البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الفصل الثامن: نماذج من فتاوى دور وهيئات الإفتاء بالمذهب المالكي.

المبحث الثالث: نماذج من فتاوى دار الإفتاء التونسية.

147 views

من المعروف المشتهر أن المذهب المالكي هو السائد في الديار التونسية، منذ أن رحل علي بن زياد (ت183هـ)، وعبد الرحمن بن أشرس، وأسد بن الفرات (ت213هـ) إلى المدينة وتتلمذوا على إمامها مالك رحمه الله وعادوا بعلمه الغزير إلى إفريقية (تونس) وأقاموا بها، فدوَّنوه وهذَّبوه على الوجه الذي استقر عند الإمام سحنون في المدوَّنة الكبرى التي تُعَدُّ أساس المذهب المالكي ومصدره الأول، ثم اعتنى بها أهل تونس عنايةً فائقة حتى جاء البراذعي وقام بتهذيبها وحذف المكرر منها، فعكف عليها عامة أهل تونس وما جاورها من كامل بلدان المغرب الإسلامي، ثم جاء من بعدهم الأئمة الكبار أبو الحسن القابسي، وسعيد بن الحداد (302هـ)، وابن أبي زيد القيرواني (386هـ) صاحب الرسالة الشهيرة، وأبو الحسن الخمي (478هـ)، والإمام المازري (536هـ) وغيرهم، بل حتى لما ألف الإمام خليل بن إسحاق الجندي المصري (776هـ) مختصره الشهير في فروع المالكية اعتمد فيه على ثلاثة علماء من أهل الترجيح بتونس وهم: اللخمي، والمازري، وأبو بكر الصقلي، بالإضافة إلى ابن رشد الجد الأندلسي، وبهذا يتبين أن مصادر المالكية الثلاثة الكبرى (المدونة، الرسالة، مختصر خليل) أصولها تونسية([1]).

ومنذ ذلك الحين والمذهب المالكي هو المعتمد المطلق في الديار التونسية حتى اليوم.

وبالنسبة لمنصب الإفتاء في تونس فيمر المفتي بدرجات متعاقبة: مفتي المذهب، كبير أهل الشورى، باش مفتي، شيخ الإسلام، وكان يتولاه علمٌ من كبار علماء الشريعة بتونس كالعلامة محمد الطاهر بن عاشور، ومحمد عبد العزيز جعيط، وغيرهم، ثم تغيرت خطة الفتوى بعد استقلال تونس 1957م وأدخلت عليها بعض التعديلات، وصار لقب هذا المنصب: مفتي الجمهورية، وتولاه مع علماء المالكية بضعة من علماء الأحناف بتونس، وكانت هذه بداية وجود فتاوى في الديار التونسية بغير المذهب المالكي، وإن ظلَّ هو المذهب الرسمي السائد في البلاد.

ونورد فيما يلي نماذج لبعض الفتاوى التي اعتمدت فيها دار الإفتاء التونسية على المذهب المالكي، وهي فتاوى خاصة بالعبادات.

-فمن هذه الفتاوى: فتوى عن إمام أجرى عملية جراحية استوجبت أن يحمل كيس تبول فهل يجوز له إمامة المصلين في هذه الحالة؟

فقد جاء في الفتوى: قد اختلفت في هذه المسألة أنظار الفقهاء، فقد جاء في قوانين ابن جـــــزي الفقهية قوله: (إن خرج الحدث من أحد المخرجين على وجه الصحة فهو ناقـــض للوضوء إجماعًا، وإن خرج من غير المخرجين المعتادين ففيه قولان)([2]). وبناء على الرأي الذي يرى أن خروج البول على الطريقة غير المعتادة ليس بناقض للوضوء فإنه يستطيع أن يتوضأ قبل الشروع في الصلاة مباشرة؛ إذ من المقاصد الشرعية المعتبرة رفع الحرج عن المكلفين، قياسًا على صحة إمامة مَنْ كان فرضه التيمم. ويستحب له إنابة غيره مراعاةً للخلاف ريثما يُشفَى من مرضه ويُنزع عنه الكيس([3]).

فقد استندت هذه الفتوى إلى مقصد شرعي، وهو رفع الحرج عن المكلفين، كما استندت إلى أصل من أصول المذهب وهو مراعاة الخلاف.

-ومن هذه الفتاوى أيضًا: فتوى عن دلك الرجلين في الوضوء. فقد جاء في هذه الفتوى:

الدلك لكافة أعضاء الوضوء واجب، وترك دلك الرجلين نقص في الوضوء وصب الماء فقط دون إمرار اليد على العضو لا يعتبر غسلًا؛ إذ قد لا يصل الماء الى كامل العضو.

جاء في متن ابن عاشر قوله:

فرائِضُ الوُضُــوءِ سَبْعَةٌ وهِـــي     دَلْكٌ وَفَــوْرٌ نِــيَّـةٌ فــي بَــدْئِـهِ

وَلْيَنْوِ رَفْعَ حَدَثٍ أوْ مُفْـــــتَرَضْ   أَوِ اسْتِباحَةً لِمَمــْنــوعٍ عَرَضْ

وَغَسْلُ وَجْــهٍ غَسْـلُـــهُ الْيَدَيْـــنِ     وَمَسْحُ رَأْسٍ غَسْلُــهُ الرِّجْلَيْـنِ

وقال ميارة في شرحه: وفي الدلك ثلاثة أقوال المشهور الوجوب، وقول لابن عبد الحكم نفي وجوبه، والثالث واجب لا لنفسه بل لتحقق إيصال الماء([4]).

فقد نصَّت الفتوى على وجوب الدلك لأعضاء الوضوء عند المالكية، وقد استدل المالكية لذلك بأن الدلك شرط في حصول مسمى الغسل. قال ابن يونس: لقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: «وادلكي جسدك بيدك»([5])، والأمر على الوجوب، ولأن علته إيصال الماء إلى جسده على وجه يسمى غسلًا([6]).

-ومن هذه الفتاوى أيضًا: فتوى عن حكم سجود التلاوة في صلاة الصبح. فقد جاء في هذه الفتوى: هو جائز، وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةَ([7])، وهو ما جرى عليه العمل إلى يوم الناس هذا، وسواء قرأ الإمام بها في صلاة الصبح أو في غيرها فصلاته صحيحة، وكذلك في النافلة، والسجود في النافلة اتفاقًا وفي الفريضة إلا إذا أمن التخليط على المأمومين. وحكمها ليس بواجب خلافًا لأبي حنيفة النعمان رضي الله عنه([8]).

فهذه الفتوى على المذهب المالكي كما هو حال غالبية فتاوى دار الإفتاء التونسية، فإن سجود التلاوة سنة عند المالكية، وهو الموافق لرأي الجمهور.

قال النفراوي: وفيه خلاف، فقيل: سنة، وقيل: فضيلة، وتظهر ثمرة الخلاف في كثرة الثواب وقلته، وأما السجود في الصلاة فهو مطلوب على القولين([9]).

وقال ابن العربي: وسجود التلاوة واجب وجوب سنة لا يأثم من تركه عامدًا([10]).

-ومن هذه الفتاوى أيضًا: فتوى عن حكم تحية المسجد قبيل المغرب وبعد أذان المغرب وقبيل أداء الفريضة. حيث جاء في هذه الفتوى: أن أداء النافلة مكروه بعد أذان المغرب وقبل صلاة الفريضة إلا في بعض المذاهب. وهذا هو الذي عليه المذهب المالكي. وتحية المسجد لا تؤدَّى قبيل المغرب وبعد الأذان ولا تُقضى بعد صلاة المغرب لفوات وقتها. قال ابن رشد في كتاب الجامع من البيان: لا ينبغي لأحد أن يصلي نافلة قبل صلاة المغرب، لأن تعجيل صلاة المغرب في أول وقتها أفضل عند من رأى وقت الاختيار لها يتسع إلى مغيب الشفق وهو ظاهر قول مالك في موطئه([11])([12]).

والجدير بالذكر أن كراهية الركعتين قبل المغرب ليس محل إجماع عند المالكية، ففي مواهب الجليل: أن كراهة الركعتين قبل المغرب هي رواية ابن القاسم عن مالك، في حين توجد رواية أخرى عنه تفيد عدم الكراهة، وأن ما ذهب إليه مالك من كراهة ذلك أظهر([13]).

-ومن الفتاوى الخاصة بالعبادات أيضًا: فتوى الشيخ محمد العزيز جعيط حول رفع الصوت في المسجد. فقد جاء في فتواه: إن رفع الصوت في المسجد مكروه مطلقًا كما في المختصر الخليلي؛ لأنه مظنة التشويش على المصلين ومناف لحرمة المساجد الموضوعة للصلاة والذكر وقراءة القرآن([14]).

وقد حكى عبد الملك بن حبيب الأندلسي قال: كنت أرى بالمدينة رسول أميرها يقف بابن الماجشون في مجلسه إذا استعلى كلامه وكلام أهل المجلس في العلم فيقول: أبا مروان أخفض من صوتك وأمر جلساءك يخفضون أصواتهم([15]). أما في صحيح البخاري([16]) عن السائب بن يزيد، قال: كنت قائما في المسجد فحصبني رجل، فنظرت فإذا عمر بن الخطاب، فقال: اذهب فأتني بهذين، فجئته بهما، قال: من أنتما – أو من أين أنتما؟ – قالا: من أهل الطائف، قال: «لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم([17]).

-ومن الفتاوى الخاصة بالصيام: نذكر فتوى الشيخ كمال الدين جعيط عن مسألة الإفطار في السفر، حيث سئل: إن البعض من الأئمة قالوا بأن سبب الإفطار في رمضان عند السفر هو المشقة، وإن السفر زالت فيه المشقة ولهذا لا موجب للإفطار في السفر، ويرغب السائل في التدقيق في هذه المسألة.

فأجاب: قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] فالآية أوضحت بأن المريض أو المسافر مسافة قصر له أن يفطر في رمضان ويقضي ما أفطر، ولم تقيد الإباحة ولم تشترط المشقة والتعب في السفر، وحيث ورد الحكم مطلقًا ولم يقيد بالمشقة أو بعدمها بقي الحكم على إطلاقه، وقد اشترط بعض الفقهاء أن يكون السفر سفر طاعة لا سفر معصية؛ تنزيلًا لسفر المعصية منزلة العدم بحيث يعتبر اعتبار المقيم.

ودعوى أن العلة في إباحة الإفطار للمسافر هي المشقة متكلم فيه؛ لأن الحكم الواحد قد تتعدد علله، وقد نطلع على بعضها وقد تخفى علينا بعض العلل، ولا يلزم من فقدان المشقة عدم جواز الإفطار للمسافر، والله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه، وعلى كُلٍّ فالصوم أولى من الإفطار للمسافر([18]).

وما ذهبت إليه الفتوى من أفضلية الصوم على الفطر بالنسبة للمسافر هو ما ذهب إليه المالكية، وهو الموافق لقول الجمهور. قال في الفواكه الدواني: (والفطر في السفر) بمعنى تبييت الفطر فيه ليلًا (رخصة) مرجوحة… وقلنا: رخصة مرجوحة لأن الصوم أفضل؛ قال تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184]([19]).

-ومن هذه الفتاوى أيضًا: فتوى حول فدية الصوم وحكمها. حيث جاء في السؤال:

يسأل الناس في كل عام عن حكم فدية الصوم ومقدارها خصوصًا مع وجود اختلاف بين الأئمة والخطباء من خلال كتب الفقه المالكي المنتشر في تونس والمغرب العربي.

فجاء في الجواب: بالنسبة للشيخ الهرم وهو الذي بلغ به الكبر إلى العجز. وقيل: الذي لا يقدر على الصوم بأي وجه من الوجوه. ولا قائل في المذهب أنه يطعم، وقيل باستحبابها([20]).

وفي شرح الرسالة على قول الشيخ ابن أبي زيد: ويستحب للشيخ الكبير (وكذلك المرأة) الذي لا يقدر على الصوم في زمن من الأزمنة إذا أفطر أن يطعم، وإنما أبيح له الفطر لقول الله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وقوله عز وجل: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]. وما ذكره من استحباب الإطعام ظاهر المدونة خلافه. وقال الشارح: لو كان يقدر على الصوم في زمن من الأزمنة وجب عليه القضاء ولا إطعام عليه. ونص المدونة: لا فدية. إلا أن المدونة حملت على أنه لا يجب الإطعام فلا ينافي ندبه([21]).أما الذي لا يقدر عليه في زمن دون زمن فيؤخر للزمن الذي يقدر فيه على الصوم. وقال خليل في مختصره: (وفدية لهرم أو عطش)([22]) إذا بلغ به الكبر إلى العجز جملة أفطر، ولا شيء عليه من إطعام ولا غيره.

وخلاصة القول: مشهور مذهب الإمام مالك أن الفدية حكمها الاستحباب بدليل ما جاء في موطأ الإمام مالك من كتاب الصيام (باب فدية من أفطر في رمضان من علة): (حدثني يحيى عن مالك أنه بلغه أن أنس بن مالك كبر حتى كان لا يقدر على الصيام فكان يفتدي. قال مالك: ولا أرى ذلك واجبًا، وأحبُّ إلي أن يفعله إذا كان قويًّا عليه)([23]). وفي غير المذهب مَنْ قال بالوجوب([24]).

-ومن أمثلة الفتاوى التي تندرج تحت باب العبادات: فتوى الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة بخصوص جواز أكل اللحوم المستوردة، فقد سئل: تُقدَّم لأبنائنا في المبيتات الجامعية لحومٌ مستوردة، وقد تسرب إلينا الشك في حلّية أكلها باعتبار عدم التحقق من ذبحها حسب الشريعة الإسلامية، وقد نهى الله تعالى عن أكل الميتة، فقال: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}[المائدة: 3]، كما نهى عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه فقال: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ}[الأنعام: 121]، لذلك رفعنا إليكم أمرنا لتوضيح الموقف وطمأنة النفوس.

فجاء الجواب: إن الله تعالى أحلَّ لنا بهيمة الأنعام، وكل حيوان مقدور على ذبحه بشرط التذكية، وهي قطع الأوداج كلها أو بعضها في الحلق حسب اختلاف المذاهب، والأوداج أربعة: الحلقوم والمريء والعرقان اللذان يحيطان بهما، وكل ما أنهر الدم وأفرى الأوداج تصح به التذكية ما خلا السِنَّ والظِّفْر، لحديث حذيفة([25]).

ولا تصح الذكاة إلا من مسلم؛ لأن التذكية تحتاج إلى دينٍ ونية، وهي بذلك ضرب من ضروب العبادة، ورخص الشارع في ذبائح أهل الكتاب فقال: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ}[المائدة: 5]، ولأن أهل الكتاب من اليهود والنصارى على دين إلهيٍ يحرم الخبائث ويتقي النجاسة، ولهم في شؤونهم أحكام مضبوطة متبعة لا يُظن بهم مخالفتها، وهي مستندة إلى وحيٍ إلهي في أصلها، بخلاف المشركين وعبَدة الأوثان فقد ورد النهي عن أكل ذبائحهم.

ومن المعلوم أن ما يؤتى به من هذه اللحوم مذبوحًا ممن هو أهلٌ للذبح بطريقة يتحقق معها إنهار الدم جائزٌ لنا أكله، قال الشربيني في الإقناع: (ولو أخبره فاسق أو كتابي أنه ذبح هذه الشاة مثلًا حَلَّ لنا أكلها؛ لأنه من أهل الذبح)([26]).

وأما التسمية فالنهي عن أكل ما تُركت فيه عمدًا، لما أخرجه الدارقطني والبيهقي من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم يكفيه اسمه، فإن نسي أن يسمي حين يذبح فليُسَمِّ وليذكرِ اسمَ الله ثم ليأكل»([27]).

ولما أخرجه البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن الصحابة قالوا: يا رسول الله: إن قومًا حديثي عهدٍ بشرك يأتوننا بلحمٍ لا ندري أذكَروا اسم الله عليه أم لم يذكروه، فقال: «سَمُّوا أنتم وكلوا»([28]).

وقال المالكية: لا تشترط التسمية في حق الكتابي لأن الشارع أباح ذبائحهم وهو يعلم أن منهم من يترك التسمية، قال ابن العربي: «إن الله تعالى حرم ما لم يُسَمَّ عله من الذبائح، وأذن في طعام أهل الكتاب وهم يقولون: الله هو المسيح ابن مريم، وأنه ثالث ثلاثة، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا، فإن لم يذكروا اسمه سبحانه أُكِل طعامهم، وإن ذكروا فقد علم ربُّك ما ذكروا، وأنه غيرُ الله، وقد سمَح فيه، وإنما حرم الشارع ذبحًا يُذكر عليه اسم غير الله تصريحًا، فأما ما يُقصَد إليه فيصيب قصده فهو الذي لا كلام فيه، وأما الذي يسميه فيخطئ قصده فذلك الذي رخص فيه»([29]).

هذا وقد أكل النبي صلى الله عليه وسلم من الشاة المسمومة المشوية التي أهدتها إليه اليهودية، ولم يسألها عن ذبيحتها أهي ذبيحة المسلم أم اليهودي، وهل ذُكر اسم الله عليها أم لم يُذكر، وبهذا أخذ أبو الدرداء وعبادة بن الصامت وابن عباس، والزهري وربيعة والشعبي ومكحول.

ومما تقدم عرضه يُعلَم أن اللحوم المستوردة من أوربا وغيرها من البلاد إما أن تكون صادرةً عمَّن هو أهل للذبح من مسلمٍ، أو كتابي يهودي أو نصراني، أو لا تكون، فإن كان الذين تصديرها وتسويقها مسلمين فلا غبار عليه وأكلها حلال، وإن كانوا كتابيين فكذلك أيضًا؛ لصريح قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5]، ولا يحرم شيء من ذلك إلا إذا تأكدنا أنها ميْتة لم تقع تذكيتُها تذكيةً شرعية.

وإن كان أغلب البلد ممن لا تحل ذكاته كالمشركين والزنادقة والمجوس ونحوهم: فإن عُلم أن ذابح الحيوان مسلم أو كتابي ولو بطريق الإخبار حل اللحم المستورد؛ لتذكيته ممن هو أهل للذبح كما تقدم، وإن لم يحصل العلم بذلك فلا تحل.

وكذلك إن علم أنها لحم بقر أو غنم أو نحوهما مما يحل شرعًا جاز أكلها، وإن عُلم أنها لحم خنزير أو ذي نابٍ أو مخلبٍ، أو جُهِل نوعها لم تحِل»([30]).

هكذا نرى أن الشيخ ابن الخوجة قد يسَّر على الجالية المسلمة التي تعيش في مهاجر أوروبا وأمريكا وغيرهما أن تأكل من اللحم الذي يباع هناك، كما أباح للمسلمين المقيمين في بلادهم أن يأكلوا من اللحوم المستوردة التي تأتي من البلاد الغربية التي تعتنق المسيحية، مستشهدًا بأقوال أئمة المالكية واختياراتهم، واسترشادًا بأصل المصلحة المرسلة التي توسَّع فيها المذهب المالكي بضوابطها المعروفة.

 

 

([1]) منهج الوسطية والاعتدال في الفتاوى التونسية المعاصرة، محمد إبراهيم بوزغيبة، مجلة التنوير، (عدد 11/ ص400، 401)، تصدر عن جامع الزيتونة، المعهد الأعلى لأصول الدين، (ص218، 222).

([2]) القوانين الفقهية لابن جزي (ص21).

([3]) صفحة ديـوان الإفـتـاء بالجمهوريـة التونسية على فيس بوك، فتوى بتاريخ 23 نوفمبر 2018م.

([4]) صفحة ديـوان الإفـتـاء بالجمـهوريـة التـونسيـة على فيس بوك، فتوى بتاريخ 19 فبراير 2018م.

([5]) هذا الحديث لم تعزه كتب المالكية لأي مصدر حديثي، ولم نقف على تخريجه.

([6]) مواهب الجليل في شرح مختصر خليل (1/218).

([7]) أخرجه البخاري، رقم (891)، ومسلم، رقم (880).

([8]) صفحة ديـوان الإفـتاء بالجمهورية التونسية على فيس بوك، فتوى بتاريخ 26 أكتوبر 2018م.

([9]) الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني (1/249).

([10]) التاج والإكليل لمختصر خليل (2/360).

([11]) انظر: مواهب الجليل في شرح مختصر خليل (1/417، 418).

([12]) صفحة ديـوان الإفـتـاء بالجمـهوريـة التـونسيـة على فيس بوك، فتوى بتاريخ 13 ديسمبر 2017م.

([13]) انظر: مواهب الجليل في شرح مختصر خليل (1/417، 418).

([14]) انظر: مواهب الجليل في شرح مختصر خليل (2/62).

([15]) البيان والتحصيل (1/495).

([16]) أخرجه البخاري، رقم (470).

([17]) مجلة فتاوى تونسية، السنة الرابعة، العدد الرابع، 1440هـ-2018م (ص36، 37).

([18]) مجلة فتاوى تونسية، السنة الرابعة، العدد الرابع، 1440هـ-2018م (ص32).

([19]) انظر: الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني للنفراوي (2/271).

([20]) انظر: القوانين الفقهية لابن جزي (ص84).

([21]) انظر: حاشية العدوي على شرح كفاية الطالب الرباني (1/449)، دار الفكر-بيروت.

([22]) انظر: شرح مختصر خليل للخرشي (2/242).

([23]) موطأ مالك، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي (1/307)، رقم (51).

([24]) صفحة ديـوان الإفـتاء بالجمهوريـة التونسية على فيس بوك، فتوى الشيخ عثمان بطيخ مفتي الجمهورية بتاريخ 10 يونيو 2019م.

([25]) وهو حديث: «اذبحوا بكل شيء فرى الأوداج وأنهر الدم، ما خلا السن والظفر»، أخرجه الطبراني في الأوسط، رقم (7190).

([26]) الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع للخطيب الشربيني (2/581)، دار الفكر-بيروت.

([27]) أخرجه الدارقطني في سننه، رقم (4808)، والبيهقي في السنن الكبرى، رقم (18890).

([28]) أخرجه البخاري، رقم (5507).

([29]) أحكام القرآن لابن العربي (2/42، 43).

([30]) ذبائح أهل الكتاب، محمد الحبيب ابن الخوجة، مجلة الهداية، س6، عدد 5، 1979م، (ص81، 82).

اترك تعليقاً