البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الفصل الثامن: نماذج من فتاوى دور وهيئات الإفتاء بالمذهب المالكي.

المبحث الرابع: نماذج من فتاوى المجلس الأعلى للفتوى والمظالم بموريتانيا.

105 views

دولةُ موريتانيا يغلب عليها- كغيرها من دول شمال شرق إفريقيا والتي تعرف بدول المغرب العربي الخمسة -ليبيا، وتونس، والمغرب، والجزائر، وموريتانيا- المذهب المالكي، وهو المذهب الرسمي لهذه البلاد من قديم، وأشهر علمائه وكتبه التي أثْرَت المذهب وحفظته على مر العصور كانت في هذه البقعة من الأرض([1]).

ولذلك فإن الغالبية العظمى من فتاوى المجلس الأعلى للفتوى والمظالم بموريتانيا مؤسسة على المذهب المالكي، ولا تخرج عنه إلا نادرًا وفي حدودٍ ضيقة تفرضها عليه الظروف والنوازل.

وتنشر فتاوى المجلس في مجلة “منارة الفتوى”، وهي مجلة فصلية تصدر عن المجلس الأعلى للفتوى والمظالم، صدر عددها الأول في نوفمبر 2013م.

ونورد فيما يلي بعض النماذج من فتاوى المجلس المؤسسة على المذهب المالكي:

أولًا: فتاوى خاصة بالعبادات:

-من الفتاوى الخاصة بالعبادات: فتوى المجلس بخصوص حكم الصلاة في مسجدٍ يزعم جارُه أن سورَه على أرضه، حيث سئل المجلس: هل تصح الصلاة في مسجد يدَّعي جارُه بناء بعض سوره في أرضه؟ علمًا بأن التحقيق الإداري كشف أن الجار لا يملك أدلة تثبت ملكيته للأرض.

وجاء في الجواب: أن الصلاة في هذا المسجد كغيره من المساجد صحيحة إذا توفرت فيه الشروط وانتفت الموانع، ولا وجه لبطلانها، ولعل توهم بطلان الصلاة فيه مبني على مقدمتين:

أولاهما: أن الصلاة في المكان المغصوب باطلة، والراجح من الخلاف في هذا المحل: الصحة؛ لانفكاك الجهتين، وهو مذهب الجمهور.

الثانية: أن هذا المسجد مغصوب، وهو أمر نفاه التحقيق حسب السؤال، لأن الغصب فرع عن مِلك المُعَيَّن، ومِلك العمران فرعٌ عن إقطاع السلطان، ولم يحصل، وعلى أنه مملوك فصاحب المسجد لم يغتصب، وإنما بنى فيه حائطه عن طريق الخطأ، يظنه داخلًا في حدود أرض المسجد فهو صاحب شبهة، وعلى تقدير الغصب وافتراض كون الصلاة في المكان المغصوب باطلة فالمغصوب منه 70 سم، وهذه داخلة في سور المسجد، وأما غير 70 سم فليست مغصوبة، وهو الذي يصلى فيه، فالصلاة في هذا المسجد صحيحة، ومن المعلوم أن الفتوى تدور مع السؤال لا مع الواقع، وليس المفتى مطالبًا بالتحقيق في مطابقة السؤال للواقع، فإن ذلك من اختصاص القاضي»([2]).

-ومن فتاوى المجلس المتعلقة بالعبادات أيضًا: فتوى بخصوص إفطار الحامل والمرضع في رمضان، وكان نص السؤال: ما هو الراجح في مسألة الحامل والمرضع إذا أفطرتا في رمضان؟ وهل عليهما القضاء والإطعام أم القضاء فقط؟

فكان الجواب: ذكر الفقهاء أن لكل من الحامل والمرضع ثلاث حالات:

1- حالة يجب فيها الصيام ولا يجوز لأي منهما الفطر.

2- حالة يجب فيها الفطر على كل منهما ولا يجوز الصيام.

3- حالة هما فيها بالخيار بين الصوم والفطر.

أولًا: حالات المرضع:

يجب على المرضع الصيام إذا لم يجهدها الإرضاع ولم تخف على ولدها ضررًا.

ويجب عليها الفطر إن خافت هلاكًا أو شديدَ أذى.

وهي بالخيار إن كان المخوف عليه ضررًا دون ذلك، أو كان يجهدها الصيام ولم يمكن الإرضاع من غيرها.

قال في التوضيح: (قال ابن رشد: للمرضع على المشهور من مذهب مالك ثلاثة أحوال: حال لا يجوز لها فيه الفطر والإطعام؛ وهو ما إذا قدرت على الصوم ولم يجهدها الإرضاع ولم يحصل لولدها ضرر بسببه، وحال يجوز لها فيه الفطر والإطعام؛ وهو ما إذا أجهدها الإرضاع ولم تخف على ولدها، أو خافت عليه حدوث مرض أو زيادة ولم يمكنها الإرضاع. وحال يجب عليها الفطر والإطعام؛ وهو ما إذا لم يمكنها الإرضاع وخافت على ولدها شدة الأذى)([3]).

وقال اللخمي: المرضع إذا كان الرضاع غير مضر بها ولا بولدها، أو كان مضرًّا بها وهناك مال يستأجر منه للابن أو للأب أو للأم، والولد يقبل غيرها لزمها الصوم، وإن كان مضرًّا بها تخاف على نفسها أو على ولدها، والولد لا يقبل غيرها، أو يقبل غيرها ولا يوجد من يستأجَر، أو يوجد وليس هناك مال يستأجر منه، لزمها الإفطار، وإن كان يجهدها الصوم ولا تخاف على نفسها ولا على ولدها، والولد لا يقبل غيرها كانت بالخيار بين الصوم والإفطار.

وإن أفطرت في إحدى حالتي الجواز والوجوب كان عليها القضاء قطعًا، والإطعام على المشهور؛ لأنها أفطرت لعذر في غير نفسها، قال في المدونة: ومتى أفطرت لشيء من هذه الوجوه التي ذكرناها قضت وأطعمت([4]).

ثانيًا: حالات الحامل:

يجب عليها الفطر إن خافت على نفسها أو على ولدها هلاكًا أو شديد أذًى.

ويجوز لها الفطر والصيام إن خافت ضررًا دون ذلك، أو لم تخف ولكن أجهدها الصوم.

ويجب عليها الصوم إذا لم يحصل شيء من ذلك، لا إجهاد ولا خوف ضرر.

قال اللخمي: صوم الحامل إن لم يشق واجب، وإن خيف منه حدوث علة عليها أو على ولدها منع، وإن كان الصوم يجهدها ويشق عليها ولا تخشى إن هي صامت شيئًا من ذلك كانت بالخيار بين الصوم والفطر([5]).

والذي رجع إليه في المدونة أنه إذا أفطرت لشيء من هذه الوجوه التي يمكن لها أن تفطر لأجلها كان عليها القضاء دون إطعام لأنها مريضة. وحمل أشهب رواية الإطعام على الاستحباب من غير إيجاب([6]).

وقد ذكر بعض الأطباء أن الحامل بحاجة إلى كمية معتبرة من السوائل لا يمكن تحقيقها مع الصوم، وعلى هذا الرأي يجوز للحامل الفطر في كل الحالات»([7]).

فقد بيَّنت هذه الفتوى حالات الحامل والمرضع بالنسبة للصوم والإفطار في المذهب، وأباحت للحامل الفطر في كل الحالات، وهو ما يتوافق مع الأدلة الشرعية التي تجعل الحامل في مقام المريضة فلها حق الفطر، وكذلك فقد جاء في الحديث: «إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة، وعن المسافر والحامل والمرضع الصوم أو الصيام»([8]).

ثانيًا: فتاوى خاصة بالمعاملات:

ومن نماذج الفتاوى المتعلقة بالمعاملات: فتوى المجلس بخصوص معاملةٍ في شراء قطعة أرض في وقت مستقبلٍ بعقدٍ عاجل، وكان نص السؤال: رجل اقترح على زميل له شراء قطعة أرض من عنده أواخر العام 2009م، وقدم له وثيقتين: إحداهما تفيد ملكيةً مؤقتة للقطعة، والأخرى تحمل أختامًا بعدم تعدد ملكيتها.

وبناء على هذه المعطيات قدم على دفع الثمن له مع العلم أنه لم يحدد له مكان القطعة لأنه يجهل مكانها. وبعد مضي سنة انكشف للمشتري أن القطعة صودرت من قِبل الدولة ضمن أراضٍ شاسعة، فذهب إلى الجهات المعنية ليكتشف أن شخصًا آخر لديه وثائق تثبت ملكيتها له قبل تاريخ شرائه لها، فهل هذه البيعة صحيحة شرعًا؟

فكان الجواب: هذا العقد فاسد؛ لكونهما يجهلان أوصاف القطعة التي يزيد الثمن وينقص بحسبها، وتزيد الرغبة وتنقص بحسبها أيضًا.

ومن المعلوم أن من شروط البيع: علم المتعاقدين بأوصاف المعقود عليه، قال خليل في المختصر عاطفًا على ما يجب انتفاؤه في المعقود عليه: (وجهلٌ بمثمونٍ أو ثمن)، فمن شروط صحة البيع أن يكون معلوم العوضين، فإن جهل الثمن أو المثمون لم يصح البيع، قال الحطَّاب هنا: (وظاهر كلامه: أنه متى حصل الجهل بأحد العوضين من المتبايعين أو من أحدهما فسد البيع. وقال ابن رشد: لا يكون البيع فاسدًا إلا إذا جهلا معًا قدر المبيع أو صفته، أو جهل ذلك أحدهما وعلم الآخر بجهله، وتبايعا على ذلك، وأما إذا علم ذلك أحدهما وجهل الآخر ولم يعلم بجهله فليس ببيع فاسد، وإنما هو في الحكم كبيع الغش والخديعة، يكون الجاهل منهما إذا علم مخيرًا بين إمضاء البيع أو رده)([9]).

وإذا سلمنا جدلًا أن هذا العقد صحيح: فاستحقاق القطعة من قِبَل من منحت له قبل البائع يوجب فسخ البيع ورجوعه على البائع بالثمن أو قيمته إن فات.

وإذا كانت القطعة قد صودرت من قِبل الدولة قبل انعقاد العقد فقد باع هذا البائع ما لا يمكن تسليمه، وما ليس في ملكه، والقدرة على تسليم المبيع شرط لانعقاد البيع، قال خليل: (وقدرةٌ عليه)، وعليه فيجب على البائع أن يرد للمشتري ثمن القطعة([10]).

فقد أبطلت هذه الفتوى هذا البيع لافتقاده شرطين من شروط صحة البيع، وهما أن يكون المبيع مقدورًا على تسليمه، وأن يكون المبيع مملوكًا للبائع ملكًا تامًّا وقت البيع، وهذا الشرط جعله المالكية شرط لزوم. قال الشيخ الدردير: «وبقي من شروط اللزوم: أن يكون العاقد مالكًا أو وكيلًا عنه، وإلا فهو صحيح غير لازم»([11]).

-ومن فتاوى المعاملات أيضًا: فتوى المجلس بخصوص اشتراط أحد الشريكين لنفسه أجرًا على عمله في الشركة، ونص السؤال: شخصان قاما بإنشاء شركة تجارية ساهم أحدهما فيها بثمانين بالمائة والآخر بعشرين. وصار صاحب العشرين هو المباشر لعمل الشركة، واشترط أن يكون له راتب مقابل عمله، فما الحكم؟

الجواب: الأصل أن يكون عمل الشريكين أو الشركاء على قدر المساهمة في رأس مال الشركة كما قال أهل العلم، يقول الدردير: (والعمل بينهما في مال الشركة يجب أن يكون بقدر المالين)([12])، وفي الذخيرة: توزيع الربح على قدر الأموال، وكذلك العمل، وإلا فسدت؛ لأنه أكل المال بالباطل([13]).

وقد نص الفقهاء على جواز تولي أحد الشريكين مناب صاحبه من العمل تطوعًا بعد العقد، قال عليش: ولو صح عقد المتفاوضين في المال ثم تطوع الذي له الأقل فعمل في الجميع جاز ولا أجر له([14]).

كما نص الحطَّاب على جواز استئجار أحد الشريكين من ينوب عنه في العمل حيث قال: يجوز لأحد الشريكين أن يستأجر من ينوب عنه([15]). وفيه أيضًا: وإذا جاز له ذلك فهل يجوز له أن يدفع الأجرة لشريكه على أن يتولى العمل جميعه؟([16]) فتأمله.

وعليه: فلا مانع من اشتراط أحد الشركاء الأجر لنفسه مقابل ما يتحمله من زائد العمل على منابه منه، ولا يدخل ذلك ضمن العقود الممنوع جمع اثنين منها في عقد واحد، والتي نظمها بعضهم بقوله:

تجنَّبْ عقودًا سبعةً فهي كلها … مدى الدهر عندي لا تجوز مع البيع

نكاحٌ وقرضٌ أو قراضٌ وشركةٌ … وجُعْلٌ وصرفٌ والمساقاةُ في المنعِ»([17]).

فهذه الفتوى تتناول صورة من شركة العنان، وقد اتفق العلماء على صحتها، ولم ترَ الفتوى بأسًا بكون أحد الشركاء مديرًا للشركة مقابل مرتب معين، فيجتمع فيه صفتا الأجير والشراكة؛ إذ لا يوجد نص شرعي يمنع من ذلك فيبقى الحكم على أصله وهو الإباحة، ولا يدخل ذلك ضمن الربا المحرم.

-ومن فتاوى المعاملات أيضًا: فتوى المجلس بخصوص من وجد ضالة إبلٍ، فكانت في إبله حتى ماتت وتركت ذرية. فقد جاء في الفتوى: ثبت في الصحيحين أنه -عليه الصلاة والسلام- لما سئل عن ضالة الإبل قال: «مالك ولها؟! معها سقاؤها وحذاؤها، ترِد الماءَ وتأكل الشجر حتى يجدها ربُّها»([18]). وظاهر هذا الحديث حرمة التقاط ضالة الإبل، ويدل على ذلك غضبه -عليه الصلاة والسلام- بخصوص السؤال عنها دون غيرها كما قال القرطبي.

وعموم هذا الحكم ظاهرُ قول مالك من المدونة، وهو صميم مذهبه كما قال عبد السلام.

وعن مالك: أنه خاص بزمن العدل والصلاح دون زمن الفساد.

وفي الأبي عن القرطبي ما نصه: غضبه عليه الصلاة والسلام يدل على تحريم التعرض لها؛ لأنها يؤمن عليها الهلاك، ثم قال: لكن قال العلماء: هذا كان في صدر الإسلام إلى آخر أيام عمر، فلما كان زمان عثمان وعلي، وكثر فساد الناس واستحلالهم، رأوا التقاطها وتعريفها إكمالًا لمعنى الحديث([19]). ورجَّح هذا الرأي كثير من المتأخرين كابن رحال والأبي والراهوني وغيرهم. واختلف إذا التقطت وعُرِّفت سنةً ولم تُعْرَف فقيل: تترك في محلها، وقيل: تباع ويوقف ثمنها فإن لم يأت صاحبها تُصُدِّق به كما فعل عثمان رضي الله عنه([20]).

والمجلس يرى ترجيح هذا القول، وعليه فإن الإبل المسئول عنها هنا تباع ويُتصدق بثمنها على الفقراء والمساكين، وذلك بإشراف القاضي أو جماعة عدول من المسلمين([21]).

فقد اختارت هذه الفتوى الرأي الذي يقول ببيع اللقطة والتصدق بثمنها بعد التعريف إذا لم يُعرف صاحبها لأنها مال الغير فلا يجوز الانتفاع به دون رضاه؛ لإطلاق النصوص في ذلك كقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس»([22])، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تحل اللقطة، من التقط شيئًا فليعرفه، فإن جاء صاحبها فليردها إليه، وإن لم يأتِ فليتصدق بها»([23]).

ثالثًا: فتاوى خاصة بالأحوال الشخصية: 

من فتاوى الأحوال الشخصية الصادرة عن المجلس: فتواه بخصوص صيغةِ طلاقٍ غير صريحة، فقد وُجِّه إلى المجلس سؤال نصه: من ألحَّت عليه زوجةٌ حادة الطبع بالقول: (فَتْصِلْ معاي) فقال: (متفاصلين) ناويًا انفصال الأجسام، ما الذي يترتب على ذلك شرعًا؟

الجواب: للطلاق -الذي هو حلُّ للعصمة- أركانٌ من جملتها اللفظ أو ما يقوم مقامه. واللفظ بالنظر إلى لزوم وقوع الطلاق به ثلاثة أنواع:

1- صريح: وهو ما لا ينصرف عن الطلاق بنية صرفه عنه.

2- كناية ظاهرة: وهي اللفظ الظاهر في الطلاق، ولا ينصرف عنه إلا بنية.

3- كناية خفية: وهي اللفظ الذي يتوقف لزوم الطلاق به على نية المتكلم به.

قال في منح الجليل حاكيًا عن ابن عرفة: (ولفظه صريح: وهو ما لا ينصرف عنه بنية صرفه، وكنايته: ظاهر: وهو ما ينصرف عنه بها، وخفي: وهو ما تتوقف دلالته عليه عليها)([24]).

والعبارة الواردة في هذا السؤال وهي قول الرجل لزوجته (متفاصلين) ليست من الصريح؛ لحصره في ألفاظ محدودة ليست هذه منها، وليست من الكناية الخفية؛ لوجود احتمال الدلالة فيها على الطلاق. فلم يبق إلا أنها كناية ظاهرة في الطلاق تنصرف عنه بنية.

وعليه: فإن المجلس يرى أن هذا السائل لا يلزمه طلاق، وتقبل منه إرادة غيره مما احتملته عبارته([25]).

فالرأي الذي أخذت به هذه الفتوى يدل على حرص المذهب المالكي على حفظ الرابطة الزوجية واستقرار الأسرة.

-وفتواه الأخرى التي تتضمن زواج المحلل، وكان نص السؤال: فتاة مطلقة ثلاثًا من رجل لها منه ابنان، وقد اتفقت معه أن تبحث عن محلل يتزوجها ثم يطلقها بعد فترة قصيرة كي يتمكن من الزواج بها من جديد، وكانت هذه الفتاة تقيم مع جدتها في مدينة غير تلك التي وجد فيها أبوها. وذات ليلة أخبرتها صديقتها أنها وجدت لها رجلًا مستعدًا لأن يتزوجها ثم يطلقها حتى يتمكن زوجها الأول من الزواج بها من جديد، وقد اتفقت صديقتها مع هذا الرجل المذكور أن لا يمكث معها سوى ليلة واحدة ثم يطلقها بعد ذلك، فلما أراد إبرام العقد ذكر لها الرجل أنه يعرف إمام مسجد بالقرب من منزلها وأنه سيتصل به ليعقد بينهما، فاتصل بشخص هو في الواقع صديق له وليس إمام المسجد الذي ذكره لها، وقد أعطاه إياها لتكلمه فقدمت له نفسها باسم مستعار وقالت له: (إني موكلتك على العقد)، وكل ذلك كان من تلقين صديقتها والرجل المحلل. وقد أعطاها الرجل عشرة آلاف أوقية وأهدت له خمسة آلاف أخرى، فأخذ الهدية ورد الفدية، ووعدها أنه سيمنحها الليلة القادمة ما تريده وهو الطلاق. إلا أنه لما جاء الليلة الموالية قال لها بالحرف الواحد: (لن أطلقكِ) فخرجت عنه مغضبة، وبعد ذلك علم أبوها بالأمر فاستنكره بشدة، ثم عمد إلى إحضار شهود لفسخ ذلك العقد، ومنع الرجل من الاتصال بابنته. فما الحكم الشرعي في هذه القضية؟

الجواب: الظاهر أن هذا النكاح غير صحيح لما يلي:

أولًا: تضمنه الاتفاق على أجل بين الزوجين، والنكاح المؤجل هو نكاح المتعة، وقد نهى عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- نهيَ تحريمٍ إلى يوم القيامة، وقد جاءت نصوص أهل المذهب مصرحة بفسخه على الإطلاق، قال خليل في بيان الأنكحة اللازم فسخها: (ومطلقًا كالنكاح لأجل)([26]).

ثانيًا: ما وقع فيه من الاعتماد على مكالمة هاتفة، وهذه لا يمكن الاعتماد عليها إلا في حالة القطع بمعرفة الصوت، وهؤلاء ليست بينهم معرفة.

ثالثًا: ما وقع فيه من كون مَن اتصلت به المرأة وأذنت له في أن يزوجها ليس هو الذي قصدت أصلًا، وقد وقع الدخول قبل الإشهاد على رضاها هي بالنكاح، وهذا يحتم الفسخ.

وإذا تجاوزنا هذا كله وسلمنا جدلًا بصحة هذا النكاح: فقد وقع بالولاية العامة مع وجود الولي الخاص غير المجبِر، والمرأة شريفة حسب السؤال، فلوليها الخاص الرد والإمضاء ما لم يحصل الدخول والطَّول معًا، والولي فسخه فور علمه وأشهد على ذلك، وهذا الفسخ صحيح لأنه حصل بعد الدخول وقبل الطَّول، قال في المختصر: (وإن قرب فللأقرب أو الحاكم إن غاب: الرد).

قال الحطَّاب عند هذا النص: (يعني: إذا اطلع على النكاح الذي عقد بالولاية العامة مع وجود الولاية الخاصة في الشريفة وكان ذلك بالقرب فللولي الأقرب أن يرده، وسواء دخل بها أو لم يدخل، قال في المدونة: قال ابن القاسم: إذا أجازه جاز دخل الزوج أم لا، وإذا أراد فسخه بحدثان الدخول فذلك له)([27]).

ولتعلم هذه المرأة أن ما وقع لها لا يحلها لزوجها الأول؛ لأنه نكاح غير صحيح، وعلى تقدير صحته فإنه غير لازم؛ لتخيير الولي في فسخه وإمضائه، وقد فسخه، ومن شروط النكاح الذي يُحِل المبتوتة أن يكون صحيحًا لازمًا، قال خليل: (والمبتوتةُ؛ حتى يولج بالغٌ قدر الحشفة بلا منع ولا نكرة فيه بانتشار في نكاح لازم)([28]).

وخلاصة القول: أن هذا النكاح فاسد لعقده، وفسخه إما لازم أو هو أحد خيارات الولي، وقد فعله، ولا تقع به حِلِّية المبتوتة»([29]).

 

 

 

([1]) نظرة تاريخية في حدوث المذاهب الفقهية الأربعة لأحمد تيمور باشا (ص63-67).

([2]) فتوى رقم (1/2013)، مجلة منارة الفتوى، تصدر عن المجلس الأعلى للفتوى والمظالم بموريتانيا، المطبعة الوطنية– نواكشوط، العدد الأول، (ص24).

([3]) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/536).

([4]) انظر: التاج والإكليل لمختصر خليل (3/383).

([5]) انظر: التبصرة للخمي (2/758)، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية-قطر، التاج والإكليل لمختصر خليل (3/383).

([6]) انظر: شرح زروق على متن الرسالة لابن أبي زيد القيرواني (1/453)، دار الكتب العلمية-بيروت.

([7]) فتوى رقم (73/2015)، مجلة منارة الفتوى، العدد الرابع، (ص 151، 152).

([8]) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، رقم (8080).

([9]) انظر: مواهب الجليل في شرح مختصر خليل (4/276).

([10]) فتوى رقم (28/2014)، مجلة منارة الفتوى، العدد الثالث، (ص 154، 155).

([11]) الشرح الصغير للشيخ الدردير مطبوع مع حاشية الصاوي (3/19).

([12]) انظر: الشرح الكبير للشيخ أحمد الدردير مطبوع مع حاشية الدسوقي (3/354).

([13]) الذخيرة للقرافي (8/52).

([14]) منح الجليل شرح مختصر خليل (6/270).

([15]) مواهب الجليل في شرح مختصر خليل (5/127).

([16]) السابق (5/128).

([17]) فتوى رقم (91/2015، 47/2013)، مجلة منارة الفتوى، العدد الرابع، (ص157).

([18]) أخرجه البخاري، رقم (2372)، ومسلم، رقم (1722).

([19]) انظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم للقرطبي (5/189)، دار ابن كثير-دمشق.

([20]) انظر: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة لابن رشد (15/360).

([21]) فتوى رقم (6/2013)، مجلة منارة الفتوى، العدد الأول، (ص26).

([22]) أخرجه أحمد في مسنده، رقم (23605)، والدارقطني في سننه، رقم (2886).

([23]) أخرجه الدارقطني في سننه، رقم (4389)، والطبراني في معجمه الأوسط، رقم (2208).

([24]) منح الجليل شرح مختصر خليل (4/74).

([25]) فتوى رقم (9/2013)، مجلة منارة الفتوى، العدد الأول، (ص27).

([26]) مختصر العلامة خليل، تحقيق: أحمد جاد (ص98)، دار الحديث-القاهرة.

([27]) مواهب الجليل في شرح مختصر خليل (3/431).

([28]) مختصر العلامة خليل (ص100).

([29]) فتوى رقم (25/2014)، مجلة منارة الفتوى، العدد الثالث، (ص161-163).

اترك تعليقاً