البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

تاريخ المذهب الحنفي

نشأة المذهب الحنفي

177 views
يُعدُّ المذهب الحنفي أقدمَ مذاهب أهل السنة الأربعة المشهورة، وقد نشأ بالكوفة على يد مؤسسه الإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت رحمه الله المتوفى (150هـ). وكان والد الإمام خزازًا يبيع الأثواب في دكان له بالكوفة، فورث عنه أبو حنيفة مهنة التجارة، فعمل تاجرًا في بداية أمره إلى أن قيَّض الله سبحانه وتعالى له التابعي الجليل الشعبي رحمه الله يومًا وهو ذاهب إلى السوق، فدعاه وحثه على النظر في العلم ومجالسة العلماء؛ وذلك بما رأى فيه من يقظة وحركة، فأخذ بنصيحته ووقع كلامه في قلبه، فترك التجارة وأقبل على العلم حتى نبغ فيه وفاق أقرانه(1). ولما توجَّه إلى طلب العلم اشتغل مدة في بداية أمره بعلم الكلام حتى بلغ فيه مبلغًا يشار إليه فيه بالبنان(2)، إلا أنه رأى أن نفعه قليل، وأنه لم يكن من هدي صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ذكر الموفق المكي بإسناده عن الهيثم بن عدي الطائي قال: «قلت لأبي حنيفة: العلوم كثيرة ذات فنون، فكيف وقع اختيارك على هذا الفن الذي أنت فيه؟ وكيف وُفقت له وليس علم أشرف منه؟ قال: أخبرك، أما التوفيق فكان من الله وله الحمد كما هو أهله ومستحقه، إني لما أردت تعلُّم العلم جعلتُ العلوم كلها نُصب عيني، فقرأت فنًّا فنًّا منها، وتفكرت عاقبته وموقع نفعه، فقلت: آخذ في الكلام، ثم نظرت فإذا عاقبته عاقبة سوء، ونفعه قليل، وإذا أكمل الإنسان فيه واحتيج إليه لا يقدر أن يتكلم جهارًا أو رُمي بكل سوء، ويقال: صاحب هوى، ثم تتبعت أمر الأدب والنحو فإذا عاقبة أمره أن أجلس مع صبي أعلمه النحو والأدب، ثم تتبعت أمر الشعر فوجدت عاقبة أمره المدح والهجاء وقول الهجر والكذب وتمزيق الدين، ثم تفكرت في أمر القراءات فقلت: إذا بلغت الغاية منه اجتمع إليَّ أحداث يقرءون عليَّ، والكلام في القرآن ومعانيه صعب، فقلت: أطلب الحديث، فقلت: إذا أجمعت منه الكثير أحتاج إلى عمر طويل حتى يحتاج الناس إليَّ، وإذا احتيج إليَّ لا يجتمع إلا الأحداث، ولعلهم يرمونني بالكذب أو سوء الحفظ، فلزمني ذلك إلى يوم الدين، ثم قلبت الفقه فكلما قلبته أو أدرته لم يزدد إلا جلالة، ولم أجد فيه عيبًا، ورأيت أولًا أن الجلوس يكون مع العلماء والفقهاء والمشايخ والبصراء والتخلق بأخلاقهم، ورأيت أنه لا يستقيم أداء الفرائض وإقامة الدين والتعبد إلا بمعرفته، وطلب الدنيا والآخرة إلا به، واشتغلت به»(3). فاتجه الإمام إلى الفقه ولزم حلقة فقيه الكوفة أبي إسماعيل حماد بن أبي سليمان رحمه الله لا يفارقه حتى وفاته. وقد كان حماد يهتم بأبي حنيفة ويوليه عناية خاصة؛ لما ظهر عليه من بوادر النبوغ وحسن الفهم؛ لدرجة أنه أجلسه مكانه في حياته يفتي الناس، ويحل مسائل الفقه(4).

(1) ينظر: مناقب أبي حنيفة للموفق المكي (1/ 59)- مطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية- حيدر آباد الدكن- الهند- الطبعة الأولى- 1321هـ.
(2) ينظر: تهذيب الكمال (29/ 426) تحقيق بشار عواد- مؤسسة الرسالة- بيروت- الطبعة الأولى- 1413هـ/ 1992م.
(3) مناقب أبي حنيفة للموفق المكي (1/ 57).
(4) ينظر: السابق (1/ 56، 57).