البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

الباب الثاني: الفتوى واستشراف المستقبل

الفصل الأول: علاقة الفتوى باستشراف المستقبل وأهمية المزج بينهما

122 مشاهدة

(وفيه خمسة مباحث):

١ـ أسماء فقه التوقع

٢ـ تعريف الفقه الافتراضي

٣ـ نشأة الفقه الافتراضي

٤ـ حكم الفقه الافتراضي

٥ـ أهمية الفتوى الافتراضية

أصالة الفقه المستشرف للمستقبل:

إن الفقه المستشرف للمستقبل يدخل في المصطلح الفقهي في فقه التوقع، وهو وإن كان مصطلحًا جديدًا إلا أنه قديم من حيث المعنى.

وفقه التوقع يسمى فقه «الترقب» عند المقري والزقاق وغيرهما، وقد بنوا عليه قاعدة المترقبات التي هي أصل لقاعدة التقدير والانعطاف، التي تقابلها قاعدة الظهور والانكشاف.

وفي توضيح ذلك يقول الشيخ محمد يحيى الولاتي رحمه الله في منظومته في القواعد الفقهية «المجاز الواضح»:

وَهَلْ حصولُ ذي التوقُّع أَتَى / مقـدَّرًا حين الوقـــوع أو أتَى

مقدَّرًا حين حصـولِ السَّببِ / فيه خلافٌ بين أهـلِ المذهــبِ

وهذه تُدعى بذاتِ الانعطافْ / عكسَ التي تُدعى بذات الانكشافْ

وقال رحمه الله في شرحه لها:

يعني أن الفقهاء من أهل المذهب اختلفوا في الشيء المترقب إذا حصل هل يقدر حصوله حين وقوعه، وكأنه فيما قبل ذلك كالعدم، أو يقدر حصوله حين حصل سببه الذي نشأ عنه؟.

ومن فروع القاعدة: الخلاف في وقت تقدير العتق المحكوم به إذا تأخر الحكم عن الزمان الذي أسندت البينة إليه العتق؛ فعلى أن المرتقب -إذا حصل- يقدر حصوله حين وقع يقدر العتق واقعًا يوم الحكم، وعلى أنه يقدر حين حصل السبب يقدر العتق واقعًا في الوقت الذي أسندته البينة.

ومن فروعها: الخلاف في إمضاء بيع الخيار هل يقدر واقعًا يوم الإمضاء؛ بناء على أن المترقب إذا حصل يقدر حصوله يومئذ؟ أو يقدر واقعًا يوم البيع بناء على أن المترقب إذا حصل يقدر حصوله يوم حصول سببه.

ومن فروعها: الخلاف في انعقاد صوم التطوع بنية قبل الزوال، فعلى أن المترقب إذا حصل يقدر واقعًا وقت حصول سببه ينعقد صوم التطوع بالنية قبل الزوال، وتنعطف النية على ما قبل وقتها من اليوم، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة، وعلى أن المرتقب إذا حصل يقدر واقعًا حين حصوله لا ينعقد صوم التطوع بالنية قبل الزوال، وهو مشهور مذهب مالك.

وقول الناظم رحمه الله:

وهذه تُدعى بذاتِ الانعطافْ / عكسَ التي تُدعى بذات الانكشافْ

معناه أن هذه القاعدة السابقة تدعى بذات الانعطاف، وتسمى عند الفقهاء بقاعدة «التقدير والانعطاف»، وهي عكس القاعدة التي تدعى عندهم بذات الانكشاف أي التي تسمى بقاعدة «الظهور والانكشاف».

ومعنى كونها عكسها: أن المترقَّب في هذه قد انكشف الغيب أنه وقع قبل ظهوره يقينًا، بخلاف ذات الانعطاف، فإن الغيب لم ينكشف فيها عن كون المرتقب وقع قبل ظهوره، بل تقدم سببه فقط.

ومن فروع القاعدة: الخلاف في طلاق من قال لزوجته: أنت طالق يوم قدوم زيد، أو إذا قدم آخر النهار، وبنينا على القول بعدم تنجيزه، هل يقدر واقعًا أول النهار؛ لأن الغيب قد انكشف أنه وقع حينئذ لتجري أحكام الطلاق من أول يوم على حقائقها؟، أو لا يقدر واقعًا إلا حين ظهوره فتجري أحكام الطلاق من حينئذ؟ خلاف، والمشهور الأول.

وفائدة الخلاف: أن المرأة إذا كانت طاهرة أول النهار، وحاضت آخره وقت وقوع المعلَّق عليه أنها تحسب طهرها أول النهار من الأقراء الثلاثة على القول الأول المشهور، ولا تحسبه منها على الثاني.

ومن فروعها: الخلاف في رد النفقة من المرأة التي دفعت لها لظنها حاملًا ثم تبين عدم حملها؛ فعلى أن الحمل يقدر معدومًا عند ابتداء دفع النفقة: ترد النفقة من أول الحمل إلى وقت ظهور عدمه، وهو المشهور، وعلى أنه لا يقدر عدمه إلا عند انكشافه لا تردها.

ومن فروعها: الخلاف في رد قسمة مال المفقود بأرض الإسلام إذا اقتسم الورثة ماله ثم تبين أنه حي، وقدم بعدما أنفقوا على أنفسهم من ماله، فعلى أن المعتبر وقت ظهور الحياة فقط لا ترد القسمة، ولا يرد إليه الورثة ما أنفقوا على أنفسهم من ماله، لأنه حكم مضى، وعلى أن المعتبر ما انكشف عنه الغيب من كونه حيًّا حين اقتسام ماله ترد القسمة ويرد إليه الورثة ما أنفقوا على أنفسهم من ماله، وهو مذهب مالك.

ومن فروعها: الخلاف في مسألة من قال: آخر امرأة أتزوجها طالق، فإنه يكف عن كل امرأة تزوجها حتى يتزوج غيرها، فيرسل عليها حينئذ؛ لانكشاف الغيب عن صحة عصمتها بأنها ليست آخر امرأة يتزوجها، فإذا مات عن امرأة لم يتزوج عليها صار ترك التزوج والموت كاشفين كونها آخر امرأة يتزوجها. وحينئذ فهل يسند الطلاق إلى حال عقد نكاحها بناء على اعتبار ما انكشف عنه الغيب؟ أو يسند إلى وقت الموت بناء على اعتبار وقت ظهور كونها آخر امرأة؟

ومن فروعها: الخلاف في مسألة الصانع يغرم قيمة المصنوع لدعواه الضياع، ثم يوجد؛ فعلى اعتبار ما انكشف عنه الغيب يأخذ المصنوع ربه ويرد للصانع القيمة، وعلى أن المعتبر وقت وجدانه فقط يبقى المصنوع للصانع ولا ترد له القيمة.

ومن فروعها: الخلاف في مسألة تعدي المكتري أو المستعير على الدابة فتضل ويغرم قيمتها ثم توجد؛ فعلى اعتبار ما انكشف عنه الغيب يأخذ الدابة ربها ويرد للمكتري أو المستعير القيمة، وعلى أن المعتبر وقت الوجدان فقط تبقى الدابة للمعتدي، ولا يرد ربها القيمة(1).

1 انظر: الدليل الماهر الناصح شرح نظم المجاز الواضح، محمد يحيى الولاتي (ص٦٢-٦٦).

المبحث الأول

أسماء فقه التوقع

أطلق البعض على فقه التوقع: الفقه الارتيادي، وفقه الترقب، والفقه الافتراضي.

وفيما يلي نعرض لنبذة عن كل اسم منها:

أـ الفقه الارتيادي:

واشتقاق هذا الاسم من الارتياد، وهو في اللغة الطلب والبحث لاختيار الأفضل.

جاء في لسان العرب: (والرائد: الذي يرسل في التماس النجعة وطلب الكلأ، والجمع رواد مثل زائر وزوار. وفي حديث علي في صفة الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين: يدخلون روادًا ويخرجون أدلة، أي يدخلون طالبين للعلم ملتمسين للحلم من عنده ويخرجون أدلة هداة للناس. وأصل الرائد الذي يتقدم القوم يبصر لهم الكلأ ومساقط الغيث. ويقال: بعثنا رائدًا يرود لنا الكلأ والمنزل ويرتاد والمعنى واحد أي ينظر ويطلب ويختار أفضله)(1).

فهو يبصر لهم ما لا يبصرونه بأنفسهم، ويتقدمهم ليستطلع لهم الحال ويختار لهم أنسب البدائل من الخيارات المتاحة، وينبِّئهم بما يكون عليه شأنهم مستقبلًا من خلال استطلاعه ونظره.

فعلى ذلك فإن الفقه الارتيادي فقه يبحث في مسائل أو أحوال لم تحصل بعد، وإنما يُتوقع حصولها مستقبلًا؛ فيُعمل المختص نظره فيها ويختار الحكم الشرعي المناسب لمقتضى الحال؛ بناء على أدلة الشرع وقواعده.

وهو كذلك يبحث في الأحوال المتوقَّع تغيرها وآثار هذه التغيرات، وهل تقتضي استعدادًا خاصًّا أو حكمًا مناسبًا؛ لارتباط التشريع السابق بأحد المتغيرات(2).

ب- فقه الترقب:

جاء في اللغة: (الرقيب: المنتظر. تقول: رقبت الشيء أرقبه رقوبًا، ورِقْبَةً ورِقْبانًا: إذا رصدته. والترَقُّبُ: الانتظار، وكذلك الارتقاب. وأَرْقَبْتُهُ دارًا أو أرضًا، إذا أعطَيته إياها فكانت للباقي منكما، وقلتَ: إن مُتُّ قبلك فهي لك وإن مُتَّ قبلي فهي لي. والاسم منه الرُّقْبَى، وهي من المراقبة؛ لأنَّ كل واحد منهما يرقب موت صاحبه)(3).

وقد استعمل بعض الفقهاء الترقب والمترقبات على مسائل ينبني الحكم فيها على ظهور وانكشاف وجود سببٍ للحكم، فهل يُعتبر الحكم فيها من وقوع السبب أو من ثبوته؟

وقد مر الكلام على ذلك.

والترقب والمراعاة ليس فيها استشراف للمستقبل بقدر ما هو تربص لحصول أحد احتمالات مؤثرة في حكم واقعة معينة، إلا أن فيها تقديرَ وقوعِ شيء لم يقع، والتفاتًا لما لم يتبيَّن بتقدير أو ترتيب أثره عند تبيُّنه، وهو بهذا قريب لما نحن بصدده.

ج- الفقه الافتراضي:

وهذا الاسم هو أكثر الأسماء المستخدمة في الكتب والبحوث التي تناولت موضوع الفقه المستشرف للمستقبل، ولذا سنوليه مزيدًا من البيان والشرح في المبحث التالي:

1 انظر: لسان العرب، مادة (رود).

2 الفقه الارتيادي نظرات في الفقه المستشرف للمستقبل، للدكتور هاني بن عبد الله الجبير (ص١٣، ١٤).

3 انظر: تاج اللغة وصحاح العربية، مادة (رقب).

المبحث الثاني

تعريف الفقه الافتراضي

جاء في اللغة: «افترض الجند: أخذوا عطاياهم، والشيء: فرضه، وفلانًا: أعطاه فريضة، والباحث اتخذ فرضًا ليصل إلى حل مسألة»(1).

فقد ظهر أن الافتراض في اللغة له معنيان: أحدهما بمعنى العطاء، والثاني: اتخاذ فرض -أي احتمال- للوصول إلى حل مسألة ما.

أما الافتراض في الاصطلاح: فإن «الفرض بمعنى التجويز العقلي؛ إذ للعقل أن يفرض المستحيلات والممتنعات أي يلاحظها ويتصورها»(2).

كما عرف الافتراض بأنه «تصور وضع مخالف للحقيقة يترتب عليه تغير الحكم –وهو أمر شائع عند الفقهاء- وهذا الافتراض لا يختص بالمستقبل فقط، لكنه يدل على اعتبار التصور العقلي لما هو غير موجود فعلًا وإصدار حكم له»(3).

وبعد عرض هذين التعريفين في الاصطلاح يتضح لنا أن الافتراض: هو فرض العقل لمسائل أو حوادث ممكنة الوقوع أو غير ممكنة الوقوع، يتصورها المجتهد ثم يصيغ لها حكمًا شرعيًّا.

والعلاقة بين التعريف اللغوي والاصطلاحي للافتراض هي: أن التعريف اللغوي أعم وأشمل، حيث اشتمل على عدة معانٍ كالعطاء، والفرض بمعناه الشرعي: أي الواجب، والنصيب، إضافة إلى معنى الافتراض (التصور) الموجود في التعريف الاصطلاحي.

وأما عن تعريف الفقه الافتراضي في الاصطلاح فقد عُرِّف الافتراض الفقهي أو الفقه الافتراضي بتعريفات كثيرة ومتقاربة، وكلها تصب في معنى واحد هو الفقه المستمد من نظرة الفقيه المجتهد للمستقبل.

فقد عرفه بعضهم فقال: «هو افتراض صور لا وجود لها في الواقع لكن يمكن وقوعها مستقبلًا لتتنزل الأحكام على وقائع مفترضة فيستعد لها قبل وقوعها»(4).

كما عرِّف بأنه: «اجتهاد الفقيه في وضع الحكم الشرعي لما لم يقع بعد من الحوادث والنوازل المقدَّرة»(5).

فمن خلال ما ذُكر يتضح لنا أن مفهوم الفقه الافتراضي هو: اجتهاد الفقيه في وضع الحكم الشرعي لحوادث لم تقع ويمكن حصولها استشرافًا للمستقبل بعد معرفة الواقع، بالاعتماد على النصوص الشرعية ومراعاة لمقاصد الشريعة.

محترزات التعريف:

  • اجتهاد الفقيه: يخرج منه ماكان اجتهادًا من غير الفقيه.
  • وضع الحكم الشرعي لحوادث لم تقع بعد: يخرج به ما كان من الحكم الشرعي لما وقع من القضايا.
  • استشرافًا للمستقبل: يخرج منه ما كان من قبيل الماضي.
  • اعتمادًا على النصوص الشرعية ومقاصد الشريعة: يخرج منه ما كان افتراضًا بغير اعتماد على الدليل ولا مراعاة لمقاصد الشريعة، وهو ما كان من باب الهوى والتشهي.

1 المعجم الوسيط، مادة (فرض).

2 انظر: موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، التهانوي (٢/١٢٦٧).

3 الفقه الارتيادي نظرات في الفقه المستشرف للمستقبل (ص٢١).

4 تجديد فقه السياسة الشرعية (الشورى نموذجًا) خالد بن عبد الله المزيني (ص٦٩).

5 الفقه الافتراضي، عفاف بنت محمد أحمد بارحمة، مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، السنة الثلاثون، عام ١٤٣٩هـ، العدد (١١٠)، (ص٢٤٨).

المبحث الثالث

نشأة الفقه الافتراضي

لقد نشأ الفقه الافتراضي منذ عصر الرسالة، إلا أن نشأته كانت على سبيل التعليم للأمة وتوسيعًا لأفق المستنبطين، ومن الأدلة على ذلك: ما ورد في حديث البخاري، عن ابن عباس رضي الله عنه: أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أأحج عنها؟ قال: نعم، حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا الله فهو أحق بالقضاء(1). فقد قاس النبي ما لم يقع على ما يقع.

وكذلك الصحابة اتجهوا إلى الفرض والتقدير، وإن كانوا لم يُكثروا من ذلك.

وقد وُجد الفقه الافتراضي وسط فقهاء الرأي قبل أبي حنيفة، ويدل على ذلك أن الإمام الشعبي -من كبار التابعين- كان يشكو من أن الفقهاء في دراساتهم يقولون: أرأيت لو كان كذا، وقد روي عنه أنه كان يقول: «والله لقد بغَّض هؤلاء إلي المسجد فهو أبغض إلي من كناسة داري».

كما أن الإمام حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة قد أكثر من استنباط العلل وتفريع المسائل وافتراض الحوادث.

وأكثر من اشتهر بذلك مدرسة الرأي المتمثلة في الإمام أبي حنيفة وأصحابه، وقد توسعوا في ذلك أيما توسع حتى فرضوا المستحيلَ وبعيدَ الوقوع، ومرنوا على ذلك مرانًا عجيبًا.

وقد اعتمدوا كثيرًا على قوة التخيل فأدى ذلك بهم إلى أن أخرجوا للناس ألوفًا من المسائل، منها ما يمكن وجوده وحصوله، ومنها ما لا يحس الإنسان بوجوده على مر الزمن.

ومن هنا عُرفت هذه المدرسة بمدرسة «الأرأيتيِّين»؛ لكونهم يفترضون الوقائع بقولهم: أرأيت لو حصل كذا، أرأيت لو كان كذا.

وقد ذهب كثير من الباحثين إلى أن الإمام أبا حنيفة يعتبر أول من أحدث الفقه الافتراضي. إلا أن بعض الباحثين يرى أن أبا حنيفة لم يُحدث هذا الفقه وإنما نـمَّاه ووسَّعه، يقول الإمام محمد أبو زهرة رحمه الله: «نرى أن أبا حنيفة لم يُحدث الفقه التقديري لكنه نماه ووسعه وزاد فيه بما أكثر من التفريع والقياس، وأن الفقه التقديري وُجِد قبل أبي حنيفة في وسط فقهاء أهل الرأي»(2).

ثم تابع الفقهاء أسلوب الافتراض من بعد أبي حنيفة وافترض أتباعُ المذاهب الأخرى فتوسع الفقه الافتراضي أكثر من ذي قبل، ثم بدأ في التقهقر حتى خرج عن مقصوده بعد عصرهم، ولما وصل الفقه إلى مرحلة الجمود وتوقف الاجتهاد المطلق انقطعت صلة الافتراض بحوادث المجتمع ومقتضيات التطور، واستمر هذا الوضع قائمًا في التأليف الفقهي إلى أن اندرس الفقه الافتراضي وعاد الفقه واقعيًّا لا افتراض فيه(3).

1 أخرجه البخاري، (١٨٥٢).

2 انظر: أبو حنيفة «حياته وعصره آراؤه وفقهه» للإمام محمد أبو زهرة (ص٢٦٠).

3 الفقه الافتراضي وأثره في مستجدات العصر في الفقه الإسلامي للدكتور وفيق محمد حجازي ص٨١-٨٩، مؤسسة الضحى، بيروت، الفقه الافتراضي في مدرسة أبي حنيفة للدكتور عمر نهاد الموصلي ص٤٠-٤٣.

المبحث الرابع

حكم الفقه الافتراضي

الراجح جواز الفقه الافتراضي؛ والأدلة على ذلك كثيرة، ونقتصر على أهمها، وهو أن القرآن الكريم استعمل أسلوب الافتراض، ومنه قوله تعالى: {وَلَوْ أَنا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء: ٦٦].

فهذا مما افترضه القرآن وبين حكمه، مع أن الله قد منع حصوله.

وما ثبت في صحيح مسلم من أن حذيفة بن اليمان كان يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشر مخافة أن يقع فيه(1)؛ فقد دل الحديث على أن حذيفة سأل النبي عن أمور لم تقع بعد، ولم ينهه صلى الله عليه وسلم.

قال الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم: «وقد كان أصحاب النبي يسألونه عن حكم حوادث قبل وقوعها»(2).

ومن المعقول: أنه ما من حادثة إلا ولله فيها حكم، والنصوص معدودة ومتناهية، ولا نهاية لما يقع من الحوادث إلى قيام الساعة؛ فلزم إعمال الرأي عند عدم النص فيكون إعمال النص بالقياس عملًا بالحكم(3).

1 أخرجه مسلم، (١٨٤٧).

2 جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثًا من جوامع الكلم، ، الحافظ ابن رجب(١/٢٥٦).

3 الفقه الافتراضي في مدرسة أبي حنيفة (ص٧٧)، الفقه الافتراضي وتطبيقاته على النوازل المعاصرة للدكتور صلاح الدين خلوق ص٣٢، ٣٣، الفقه الافتراضي وأثره في مستجدات العصر في الفقه الإسلامي (ص١٤١).

المبحث الخامس

أهمية الفتوى الافتراضية

إن استشراف المستقبل وحسن الاستعداد لمواجهة مستجداته وأحداثه واتخاذ الأسباب اللازمة لمواكبة تطوراته دون الإخلال بمتطلبات الحاضر شأن ذوي العقول السليمة والفطر المستقيمة، بل هو منهج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ قال تعالى على لسان يوسف عليه السلام: {فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ} [يوسف: ٤٧].

وقد كان حذيفة بن اليمان رضي الله عنه يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عكس ما اعتاد أن يسأل عنه أصحابه، فيما يمكن تسميته «استشراف المستقبل»، فقد أخرج البخاري في صحيحه عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- قال: «كان الناس يسألون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنتُ أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دَخَن، قلت: وما دخنُه؟ قال: قومٌ يهدون بغير هَدْيي، تعرف منهم وتنكر، قلتُ: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة إلى أبواب جهنم، مَن أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله، صفْهم لنا؟ فقال: هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، قلتُ: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك»(1).

فهو جواب لمسألة تقديرية يفترض فيها حذيفة رضي الله عنه عدم وجود إمام، فهو توقع ممكن الحدوث، وقد حدث.

وإن من أهم ما تحتاجه الأمم في حاضرها ومستقبلها ما تعتمد عليها في تنظيم أعمالها وعلاقاتها بين أفرادها، وبينها وبين غيرها من الأمم، وقبل ذلك بين أفرادها وخالقهم. ولا يخفى أن مسئولية إعداد هذا التنظيم إنما تقع على كاهل فقهاء الأمة، ولقد جاءت شريعة الإسلام بأحكام خالدة تكفل إسعاد البشرية ورعاية مصالحها في كل زمان ومكان ؛ غير أن كثيرًا من هذه الأحكام ليس بمتناول كثير من طلبة العلم فضلًا عن العامة؛ إذ لا يمكن أن يصل إلى معرفته إلا المجتهدون من العلماء، وبما أن من الطبعي أن هذا الصنف من العلماء قد لا يتوافرون في كل زمان وفي كل مكان، وقد تقع من الحوادث والمسائل والنوازل المستجدة ما يحتاج إلى أحكام فورية حاضرة لمعالجتها والتعامل معها كان من الضروري أن تنبري طائفة من أهل العلم والاجتهاد لإعمال أذهانهم وإطلاق العنان لخيالاتهم وتشجيع العامة أيضًا من خلال تقبل أسئلتهم فيما لم يقع بعد؛ لاستشراف مثل هذه المسائل والنوازل وافتراضها قبل وقوعها من أجل حسن الاستعداد لها بما يناسبها من أحكام حتى إذا وقعت لم يكن ثمة فراغ فقهي بل تكون أحكامها جاهزة، ورحم الله الإمام أبا حنيفة حين قال: «إنا نستعد للبلاء قبل نزوله، فإذا ما وقع عرفنا الدخول فيه والخروج منه».

وعلى هذا النهج سار العلماء والفقهاء رحمهم الله في العصور الأولى، بما افترضوا من المسائل واستنبطوا لها من الأحكام فتركوا لنا ثورة هائلة عظيمة حوتها عشرات الكتب.

وقد استجد في هذا العصر من العلوم الشيء العظيم الذي لم يخطر على قلوب السابقين؛ وظهرت مسائل ونوازل تحتاج إلى أحكام جاهزة وحلول حاضرة.

الأمر الذي يحتم على مجتهدي هذا العصر القيام بمهمتهم لسد هذا الفراغ الفقهي المتوقع خدمة للأجيال القادمة كما خدمنا علماؤنا الأوائل.

إن الفتاوى الافتراضية من الأهمية بمكان بحيث لا تخفى على ذي لب؛ فالفقه الافتراضي لم يكن نوعًا من الترف الفقهي كما يدعي البعض، وأن الفقهاء سطروا كل المسائل وجلسوا فارغي اليد، فشغلوا وقتهم بهذا الافتراض، فهذا كلام عارٍ عن الصحة؛ لأن الوقائع والمستجدات الحديثة أثبتت خلاف ذلك، فلله در تلك العقول التي افترضت تلك المسائل!

ومن ثمار الفقه الافتراضي ما يلي:

  1. سد الفراغ الفقهي المتوقع وتجهيز الأحكام للمسائل والنوازل والحوادث المستجدة قبل وقوعها.
  2. تدريب طلبة العلم وشحن أذهانهم وصقل تفكيرهم وتوسيع مداركهم وتقوية ملكاتهم الفقهية.
  3. تيسير الأمر على مجتهدي العصور اللاحقة عند النظر في نوازل عصرهم من خلال ما تم توفيره بين أيديهم من الفتاوى الافتراضية الجاهزة، فيختارون منها ما يناسب النازلة محل الاجتهاد.
  4. يعتبر الفقه الافتراضي رحمة من الله تعالى بهذه الأمة؛ حيث يثبت شمولية الفقه الإسلامي، وأن الفقهاء لم يتركوا شيئًا إلا وتحدثوا فيه سواء وقع أو لم يقع، وحتى لا يُترك المسلمون في حيرة من أمرهم إذا حدث لهم حادث فيكون ذلك طعنًا في الدين والشريعة، ووصفهما بالعجز والقصور عن معالجة المستجدات والحوادث المعاصرة.
  5. يعطينا الفقه الافتراضي الدلالة على أن أقوال الفقهاء الأجلاء لا يُطرح منها قول أبدًا، ولكن يُنتظر الزمان والمكان المناسبان ليُعمل بهذا القول وهذا الحكم.

وجدير بالذكر أن الأمة التي لا تستشرف وتدير المستقبل لا يمكنها التفاعل الإيجابي مع الحاضر، وستبقى حبيسة ردود الأفعال التي تساهم في تأخرها وتخلفها، وستعيش تلك الأمة على وقع المفاجآت والحلول الاستعجالية التي تساهم في تحقيق خطط الغير.

1 أخرجه البخاري، (٣٦٠٦).

اترك تعليقاً