وأصحابه أن التجارة تنقسم عندهم قسمين؛ أحدهما: رجل يبتاع السلع في حين رخصها ويرتاد نفاقها فيأتي عليه في ذلك العام والأعوام ولم يبع تلك السلعة وقد نوى التجارة بها. والآخر: هو الذي يسمونه المدير، وهم أصحاب الحوانيت بالأسواق الذين يبتاعون السلع ويبيعون في كل يوم ما أمكنهم بيعه بما أمكن من قليل الناض وكثيره، ويشترون من جهة ويبيعون من جهة أخرى([23]).

وعلى ذلك: فما تفيده عبارات المالكية السابقة أَنَّ المتربص في باب الزكاة تكون سلعته ليست متاحة للبيع في الحال، وأَنَّ التجارة لديه لا تتقلب بين العروض والنقد في أثناء الحول، وأنَّه ينتظر تغير السعر في السوق، ولا يهدف البيع بالسعر الحالي للسوق.

ورغم اتفاق العلماء قاطبة على وجوب زكاة عروض التجارة بشرط حولان الحول؛ بحيث تجب زكاتها مع تمام الحول؛ وذلك على أساس التقليب في أثناء الحول بين العروض والنقد، أي: بالبيع والشراء؛ إلا أنهم اختلفوا في هذا النوع من التجارة الذي لا يحصل النماء فيها إلَّا بمرور السنين، وهو ما يعرف بـ “التاجر المتربِّص”.

فيرى الجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة: أنه يجب على هذا التاجر مع مرور كل حول إخراج زكاته -أي: زكاة العروض- ما دامت السِّلَع في ملكه وقد تملَّكها بنية التجارة، ولو أقامت عنده سنين، فلم يفرق الجمهور بين التاجر المدير والمحتكر، فمتى مَلَك التاجر السلعة وكان في نيته بيعها فعليه الزكاة لكل سنة بقيمتها، وإن لم تُبَع بالفعل، وهذا قول بعض المالكية أيضًا([24]).

واستدلوا على ذلك بأن أحاديث وجوب الزكاة في العروض جاءت عامَّة بلا تخصيص للمتربص؛ ومن ذلك حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: “أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرج الصدقة ممَّا نُعدُّه للبيع”([25]). أخرجه أبو داود في “سننه”.

بينما يرى المالكية أَنَّ التاجر الـمُتربِّص لا زكاة عليه في عروضه إلَّا بعد البيع، فإذا باعها زَكَّاها لسنة واحدة، ولو مكثت عنده أكثر من سنة؛ يقول العلامة الخرشي في “شرحه على خليل”: [(ص): وبيع بعين (ش): أي ومن شروط وجوب الزكاة في هذا العرض أن يبيعه بعين، وهذا عام في المدير والمحتكر كالشروط المتقدمة، لكن المحتكر لا بد أن يبيع بعين، وهي نصاب باع به في مرة أو مرتين فأكثر، وبعد كمال النصاب يزكي ما بيع به ولو قلَّ والمدير ولو بدرهم، ولا فرق بين أن ينضّ له أول الحول، أو وسطه، أو آخره، ولا فرق بين أن يبقى ما نضَّ أو يذهب، ولا فرق بين أن تكون المعاوضة اختيارية أو اضطرارية، كما إذا استهلك شخص للمدير أو المحتكر سلعة من سلع التجارة ودفع قيمتها له، وإليه أشار بقوله: (وإن لاستهلاك) واحترز به من البيع بعرض؛ فمَن باع العرض بمثله لا زكاة عليه إلا أن يفعل ذلك فرارًا من الزكاة]([26]).

ودليلهم على ذلك حديث معاذ رضي الله عنه الذي في “الصحيحين” لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن؛ فقال: «فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ»([27]).

فالحديث دال على أنَّ الزكاة إنما تجب في عين المال لا في الذمة، وزكاة العروض لا تجب في عين العروض، وإنما في قيمتها من النقود، فلا تجب زكاتها حتى تباع وتتحول إلى نقودٍ([28]).

وقد نَقَل الإمام الباجي في “المنتقى” قول الإمام مالك: قال مالك: الأمر عندنا فيما يدار من العروض للتجارات أن الرجل إذا صدق ماله ثم اشترى به عرضًا بزًّا أو رقيقًا أو ما أشبه ذلك ثم باعه قبل أن يحول عليه الحول من يوم أخرج زكاته؛ فإنه لا يؤدي من ذلك المال زكاة حتى يحول عليه الحول من يوم صدَّقه، وأنه إن لم يبع ذلك العرض سنين لم تجب عليه في شيء من ذلك العرض زكاة وإن طال زمانه؛ فإذا باعه فليس عليه فيه إلا زكاة واحدة([29]).

يضاف إلى ذلك: أَنَّ الحول الثاني إذا وَرَد على المتربِّص وماله عروض، ثم خرج الحول عنه وهو لا يزال عروضًا، فلم يكن لهذا الحول زكاة؛ وذلك لأنه لم يكن في أوله نقدًا كما كان في أول الحول الأول، وآخر الحول أحد طرفيه، فوجب أن يكون إيجاب الزكاة فيه معتبرًا بكونه نقدًا فيه كما في أوله؛ لأن الزكاة لا تتعلق بالعروض؛ فلا تلزمه إلا زكاة واحدة عند البيع([30]).

وقد اختارت الفتوى قول المالكية، وعلَّلت ذلك بأنه أقرب إلى قواعد الشريعة؛ إذ إنَّ الزكاة تجب في عين المال لا في الذمة؛ فلا تجب الزكاة في عروض التجارة حتى تتحوَّل إلى نقودٍ؛ لأنها –أي زكاة عروض التجارة- لا تجب في عينها، وإنما في قيمتها، كما أنَّ القاعدة في الزكاة أنها لا تكون سببَ نقصِ رأس مال الغني، فلو أوجبنا الزكاة على صاحب العروض –وهو لا يُديره- ربَّما أدَّى إلى إنقاص رأس ماله، فقد لا يُكافئ مقدار ربحه ما يُوجَب عليه من الزكاة كل حول، يضاف لذلك أنَّ جمهور الفقهاء جعلوا مناط الزكاة في العروض نية البيع عند الشراء، بينما فقهاء المالكية جعلوا مناط الزكاة فيها –أي: العروض- نية تقليب المال؛ وهذا هو مُدْرَك التسمية في التاجر المدير والتاجر المتربِّص؛ فقد سموا التاجر الذي يُقَلِّب المال مديرًا، والذي ينوي البيع فقط سموه متربَّصًا.

كما أَنَّ الحديث الذي استدل به الجمهور على قولهم ضعيف؛ لأنه من رواية جعفر بن سعد عن خبيب بن سليمان؛ وكلاهما مجهولان؛ فقد قال ابن حجر عن هذا الحديث: في إسناده جهالة([31]).

يضاف لذلك أيضًا -وهو مما يؤيِّد مذهب المالكية- التفرقة بين البيع والتجارة؛ فجمهور فقهاء المذاهب الأربعة على أَنَّ التاجر إذا كان عنده سلعة للاقتناء فنوى بيعها فلا تنقلب عروض تجارة بهذه النية، فإذا بيعت ثم اشترى بثمنها عروض تجارة فهي عروض تجارة، أي لا تكون عروضًا إلَّا بالتقليب بالبيع.

وبناءً على ما سبق فقد خلصت الفتوى إلى أنه لا يجب على السائل زكاة هذه الأسهم التي اشتراها إلَّا بعد بيعها ولو مَكَثت أكثر من حولٍ، فلو بيعت فيكون إخراج الزكاة في هذه الحالة لسنة واحدة فقط على ما هو الراجح من مذهب المالكية([32]).

وبهذا نرى أن الفتوى اختارت مذهب المالكية باعتباره الأقرب إلى قواعد الشريعة والأوفق بمقاصد الشرع المتعلقة بالمال.

ومن مقتضى هذا الرأي أن يطبق أيضًا على عروض التجارة إذا كسدت أو بارت. وقد حدَّد سحنون البوار والكساد بعامين، وذهب ابن الماجشون إلى أن المعتمد في تحديده هو العادة والعرف([33])، وهو القول المتجه الذي تدل عليه أدلة الشرع.

-ومن فتاوى الزكاة أيضًا: زكاة المال المستحق لمالك العقار لدى المستأجر، فقد جاء في السؤال:

هل تستحق الزكاة على الذمم الدائنة؛ حيث إن شخصًا يمتلك عقارًا مؤجرًا، والمستأجر لا يدفع منذ ما يقارب الثلاث سنوات، والمستأجر مقر بالمبلغ، وسيسدد حسب توفر السيولة لديه، فما الحكم في ذلك؟

فقد فصَّلت الفتوى في بيان مذهب المالكية في هذا الصدد فجاء في الجواب: نفيد بأن للدَّين حالتين:

الحالة الأولى: أن يكون الدين مرجوَّ الأداء؛ أي أنه ثابت على شخص مليء مقر به يمكن الحصول عليه. واختلف الفقهاء في هذه الحالة على ثلاثة أقوال:

القول الأول: أن الدين لا يزكى إلا زكاة واحدة وإن مرت عليه سنون، وذلك بعد قبضه، وهذا هو مذهب المالكية([34]).

القول الثاني: أن الدين المرجو الأداء يزكى لما مضى من السنين، إلا أنه لا يلزمه إخراجها حتى يقبض، فيؤدى لما مضى، وبه قال الأحناف والحنابلة([35]).

القول الثالث: أن الدائن يؤدي الزكاة في دينه هذا لكل عام في وقته، وهذا هو مذهب الشافعية([36]).

الحالة الثانية: أن يكون الدين غير مرجو الأداء، وفيه ثلاثة أقوال أيضًا:

القول الأول: أن الدائن يزكيه إذا قبضه لما مضى من السنين، وهو مذهب الإمام الشافعي الجديد([37]).

القول الثاني: أن الدين يزكى إذا قبض لعام واحد، وهو قول الإمام مالك([38]).

القول الثالث: أن الدين لا يزكى، وهذا القول للأحناف وأحد قولي الإمام الشافعي في القديم([39]).

والمختار للفتوى عندنا في زكاة الديون هو رأى المالكية، ولكن المالكية عندهم تفصيل؛ فهم يجعلون الديون أربعة أقسام: دَين مِن غصب، ودَين مِن قرض، ودَين مِن تجارة، ودَين مِن فائدة (أي: من مال مستفاد)، وما ذكرناه في الدين مرجو الأداء وغير مرجو الأداء، وأن الزكاة فيهما تكون لعام واحد إنما هو في الأقسام الثلاثة الأولى.

قال العلامة الحطاب الرعيني في “مواهب الجليل”: [قال في “المقدمات” -أي: ابن رشد الجد-: الدين على أربعة أقسام: دين من فائدة، ودين من غصب، ودين من قرض، ودين من تجارة. انتهى. فهذه الثلاثة الأخيرة الحكم فيها سواء على المشهور؛ تجب الزكاة فيها لسنة واحدة على حول أصل المال]([40]).

وأما القسم الأخير وهو الدَّين من فائدة: فإنهم يقولون: إنه لو كان من إجارة، ثم قبضه المؤجر بعد استيفاء المستأجر المنفعة، فإنه لا زكاة فيه حتى يقبض، ويحول عليه الحول بعد القبض.

قال الشيخ المواق في “التاج والإكليل”: [ابن شاس: كل دين ثبت في ذمة ولم يخرج إليها من يدِ مَن هو له ولا بدلٌ عنه فلا زكاة فيه على الإطلاق حتى يحول عليه الحول بعد قبضه، وإن خرج هو أو بدل عنه ليس بعَرْض قِنْيةٍ عن يدِ المالك إلى ذمته فلا يزكيه ما دام في تلك المدة حتى يقبضه بعد عامٍ أو أعوامٍ ما لم يكن مُدِيرًا]([41]).

وقد استوفى الإمام أبو الوليد بن رشد الكلام على هذا القسم؛ فقال في “المقدمات الممهدات”: [الديون في الزكاة تنقسم على أربعة أقسام: دين من فائدة، ودين من غصب، ودين من قرض، ودين من تجارة.

فأما الدين من الفائدة فإنه ينقسم على أربعة أقسام:

أحدها: أن يكون من ميراث أو عطية أو أرش جناية أو مهر امرأة أو ثمن خلع وما أشبه ذلك، فهذا لا زكاة فيه حالًّا كان أو مؤجلًا حتى يقبض ويحول الحول عليه من بعد القبض ولا دين على صاحبه يسقط عنه الزكاة فيه.

وإن ترك قبضه فرارًا من الزكاة لم يوجب ذلك عليه فيه الزكاة.

والثاني: أن يكون من ثمن عرض أفاده بوجه من وجوه الفوائد، فهذا لا زكاة فيه حتى يقبض ويحول الحول عليه بعد القبض، وسواء كان باعه بالنقد أو بالتأخير.

وقال ابن الماجشون والمغيرة: إن كان باعه بثمن إلى أجل فقبضه بعد حول زكَّاه ساعةَ يقبضه، فإن ترك قبضه فرارًا من الزكاة: تخرج ذلك على قولين؛ أحدهما: أنه يزكيه لما مضى من الأعوام. والثاني: أنه يبقى على حكمه، فلا يزكيه حتى يحول عليه الحول من بعد قبضه، أو حتى يقبضه إن كان باعه بثمن إلى أجل، على الاختلاف الذي ذكرناه في ذلك.

والثالث: أن يكون من ثمن عرض اشتراه بناضٍّ عنده للقُنية، فهذا إن كان باعه بالنقد لم تجب عليه فيه زكاة حتى يقبضه ويحول عليه الحول بعد القبض. وإن كان باعه بتأخير فقبضه بعد حول زكَّاه ساعةَ يقبضه. وإن ترك قبضه فرارًا من الزكاة زكاه لما مضى من الأعوام، ولا خلاف في وجه من وجوه هذا القسم.

والرابع: أن يكون الدين من كراء أو إجارة، فهذا إن كان قبضه بعد استيفاء السكنى والخدمة كان الحكم فيه على ما تقدم في القسم الثاني]([42]).

وعليه وفي واقعة السؤال: فإن مالك العقار المؤجر المسئول عنه إذا كانت المبالغ المستحقة له قِبَل المستأجر قد بلغت النصاب بنفسها أو بضمها لغيرها فإنه لا تجب الزكاة فيها إلا بعد استيفائها وقبضها وحولان الحول عليها بعد القبض([43]).

وما اختارته الفتوى على مذهب الإمام مالك هو الراجح لما يلي:

أولًا: أن من شرط وجوب الزكاة: القدرة على الأداء، فمتى قدر على الأداء زكَّى.

ثانيًا: أنه قد يكون مضى على المال أشهر من السنة قبل أن يخرجه دينًا.

ثالثًا: أن إسقاط الزكاة عنه لما مضى، ووجوب إخراجها لسنة القبض فقط فيه تيسير على المالك؛ إذ كيف توجب عليه الزكاة مع وجوب إنظار المعسر، وفيه أيضا تيسير على المعسر؛ وذلك بإنظاره.

ومثل ذلك، المال المدفون المنسي، فلو أن شخصا دفن ماله خوفا من السرقة ثم نسيه، فيزكيه سنة عثوره عليه فقط.

وكذلك المال المسروق إذا بقي عند السارق عدة سنوات، ثم قدر عليه صاحبه، فيزكيه لسنة واحدة، كالدين على المعسر([44]).

-ومن الفتاوى المتعلقة بالصيام: فتوى الدار بجواز استخدام الحقنة الشرجية في الصيام، فقد جاء في هذه الفتوى: الحُقَنُ الشرجية -وهي التي تُعرَف بالحُقنة والاحتقان عند الفقهاء- مذهب جمهور العلماء أنها مُفسِدَةٌ للصوم إذا استُعمِلَت مع العَمْدِ والِاختِيَارِ؛ لأنَّ فيها إيصالًا للمائع المَحقُونِ بها إلى الجوف مِن منفذٍ مفتوحٍ، وذهب العلَّامة اللخمي مِن المالكية إلى أنها مُبَاحَةٌ لا تُفَطِّر، وهو وَجْهٌ عند الشافعية قاله القاضي حسين، وفي قولٍ آخر عند المالكية أنها مكروهة.

قال العلَّامة الحطاب في “مواهب الجليل”: وسُئل مالكٌ في “مختصر ابن عبد الحكم” عن الحقنة، فقال: لا بأس بها. قال الأبهَرِيُّ: إنما قال ذلك لأنها ضَرْبٌ مِن الدواء وفيها مَنْفَعَةٌ للناس، وقد أباح النبيُّ عليه السلام التداوي وأَذِنَ فيه([45]).

وقال الحافظ ابن عبد البر في “الكافي في فقه أهل المدينة”: وقد قِيلَ: القضاء في الحقنة استحبابٌ لا إيجابٌ، وهو عندنا الصواب؛ لأنَّ الفِطْرَ مِمَّا دَخَلَ مِن الفَمِ ووَصَلَ إلى الحَلْقِ والجَوف([46]).

وبِناءً على ذلك: فيُمكِنُ تَقلِيدُ هذا القول عند المالكية لِمَن ابتُلِيَ بالحقنة الشرجية في الصوم ولم يكن له مجالٌ في تأخير ذلك إلى ما بعد الإفطار، ويكون صيامُهُ حينئذٍ صحيحًا، ولا يجب القضاء عليه، وإن كان مستَحَبًّا خروجًا مِن خلاف جمهور العلماء([47]).

فأجازت هذه الفتوى الأخذ بمذهب بعض المالكية بأن الحقنة الشرجية لا تُفطر، وهو ما اختاره الشيخ ابن تيمية؛ باعتبار أنها لا تغذي بأي وجه من الوجوه بل تستفرغ ما في البدن، كما لو شمَّ شيئًا من المسهلات، ولأن هذا المائع لا يصل إلى المعدة([48]).

-ومن الفتاوى الخاصة بالحج: فتوى الجمع بين طوافي الإفاضة والوداع في طواف واحد بِنِيَّتَيْنِ،

من باب التسهيل على الحجاج واختيار الأيسر لهم حتى لا يتعرضوا لحوادث الزحام، فقد جاء في هذه الفتوى: وأما الجمع بين طوافي الإفاضة والوداع في طواف واحد بِنِيَّتَيْن: فالجمهور على أن طواف الوداع واجب، وقال المالكية وداود وابن المنذر وهو قولٌ للشافعي وقول للإمام أحمد رضي الله عنهما: إنه سنة؛ لأنه خُفِّفَ عن الحائض.

وقد أجاز المالكية والحنابلة الجمعَ بين طوافي الإفاضة والوداع في طواف واحد؛ بناءً على أن المقصود هو أن يكون آخرُ عهدِ الحاج هو الطوافَ بالبيت الحرام، وهذا حاصل بطواف الإفاضة، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “أُمِرَ الناسُ أن يكون آخرُ عهدهم بالبيت، إلا أنه خُفِّفَ عن الحائض”([49]) متفق عليه.

قال الإمام مالك -كما في “المدونة الكبرى”-: بلغني أن بعض أصحاب النبي عليه السلام كانوا يأتون مراهقين -أي ضاق بهم وقت الوقوف بعرفة عن إدراك الطواف قبله- فينفذون لحجهم ولا يطوفون ولا يسعون، ثم يقدمون منًى ولا يفيضون من منًى إلى آخر أيام التشريق، فيأتون فينيخون بإبلهم عند باب المسجد ويدخلون فيطوفون بالبيت ويسعون ثم ينصرفون، فيجزئهم طوافهم ذلك لدخولهم مكة ولإفاضتهم ولوداعهم البيت([50]).

وقال أبو البركات الدردير المالكي في “الشرح الكبير”: [(وتَأَدَّى) الوداعُ (بالإفاضة و) بطواف (العمرة) أي سقط طلبه بهما ويحصل له ثواب طواف الوداع إن نواه بهما]([51]).

وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في “المغني”: فيه روايتان؛ إحداهما: يجزئه عن طواف الوداع؛ لأنه أُمِرَ أن يكون آخر عهدِه بالبيت, وقد فعل، ولأن ما شُرِعَ لتحية المسجد أجزأ عنه الواجب من جنسه، كتحية المسجد بركعتين تجزئ عنهما المكتوبة([52]).

وحينئذٍ فلا مانع شرعًا من الأخذ بقول المالكية ومن وافقهم في استحباب طواف الوداع وعدم وجوبه، وكذلك القول بإجزاء طواف الإفاضة عن الوداع عندهم وعند الحنابلة، حتى ولو سعى الحاج بعده؛ لأن السعي لا يقطع التوديع.

قال العلامة الدسوقي المالكي في حاشيته على “الشرح الكبير” للإمام أبي البركات الدردير: [ولا يكون سعيه لها طولًا حيث لم يُقِمْ عندها إقامةً تقطع حكم التوديع([53]).

واستُدِلَّ لذلك بحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في الصحيحين وغيرهما قالت: خرجنا مُهِلِّينَ بالحج في أشهر الحج… حتى نفرنا مِن مِنًى ونزلنا المحصب، فدعا النبيُّ صلى الله عليه وسلم عبدَ الرحمن أخي فقال: «اخْرُجْ بِأُخْتِكَ الْحَرَمَ فَلْتُهِلَّ بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ افْرُغَا مِنْ طَوَافِكُمَا أَنْتَظِرْكُمَا هَا هُنَا»([54])، زاد مسلم في روايته: قالت: فخرجنا فأهلَلْتُ، ثم طُفْتُ بالبيت وبالصفا والمروة، فجئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «فَرَغْتُمَا؟» قلت: نعم، فنادى بالرحيل في أصحابه، فارتحل الناس([55]).

قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في “فتح الباري”: ويستفاد من قصة عائشة أن السعي إذا وقع بعد طواف الركن -إن قلنا إن طواف الركن يغني عن طواف الوداع- أن تخلُّل السعي بين الطواف والخروج لا يقطع إجزاء الطواف المذكور عن الركن والوداع معًا([56]).

وبناءً على ذلك: فإن تأخير طواف الإفاضة إلى آخر مكث الحاج بمكة ليُغنِيَ عن طواف الوداع جائزٌ شرعًا، ولا يضر ذلك أداءُ السعي بعده([57]).

فقد أخذت هذه الفتوى بمذهب المالكية، والذي يوافق مذهب الحنابلة أيضًا.

-ومن الفتاوى الواردة في الحج أيضًا: فتوى حج المرأة بدون محرم، فقد جاء في الجواب: يجوز للمرأة أن تسافر من غير محرم بشرط اطمئنانها على الأمان في سفرها وإقامتها وعودتها، وعدم تعرضها لمضايقات في شخصها أو دينها؛ فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه قال له: «فَإِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ -أي المسافرة- تَرْتَحِلُ مِنَ الحِيرَةِ، حَتَّى تَطُوفَ بِالكَعْبَةِ لَا تَخَافُ أَحَدًا إِلَّا اللهَ»([58]).

فمن هذا الحديث برواياته أخذ بعض المجتهدين جواز سفر المرأة وحدها إذا كانت آمنة، وخصصوا بهذا الحديث الأحاديث الأخرى التي تحرم سفر المرأة وحدها بغير محرم.

ولذلك نرى المالكية والشافعية يجيزون للمرأة السفر بدون محرم إذا كانت مع نساء ثقات أو رفقة مأمونة وكان ذلك في حج الفريضة، وقد استدلوا على ذلك بخروج أمهات المؤمنين رضي الله عنهن بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم للحج في عهد عمر رضي الله عنه وقد أرسل معهن عثمان بن عفان ليحافظ عليهن رضي الله عنه.

بل نرى العلامة الحطاب المالكي في كتابه “مواهب الجليل شرح مختصر خليل” يقول: قيَّد ذلك الباجي بالعدد القليل، ونصه: هذا عندي في الانفراد والعدد اليسير، فأما في القوافل العظيمة فهي عندي كالبلاد، يصح فيها سفرها دون نساء وذوي محارم انتهى، ونقله عنه في الإكمال وقبله ولم يذكر خلافه، وذكر الزناتي في “شرح الرسالة” على أنه المذهب، فيقيد به كلام المصنف وغيره. ونص كلام الزناتي: إذا كانت في رفقة مأمونة ذات عدد وعدد أو جيش مأمون من الغلبة والمحلة العظيمة فلا خلاف في جواز سفرها من غير ذي محرم في جميع الأسفار: الواجب منها والمندوب والمباح، من قول مالك وغيره إذ لا فرق بين ما تقدم ذكره وبين البلد. هكذا ذكره القابسي([59]).

وبناءً على ذلك: فقد قررت الفتوى أن سفر السائلة للحج من غير محرم أمرٌ جائزٌ شرعًا ما دام الأمن متحققًا في سفرها ومكان وصولها([60]).

وهذه الفتوى موافقة لظروف العصر فإن السفر في العصر الحاضر لم يعد كما كان في الأزمنة الماضية بما يشتمل عليه من المخاطر من اجتياز الصحراء والتعرض للصوص وقطاع الطرق وغير ذلك.

ثانيًا: فتاوى خاصة بالمعاملات:

من فتاوى دار الإفتاء المصرية على المذهب المالكي في المعاملات فتوى بخصوص وقف الودائع وتسبيل عوائدها، فقد جاء في السؤال بيان الحكم الشرعي في وقف مبلغ من المال وديعةً، على أن يتمَّ الإنفاق من ريعه على وجوه البر. فقد جاء في الجواب: يجيز المالكية في كتبهم وقف الدراهم والدنانير؛ فيقول العلامة الخرشي في “شرح مختصر خليل”: إن المذهب جواز وقف ما لا يعرف بعينه كالطعام والدنانير والدراهم كما يفيده كلام الشامل؛ فإنه بعدما حكى القول بالجواز حكى القول بالكراهة بـ”قيل”، والقول بالمنع أضعف الأقوال، ويدل للصحة قول المؤلف في (باب الزكاة): “وَزُكِّيَتْ عين وُقِفَتْ للسلف([61]).

وقال الشيخ علي بن أحمد الصعيدي العدوي في “حاشيته على هذا الشرح”: الدنانير والدراهم يجوز وقفهما للسلف قطعًا.

وأمثال هذا النقل موجود في “التاج والإكليل لمختصر خليل”، وفي “حاشية الدسوقي على الشرح الكبير”، وفي غيرهما.

ومن المعلوم أن غرض الشرع الشريف في الوقف هو عدم التصرف في محلّ الوقف- أي العين الموقوفة- وديمومة الانتفاع به لأطول مدة ممكنة، ولمَّـا وجد المالكية نفعًا من الدراهم والدنانير لا يذهب عينهما إلا في الصورة فقط، أجازوا الوقف فيهما في السلف؛ لأنهما بالسلف يبقيان حكمًا وإن ذهبت أعينهما.

نقل الشيخ الصعيدي العدوي في “حاشيته على الخرشي” عن اللقاني قال: الوقف ما ينتفع به مع بقاء عينه حقيقة أو حكمًا؛ كالدراهم والدنانير([62]).

وقال العلامة الدسوقي في “حاشيته على الشرح الكبير”: ويُنَزَّلُ رَدُّ بدله منزلة بقاء عينه([63]).

وإذا نظر الفقيه الآن في مسألة حبس المال وتسبيل عوائده يرى تحقق العلَّة التي من أجلها أباح المالكية حبس الدراهم والدنانير مع الكراهة، وهم إنما كرهوا ذلك- والمكروه جائز بالمعنى الأعم- لاحتمال ضياعها، غير أنَّا نجد باستقراء الأحوال المصرفية المستقرة المقننة المعمول بها والمتداولة حاليًا أن مثل هذه الودائع تبقى مدة قد تصل إلى خمسين عامًا أو يزيد، فتحقق لها بذلك البقاء النسبي المطلوب للشرع الشريف من عقد الوقف، وهو ما يجعلنا نقول بجواز حبس الودائع المالية ووقفها وتسبيل عوائدها الذي هو محلُّ سؤال السائل واستفتائه»([64]).

وما اختارته الفتوى من جواز وقف الدراهم والدنانير هو ما اختاره الشيخ ابن تيمية([65])، ونص عليه قرار مجمع الفقه الإسلامي رقم 140 (6/15)، فقد نصَّ على ما يأتي:

1-وقف النقود جائز شرعًا؛ لأن المقصد الشرعي من الوقف -وهو حبس الأصل وتسبيل المنفعة- متحقق فيها؛ ولأن النقود لا تتعين بالتعيين وإنما تقوم أبدالها مقامها.

2-يجوز وقف النقود للقرض الحسن، وللاستثمار إما بطريق مباشر، أو بمشاركة عدد من الواقفين في صندوق واحد، أو عن طريق إصدار أسهم نقدية وقفية تشجيعًا على الوقف، وتحقيقًا للمشاركة الجماعية فيه.

3-استثمر المال النقدي الموقوف في أعيان كأن يشتري الناظر به عقارًا أو يستصنع به مصنوعًا، فإن تلك الأصول والأعيان لا تكون وقفًا بعينها مكان النقد، بل يجوز بيعها لاستمرار الاستثمار، ويكون الوقف هو أصل المبلغ النقدي.

ثالثًا: فتاوى خاصة بالأحوال الشخصية:

-من فتاوى الدار الخاصة بالأحوال الشخصية: فتوى خروج المعتدة لصلاة التراويح والتهجد. فقد جاء في هذه الفتوى: الأصل أن المعتدة من وفاة لا تخرج من بيت الزوجية إلا لحاجة، وصلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد؛ فعن عبد الله بن سويد الأنصاري رضي الله عنه عن عمته أم حميد رضي الله عنها امرأة أبي حميد الساعدي رضي الله عنه: أنها جاءت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله إني أحب الصلاة معك، قال: «قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكِ تُحِبِّينَ الصَّلَاةَ مَعِي، وَصَلَاتُكِ فِي بَيْتِكِ خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِكِ فِي حُجْرَتِكِ، وَصَلَاتُكِ فِي حُجْرَتِكِ خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِكِ فِي دَارِكِ، وَصَلَاتُكِ فِي دَارِكِ خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِكِ فِي مَسْجِدِ قَوْمِكِ، وَصَلَاتُكِ فِي مَسْجِدِ قَوْمِكِ خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِكِ فِي مَسْجِدِي» قال: فأمرت فبُنِيَ لها مسجدٌ في أقصى شيءٍ من بيتها وأظلمه، وكانت تصلي فيه حتى لقيت الله جل وعلا([66]).

وظاهر كلام المالكية جواز الخروج للمعتدة إلى المسجد؛ قال العلَّامة الحطاب في “مواهب الجليل”: ولا يُمنعن من الخروج والمشي في حوائجهن ولو كنَّ معتدات، وإلى المسجد([67]).

وفي “التاج والإكليل”: [(والخروج في حوائجها طرفي النهار) من “المدونة”: لها التصرف نهارًا والخروج سَحرًا قرب الفجر وترجع ما بينهما وبين العشاء الأخيرة. اللخمي: قول مالك: لا بأس بخروجها قبل الفجر. وقال أبو عمر: تخرج إلى المسجد. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمعتدات المتجاورات: «تَحَدَّثْنَ عِنْدَ إِحْدَاكُنَّ مَا بَدَا لَكُنَّ، حَتَّى إِذَا أَرَدْتُنَّ النَّوْمَ فَلْتَأْتِ كُلُّ امْرَأَةٍ إِلَى بَيْتِهَا»([68]). ابن المواز: يعني والله أعلم أن يقمن إلى وقت نيام الناس]([69]).

فعلى ما سبق: فالأصل أن مكوث المرأة في بيتها وصلاتها في بيتها خير لها من الخروج إلى المسجد، أما على ما ذهب إليه المالكية فيجوز لها الخروج إلى المسجد وصلاة التراويح والتهجد فيه([70]).

فقد أخذت الفتوى بمذهب المالكية في خروج المعتدة إلى المسجد، وعلاوة على ذلك فإن بعض فقهاء المالكية أجازوا لها الخروج من بيتها في النهار ولو لغير حاجة؛ جاء في كتاب “منح الجليل”: وللمعتدة من طلاق أو وفاة الخروج من مسكنها في قضاء حوائجها طرفي النهار… ويجوز خروجها نهارًا ولو لغير حاجة… ولا تبيت إلا ببيتها([71]).

وقد استدلوا على ذلك بحديث جابر رضي الله عنه أنه قال: طُلِّقت خالتي، فأرادت أن تَجُدَّ نخلها، فزجرها رجل أن تخرج، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «بلى فَجُدِّي نخلك، فإنك عسى أن تصدقي، أو تفعلي معروفًا»([72])، وبقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «لا تبيت المتوفى عنها زوجها ولا المبتوتة إلا في بيتها»([73])، وقول الصحابي فيما لا يُدرك بالرأي والاجتهاد حجة ينبغي الأخذ بها؛ لأنه محمول على السماع من النبي صلى الله عليه وسلم، فهو من قبيل المرفوع عند العلماء كافة.

-ومن فتاوى الدار الواردة في الأحوال الشخصية أيضًا: الفتوى الخاصة بحكم طلب الشبكة بعد فسخ الخطبة، وهي فتوى قديمة تعود إلى سنة 1960م، فقد جاء في السؤال: أن رجلًا ثريًّا يبلغ من العمر 54 سنة خطب فتاة فامتنعت لفارق السن، ولما توفيت زوجته عاد فخطبها ثانية، ولورعه وتقواه قبلت الخطبة والزواج منه، فقدم لها شبكة قيمتها ثلاثون جنيها، وتردد على زيارتها ثلاث مرات في مدة 15 يومًا بعد الخطبة، وفجأة فسخ الخطبة بعد 19 يومًا متعللًا بأن أولاده منعوه من إتمام الزواج وطالبها برد الشبكة. وطلب السائل بيان الحكم الشرعي في هذا الطلب.

فجاء في الفتوى: إن المنصوص عليه شرعًا في مذهب الحنفية المعمول به أنه لا رجوع فيما بعث به أحد الزوجين للآخر أثناء قيام الزوجية بينهما – أما إذا كان الإرسال قبل إتمام الزواج بينهما كما في الحادثة موضوع السؤال فإن له الرجوع فيما أرسله إليها متى كان قائمًا، أما إذا كان هالكًا أو مستهلكًا فإنه لا يرجع بشيء منه لأنه في معنى الهبة، وهلاك الموهوب أو استهلاكه مانع من الرجوع فيه، هذا هو مذهب الحنفية المعمول به.

أما على المفتى به من مذهب المالكية فإنه لا يخلو إما أن يكون الرجوع عن إتمام الزواج من قبل الزوج أو من قبلها، فإن كان العدول من قبله لا يرجع بشيء من الهدايا باقية كانت أو هالكة، وإن كان العدول من المخطوبة يرجع بكل الهدايا سواء كانت باقية أم هالكة، وإذا كانت هالكة يرجع ببدلها، إلا إذا كان هناك عرف أو شرط بخلاف ذلك فإنه يعمل به.

وهذا التفصيل حسن ونرى الأخذ والإفتاء به وقد جرت فتوانا عليه([74]).

وما أخذت به هذه الفتوى من مذهب المالكية هو أحد القولين عند المالكية، فهناك قول بعدم جواز الرجوع، وقول بالتفصيل. جاء في الشرح الصغير للشيخ الدردير: (وكذا لو أهدى أو أنفق لمخطوبة غير معتدة، ثم رجعت عنه -ليس له الرجوع- ولو كان الرجوع من جهتها إلا لعرف أو شرط. وقيل: إن كان الرجوع من جهتها فله الرجوع عليها، لأنه في نظير شيء لم يتم). وقال الشيخ الصاوي في حاشيته: واستظهر هذا التفصيل الشمس اللقاني([75]).

-ومن فتاوى الأحوال الشخصية أيضًا: فتوى حكم علاج الزوجة والأولاد من أجرة طبيب وثمن أدوية وأجرة القابلة وعلى من تجب على الزوج أو الزوجة؟.

فقد جاء في الجواب: أن في مذهب الحنفية أن مصاريف علاج الزوجة لا تجب على الزوج فقد جاء في رد المحتار (كما لا يلزمه مداواتها أي إتيانه لها بدواء المرض ولا أجرة الطبيب ولا الحجامة هندية عن السراج)([76]).

وهذا هو المعروف في مذاهب الأئمة الثلاثة أيضًا إلا أن صاحب منح الجليل نقل عن ابن عبد الحكم من فقهاء المالكية أن على الزوج أجرة الطبيب والمداواة([77])، وهو رأي وجيه نرى الأخذ والإفتاء به فنوجب على الزوج مصاريف علاج زوجته من ماله الخاص ولو غنية.

وأما عن مصاريف علاج الأولاد فقد قررت الفتوى أن الذي يظهر من قواعد الحنيفية السمحة أنه يدخل في النفقة الواجبة على الأب الموسر لطفله الصغير الفقير جميع ما يحتاج إليه من وجبت له النفقة من طعام وكسوة وأجرة خادم وأجرة طبيب وثمن دواء وغير ذلك؛ إذ قد تكون حاجة الإنسان المريض إلى أجرة الطبيب وثمن الدواء أشد من حاجته إلى خادم([78]).

فقد ذكرت هذه الفتوى أن جمهور الفقهاء لا يعتبر ما تحتاج إليه الزوجة من مصاريف العلاج من قبيل النفقة التي تجب للزوجة على زوجها، وحجة الجمهور أن مصاريف العلاج تُراد لإصلاح الأصل -أي الجسد- فلا تجب على مستحق المنفعة؛ قياسًا على عدم إلزام المستأجر لإصلاح العين المؤجرة، كبناء المتهدم أو إصلاح المنكسر وما يلزم لحفظ أصولها([79]).

وقد اختارت الفتوى قول ابن عبد الحكم من المالكية وهو إلزام الزوج بثمن الدواء وأجرة الطبيب، باعتبار مصاريف العلاج وأجرة الطبيب من الحاجيات الضرورية للزوجة، بل إن حاجتها إلى الدواء قد تكون أشد من حاجتها للطعام والشراب فتجب لها نفقة العلاج من باب أولى.

والحق أن قول الجمهور بعدم إلزام الزوج بثمن الدواء وأجرة الطبيب أمر يتلاءم مع ما كان من حال الناس في العصور الأولى حيث قلة الأمراض ويسر نفقة العلاج؛ إذ في الغالب ما كانت تعتمد على وصفات طبية بتناول أعشاب أو اجتناب طعام أو شراب معين مما اقتضى القول بعد وجوبها على الزوج، أما في عصرنا الحاضر حيث انتشرت الأمراض والأوبئة المزمنة، فضلًا عن ارتفاع أجرة الأطباء وثمن الأدوية على نحو يجعل مصاريف العلاج باهظة ومرهقة فإن الفتوى ينبغي أن تتغير بتغير الزمن فالأولى القول بإلزام الزوج مصاريف علاج الزوجة كأجرة الطبيب وثمن العلاج، علاوة على أن مبادئ الشريعة تقضي بمعاشرة الزوجة بالمعروف والإحسان والمودة وعدم نسيان الفضل بين الزوجين، مما يقضي بوجوب نفقة الدواء وأجرة الطبيب على الزوج ضمن نفقة الزوجية.

([1]) راجع: المعلمة المصرية للعلوم الإفتائية (2/ 137- 142)، وراجع كذلك (1/ 279- 282).

([2]) أخرجه أحمد في مسنده، رقم (1011).

([3]) أخرجه الترمذي، رقم (131).

([4]) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/174).

([5]) الشرح الكبير للدردير (1/125، 126)، دار الفكر.

([6]) انظر: موقع دار الإفتاء المصرية، فتوى رقم (2841)، بتاريخ 11 مايو 2016م.

([7]) التاج والإكليل لمختصر خليل (1/462، 463).

([8]) أخرجه البخاري، رقم (2322)، ومسلم، رقم (1575).

([9]) أخرجه البخاري، رقم (5482)، ومسلم، رقم (1574) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

([10]) أخرجه البخاري، رقم (172) بدون قوله: «إحداهن بالتراب»، ومسلم، رقم (279)، ولفظه «أولاهن بالتراب».

([11]) انظر: موقع دار الإفتاء المصرية، الفتوى رقم (13427)، بتاريخ 18 فبراير 2016م.

([12]) الذخيرة للقرافي (1/179).

([13]) القواعد للمقري، تحقيق: أحمد بن عبد الله بن حميد (1/249)، جامعة أم القرى-المملكة العربية السعودية.

([14]) فتح القريب المجيب في شرح ألفاظ التقريب لابن قاسم الغزي (ص93)، الجفان والجابي للطباعة والنشر، دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع-بيروت.

([15]) مواهب الجليل شرح مختصر خليل (2/228).

([16]) الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني (1/211).

([17]) حاشية العدوي على شرح كفاية الطالب الرباني (1/307).

([18]) انظر: موقع دار الإفتاء المصرية، الفتوى رقم (12973)، بتاريخ 25 يناير 2009م.

([19]) انظر: كشاف القناع للبهوتي (2/5)، دار الكتب العلمية، روضة الطالبين للنووي (12/401)، المكتب الإسلامي.

([20]) انظر: شرح مختصر خليل للخرشي (2/68).

([21]) انظر: موقع دار الإفتاء المصرية، الفتوى رقم (16445)، بتاريخ 26 فبراير 2015م.

([22]) انظر: فتح الباري لابن حجر (2/24).

([23]) الاستذكار لابن عبد البر (3/167).

([24]) انظر: رد المحتار لابن عابدين (2/277)، دار الكتب العلمية، تحفة المحتاج لابن حجر الهيتمي (3/293)، دار الكتب العلمية، المغني لابن قدامة (2/338)، مكتبة القاهرة.

([25]) أخرجه أبو داود، رقم (1562).

([26]) شرح مختصر خليل للخرشي (2/196).

([27]) أخرجه البخاري، رقم (1395)، ومسلم، رقم (19).

([28]) انظر: الجامع لمسائل المدونة (4/57)، جامعة أم القرى.

([29]) المنتقى (2/116).

([30]) انظر: شرح الرسالة للقاضي عبد الوهاب (1/383)، دار ابن حزم.

([31]) التلخيص الحبير لابن حجر (2/179)، دار الكتب العلمية.

([32]) انظر: موقع دار الإفتاء المصرية، الفتوى رقم (17585)، بتاريخ 1 نوفمبر 2021م.

([33]) انظر: عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة لابن شاس (1/227) المنتقى شرح الموطأ للباجي (2/124).

([34]) انظر: شرح الزرقاني على مختصر خليل مع حاشية البناني (2/151)، دار الفكر.

([35]) انظر: المبسوط للسرخسي (3/41)، دار المعرفة، والمغني لابن قدامة (3/71)، مكتبة القاهرة.

([36]) انظر: أسنى المطالب للشيخ زكريا الأنصاري (1/355)، دار الكتاب الإسلامي.

([37]) انظر: المجموع شرح المهذب للنووي (6/21).

([38]) انظر: الذخيرة للقرافي (3/29).

([39]) انظر: حاشية رد المحتار لابن عابدين (2/ 266)، والمهذب للشيرازي (1/292)، دار الكتب العلمية.

([40]) مواهب الجليل في شرح مختصر خليل (2/314).

([41]) التاج والإكليل (3/169).

([42]) المقدمات الممهدات (1/303-304).

([43]) انظر: موقع دار الإفتاء المصرية، الفتوى رقم (15124)، بتاريخ 20 يونيو 2019م.

([44]) الشرح الممتع على زاد المستقنع للشيخ محمد بن صالح العثيمين (6/28)، دار ابن الجوزي.

([45]) مواهب الجليل في شرح مختصر خليل (2/424، 425).

([46]) الكافي في فقه أهل المدينة لابن عبد البر (1/345)، مكتبة الرياض الحديثة.

([47]) انظر: موقع دار الإفتاء المصرية، فتوى بتاريخ 12 مارس 2013م.

([48]) انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (25/245)، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف-المدينة النبوية.

([49]) أخرجه البخاري، رقم (1755)، ومسلم، رقم (1328).

([50]) المدونة (1/424، 425).

([51]) الشرح الكبير للشيخ أحمد الدردير مطبوع مع حاشية الدسوقي (2/53).

([52]) المغني لابن قدامة (3/404).

([53]) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (2/53).

([54]) أخرجه البخاري، رقم (1788)، ومسلم، رقم (1211).

([55]) أخرجه مسلم، رقم (1211) .

([56]) فتح الباري شرح صحيح البخاري (3/612).

([57]) انظر: موقع دار الإفتاء المصرية، فتوى إلكترونية بتاريخ 22 أغسطس 2016م.

([58]) أخرجه البخاري، رقم (3595).

([59]) مواهب الجليل شرح مختصر خليل (2/524).

([60]) انظر: موقع دار الإفتاء المصرية، الفتوى رقم (12603)، بتاريخ 03 أغسطس 2010م.

([61]) شرح مختصر خليل للخرشي (7/80).

([62]) حاشية العدوي على شرح الخرشي (2/205).

([63]) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (4/77).

([64]) انظر: موقع دار الإفتاء المصرية، الفتوى رقم (34)، بتاريخ 05 أكتوبر 2011م.

([65]) انظر: الفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/425، 426)، دار الكتب العلمية.

([66]) أخرجه ابن حبان في صحيحه، رقم (2217)، وابن خزيمة في صحيحه، رقم (1689).

([67]) مواهب الجليل (3/405).

([68]) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، رقم (15512).

([69]) التاج والإكليل لمختصر خليل (5/510).

([70]) انظر: موقع دار الإفتاء المصرية، الفتوى رقم (13335)، بتاريخ 18 يونيو 2014م.

([71]) انظر: منح الجليل (4/335)

([72]) أخرجه مسلم، رقم (1483).

([73]) رواه مالك في الموطأ، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي (2/592)، رقم (90).

([74]) انظر: الفتاوى الإسلامية من دار الإفتاء المصرية (9/295، 296).

([75]) الشرح الصغير للشيخ الدردير ومعه حاشية الصاوي (2/348)، دار المعارف.

([76]) انظر: رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين (3/575)، دار الفكر-بيروت.

([77]) انظر: منح الجليل شرح مختصر خليل للشيخ محمد عليش (4/392).

([78]) انظر: الفتاوى الإسلامية من دار الإفتاء المصرية (14/71، 72)، القاهرة، 1431هـ-2010م.

([79]) انظر: المغني لابن قدامة (8/199).

اترك تعليقاً