البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الفصل السادس: أبرز مزايا المذهب المالكي.

المبحث الثالث: تميز المذهب بكونه أكثر المذاهب أصولًا وأوفرها أدلة.

79 views

فمن أهم الخصائص اللافتة للنظر أن المذهب المالكي هو أكثر المذاهب المتبوعة أصولًا وأوفرها أدلة، وسواء في ذلك الأدلة النقلية والأدلة الاجتهادية، فقد تمسك المالكية بأصول لم يقل بها غيرهم، وقرروا أصولًا نفاها غيرهم تأصيلًا وعملوا بها تفريعًا.

قال الإمام محمد أبو زهرة في شأن كثرة أصول المالكية: «فإنه أكثر المذاهب أصولًا، حتى إن علماء من المذهب المالكي يحاولون الدفاع عن هذه الكثرة، ويدَّعون على المذاهب الأخرى أنها تأخذ بمثل ما يأخذ به من أصول عددًا، ولكن لا تسميها بأسمائها، ولا نريد الخوض في ذلك بل إنا نقول إن الأمر لا يحتاج إلى دفاع؛ لأن تلك الكثرة حسنة من حسنات المذهب المالكي يجب أن يُفاخِر بها المالكيون لا أن يُحمِّلوا أنفسهم مئونة الدفاع»([1]).

وهذه الكثرة في أصول الأدلة كان لها أثر في التفريع الفقهي والتخريج المذهبي؛ ذلك أن تنوع أصول الاحتجاج واختلاف أدلة الاستنباط يمنح المجتهد أن يكون في فتواه أقرب إلى الصلاح وأدنى إلى تحقيق العدل.

ومن علماء المالكية من عَدَّ أصول المذهب ستة عشر أصلًا، وهو اختيار أبي محمد صالح الهسكوري الفاسي (ت 653هـ) إذ قال: «الأدلة التي بنى عليها مالك مذهبه ستة عشر: نص الكتاب وظاهر الكتاب وهو العموم، ودليل الكتاب وهو مفهوم المخالفة، ومفهوم الكتاب وهو باب آخر، وتنبيه الكتاب، وهو التنبيه على العلة كقوله تعالى: {فإنه رجس أو فسقًا}. ومن السنة أيضًا مثل هذه الخمسة، فهذه عشرة. والحادي عشر الإجماع، والثاني عشر القياس، والثالث عشر عمل أهل المدينة، والرابع عشر قول الصحابي، والخامس عشر الاستحسان، والسادس عشر الحكم بسد الذرائع. واختلف قوله في السابع عشر وهو مراعاة الخلاف فمرة يراعيه ومرة لا يراعيه»([2]).

غير أنه يُلاحظ عليه أنه أهمل ذكر أصلين مهمين هما «المصلحة المرسلة» و«العرف»، فمن المعلوم أن الإمام مالكًا رحمه الله اعتمد هذين الأصلين في مذهبه كثيرًا، كما أن الهسكوري لم يذكر «الاستصحاب» و«شرع من قبلنا»، ولعل ذلك راجع إلى ضعفهما والخلاف فيهما.

ويلاحظ أيضًا أنه خلط بين الأصل باعتباره مصدرًا تشريعيًّا وبين طرق الدلالة على الحكم من ألفاظ الشارع فهذه ليست من الأصول وإنما هي من مباحث الألفاظ كالنص والظاهر ومفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة وتنبيه الخطاب فهذه ليست أدلة شرعية كالقياس والاستحسان ونحوهما عند المالكية؛ فالكتاب والسنة هما الدليلان، أما النص والظاهر ونحوهما فهي مسالك بيانية لخطاب الشارع، ومن ثم يصير عدد أصوله بعد حذف ما ليس بأصل تسعة أصول: الكتاب والسنة والإجماع والقياس وعمل أهل المدينة وقول الصحابي والاستحسان وسد الذرائع ومراعاة الخلاف.

ومنهم من قال إن عددها تسعة عشر أصلًا بالاستقراء كما عند الإمام القرافي (ت 684هـ) وهي كالآتي: الكتاب والسنة وإجماع الأمة وإجماع أهل المدينة والقياس وقول الصحابي والمصلحة المرسلة والاستصحاب والبراءة الأصلية والعوائد والاستقراء وسد الذرائع والاستدلال والاستحسان والأخذ بالأخف والعصمة وإجماع أهل الكوفة وإجماع العترة وإجماع الخلفاء الراشدين الأربعة([3]).

والناظر في هذه الأصول يجد أن بعضها ليست من أصول الفقه المالكي بحال كإجماع العترة والعصمة وغيرهما، وإنما ذكرها القرافي من باب استقراء أصول جميع المذاهب الإسلامية، ولذلك اختار منها الشيخ أبو زهرة أدق إحصاء لأصول مالك رحمه الله وعددها أحد عشر أصلًا، وهي القرآن والسنة والإجماع وإجماع أهل المدينة والقياس وقول الصحابي والمصلحة والعرف والعادات وسد الذرائع والاستصحاب والاستحسان([4]).

ومن الواضح أن مثل الإمام القرافي لا يخفى عليه أن مرتبة عمل أهل المدينة دون مرتبة إجماع أهل المدينة حيث لا يُعتد من عمل أهل المدينة على سبيل القطع إلا العمل النقلي المتصل، فهو وحده الحجة القاطعة فيكون في مرتبة إجماع أهل المدينة، أما عمل أهل المدينة الاجتهادي فهو محل خلاف، كما أنه لم يذكر أصلين: شرع من قبلنا ومراعاة الخلاف، ولعل ذلك راجع إلى الخلاف المشهور فيهما.

ومع حذف ما ليس من الأصول التي ذكرها العلامة حسن المشاط (ت 1399هـ) في كتابه «الجواهر الثمينة» كنص الكتاب وظاهره ونحو ذلك، تصير باقي الأدلة المذكورة كما يلي: الكتاب والسنة والإجماع والقياس وعمل أهل المدينة وقول الصحابي والاستحسان والمصالح المرسلة والاستصحاب وسد الذرائع والعوائد ومراعاة الخلاف، فصار مجموعها اثني عشر أصلًا لكنه لم يذكر أصل «شرع من قبلنا» لأن كثيرًا من المالكية لا يذكرونه على اعتبار أنه استدلال من الكتاب والسنة ليس إلا.

والذي نختاره في أصول فقه مالك إحصاء الإمام القرافي وحسن المشاط؛ لأن إحصاءهما لأصول فقه مالك من أوفى الإحصاءات وأجمعها، وتأسيسًا على ذلك يصير مجموع أصول الفقه المالكي بعد إضافة أصل «شرع من قبلنا» ثلاثة عشر أصلًا على النحو الآتي:

الكتاب والسنة والإجماع وعمل أهل المدينة وقول الصحابي وشرع من قبلنا والقياس والاستحسان والمصالح المرسلة والعرف وسد الذرائع ومراعاة الخلاف والاستصحاب.

وقد سبق بيان هذه الأصول.

كما انفرد الإمام مالك ببعض الأصول واحتفى بأصول أخرى بكثرة الاعتماد عليها. وأهم الأصول التي عُدَّت من مميزات المذهب المالكي انفرادًا أو كثرة تفريع: عمل أهل المدينة والمصلحة المرسلة وسد الذرائع ومراعاة الخلاف. وقد سبق بيان هذه الأصول فيما مرَّ.

 

 

 

 

([1]) مالك حياته وعصره-آراؤه وفقهه للشيخ محمد أبو زهرة (ص451)، مكتبة الأنجلو المصرية-القاهرة، الطبعة الثانية.

([2]) البهجة في شرح التحفة لأبي الحسن التسولي (2/219)، دار الكتب العلمية-بيروت.

([3]) انظر: الجواهر الثمينة في بيان أدلة عالم المدينة (ص115).

([4]) انظر: مالك حياته وعصره-آراؤه وفقهه للشيخ محمد أبو زهرة (ص258).

اترك تعليقاً