البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الفصل السابع: منهج الإفتاء في الفقه المالكي.

المبحث الرابع: أسس وقواعد الترجيح بين الأقوال.

145 views

وضع المالكية أسسًا وقواعد للترجيح بين الأقوال، سواء كانت الأقوال والروايات الموجودة في المدونة للإمام مالك أو لأحد من أصحابه، أو في حالة وجود أكثر من قول للإمام مالك وكذلك عند اختلاف الأئمة في التشهير لأي مسألة بأي لفظ من ألفاظ التشهير كقولهم: اتفقوا على كذا أو قولهم: اتفاقًا أو على القول المشهور أو قولهم: الراجح أو على الأصح أو الظاهر كذا أو على المعتمد وغيره، وذلك من خلال ما يأتي:

أولًا: ترتيب الروايات والأقوال الموجودة في المدونة:

1-يقدم رأي الإمام مالك لأنه المؤسس للمذهب؛ فرأيه مقدَّم على غيره.

2- يقدم قول ابن القاسم في المدونة على قول غيره المذكور في المدونة لأنه «ابن القاسم لزم مالكًا أزيد من عشرين سنة، ولم يفارقه حتى توفي، وكان لا يغيب عن مجلسه إلا لعذر، وكان عالـمًا بالمتقدم والمتأخر»([1]).

3-يقدم قول غيره في المدونة على قول ابن القاسم في غير المدونة لثبوتها ثبوتًا صحيحًا.

يقول الشيخ أبو الحسن الطنجي: «قول مالك في المدونة أولى من قول ابن القاسم فيها؛ لأنه الإمام الأعظم، وقول ابن القاسم فيها أولى من قول غيره فيها؛ لأنه أعلم بمذهب مالك، وقول غيره فيها أولى من قول ابن القاسم في غيرها وذلك لصحتها»([2]).

 ثانيًا: إذا وُجِد أكثر من قول للإمام مالك:

1-إذا وجد أكثر من قول للإمام مالك فإنه يؤخذ بالقول المتأخر لأنه الأرجح، ويُترك المتقدم غالبًا إلا ما رجحه أصحابه.

2-على المجتهد أن يُعمل نظره حسب قواعد المذهب وأصوله إذا التبس عليه تاريخ الأقوال فلم يعلم المتقدم من المتأخر.

وينطبق ما سبق إذا تعارض نصان لمجتهد من فقهاء المالكية.

يقول أبو عبد الله محمد الحميري: «الذي يجب الاعتماد عليه إذا تعارض نصان لمالك رحمه الله أو لغيره من المجتهدين أن يُنظر إلى التاريخ فيُعمل بالمتأخر، فإذا التبس التاريخ عليه -يعني وكان من أهل الفتيا، وقد قررنا أنه لا يفتي في مذهب الإمام إلا من كان مجتهدًا في ذلك المذهب، فمثل هؤلاء إذا أشكل عليهم التاريخ في مذهب مالك فهم يعرفون أصول من اجتهدوا في مذهبه ومأخذه وما ينبني عليه مذهبه»([3]).

ثالثًا: التشهير عند اختلاف المغاربة والعراقيين والمدنيين والمصريين:

1-إذا اختلف العراقيون والمغاربة فالعمل في الأكثر على تشهير المغاربة؛ لأن المشهور عندهم وعند المصريين هو مذهب المدونة([4]).

2-إذا اختلف المصريون والمدنيون قدم قول المصريين.

3-إذا اختلف المدنيون والمغاربة قدم المدنيون.

قال الشيخ العدوي: «وإذا اختلف المصريون والمدنيون قُدم المصريون غالبًا، والمغاربة والعراقيون قُدمت المغاربة… قال عج: تقديم المصريين على من سواهم ظاهر؛ لأنهم أعلام المذهب؛ لأن منهم ابن وهب وابن القاسم وأشهب، وكذا تقديم المدنيين على المغاربة؛ إذ منهم الأخوان، ويظهر تقديم المغاربة على العراقيين؛ إذ منهم الشيخان»([5]).

رابعًا: التشهير عند اختلاف الأئمة المجتهدين:

1-إذا كان الشخص أهلًا للترجيح بين الأقوال فعليه أن يجتهد ويُعمل النظر حسب قواعد المذهب لمعرفة المتقدم من المتأخر؛ فيكون المتأخر ناسخًا للمتقدم.

قال ابن الصلاح: قال مالك: في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مخطئ ومصيب فعليك بالاجتهاد، يعني أن للاجتهاد مجالًا فيما بين أقوالهم([6]).

2-إذا لم يكن أهلًا للترجيح فعليه أن يلجأ إلى النظر في صفات أصحاب الأقوال المتعارضة؛ فيأخذ الأكثر والأورع والأعلم. وقد سبق بيان ذلك.

يقول ابن فرحون: «فإذا وجد الطالب اختلافًا بين أئمة المذهب في الأصح من القولين، ولم يكن أهلًا للترجيح بالدليل فينبغي أن يفزع في الترجيح إلى صفاتهم الموجبة لزيادة الثقة بهم وبرأيهم، فيعمل بقول الأكثر والأورع والأعلم، فإذا اختص واحد منهم بصفة أخرى قُدم الذي هو أحرى منهما بالإصابة؛ فالأعلم الورع مقدم على الأورع العالم»([7]).

3-الترجيح بين الأقوال لمعنى خاص في أحدهما كأن يكون أرفق بالناس وأوفق ومراعاة للعادة والعرف.

يقول ابن فرحون: «لشيوخ المذهب المتأخرين كأبي الوليد بن رشد والباجي وللقاضي أبي بكر بن العربي واللخمي ونظرائهم اختيارات وتصحيح لبعض الروايات والأقوال عدلوا فيها عن المشهور، وجرى باختيارهم عمل الحكام والفتيا لما اقتضته المصلحة وجرى به العرف»([8]).

ويقول: «كل قول كان معناه أرجح فذلك أولى بأن يُفتى به»([9]).

4-ترجيح أحد القولين المتعارضين إذا وافق مذهبًا آخر معمولًا بهذا القول عندهم.

يقول ابن فرحون: «ومن وجوه الترجيح بين الأقوال المطلقة أنه إذا كان قول منهما يوافق مذهب أبي حنيفة المعمول به عندهم فهو أولى من القول الآخر»([10]).

5-إذا لم يستطع المرء أن يعمل بوجوه الترجيح السابقة عليه أن يلزم قول أحد علماء المالكية، «ومن لم يكن فيه محل لاختيار القول فله في اختيار المتعصبين من أصحابنا من نقادهم مقنع»([11])، وذلك إذا تساوى المشهرون في الرتبة، أما إذا لم يتساو المشهرون أخذ بقول أعلاهم. ولا يحل للمرء أن يتخير من الأقوال بناءً على التشهي والهوى، وإنما التخير مقيد بما سبق ذكره من قواعد الترجيح.

يقول الشيخ عليش: «إنما الترجيح بالوجوه المعتبرة شرعًا، وهذا متفق عليه بين العلماء؛ فكل من استمر على تقليد قول غير محقق، أو رجح بغير معنى معتبر فقد خلع الربقة واستند إلى غير شرع»([12]).

 

([1]) تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام (1/68).

([2]) تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام (1/70).

([3]) تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام (1/67).

([4]) كشف النقاب الحاجب عن مصطلح ابن الحاجب (ص67).

([5]) انظر: حاشية العدوي على شرح مختصر خليل للخرشي (1/49).

([6]) كشف النقاب الحاجب عن مصطلح ابن الحاجب (ص70).

([7]) كشف النقاب الحاجب عن مصطلح ابن الحاجب (ص69، 70).

([8]) انظر: كشف النقاب الحاجب عن مصطلح ابن الحاجب (ص66، 67).

([9]) السابق (ص71).

([10]) السابق نفسه

([11]) السابق (ص72).

([12]) فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك للشيخ محمد عليش (1/65)، دار المعرفة.

اترك تعليقاً