البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

تاريخ المذهب الحنفي

دور الإمام أبي يوسف القاضي رحمه الله

108 views

الإمام أبو يوسف رحمه الله من كبار أصحاب الإمام أبي حنيفة الذين لازموه حتى وفاته، فقد كان حريصًا على حضور مجلس الإمام وملازمته، بل كان يصنف المسائل في مجلس درسه ثم يعرضها عليه، وعن دور الإمام أبي يوسف فإنه يظهر ابتداء من طريقته في نشر العلم والمذهب عن طريق حلقاته في المساجد وغيرها، فقد تخرج بالإمام أبي يوسف أعلام المذهب أنفسهم كمحمد بن الحسن، والحسن بن زياد من أصحاب الإمام، وعدد كبير ممن أخذوا عنه فقهه وفقه شيخه، ثم قاموا بنشره حيث انتشروا في البلاد([1]).

وقد روى الخطيب البغدادي بإسناده إلى طلحة بن محمد بن جعفر، قال: «وأبو يوسف مشهور الأمر، ظاهر الفضل، وهو صاحب أبي حنيفة، وأفقه أهل عصره، لم يتقدمه أحد في زمانه، وكان النهاية في العلم والحكم، والرياسة والقدر، وأول من وضع الكتب في أصول الفقه على مذهب أبي حنيفة، وأملى المسائل ونشرها، وبث علم أبي حنيفة في أقطار الأرض»([2]).

وممن أخذ العلم على القاضي أبي يوسف رحمه الله من أهل الآفاق وسبق إلى نقل المذهب الحنفي ونشره في بلده على سبيل المثال:

– الحسين بن حفص الأصبهاني: تفقَّه على القاضي أبي يوسف، ونقل علم الكوفيين ومذهب الإمام أبي حنيفة إلى أصبهان وأفتى به، فولي القضاء والفتيا والعدالة والرئاسة بأصبهان، فتشرف بعلم الإمام أبي حنيفة حتى صار وجه الناس وزينتهم على نظرائه وأشكاله([3]).

– أبو عبد الله محمد بن خالد الحنظلي الرازي: كان من الفقهاء المتورعين ممن درس على القاضي أبي يوسف، ثم سكن أستراباد وحدث بها، وهو أول من فقه الناس بها على مذهب الإمام أبي حنيفة([4]).

كما كان للإمام أبي يوسف أثرٌ بالغٌ في نشر المذهب نتيجة لتوليه منصب القضاء في الدولة العباسية؛ فولي القضاء لثلاثة من الخلفاء: المهدي، والهادي، والرشيد، وكان إليه تولية القضاة في المشرق والمغرب؛ حيث ظلَّ كبيرَ القضاة حتى وفاته، لا يُعيَّن قاضٍ في الدولة على اتساع رقعتها إلا بمشورته وموافقته، فكان يستعمل من يشاء من أصحابه الحنفية؛ مما ساعد على نشر المذهب الحنفي وبسط نفوذه([5]).

وكان أبو يوسف يهتم بتولية الحنفية منصب القضاء أيضًا، فعمل على تولية محمد بن الحسن رحمه الله قضاء الرقة على رغم امتناعه؛ فقد روى الصيمري بإسناده إلى محمد بن الحسن، قال: «لما أشخصني الرشيد ليقلدني القضاء بالشام وردت مدينة السلام فلقيت أبا يوسف وهو الذي سماني وأشار بي، فقلت له: من حقي عليك ولزومي لك وتصييري لك أستاذًا وإمامًا أن تعفيني عن هذا الأمر، فقال لي: أنا راكب معك إلى يحيى بن خالد فأكلمه، فركب معي إلى يحيى بن خالد، فلما دخلنا عليه زال له يحيى عن مصلاه فقعد معه عليه، وقعدت بباب البيت، فسمعته يقول له: هذا محمد بن الحسن ومن حاله كذا، ومن حاله كيت وكيت يصفني، وذكر امتناعي عليه. فقال له يحيى: ما تقول فيه؟ قال: أقول: إنكم إن أعفيتموه لم تجدوا مثله، فلما سمع يحيى كلامه لم يلتفت إلى ما أقول وأمضى أمري»([6]).

فهو كان يعرف أن محمد بن الحسن بما عنده من فقه الإمام أبي حنيفة رحمه الله أفضل من يستطيع القيام بنشر مذهبه عن طريق القضاء؛ فقد ذكر الذهبي في مناقبه عن محمد بن سماعة قال: «كان سبب مخالطة محمد بن الحسن السلطان أن أبا يوسف القاضي شُووِرَ في رجل يُولى قضاء الرقة، فقال لهم: ما أعرف لكم رجلًا يصلح غير محمد بن الحسن، فإن شئتم فاطلبوه من الكوفة. قال: فأشخصوه، فلما قدم جاء إلى أبي يوسف، فقال: لماذا أشخصت؟ قال: شاوروني في قاضٍ للرقة، فأشرت بك وأردت بذلك أن الله قد بث علمنا هذا بالكوفة والبصرة وجميع المشرق، فأحببت أن تكون بهذه الناحية ليبث الله علمنا بك بها وبما بعدها من الشامات»([7]).

وإذا كان التصنيف وتدوين العلم هو الضامن الوحيد لحفظه وانتشاره فيما بعد، فإن أبا يوسف القاضي فقد افتتح التصنيف وكان من أوائل من صنف من رجال المذهب، وله من الكتب كتاب «الآثار»، و«اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى»، و«الخراج»، و«الرد على سير الأوزاعي»، ومن هنا وصف بأنه «أول من وضع الكتب على مذهب أبي حنيفة، وأملى المسائل ونشرها، وبث علم أبي حنيفة في أقطار الأرض»([8]).

وكان لأبي يوسف كتب كثيرة دوَّن فيها آراءه وآراء شيخه، قال ابن النديم: «ولأبي يوسف من الكتب في الأصول والأمالي: كتاب الصلاة، كتاب الزكاة، كتاب الصيام، كتاب الفرائض، كتاب البيوع، كتاب الحدود، كتاب الوكالة، كتاب الوصايا، كتاب الصيد والذبائح، كتاب الغصب والاستبراء. ولأبي يوسف إملاء رواه بشر بن الوليد القاضي يحتوي على ستة وثلاثين كتابًا مما فرعه أبو يوسف: كتاب اختلاف الأمصار، كتاب الرد على مالك بن أنس، كتاب رسالته في الخراج إلى الرشيد، كتاب الجوامع ألفه ليحيى بن خالد يحتوي على أربعين كتابًا ذكر فيه اختلاف الناس والرأي المأخوذ به»([9]).

وهناك كتب لم يذكرها ابن النديم، منها: كتاب الآثار، واختلاف ابن أبي ليلى، والرد على سير الأوزاعي([10]).

([1]) ينظر: المذهب الحنفي لنصير الدين النقيب (1/ 107).

([2]) تاريخ بغداد (16/ 363). وينظر: تاج التراجم لابن قطلوبغا (ص: 316) تحقيق محمد خير رمضان يوسف- دار القلم- دمشق- بيروت- الطبعة الأولى- 1413هـ/ 1992م.

([3]) ينظر: أخبار أصبهان لأبي نعيم الأصبهاني (1/ 327) تحقيق سيد كسروي حسن- دار الكتب العلمية- بيروت- الطبعة الأولى- 1410هـ/ 1990م.

([4]) ينظر: تاريخ جرجان لحمزة السهمي (ص: 406) عالم الكتب- بيروت- الطبعة الرابعة- 1407هـ/ 1987م.

([5]) ينظر: تاج التراجم لابن قطلوبغا (ص: 316).

([6]) أخبار أبي حنيفة وأصحابه (ص: 130).

([7]) مناقب الإمام أبي حنيفة وصاحبيه (ص: 88).

([8]) تاريخ بغداد (16/ 363)، وفيات الأعيان لابن خلكان (6/ 382) تحقيق الدكتور إحسان عباس- دار صادر- بيروت.

([9]) الفهرست (ص: 286) دار المعرفة- بيروت- 1398هـ/ 1978م.

([10]) ينظر: أبو حنيفة حياته وعصره وآراؤه الفقهية (ص: 221، 222).