البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الفصل الخامس: تعدد الروايات والأقوال في المذهب المالكي.

المبحث الثالث: أسباب تعدد الأقوال والروايات في المذهب.

206 views

إن تعدد الأقوال أمر لا بد منه في كل مذهب حي متجدد يراعي مصالح الناس وظروف عصرهم وأعرافهم المختلفة، وكذلك لأن الحق قد يدفع المجتهد لتغيير اجتهاده في المسألة الواحدة لعثوره على دليل لم يكن يعلمه ثم علمه أو لأنه رأى من تجربة أحوال الناس ما يثبت خطأ اجتهاده الأول، أو لأنه تنبه إلى أمر في دليله الذي استدل به فعدل عنه.

وفيما يلي نعرض أسباب تعدد الأقوال والروايات في المذهب المالكي في مطلبين:

المطلب الأول: أسباب تعدد الأقوال في المذهب:

ترجع أسباب تعدد الأقوال في المذهب المالكي إلى أمرين:

الأول: ناتج عن اجتهاد أصحاب الإمام مالك.

الثاني: ناتج عن شرح المدونة، والتي تُعد المصدر الأساسي للفقه المالكي.

أما فيما يتعلق بالأمر الأول فيقول الإمام محمد أبو زهرة: «ولما جاء عصر التلاميذ اختلفوا في استنباطهم اختلافًا كثيرًا، وأُضيفت أقوالهم التي لم يُعرف لمالك رأي فيها إلى المذهب، بل أضيفت بعض الأقوال التي خالفوا بها شيخهم فيما عُلم له فيه رأي إلى المذهب لأنها مبنية على أصوله ومنهاجه وإن اختلفت في بعض النتائج عما وصل إليه… فعُدَّت أقوالهم من ذلك المذهب الكبير. ولما خلف من بعد التلاميذ المخرِّجون كان لا بد أن تختلف نتائجهم في تخريجهم في المذهب فكان لا بد أن يختلفوا في أقيستهم على المسائل المنصوص عليها، وأن يختلفوا في إدراك وجوه المصالح التي أَفْتَوْا على أساسها لاختلاف المصالح باختلاف الأشخاص والبيئات والأعراف وخصوصًا أنهم كانوا في أقاليم مختلفة…فكان هذا الاختلاف مع اتحاد الأصول سببًا في كثرة الأقوال»([1]).

وأما الأمر الثاني -أي تعدد الأقوال نتيجة لشرح المدونة- فنلخِّص أسبابه فيما يلي:

1-تعددت الأقوال عند شرح مسألة من مسائل المدونة بسبب اختلاف الشراح في فهم المراد من لفظ المدونة في تلك المسألة، سواء أكان ذلك الاختلاف بين الشارحين كابن يونس، أو المختصرين كالشيخ خليل، أو المحشين كعياض وأبي إبراهيم.

2-قد تكون هناك أقوال خارج المدونة، فيريد كل شارح لها أن يحمل لفظ المدونة على قول من تلك الأقوال.

3-قد ينظر شُرَّاح المدونة في الأدلة الشرعية فيقتضي نظر أحدهم فيها خلاف مقتضى نظر الآخر، فيحمل كل منهم نص المدونة على ما اقتضاه نظره فتكون تأويلاتهم للفظ المدونة أقوالًا حقيقية لا مجرد تفاسير للفظها.

والجدير بالملاحظة أن الشيخ خليل في مختصره عبَّر عن اختلاف شراح المدونة في الفهم بالتأويلين والتأويلات، ولم يعبر بالقولين والأقوال، وذلك لاختلاف فقهاء المالكية هل تُعد تلك الاختلافات الواقعة في فهم المسألة أقوالًا أم لا؟

ونعرض فيما يلي رأي كل فريق:

1-رأي ابن عبد السلام ومن تبعه:

ذهب ابن عبد السلام الهواري التونسي (ت 749هـ) ومن تبعه إلى أن اختلاف شراح المدونة في معنى المسألة لا يُعد أقوالًا فيها؛ لأن الشراح إنما يبحثون عن تصوير اللفظ وتوضيحه، والقول الذي ينبغي أن يُعد خلافًا في المذهب هو ما يرجع إلى التصديق، أي إدراك أن النسبة واقعة أو ليست بواقعة، وذلك أن الشُّرَّاح للفظ الإمام إنما يحتجون على صحة مرادهم بقول ذلك الإمام وبقرائن كلامه من عود ضمير وما أشبهه، وغير الشراح من أصحاب الأقوال إنما يحتج لقوله بالكتاب والسنة أو غيرها من أصول الشريعة؛ فلا ينبغي أن تُعتبر تلك التفسيرات المتعلقة بالمسألة كأنها أقوال متضمنة لأحكام مختلفة، وإنما ينبغي أن يُعد الكلام الذي شرحوه قولًا، ثم الخلاف إنما هو في تصوير معناه؛ لأن مراد الشارح تصوير معنى اللفظ وبيان مراد صاحبه به، سواء أكان في نفسه صحيحًا أم فاسدًا، ومراد صاحب القول بيان حكم المسألة من حيث الثبوت والانتفاء أو الصحة والبطلان، وهذا عمل اجتهادي لا عمل تفسيري؛ فشارح كلام مؤلفٍ ما قائل بلسان حاله: هذا مراد المؤلف، وربما قاله بلسان مقاله، وصاحب القول قائل بلسان مقاله: هذا حكم الله في المسألة، وبينهما فرق شاسع([2]).

وإلى رأي ابن عبد السلام الهواري ذهب ابن عاصم في أرجوزته «مرتقى الأصول» حيث قال:

وكل ما فهمه ذو الفهمِ       ليس بنصٍّ لعروض الوهمِ

فالخُلْفُ بين شارحي المدوَّنةْ   ليس بقولٍ عند من قد دوَّنهْ

لأنَّه يرجعُ للتصـــــــــــــــــــــــــــــوُّرِ      فعَدُّهُ قولًا من التهــــــــــــــــــــوُّرِ([3]).

2-رأي ابن الحاجب وكثير من المتأخرين:

يرى هؤلاء أن اختلاف شراح المدونة يُعد أقوالًا فيها؛ لأن الاختلاف في فهم اللفظ يئول إلى الاختلاف فيما ينبني على ذلك من أحكام، فكل شارح يقول: هذا معنى هذه المسألة ولا معنى لها غيره؛ فآل الاختلاف في معنى اللفظ إلى الاختلاف في الأحكام المأخوذة من معنى ذلك اللفظ، ولو لم تكن تلك التأويلات أقوالًا يجوز العمل بها لم تكن لها فائدة وتكون باطلة، وتصير المسألة المشروحة ملغاة إذا لم يترجح تأويل أحدهما على الآخر بمرجح([4]).

ويزيد الشيخ عليش هذا الرأي إيضاحًا بقوله: «إن مفهومات الشراح منها -أي من المسألة المشروحة- تُعد أقوالًا في المذهب يُعمل ويُفتى ويُقضى بأيها إن استوت، وإلا فبالراجح، أو الأرجح، وسواء وافقت أقوالًا سابقة عليها منصوصة لأهل المذهب أم لا، وهذا هو الغالب. فإن قيل: المدونة ليست قرآنًا ولا أحاديث صحيحة فكيف تُستنبط الأحكام منها؟ قيل: إنها كلام أئمة مجتهدين عالمين بقواعد الشريعة والعربية، مبينين للأحكام الشرعية، فمدلول كلامهم حجة على من قلدهم، منطوقًا كان أو مفهومًا، صريحًا كان أو إشارة؛ فكلامهم بالنسبة له كالقرآن والحديث الصحيح بالنسبة لجميع المؤمنين»([5]).

وعلى هذا القول الذي يرى أن التأويلات أقوال في المذهب فإن الاختلاف في الفروع يتسع.

3-القول بالتفصيل:

ومعناه أن يقع التخريج أو التأويل من عالم بالمذهب أصوله وفروعه، مراعيًا القواعد العامة للمذهب، وهذا هو مسلك ابن رشد والمازري والتونسي وأكثر الإفريقيين والأندلسيين كما نص على ذلك الحطَّاب([6]).

قال اللقاني: «والتحقيق أن بعضها -يقصد الأقوال المخرجة والمؤوَّلة في المذهب- أقوال وبعضها تأويلات»([7]).

والذي يبدو أن هذا الرأي هو الأقرب إلى الصواب.

المطلب الثاني: أسباب تعدد الروايات في المذهب:

ترجع هذه الأسباب إلى أن النقل كان أساسه الرواية أكثر من الكتابة وكان الرواة متعددين، ويمكن تلخيص أسباب تعدد الروايات فيما يلي:

1-كان للإمام مالك رحمه الله آراء مختلفة في بعض المسائل ولم يعرف السابق منها حتى يعرف رجوعه عنها، وفي بعض الأحيان كان بعض الرواة يعلم رجوعه فيروي القول الثاني بينما الراوي الآخر لم يحضر لسماع القول الثاني فيروي الأول.

والمثال على هذا هو ما أورده الباجي في المنتقى في مسألة: من أوصى بعبد، وقيمة العبد أكثر من ثلث المتروك، فقد اختلف جواب الإمام مالك في هذه المسألة فقال أولًا: يؤخذ الثلث من مجموع المال بما فيه العبد، ورَوَى هذا القول علي بن زياد عن مالك.

ثم رجع مالك عن ذلك وقال: إن الثلث يُقتطع من العين الموصَى بها خاصة، وهي العبد، وروى القولين معًا ابن القاسم وأشهب([8]). وهذا القول الثاني هو المختار؛ فلا شك أن عليًّا بن زياد لم يحضر لسماع القول الثاني.

2-الغلط في السماع كأن يجيب الإمام بحرف النفي إذا سئل عن حادثة ويقول: لا يجوز، فيشتبه على الراوي فينقل ما سمع.

3-أن يكون الإمام قال أحد الحكمين على وجه القياس، والآخر على وجه الاستحسان، فيسمع كل واحد من الرواة أحدهما فينقل كما سمع.

والمثال على هذا مسألة الأجير أو الراعي المشترك إذا هلك الشيء الذي يرعاه في يده، فمقتضى القياس أنه لا يضمن، ومقتضى الاستحسان أن يضمن محافظةً على أموال الناس.

فلو فرضنا أن أحد الرواة سمع القول الأول، والآخر سمع القول الثاني فتتعدد الرواية نتيجة لذلك.

وقد نظم الحكم بالضمان الزقَّاق في لاميته بقوله: كذا غُرم الرعاة قد انجلا.

وكذا عبد الرحمن الفاسي في نظم العمل فقد قال:

ضمانُ راعِ غنم الناس رُعِي    ألْحِقْهُ بالصانع في الغُرْمِ تَعِي

وذهب إلى عدم الضمان الونشريسي في رسالة «إضاءة الحلك في الرد على من أفتى بتضمين الراعي المشترك».

4-النقل بالمعنى كثيرًا ما يؤدي إلى الاختلاف وتعدد المنقول (يُنظر: الأسباب الراجعة إلى شرح المدونة).

5-أن يكون الجواب في المسألة من وجهين: من جهة الحكم، ومن جهة الاحتياط؛ فينقل الرواة كل واحد منهم كما سمع، وكثير من المسائل المختلف فيها في باب الذرائع ترجع إلى هذا السبب.

والملاحظ أن أسباب تعدد الروايات المذكورة -ما عدا الغلط في السماع- فإن الاختلاف فيها يرجع إلى جهة المنقول عنه؛ لابتناء الاختلاف فيها على اختلاف القولين المرويين، ويؤيده أن ناقل الروايتين قد يكون واحدًا.

والتفريق بين اختلاف الروايتين واختلاف القولين هو أن اختلاف القولين يرجع إلى المنقول عنه لا إلى الناقل؛ فالقولان المختلفان نص عليهما معًا المجتهد، أما اختلاف الروايتين فيرجع إلى الناقلين لا إلى المنقول عنه([9]).

 

 

 

 

 

 

 

([1]) انظر: مالك حياته وعصره آراؤه وفقهه للشيخ محمد أبو زهرة (ص455، 456)، مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة الثانية.

([2]) انظر: نظرية الأخذ بما جرى به العمل في المغرب في إطار المذهب المالكي لعبد السلام العسري (ص26-28)، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية-المملكة المغربية.

([3]) نسب تلك الأبيات لمرتقى الأصول أحمد السباعي الرجراجي في كتابه منار السالك إلى مذهب مالك (ص62) المطبعة الجديدة بفاس.

([4]) انظر: نظرية الأخذ بما جرى به العمل في المغرب في إطار المذهب المالكي (ص29).

([5]) انظر: منح الجليل شرح مختصر خليل للشيخ محمد عليش (1/22)، دار الفكر-بيروت.

([6]) انظر: مواهب الجليل في شرح مختصر خليل (6/94).

([7]) منار أصول الفتوى وقواعد الإفتاء بالأقوى لإبراهيم اللقاني (ص284)، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية-المغرب.

([8]) انظر: المنتقى شرح الموطأ للباجي (6/163)، دار الكتاب الإسلامي-القاهرة.

([9]) انظر: نظرية الأخذ بما جرى به العمل في المغرب في إطار المذهب المالكي (ص32، 33).

اترك تعليقاً