البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الفصل الخامس: تعدد الروايات والأقوال في المذهب المالكي.

المبحث الثاني: منشأ اختلاف الروايات والأقوال الفقهية في المذهب.

127 views

سبقت الإشارة إلى أن إرهاصات الاختلاف الفقهي في المذهب المالكي ترجع إلى عهد مؤسسه الإمام مالك رحمه الله، فقد نُقل عنه روايات مختلفة في كثير من المسائل، حيث كان يغير اجتهاده فيها إذا كان هناك موجِب لذلك.

وقد كان لازدواجية الشخصية العلمية للإمام مالك رحمه الله أثر بالغ في نشوء الاختلاف الفقهي في المذهب، فهو فقيه ومحدث في وقت واحد، ولهذا كان له مجلسان للتدريس أحدهما للحديث والآخر للمسائل الفقهية كما سبقت الإشارة.

وما من شك أن لهذين المجلسين اللذين كان يعقدهما الإمام أثرًا قويًّا في توجيه تلامذته من بعده، وهذا ما يمكن استنتاجه من وصية الإمام مالك لكلٍّ من ابن القاسم وابن وهب والحارث بن أسد لما أرادوا توديعه. قال الحارث: لما أردنا وداع مالك دخلت عليه أنا وابن القاسم وابن وهب، فقال له ابن وهب: أوصنا. فقال: اتق الله وانظر عن تنقل. وقال لابن القاسم: اتق الله وانشر ما سمعت. وقال لي: اتق الله وعليك بتلاوة القرآن. قال الحارث: لم يرني أهلًا للعلم([1]).

فقد وصَّى مالك رحمه الله ابنَ وهبٍ بالتحري في النقل عن الرجال؛ لأنه يعلم أنه لا يقتصر في الأخذ على شيخه وحده، في حين أوصى ابن القاسم بنشر ما سمعه؛ لأن ما سمعه أخذه عن شيخ واحد ثقة([2]).

فعُلم مما أوردناه أن الاختلاف الفقهي في المذهب المالكي قد ظهرت بواكيره منذ عصر الإمام وتلامذته، وقد اتخذ هذا الاختلاف المذهبي آنذاك اتجاهين رئيسين، وهما:

الاتجاه الأول: الاهتمام بأقوال وآراء مؤسس المذهب وتحريرها دون مراعاة أي اعتبارات أخرى. ويمثل هذا الاتجاه جماعة من تلاميذ الإمام مالك أشهرهم عبد الرحمن بن القاسم، ويمكن أن يسمَّى هذا الاتجاه بالاتجاه الفقهي المحض أو (اتجاه المدونة).

الاتجاه الثاني: مراعاة أقوال الإمام مالك مع النظر فيما تقتضيه الأدلة من قرآن وسنة وإجماع وغير ذلك. وهذا الاتجاه يمثله جماعة من تلاميذ الإمام أشهرهم عبد الله بن وهب، ويمكن أن نسمي هذا الاتجاه بالاتجاه الأثري أو (اتجاه الموطأ).

ولهذا نجد عند فقهاء المالكية أحيانًا التفريق بين مذهب «الموطأ» ومذهب «المدونة» عند إيراد الخلاف الفقهي في المذهب، ومن ذلك على سبيل المثال: «صلاة الجنازة وسجود التلاوة فيُوقَعان بعد طلوع الفجر وقبل صلاة الصبح وقبل الإسفار، وهو مذهب المدونة، وفي (الموطأ) المنع من إيقاعهما بعد صلاة الصبح قبل الإسفار»([3]).

وقد استمرَّ أثر هذين الاتجاهين عبر تاريخ المذهب، وكان لكل اتجاه مناصرون من علماء المذهب وأتباعه في كل عصر، غير أن الاتجاه الأثري يظهر مرة ويختفي أخرى، حتى غلب في النهاية إطلاق المذهب على الاتجاه الأول فقط، وكل ما خرج عن مقتضى القواعد المذهبية من الأقوال الاجتهادية لا يُنسب للمذهب([4]).

وعلى ذلك فالخلاف الفقهي في المذهب المالكي خلاف قديم أوجبته جملة من الأسباب سنعرض لها في المبحث التالي.

 

 

 

 

 

([1]) ترتيب المدارك وتقريب المسالك (3/322).

([2]) انظر: ظاهرة اختلاف الروايات والأقوال الفقهية في المذهب المالكي (ص22).

([3]) انظر: الدر الثمين والمورد المعين لمحمد بن أحمد ميارة (ص273)، تحقيق: عبد الله المنشاوي، دار الحديث-القاهرة، 1429هـ-2008م.

([4]) انظر: ظاهرة اختلاف الروايات والأقوال الفقهية في المذهب المالكي (ص22، 23).

اترك تعليقاً