البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

تاريخ المذهب الحنفي

بداية الرئاسة الفقهية للإمام أبي حنيفة وبزوغ المذهب

109 views

كانت الكوفة في زمن الإمام أبي حنيفة مركزًا للعلم وموطنًا للعلماء، حيث يقطنها عدد كبير من التابعين، وهذا ما أشار إليه الإمام نفسه عندما سئل: من أين لك هذا الفقه؟ فقال: كنت في معدن العلم والفقه، فجالست أهله ولزمت فقيهًا من فقهائهم يقال له: حماد، فانتفعت به([1]).

وعندما توفي شيخه الفقيه حماد بن أبي سليمان (120هـ) وقع الاختيار على الإمام النبيه أبي حنيفة النعمان وهو ابن أربعين سنة ليخلف شيخه في حلقة الفقه. فقد ذكر الموفق المكي في مناقبه: «لما مات حماد اجتمع أصحاب حماد إلى أبي حنيفة فقالوا له: اجلس. قال: فقال أبو حنيفة: أجلس على أن يضمن لي عشرة منكم أن يلزموني سنة. قال: فضمنوا له ووفوا»([2]).

فالتف حوله فريق من تلاميذ شيخه القدماء المتفقهين، فلازموا دروسه مع آخرين من الطلاب الجدد، فنهض الإمام بالأمانة على الوجه الأكمل، وحل محل شيخه في نشر العلم والفقه على أكمل وجه، فانصرفت إليه وجوه طلبة العلم واحتاج إليه الناس، وأكرمه الأمراء والأشراف، وذكر عند الحكام، وارتفع شأنه، وأخذ صيته في الشهرة والذيوع، حتى نُسبت إليه الآراء والأقوال في المجالس والحلقات العلمية، وضُرب إليه من الآفاق، ولم يزل كذلك حتى استحكم أمره وكثر أصحابه، وغدت حلقته أكبر حلقة وأوسعها في المسجد، وقضى في ذلك ثلاثين عامًا حتى تخرج به قوم صاروا أئمة في العلم([3]).

وكانت الشورى هي طريقته في تقرير المسائل؛ فلم يكن الإمام رحمه الله يستبد برأيه دون تلامذته وأتباعه، بل كان يلقي مسألة ويقلبها ويقول ما عنده فيها وما وصل إليه استنباطه واجتهاده، ثم يسمع آراء أتباعه وتلاميذه بإنصات واهتمام، بل ويناظرهم شهرًا أو أكثر من ذلك أو أقل حتى يستقر أحد الأقوال فيها، ثم يثبتها القاضي أبو يوسف رحمه الله في الأصول، حتى أثبت الأصول كلها. وإذا أشكلت عليه مسألة قال لأصحابه: ما هذا إلا لذنب أحدثته. فكان يستغفر الله سبحانه، وربما قام وصلى فتنكشف له المسألة، ويقول: رجوت أنه تيب علي. فبلغ ذلك القاضي عياضًا فبكى بكاء شديدًا ثم قال: ذلك لقلة ذنبه، أما غيره فلا ينتبه لهذا([4]).

فطريقة أبي حنيفة في درسه تشبه أن يكون دراسة له لا إلقاء الدروس على تلاميذ، فالمسألة من المسائل تعرض له فيلقيها على تلاميذ، ويتجادل معهم في حكمها، وكل يدلي برأيه، وقد ينتصفون منه في المقاييس، ويعارضونه في اجتهاده، وقد يتصايحون حتى يعلو ضجيجهم، يدلي هو بالرأي الذي تنتجه هذه الدراسة، ويكون صفوها، فيقر الجميع به ويرضونه، والدراسة على هذا النحو هي تثقيف للمعلم والمتعلم معًا، وفائدتها للمعلم لا تقل عن فائدتها للتلميذ، وإن استمرار أبي حنيفة على ذلك النحو من الدرس جعله طالبًا للعلم إلى أن مات، فكان علمه في نمو متواصل، وفكره في تقدم مستمر([5]).

إن اختيار الإمام أبي حنيفة رحمه الله خلفًا لشيخه حماد بن أبي سليمان يحل مكانه في الفتيا والتدريس كان بداية لظهور فقهه وآرائه.

ومنذ أن تسلَّم الإمام أبو حنيفة رئاسة حلقة الفقه مكان شيخه وقد انصب همه على التعليم والتفقيه، فقد استغل ما كان يتمتع به من نبوغ فقهي وموهبة استنباطية فريدة في تعليم التلاميذ والمريدين ضمن منهج فقهي واضح ومميز، فقد سمح لهم بالمشاركة في الاستنباط وعرض الآراء الفقهية، فتربى في ظلاله جيل متميز من الفقهاء المتمرسين الذين ساعدوه في وضع قواعد المذهب وإرساء أصوله ومبادئه، فكانوا نعم العون له على ظهور مذهبه وانتشاره.

ولم يضع الإمام أبو حنيفة رحمه الله كتابًا في الأصول مثل ما فعله الإمام الشافعي رحمه الله، إلا أنه كان على منهاج واضح في تفريع المسائل واستنباطها، وقد أُثرت عنه أقوال تحدد الخطوط العريضة لما سار عليه في فقهه واجتهاده، من الأخذ بالكتاب والسنة والاختيار من أقوال الصحابة رضي الله عنهم، فقد ذكر الخطيب البغدادي والصيمري بإسنادهما إلى يحيى بن الضريس قال: «شهدت سفيان الثوري وأتاه رجل له مقدار في العلم والعبادة فقال له: يا أبا عبد الله ما تنقم على أبي حنيفة؟ قال: وما له؟ قال: سمعته يقول قولًا فيه إنصاف وحجة: إني آخذ بكتاب الله إذا وجدته، فما لم أجده فيه أخذت بسنة رسول الله والآثار الصحاح عنه التي فشت في أيدي الثقات عن الثقات، فإذا لم أجد في كتاب الله ولا سنة رسول الله أخذت بقول أصحابه من شئت وأدع قول من شئت، ثم لا أخرج عن قولهم إلى قول غيرهم، فإذا انتهى الأمر إلى إبراهيم والشعبي والحسن وابن سيرين وسعيد بن المسيب -وعدَّد رجالًا قد اجتهدوا- فلي أن أجتهد كما اجتهدوا»([6]).

وهذا الكلام بإجماله جامع لكثير من معاني الاجتهاد المتعلق بالنصوص، والأقوال المروية عنه في هذا المعنى كثيرة، منها:

ما أخرجه الصيمري بسنده عن أبي يوسف قال: «سمعت أبا حنيفة يقول: إذا جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الثقات أخذنا به، فإذا جاء عن أصحابه لم نخرج عن أقاويلهم، فإذا جاء عن التابعين زاحمتهم»([7]).

وما ذكره الذهبي رحمه الله عن أبي عصمة نوح الجامع قال: «سمعت أبا حنيفة يقول: ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، وما جاء عن الصحابة اخترنا، وما كان من غير ذلك فهم رجال ونحن رجال»([8]).

أما عن منهجه فيما يتعلق بغير النصوص فقد ذكر الموفق المكي بسنده إلى سهل بن مزاحم قال: «كلام أبي حنيفة أخذ بالثقة وفرار من القبح، والنظر في معاملات الناس وما استقاموا عليه، وصلح عليه أمورهم، يمضي الأمور على القياس، فإذا قبح القياس يمضيه على الاستحسان ما دام يمضي له، فإذا لم يمض له رجع إلى ما يتعامل المسلمون به، وكان يوصل الحديث المعروف الذي قد أجمع عليه، ثم يقيس عليه ما دام القياس سائغًا، ثم يرجع إلى الاستحسان أيهما كان أوثقَ رجع إليه»([9]).

فالرجوع إلى الكتاب والسنة الإجماع، والاختيار من أقوال الصحابة رضي الله عنهم، واللجوء إلى القياس والعرف والاستحسان من أهم الأصول التي راعاها الإمام أبو حنيفة رحمه الله في استنباطه واجتهاده، ومآلها إلى الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس([10]). وإلى ذلك أشار الموفق المكي رحمه الله بقوله:«إن الإمام أبا حنيفة لم يذق … عينيه قط لذاذة الإغفاء

وعلى كتاب الله مذهبه بنى … لله ثم السنة الغراء

ثم اجتماع المسلمين فإنهم … نظروا بنور الحق في الظلماء

ثم القياس على الأصول فإنه … زهر نما في الملة الزهراء»([11]).

منهج الإمام أبي حنيفة في التعليم:

كانت حلقة الفقيه حماد بن أبي سليمان من أشهر الحلقات العلمية في الكوفة، وبعد وفاة حماد خشي تلاميذُه وأصحابُه أن تندرس تلك الحلقة ويذهب علم شيخهم، إلى أن وقع الاختيار على الفقيه النبيه أبي حنيفة النعمان، فحمل الأمانة وقام بها خيرَ قيامٍ، مما لفت إليه الإنظارَ، وأدَّى إلى إقبال طلبة العلم عليه من كل حدَب وصوب، وكان فيهم من كافة المستويات العلمية، بداية من الطالب الحدث إلى الفقيه المتمرس؛ ولذلك فقد اختار الإمام أبو حنيفة أفضل طرق التدريس وأنفعها، فسار على طريقة الشورى والنقاش وتبادل الآراء في بحث المسائلِ الفقهية، مما يعدُّ نواةً لنوع من أنواع الإفتاء الجماعي، فتم في مجلسه مناقشة المسائل وأخذ الآراء بحيث يبدي كل واحد برأيه في المسألة المطروحة مع تدعيم قوله بالدليل، حتى تستقر الآراء على قول واحد معتمد يتم تمحيصه ثم إثباته بأمر الإمام أبي حنيفة([12]).

ولما للمناقشة العلمية وتبادل الآراء في المسائلِ من أثرٍ بارزٍ في صقل الأذهان والتدرُّب على استنباط المسائل وممارسة الاجتهاد كان الإمام أبو حنيفة رحمه الله يوليها عناية تامةً في دروسه، ويدرب عليها أصحابه، وقد تطول المناقشة في المسألة وترتفع فيها أصواتهم بين سائل ومجيب ومخطئ ومصيب، وكان الإمام يترك لهم في ذلك حرية، فلا يسكتهم ولا يهدئهم، ولا ينهاهم عن رفع الأصوات؛ لأنه كان يرى ذلك مساعدًا على التعلم والتفقه، حتى عندما مرَّ به سفيان بن عيينة رحمه الله وحوله أصحابه وقد ارتفعت أصواتهم فقال: «يا أبا حنيفة، هذا في المسجد والصوت لا ينبغي أن يرفع فيه؟ فقال: دعهم؛ فإنهم لا يفقهون إلا بهذا»([13]).

لكن عندما يبدأ الإمام أبو حنيفة في شرح وبيان ما اختلفوا فيه سكتوا كأن ليس في المجلس أحد([14]).

بل وصلت الشورى في مجلسه وسعة صدره أن كان أصحابه يعارضونه؛ فقد روى الصيمري بسنده عن محمد بن الحسن قال: «كان أبو حنيفة رحمه الله يناظر أصحابه في المقاييس فينتصفون منه فيعارضونه، حتى إذا قال: استحسن لم يلحقه أحد منهم لكثرة ما يورد في الاستحسان من المسائل، فيدعون جميعًا ويسلمون له»([15]).

وأكثر من ذلك أنَّ من حضر مجلس درسه ملك خيار الاعتراض وحرية التخطئة؛ ولذلك عندما ألقى عليه شاب مسألة فأجابه فيها، فقال: أخطأت يا أبا حنيفة. ثم سأله عن مسألة أخرى وقال بعد جوابه: أخطأت يا أبا حنيفة. ولاحظ ذلك بعض من شاهد الموقف وقال لمن حوله من أصحابه: سبحان الله، ألا تعظمون هذا الشيخ؟ يأتي غلام فيخطئه مرتين وأنتم سكوت؟ فكان رده أن يقول: دعهم فإني قد عودتهم هذا من نفسي. وكل ذلك لأنه كان يؤمن بعظيم فائدة النقاش الحر، الذي تزال فيه كافة الحواجز بين الشيخ والتلاميذ؛ ليفيد بعضهم بعضًا في جو يسوده الود والإخلاص وتحري الحق والصواب([16]).

وكانت المناقشات التي تدور في مجالس أبي حنيفة وحلقات دروسه على أنواع:

منها: ما كان عامًّا يشارك فيه جل أصحابه، وهي عامة المناقشات الدرسية، فكان الإمام إذا جلس جلس حوله أصحابه؛ كالقاسم بن معن وعافية بن يزيد، وداود الطائي، وزفر وأضرابهم، فيتطارحون مسألة فيما بينهم ويكثر كلامهم فيها، فإذا أخذ أبو حنيفة في الكلام سكتوا أجمع فلم يتكلموا حتى يفرغ من كلامه، فإذا فرغ اشتغلوا بدراسة وحفظ ما تكلم به في المسألة، فإذا أحكموها أخذوا في مسألة أخرى([17]).

ومنها: ما كان خاصًّا يدور بين بعض أصحابه؛ فقد روي أن أبا حنيفة رؤي يومًا وعن يمينه أبو يوسف، وعن يساره زفر، وهما يتجادلان في مسألة، فلا يقول أبو يوسف قولًا إلا أفسده زفر، ولا يقول زفر قولًا إلا أفسده أبو يوسف إلى وقت الظهر، فلما أذن المؤذن رفع أبو حنيفة يده فضرب بها على فخذ زفر، وقال: لا تطمع في رياسة ببلدة فيها أبو يوسف، قال: وقضى لأبي يوسف على زفر([18]).

ومنها: ما كان أخص من ذلك؛ يحصل بينه وبين بعض أصحابه.

فالمناقشات التي كان يديرها الإمام أبو حنيفة رحمه الله في مجالس دروسه كانت منوعةً ومنظمةً تحصل عن قناعة وبصيرة، وتحظى بعناية واهتمام. فكان مجلسه مجلسًا مباركًا تخرَّج فيه الفقهاء والعلماء، وتأسس فيه أحد أعظم المذاهب الفقهية وأوسعها، حتى قال الفضل بن موسى السيناني: «كنا نختلف إلى المشايخ بالحجاز والعراق، فلم يكن مجلس أعظم بركة ولا أكثر نفعًا من مجلس أبي حنيفة»([19]).

وقال ابن المبارك: «المحروم من لم يكن له حظ من أبي حنيفة»([20]).

وكان كبار أصحابه يواظبون على حضور الحلقة، حتى قيل للقاسم بن معن: «أنت ابن عبد الله بن مسعود وترضى أن تكون من غلمان أبي حنيفة؟ فقال: ما جلس الناس إلى أحد أنفع مجالسة من أبي حنيفة»([21]).

وقد كان لهذه الطريقة الفذَّة التي سار عليها الإمام أبو حنيفة رحمه الله في تفقيه أصحابه أثرها البالغ في تنمية مواهبهم ورفع مستواهم العلمي، حتى إنهم كانوا على درجة عالية من النضج العلمي والأهلية للفتيا والقضاء، في حين لم يزل فيه حضورهم لحلقاته وتلقيهم العلم عليه، وكان الإمام يدرك ذلك بجلاء، ويلمس فيهم ملامحه بوضوح، حتى قال عنهم يومًا: «أصحابنا هؤلاء ستة وثلاثون، منهم ثمانية وعشرون يصلحون للقضاء، ومنهم ستة يصلحون للفتيا، ومنهم اثنان يؤدبان القضاة وأصحاب الفتوى، وأشار إلى أبي يوسف وزفر»([22]) ([23]).

كما كان الإمام رحمه الله حريصًا على أصحابه يتفقدهم ويعودهم ويطلب أخبارهم، فقد روى الصيمري بسنده عن الفضل بن غانم قال: «كان أبو يوسف مريضًا شديد المرض فعاده أبو حنيفة مرارًا، فصار إليه آخر مرة فرآه ثقيلًا فاسترجع ثم قال: لقد كنت أُؤَمِّلُكَ بعدي للمسلمين، ولئن أصيب الناس بك ليموتن معك علم كثير»([24]). بل ويجتهد في إكرامهم، قال حجر بن عبد الجبار: «ما رأى الناس أكرم مجالسة من أبي حنيفة ولا أشد إكرامًا لأصحابه»([25]).

وروى الصيمري في شدَّة إكرامه لأصحابه بسنده عن قيس بن الربيع قال: «عن أبي حنيفة؛ أنه كان يبعث بالبضائع إلى بغداد فيشتري بها الأمتعة ويحملها إلى الكوفة، ويجمع الأرباح عنده من سنة إلى سنة فيشتري بها حوائج أشياخ المحدثين وأقواتهم وكسوتهم وجميع حوائجهم، ثم يدفع باقي الدنانير والأرباح إليهم، ثم يقول: أنفقوا في حوائجكم ولا تحمدوا إلا الله فإني ما أعطيكم من مالي ولكن من فضل الله علي فيكم، وهذه أرباح بضائعكم فإنه هو والله ما يجريه الله لكم على يدي، فما في رزق الله حق لغيره»([26]). وعن مسعر قال: «كان أبو حنيفة إذا اشترى لعياله شيئًا أنفق على شيوخ العلماء مثل ما أنفق على عياله، وإذا اكتسى ثوبًا فعل مثل ذلك، وإذا جاءت الفاكهة والرطب وكل شيء يريد أن يشتريه لنفسه ولعياله لا يفعل ذلك حتى يشتري لشيوخ العلماء مثله ثم يشتري بعد ذلك لعياله، وكان إذا اشترى للصدقة أو لبر إخوانه شيئًا أجود ما يقدر عليه وكان يتساهل فيما يشتريه لنفسه ولعياله»([27]). والأخبار في ذلك الباب كثيرة.

فقد كان الإمام يتعاهد أصحابه بثلاثة أمور:

أحدها: أن يواسيهم بماله، ويعينهم على نوائب الدهر، حتى إنه كان يزوج من يكون في حاجة إلى الزواج، وليست عنده مؤونته، ويرسل إلى كل تلميذ قدر حاجته([28]).

ثانيها: أنه ينظر إلى نفوسهم فيتعهدها بالرعاية، فإذا وجد في أحدهم إحساسًا بالعلم يمازجه غرور أزال عنه درن الغرور ببعض الاختبارات يثبت بها أنه ما زال في حاجة إلى فضل من المعرفة يأخذها من غيره.

ومن ذلك أنه يروى أن أبا يوسف مَرِض مرضًا شديدًا، فعاده أبو حنيفة مرارًا، فصار إليه آخر مرة فرآه ثقيلًا فاسترجع ثم قال: لقد كنت أُؤَمِّلُك بعدي للمسلمين، ولئن أصيب الناس بك ليموتن معك علم كثير. ثم رزق العافية وخرج من العلة فأخبر أبو يوسف بقول أبي حنيفة فيه، فارتفعت نفسه وانصرفت وجوه الناس إليه، فعقد لنفسه مجلسًا في الفقه وقصر عن لزوم مجلس أبي حنيفة، فسأل عنه فأخبر أنه قد عقد لنفسه مجلسًا، وأنه بلغه كلامك فيه. فدعا رجلًا كان له عنده قدر فقال: سر إلى مجلس يعقوب فقل له: ما تقول في رجل دفع إلى قصار ثوبًا ليقصره بدرهم، فسار إليه بعد أيام في طلب الثوب فقال له القصار: ما لك عندي شيء وأنكره، ثم إن رب الثوب رجع إليه فدفع إليه الثوب مقصورًا، أله أجرة؟ فإن قال: له أجرة، فقل: أخطأت، وإن قال: لا أجرة له، فقل: أخطأت. فسار إليه فسأله فقال أبو يوسف: له الأجرة. فقال له: أخطأت. فنظر ساعة ثم قال: لا أجرة له. فقال له: أخطأت. فقام أبو يوسف من ساعته، فأتى أبا حنيفة فقال له: ما جاء بك إلا مسألة القصار. قال: أجل. فقال: سبحان الله، من قعد يفتي الناس وعقد مجلسًا يتكلم في دين الله وهذا قدره لا يحسن أن يجيب في مسألة من الإجارات. فقال: يا أبا حنيفة علمني. فقال: إن كان قصره بعدما غصبه فلا أجرة له؛ لأنه إنما قصره لنفسه، وإن كان قصره قبل أن يغصبه فله الأجرة؛ لأنه قصره لصاحبه. ثم قال: من ظن أنه يستغني عن التعلم فليبكِ على نفسه([29]).

ولعل ذلك كان أمرًا ضروريًّا للمسلك الذي كان يسلكه في حلقة درسه، فإن رفْعه تلاميذَه إلى مرتبته يجادلهم وينتصفون منه قد يدفع بعضهم على الغرور، فيحتاج من يكون موشكًا أن يدلي نفسه بغرورها إلى من يرشده إلى مواطن نقصه، وحاجته إلى التكمُّل، وينبهه إلى أنه لم يؤتَ من العلم إلا قليلًا([30]).

ثالثها: أنه كان يتعهدهم بالنصيحة خصوصًا لمن كان منهم على أهبة افتراق، أو من كان يتوقع له شأنًا من الشأن([31]).

وبناء على ما سبق يمكن تلخيص أهم ملامح المنهج التعليمي للإمام أبي حنيفة في النقاط التالية:

– الاهتمام بطالب العلم أولًا وآخرًا وتوفير الجو الملائم لتعليمه.

– اتباع منهج الشورى والإفتاء الجماعي.

– احترام آراء الطلاب والاستماع إليها، حتى من المبتدئين وصغار السن.

– السماحة والرفق في التعليم والبعد الشديد عن الشدة والغلظة.

– الاهتمام بالنواحي التربوية والنفسية بجانب النواحي العلمية.

– الاهتمام بالإنفاق على طالب العلم حتى يتفرغ للتعلم.

وبناءً على هذا المنهج التعليمي المتميز والفريد كان مجلس درس الإمام أبي حنيفة رحمه الله بمثابة مجمع فقهي يضم عددًا كبيرًا من فطاحل العلماء، ويرأسه عمالقة الفقه الإسلامي. وقد بدأ ظهور فقهه منذ أن جلس على كرسي الفتيا والتدريس سنة عشرين ومائة (120هـ) واستمر في ذلك حتى وفاته سنة خمسين ومائة (150هـ).

وقد ظهر مذهبه في خلال هذه المدَّة عن طريق الاجتهاد والفتيا والتدريس ظهورًا كبيرًا تجاوز حدود إقليمه، فقد تحدث به العلماء وطلبة العلم في المجالس والحلقات العلمية في أصقاع كثيرة، وأخذ به الناس وصاحبه لا يزال على قيد الحياة([32]).

([1]) السابق.

([2]) مناقب أبي حنيفة للموفق المكي (1/ 66).

([3]) ينظر: مناقب أبي حنيفة للموفق المكي (1/ 69- 71)، المذهب الحنفي لنصير الدين النقيب (ص: 56).

([4]) ينظر: مدخل لدراسة المذهب الحنفي لعلي عثمان جرادي الحنفي (ص14) راجعه وقدم له: بسام الحمزاوي الحسيني- دار الكتب العلمية- بيروت- الطبعة الأولى- 1438هـ/ 2017م.

([5]) ينظر: أبو حنيفة حياته وعصره وآراؤه الفقهية لأبي زهرة (ص: 87).

([6]) أخبار أبي حنيفة وأصحابه للصيمري (ص: 24)، تاريخ بغداد (15/ 504). وينظر: مناقب أبي حنيفة وصاحبيه للذهبي (ص: 34) تحقيق محمد زاهد الكوثري، وأبي الوفاء الأفغاني- لجنة إحياء المعارف النعمانية- حيدر آباد الدكن- الهند- الطبعة الثالثة- 1408هـ.

([7]) أخبار أبي حنيفة وأصحابه (ص: 24). وانظر: مناقب أبي حنيفة للموفق المكي (1/ 77).

([8]) مناقب أبي حنيفة وصاحبيه (ص: 32). وانظر: مناقب أبي حنيفة للموفق المكي (1/ 77).

([9]) مناقب أبي حنيفة (1/ 82).

([10]) ينظر: المذهب الحنفي لنصير الدين النقيب (1/ 93، 94).

([11]) مناقب أبي حنيفة (1/ 100).

([12]) ينظر: المذهب الحنفي لنصير الدين النقيب (1/ 94، 95).

([13]) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (925) تحقيق أبي الأشبال الزهيري- دار ابن الجوزي- الطبعة الأولى- 1414هـ/ 1994م.

([14]) ينظر: المذهب الحنفي لنصير الدين النقيب (1/ 97).

([15]) أخبار أبي حنيفة وأصحابه (ص: 25).

([16]) ينظر: المذهب الحنفي لنصير الدين النقيب (1/ 98).

([17]) ينظر: السابق (1/ 99).

([18]) ذكره الصيمري في أخبار أبي حنيفة وأصحابه (ص: 102)، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (16/ 364).

([19]) مناقب أبي حنيفة للمكي (2/ 50).

([20]) السابق (2/ 52).

([21]) أخبار أبي حنيفة وأصحابه للصيمري (ص: 83).

([22]) ذكره الصيمري في أخبار أبي حنيفة وأصحابه (ص: 158)، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (16/ 365).

([23]) ينظر: المذهب الحنفي لنصير الدين النقيب (1/ 101).

([24]) أخبار أبي حنيفة وأصحابه للصيمري (ص: 29).

([25]) السابق (ص: 42).

([26]) السابق (ص: 57).

([27]) السابق (ص: 59).

([28]) ينظر: أبو حنيفة حياته وعصره وآراؤه الفقهي لأبي زهرة (ص: 88).

([29]) أخبار أبي حنيفة وأصحابه (ص: 29)، تاريخ بغداد (15/ 478).

([30]) ينظر: أبو حنيفة حياته وعصره وآراؤه الفقهية لأبي زهرة (ص: 89).

([31]) السابق.

([32]) ينظر: المذهب الحنفي لنصير الدين النقيب (1/ 102).