البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

حضور المذهب الحنفي في فتاوى دور وهيئات الإفتاء

65 views

التعريف بدار الإفتاء المصرية:

دار الإفتاء المصرية هي أعرق المؤسسات الإفتائية المتخصصة في العالم الإسلامي، وقد شغل مفتي الديار المصرية عضوية المحكمة الشرعية العليا في البداية، وبإلغاء المحاكم الشرعية بموجب القانون رقم 462 لسنة 1955م، لم يعد في المحاكم الابتدائية إفتاء، وصارت أعمال الفتوى سواء للحكومة أو للأفراد وللهيئات مقصورةً على مفتي الديار المصرية في القاهرة.

وفي 1/ 11/ 2007م، استَقلَّت دار الإفتاء ماليًّا وإداريًّا عن وزارة العدل، وأصبح لها لائحة داخلية ومالية تم اعتمادهما ونشرهما في جريدة الوقائع المصرية، ولم تنف هذه الخطوة تبعية دار الإفتاء لوزارة العدل من الناحية السياسية الهيكلية فقط، دون أن يكون لوزارة العدل أي سلطة على الدار، وسبب هذه التبعية هو ما بين المؤسستين من جانب مشترك يتمثل فيما تقوم به دار الإفتاء من نظرٍ في قضايا الإعدام.

واعتمدت دار الإفتاء منهجًا وسطيًّا متفردًا في الفتوى، جمع بين مراعاة التراث الفقهي الزاخر، ومراعاة المقاصد الشرعية، وفقه الواقع، وتتمثل أبرز ملامح هذا المنهج في الآتي:

– نقل المذاهب السنية الأربعة المعروفة المشهورة (الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة) مع الاعتراف بالمذاهب الأخرى، والاستئناس بها، بل وترجيحها أحيانًا لحاجة الناس، أو لتحقيق مقاصد الشرع، وهي تلك المذاهب التي يتبعها بعض المسلمين في العالم أصولًا وفروعًا، وهي: (الجعفرية، والزيدية، والإباضية)، بل والظاهرية التي يؤيدها مجموعة من العلماء هنا وهناك.

– وفي تخيراتها الدينية كثيرًا ما تتسع دائرة الحجية عندها إلى مذاهب المجتهدين العظام كالأوزاعي والطبري والليث بن سعد، وغيرهم في أكثر من ثمانين مجتهدًا في التاريخ الإسلامي، تستأنس بآرائهم وقد ترجحها لقوة الدليل أو لشدة الحاجة إليها أو لمصلحة الناس أو لتحقيق مقاصد الشرع الشريف.

– تلتزم دار الإفتاء بمقررات المجامع الإسلامية وعلى رأسها مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر الشريف، ومجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة، ومجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة؛ وخاصة في القضايا العامة في الأمور المستحدثة وتشتد حاجة الناس للفصل فيها بشكل جماعي.

– وقد تلجأ إلى استنباط الأحكام من النصوص الشرعية بالكتاب والسنة مباشرة، من دليله في الكتاب والسنة خاصةً فيما لم يوجد في كل ذلك، أو كان موجودًا ولكنه لا يتناسب مع الحال، وشرط ذلك أن تكون النصوص تحتمل هذا الاستنباط بالمعايير التي وضعها الأصوليون في ذلك.

– تلتزم الدار بما صدر عنها كونها مؤسسة ولا تعارض ما صدر عنها إلا لتغير الجهات الأربع التي تستلزم التغير في الفتوى (الزمان- المكان- الأحوال- الأشخاص).

المذهب الحنفي في دار الإفتاء المصرية:

كان للمذهب الحنفي مكانة خاصة تاريخية في دار الإفتاء المصرية، لا سيما مع فترة الحكم العثماني، وما تبعها، وقد بلغت تلك المكانة ذروتها في عهد محمد علي باشا الذي عمل تدريجيًّا على تأكيد سيادة المذهب الحنفي على سائر المذاهب بصفته المذهب الرسمي للدولة العثمانية؛ فتطور منصب «مفتي السادة الحنفية بالديار المصرية» وتغير مسماه عدة مرات؛ ففي البداية كان يسمى «مفتي أفندي الحنفية»، وله المكانة نفسها التي يتمتع بها مفتو المذاهب الأخرى في المجالس القضائية والتشريعية، ثم أصبح يسمى «مفتي أفندي مصر»، وأصبحت له الأفضلية على سائر المذاهب، ثم تحول في أواخر القرن الثالث عشر الهجري إلى «مفتي الديار المصرية»، ولم تعد لمفتي المذاهب الأخرى أية صفة رسمية، وقد تحوَّل مسمى منصب الإفتاء الحنفي من «مفتي السادة الحنفية بالديار المصرية» إلى «مفتي الديار المصرية» في عهد الشيخ محمد البناء الذي تولى منصب الإفتاء سنة 1304هـ فهو أول من حمل لقب «مفتي الديار المصرية» بشكل رسمي.

وقد تحول مفتي المذهب الحنفي من مجرد مفتي مذهب إلى أن أصبح بمثابة مفتي الديار المصرية وشيخ الأزهر، فقد كان الشيخ محمد العباسي المهدي أول من جمع بين منصبي المشيخة والإفتاء، كما كان أول من تولى مشيخة الأزهر من فقهاء المذهب الحنفي والتي كانت حكرًا على الفقهاء الشافعية منذ أن تولاها الشيخ عبد الله الشبراوي، وبفقدان الشافعية لمنصب شيخ الأزهر لم يعد لهم أي وجود رسمي في دواوين الدولة([1]).

إلا أن الأمر اليوم في دار الإفتاء لم يعد كالسابق بطبيعة الحال، وأصبح النظر في المذاهب المعتبرة كلها منهجًا معروفًا في اختياراتها الإفتائية، وهذا لم يمنع من ذلك الحضور الكبير للمذهب الحنفي، والذي سنعرض بعض نماذجه في الفتاوى التالية:

فتوى دار الإفتاء المصرية رقم (2708) بتاريخ 25/1/1936

بعنوان الفتوى (استعمال وسائل منع الحمل):

واعتمدت الفتوى على المذهب الحنفي في بيان رأي الفقهاء قديمًا فيما يشبه استعمال وسائل منع الحمل، وجاء في نص الفتوى ردًّا على سؤال: رجل متزوج رُزِق بولد واحد ويخشى إن هو رُزق أولادًا كثيرين أن يقع في حرج من عدم قدرةٍ على تربية الأولاد والعناية بهم، أو أن تسوء صحة زوجته فتضعف أعصابه عن تحمل واجباتهم ومتاعبهم، أو أن تسوء صحة زوجته لكثرة ما تحمل وتضع دون أن يمضي بين الحمل والحمل فترة تستريح فيها وتسترد قوتها. فهل له أو لزوجته أن يتخذ بعض الوسائل التي يشير بها الأطباء ليتجنب كثرة النسل بحيث تطول الفترة بين الحمل والحمل فتستريح الأم ولا يرهق الوالد؟

اطلعنا على هذا السؤال، ونفيد بأن الذي يؤخذ من نصوص فقهاء الحنفية: أنه يجوز أن تُتخذ بعض الوسائل لمنع الحمل على الوجه المبين في السؤال؛ كإنزال الماء خارج محل المرأة، أو وضع المرأة شيئًا يسد فم رحمها ليمنع وصول ماء الرجل إليه.

وأصل المذهب: أنه لا يجوز للرجل أن ينزل خارج الفرج إلا بإذن زوجته، كما لا يجوز للمرأة أن تسد فم رحمها إلا بإذن الزوج. ولكن المتأخرين أجازوا للرجل أن ينزل خارج محل المرأة بدون إذنها إن خاف من الولد السوء لفساد الزمان؛ قال صاحب “الفتح”: “فليعتبر مثله من الأعذار مسقطًا لإذنها” اهـ.

والظاهر من عبارة: “فليعتبر مثله من الأعذار مسقطًا لإذنها” أن مثل خوف السوء من الولد بفساد الزمان ما كان مثل ذلك من الأعذار؛ كأن يكون الرجل في سفر بعيد ويخاف على الولد، وقياسًا على ما قالوه قال بعض المتأخرين: إنه يجوز للمرأة أن تسد فم رحمها بدون إذن الزوج إذا كان لها عذر في ذلك.

وجملة القول في هذا: أنه يجوز لكل من الزوجين برضا الآخر أن يتخذ من الوسائل ما يمنع وصول الماء إلى الرحم منعًا للتوالد، ويجوز على رأي متأخري فقهاء الحنفية لكل من الزوجين أن يتخذ من الوسائل ما يمنع وصول الماء إلى الرحم بدون رضا الآخر إذا كان له عذر من الأعذار التي قدمناها أو مثلها.

بقي الكلام في أنه هل يجوز منع الحمل بإسقاط الماء من الرحم بعد استقراره فيه وقبل نفخ الروح في الحمل؟ اختلف فقهاء الحنفية في ذلك، وظاهر كلامهم ترجيح القول بعدم جوازه إلا بعذر؛ كأن ينقطع لبن المرأة بعد ظهور الحمل وله ولد وليس لأبيه ما يستأجر به الظئر ويخاف هلاك الولد، أما بعد نفخ الروح في الحمل فلا يباح إسقاطه. وبما ذكرنا علم الجواب عن السؤال حيث كان الحال كما ذكر به. هذا ما ظهر لنا.

فتوى دار الإفتاء المصرية رقم (2535) بتاريخ 24/4/216

بعنوان (ذهاب النساء للمساجد عند الحنفية)

وعنت الفتوى بتناول حكم ذهاب المرأة للمسجد عند فقهاء الحنفية وبيان تحرير قولهم ومراعاتهم للعرف ومنهجهم فيها، وجاء في نص الفتوى:

هذه المسألة وردت فيها أحاديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم منها: حديث ابن عمر رضي الله عنهما في “الصحيحين”: ((لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللهِ مَسَاجِدَ اللهِ))، وفي رواية لهما: ((إذَا اسْتَأْذَنَتْ أحَدَكُم امرأتُه إلَى المَسْجِدِ فلا يَمْنَعْها))، زاد أبو داود في روايته: ((وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ))، وهذا يقتضي أن خروجها للمسجد جائز، وظاهره يدل على وجوب إذن الزوج لها إذا استأذنته في ذلك، إلا أن الجمهور حملوه على الاستحباب.

وذهب الحنفية في المنقول عنهم إلى الحكم بكراهة خروج النساء للمساجد لشيوع الفساد وتغير الزمان؛ مستدلين في ذلك بقول عائشة رضي الله عنها: “لو أدرك رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم ما أحدَثَ النساءُ لَمَنَعَهُنَّ كما مُنِعَتْ نساءُ بني إسرائيل” رواه البخاري في “صحيحه”.

وهذه الكراهة وإن حملها بعض المتأخرين من الحنفية على الكراهة التحريمية كالحافظ العيني في “عمدة القاري” (6/156، ط. دار إحياء التراث العربي).

إلَّا أن الذي يُفهَم من نصوص المتقدمين مِن أئمة الحنفية في هذه المسألة هو الكراهة التنزيهية فقط؛ حيث عبَّر عنها صاحب المذهب رضي الله عنه بقوله: (لا ينبغي)، وعبَّر عنها صاحبه الإمام محمد رحمه الله بقوله: (وليس على النساء خروج العيدين) بما يُفهَم منه نفيُ الوجوب عليهن لا نفي الجواز لهن.

كما أنهم جعلوا الكراهة للمرأة الشابة فقط، أما العجائز فلا كراهة في خروجهن مطلقًا عند الصاحبين، ولا كراهة في خروجهن للعشاء والفجر والعيدين عند الإمام أبي حنيفة، ويُكرَه عنده خروجهن للظهر والعصر والجمعة، وإذا خرجن للعيدين عنده فهل يصلين أم يشهدن العيد مع الناس بلا صلاة؟ روايتان.

قال الإمام محمد بن الحسن الشيباني صاحب الإمام أبي حنيفة في كتابه “الحجة على أهل المدينة” (1/306، ط. عالم الكتب): [قال أبو حنيفة رضي الله عنه في خروج النساء في العيدين: قد كان يُرخصُ فيه، فأما اليوم فلا ينبغي أن تخرج إلا العجوزة الكبيرة فإنه لا بأس بخروجها] اهـ.

وقال الشيخ برهان الدين في “المحيط” (2/ 208، 209، ط. دار إحياء التراث العربي): [قال محمد رحمه الله في “الأصل”: … وليس على النساء خروج العيدين، وكان يُرَخص لهن في ذلك. قال: وقال أبو حنيفة: فأما اليوم فإني أكره لهن ذلك، وأكره لهن شهود الجمعة وصلاة المكتوبة، وإنما أرخص للعجوز الكبيرة أن تشهد العشاء والفجر والعيدين. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: يرخص للعجوز في حضور الصلوات كلها وفي الكسوف والاستسقاء] اهـ.

وقال أيضًا (2/211): [ثم إذا خرجن في العيد هل يصلين؟ روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: يصلين؛ لأن المقصود من الخروج الصلاة، وروى المُعَلَّى عن أبي يوسف رحمه الله عن أبي حنيفة رحمه الله: لا يصلين وإنما خروجهن لتكثير سواد المسلمين] اهـ.

والقول بالكراهة وحدها دون إشارة إلى حملها على التحريم هو ما نص عليه أيضًا الإمام السرخسي في “المبسوط”، والإمام أبو الحسين القُدُوري في “مختصره”، والعلامة المرغيناني في “بداية المبتدي”، وأبو الفضل بن مودود الموصلي في “الاختيار لتعليل المختار”، والخطيب التمرتاشي في “تنوير الأبصار”، و”الفتاوى الهندية”، وغيرها من كتب السادة الحنفية المتقدمين والمتأخرين.

ومما يُقَوِّي حملَ الكراهة عند متقدمي الحنفية على التنزيهية دون التحريمية: أنهم فرَّعوا على حضور النساء جماعةً المسجد فروعًا كثيرة؛ كموقف النساء مِن الجماعة، ونية الإمام إمامةَ المرأة فيها، وصحة اقتدائها في الجمعة والعيدين وإن لم ينو إمامتَها، ومشروعية نية الإمام لها في تسليمه في انتهاء الصلاة، إلى غير ذلك من الأحكام التي يبعد أن تجامع القول بالتحريم.

والذي يظهر أن في هذه المسألة تدرجًا في الحكم عند الحنفية بناءً على اختلاف الزمان، كما يلمح إليه كلام الحافظ العيني في “عمدة القاري” (6/156) في قوله: [قال أصحابنا: لأن في خروجهن خوف الفتنة، وهو سبب للحرام، وما يفضي إلى الحرام فهو حرام؛ فعلى هذا قولهم (يُكْرَه) مرادهم: يَحرُم، لا سيما في هذا الزمان؛ لشيوع الفساد في أهله] اهـ. فاكتفى المتقدمون بالقول بالكراهة، ثم لَمَّا زاد الفساد وانتشر عَدَّى المتأخرون الحكم إلى التحريم.

وهذه المسألة من المسائل المتعلقة بالعوائد والأعراف عند السادة الحنفية؛ كما نص على ذلك العلامة ابن عابدين في رسالته “نشر العَرف في بناء بعض الأحكام على العُرف” المطبوعة ضمن “مجموعة رسائله” (2/126)؛ حيث بنوا الكلام فيها والخلاف حولها تأصيلًا وتفصيلًا وتعليلًا على تغير الحكم لتغير العُرف؛ سواء في أصل قولهم بالكراهة وعدولهم عن ظاهر الحديث وعمَّا كان عليه الحال في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو في تفريقهم بين الصلوات في كراهة خروج المرأة لبعضها دون بعض، أو في اختلافهم هل تصلي العجوز مع الناس عندما تخرج للعيدين أو تحضر المصلَّى من غير صلاة؟ أو في مخالفة المتأخرين لذلك كله واعتماد منع الكل في الكل؛ كما يتضح من صنيعهم وتعليلهم لذلك كله فيما يأتي.

قال الإمام السرخسي في “المبسوط” (2/74، ط. دار الفكر): [وأبو حنيفة رضي الله عنه قال في صلوات الليل: تخرج العجوز مستترة وظلمة الليل تحول بينها وبين نظر الرجال إليها، بخلاف صلواتِ النهار والجمعةِ تُؤَدَّى في المصر؛ فلكثرة الزحام ربما تُصرَع وتُصدَم، وفي ذلك فتنة؛ فإن العجوز إذا كان لا يشتهيها شابٌّ يشتهيها شيخ مثلها، وربما يحمل فرطُ الشبق الشابَّ على أن يشتهيها ويقصد أن يصدمها، فأما صلاة العيد فتُؤدى في الجبانة فيمكنها أن تعتزل ناحية عن الرجال كيلا تصدم] اهـ.

وقال العلَّامة المرغيناني في “الهداية شرح البداية” (1/57، ط. المكتبة الإسلامية): [(ويُكرَه لهن حضور الجماعات) يعني الشَّوَابَّ منهن؛ لِمَا فيه من خوف الفتنة، (ولا بأس للعجوز أن تخرج في الفجر والمغرب والعشاء) وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله. (وقالا يخرجن في الصلوات كلها)؛ لأنه لا فتنة لقلة الرغبة إليها، فلا يُكرَه كما في العيد. وله: أن فرط الشبق حاملٌ فتقع الفتنة، غير أن الفساق انتشارهم في الظهر والعصر والجمعة، أما في الفجر والعشاء فهم نائمون، وفي المغرب بالطعام مشغولون، والجُبَّانة متسعة فيمكنها الاعتزال عن الرجال فلا يكره] اهـ.

ولَمَّا تغيرت هذه الأعراف في أزمان متأخري الحنفية اضطُرُّوا إلى تغيير هذه التفصيلات في المسألة؛ حيث صار خروج المرأة للمسجد في زمنهم ذريعة للفساد والفتنة بها، وكثر انتشار الفُسَّاق على مدار اليوم، فأفتَى المتأخرون باعتماد منع الكل في الكل؛ أي منع كل النساء من حضور كل الصلوات في كل الأوقات، كما قرره الحصكفي في “الدر المختار” (1/566، ط. دار الفكر)، واستثنى الكمال العجائز المتفانية، مخالفين بذلك ما عليه الإمامُ وصاحباه.

قال العلامة الكمال بن الهمام رحمه الله تعالى في “شرح فتح القدير” (1/366، ط. دار الفكر): [الفُسَّاق في زماننا كثر انتشارهم وتعرضهم بالليل؛ وعلى هذا ينبغي على قول أبي حنيفة تفريعُ منعِ العجائز ليلًا أيضًا، بخلاف الصبح فإن الغالب نومهم في وقته، بل عمَّم المتأخرون المنع للعجائز والشواب في الصلوات كلها لغلبة الفساد في سائر الأوقات] اهـ.

وقال العلامة ابن عابدين في “رد المحتار على الدر المختار” (2/307 ط. دار عالم الكتب): [قال في “البحر”: وقد يُقال: هذه الفتوى التي اعتمدها المتأخرون مخالفة لمذهب الإمام وصاحبيه؛ فإنهم نقلوا أن الشابة تُمنَع مطلقًا اتفاقًا، وأما العجوز فلها حضور الجماعة عند الإمام إلا في الظهر والعصر والجمعة، أي وعندهما: مطلقًا؛ فالإفتاء بمنع العجائز في الكل مخالف للكل؛ فالاعتماد على مذهب الإمام اهـ. قال في “النهر”: وفيه نظر؛ بل هو مأخوذ من قول الإمام؛ وذلك أنه إنما منعها لقيام الحامل وهو فرط الشهوة؛ بناءً على أن الفسقة لا ينتشرون في المغرب؛ لأنهم بالطعام مشغولون، وفي الفجر والعشاء نائمون، فإذا فُرِضَ انتشارُهم في هذه الأوقات؛ لغلبة فسقهم -كما في زماننا- بل تَحَرِّيهم إيَّاها، كان المنعُ فيها أظهرَ مِن الظُّهْر] اهـ.

ويتضح من هذه النصوص كلها أن هذه المسألة بأصلها وتفريعاتها مبنية على أعراف الناس، وأن المصلحة المُتَوَخَّاةَ فيها هي: الحفاظ على أمن المرأة وسلامتها من جهة، وسَدُّ ذريعة الفتنة بها أو عليها من جهة أخرى، وهذا أمر لا يختص بخروجها للصلاة، بل هو عامٌّ في خروجها من بيتها ابتداءً؛ ولذلك فلا معنى لتخصيص الخروج بالصلاة؛ ولهذا علل الشيخ برهان الدين في “المحيط” (2/209) كراهة حضور النساء لجماعة المسجد بأنهن مأمورات بالقرار في البيوت، ومنهيات عن الخروج، وأنه إنما أبيح لهن الخروج في الابتداء إلى الجماعات، ثم مُنِعْنَ بعد ذلك؛ لما في خروجهن من الفتنة.

ولا يخفى على عاقل أن هذه الأعراف التي بُنِيَت عليها هذه الأحكام كلُّها في أصلها أو تفصيلها قد تغيرت تغيرًا كاملًا في بلاد المسلمين فضلًا عن بلاد غير المسلمين التي هي موضع السؤال؛ فلم تعد المرأة مقصورة على بيتها، بل فرضت عليها طبيعة العصر أن أصبحت تشارك الرجال في الخروج للتعلم والتعليم والعمل وتقلُّد الوظائف وقضاء المصالح، وصارت موجودةً في الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية، ولم يَعُد هناك حكرٌ على خروجها إلى التجمعات والمنتديات العامة، بل ولا يمكن لزوجها في بلاد غير المسلمين أن يمنعها من الخروج من بيتها أصلًا، بل تستطيع إذا أرادت أن تذهب إلى أي مكان شاءت، فكيف تُوصَدُ أمامَها مع هذا كله أبوابُ المساجد؛ لتصبح بيوت الله تعالى هي الأماكن الوحيدة التي لا يمكن للنساء دخولُها؟!

بل إنَّ ارتياد المرأة للمسجد أصبح في الأعم الأغلب مانعًا مِن تَعَرُّضِ الفُسَّاق لها أو فتنتها أو الفتنة بها، وصار الحفاظ على أمن المرأة وسلامتها خاضعًا لعوامل أخرى أكثر تعقيدًا من العامل الزمني، وتغير الحال في دول الغرب وغيرها؛ بحيث أصبح القول بمنعها من الصلاة في المساجد مع خروجها لمجالات الحياة المختلفة في شتى نواحيها ومع اختلاطها بالأصناف المختلفة من البشر نوعًا من التناقض، وضربًا من السطحية وإيغالًا في الظاهرية المحضة التي تنأى عنها أصول مذاهب الفقهاء المتبوعين، خاصة مذهب السادة الحنفية الذي حكم به المسلمون في أكثر تاريخهم ومعظم بلدانهم بحيث صار من أكثر المذاهب مرونة وسعةً واستيعابًا للحوادث والنوازل.

بل أصبحت المرأة المسلمة في تلك البلدان وغيرها أشد احتياجًا واضطرارًا إلى ارتياد المساجد لمعرفة أحكام دينها وتلمس طريقها في عباداتها ومعاملاتها، بل وفي ثباتها أصالةً على دينها مِن أي وقت مضى، وحاجتُها إلى ذلك أشدُّ مِن حاجة مَن هي في ديار المسلمين؛ حتى ليكاد يكون ذلك في كثير من الأحيان واجبًا عليها؛ لصيرورته السبيلَ الوحيدَ لمعرفة دينها؛ حيث إن المساجد في بلاد غير المسلمين ليست مجرد أماكن لأداء الصلوات بقدر ما أصبحت مراكز لتجمع المسلمين ومعرفة أمور دينهم والاطلاع على أحوالهم والتكافل والتعاون على الخير فيما بينهم، فكيف يقال مع هذا كله: إن مذهب السادة الحنفية أن المساجد توصد أمام النساء ويُمنَعنَ من دخولها، أو لا يُخصَّصُ لهن فيها مكانٌ.

فإذا انضاف إلى ذلك أن هذه المساجد هي واجهاتٌ للإسلام تُعبِّر عنه في دول الغرب، وليست حكرًا على مذهب معيَّن، بل هي بطريقة تنظيمها معيارٌ ودلالة على نُبْل تعاليمه ورُقِيِّ نظامه وأخلاق أتباعه وكيفية تعامله مع الناس بحيث إن ذلك مما يحببهم في الإسلام أو ينفرهم عنه، وكان الأخذ بهذا الرأي الذي تغير واقعه قد يفهمه غير المسلمين في تلك الدول خطأً؛ من أن الإسلام يحتقر المرأة ولا يعيرها التفاتًا ولا اهتمامًا حتى في دور العبادة، فيُتَّهَم الدين الإسلامي بأنه يدعو إلى التمييز بين الرجل والمرأة حتى في التكاليف الشرعية، هذا مع ما هم عليه من الخوف من الإسلام بسبب تصرفات بعض الجهلة من المسلمين أو من ينتسب إليهم من جهة وتلبيس الأعداء وتشويههم لصورتهم العظيمة من جهة أخرى، فإن السير على هذا الرأي في هذه الأحوال العصيبة هو نوعٌ من الصدِّ عن سبيل الله تعالى؛ لأنه فتنة لغير المسلمين واستعداء لهم على المسلمين، ولا علاقة له حينئذ لا بمذهب السادة الحنفية ولا بغيرهم، بل هو معصية محضة وبدعة في الدين ما أنزل الله بها من سلطان ولم يعرفها المسلمون في عصر من العصور؛ بل ينال مرتكبها إثمها ووبالها وعاقبة أمرها. وقد أجمع العلماء بجميع مذاهبهم الفقهية المتبوعة على أن الأحكام المتعلقة بالعوائد والأعراف تدور معها وجودًا وعدمًا؛ فتوجد بوجودها وتنعدم بانعدامها.

قال الإمام القرافي في كتابه “الفروق” (1/ 322، ط. دار الكتب العلمية): [الأحكام المترتبة على العوائد تدور معها كيفما دارت وتبطل معها إذا بطلت… وهو تحقيقٌ مُجْمَعٌ عليه بين العلماء لا خلاف فيه، بل قد يقع الخلاف في تحقيقه: هل وُجِدَ أم لا؟… وعلى هذا القانون تُرَاعَى الفتاوى على طول الأيام؛ فمهما تَجَدَّدَ في العرف اعْتَبِرْه ومهما سقط أَسْقِطْه، ولا تَجْمُدْ على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل مِن غير أهل إقليمك يستفتيك لا تُجْرِه على عُرف بلدك واسأله عن عُرف بلده وأَجْرِه عليه وأَفْتِه به دون عُرفِ بلدك والمقرَّرِ في كتبك، فهذا هو الحقُّ الواضح. والجمودُ على المنقولات أبدًا ضلالٌ في الدين، وجهلٌ بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين] اهـ.

وقال في موضع آخر (1/ 74): [فهذه قاعدة لا بد من ملاحظتها، وبالإحاطة بها يظهر لك أن إجراء الفقهاء المفتين للمسطورات في كتب أئمتهم على أهل الأمصار في سائر الأعصار إن كانوا فعلوا ذلك مع وجود عُرف وقتي ففعلهم خطأ على خلاف الإجماع، وهم عصاة آثمون عند الله تعالى غير معذورين بالجهل؛ لدخولهم في الفتوى وليسوا أهلًا لها ولا عالِمين بمداركها وشروطها واختلاف أحوالها] اهـ.

ونصَّ السادة الحنفية أنفسهم على هذا المعنى وأشبعوه تأكيدًا؛ حتى صنف خاتمة المحققين من الحنفية العلَّامة ابن عابدين رسالته “نشر العَرف في بناء بعض الأحكام على العُرف”، المطبوعة ضمن “مجموعة رسائل ابن عابدين”، ونقل فيها عن العلماء المحققين من السادة الحنفية أن الإنسان لو حفظ جميع كتب الحنفية ومسائلها ودلائلها وظاهر الرواية فيها فإن هذا كلَّه لا يكفيه في الفتوى حتى يَبْنِيَها على عُرف أهل زمانه وعاداتهم، وإلَّا كان ضررُه أعظمَ من نفعه.

فحقَّق في رسالته هذه (2/ 116) أن العُرف عند الحنفية يُخصِّص النص ويُتْرَك به القياس. ونقل عن أئمة الحنفية (2/129) أن المفتي لا بد له من معرفة الزمان وأحوال أهله، قال: [ولا بد له من التخرج على أستاذ ماهر، ولا يكفيه مجرد حفظ المسائل والدلائل؛ فإن المجتهد لا بد له من معرفة عادات الناس كما قدمناه، فكذا المفتي؛ ولذا قال في آخر “منية المفتي”: لو أن الرجل حفظ جميع كتب أصحابنا لا بد أن يتتلمذ للفتوى حتى يهتدي إليها؛ لأن كثيرًا من المسائل يجاب عنها على عادات أهل الزمان فيما لا يخالف الشريعة. انتهى. وقريب منه ما نقله في “الأشباه” عن “البزازية” من أن المفتي يفتي بما يقع عنده من المصلحة.. وقال في “فتح القدير” ما نصه: والتحقيق أن المفتي في الوقائع لا بد له من ضربِ اجتهادٍ ومعرفةٍ بأحوال الناس] اهـ.

وقال أيضًا (2/ 131): [فهذا كله وأمثاله دلائل واضحة على أن المفتي ليس له الجمود على المنقول في كتب ظاهر الرواية من غير مراعاة الزمان وأهله، وإلا يضيع حقوقًا كثيرة ويكون ضرره أعظم من نفعه] اهـ.

وقال أيضًا (2/115): [فصل: قال في “القنية”: ليس للمفتي ولا للقاضي أن يحكما على ظاهر المذهب ويتركا العرف. ونقل المسألة عنه في “خزانة الروايات” كما ذكره البيري في “شرح الأشباه”] اهـ.

كما أكَّد أن العمل بما يقتضيه العرف هو عين الأخذ بالمذهب، وساق فيها كثيرًا من الفروع الفقهية التي خالف فيها مشايخ المذهب الحنفي ما نص عليه أئمتهم في مواضع كثيرة بنوها على ما كان في زمنهم؛ متمسكين في ذلك بمناهجهم وقواعدهم، لا بخصوص مسائلهم التي تغير واقعها وتبدلت أعرافها، وأن المتقدمين لو أدركوا زمن المتأخرين لقالوا بما قالوا به.

يقول رحمه الله في ذلك (2/125-126): [اعلم أن المسائل الفقهية إمَّا أن تكون ثابتة بصريح النص، وهي الفصل الأول، وإما أن تكون ثابتة بضرب اجتهاد ورأي، وكثير منها ما يبنيه المجتهد على ما كان في عرف زمانه بحيث لو كان في زمان العرف الحادث لقال بخلاف ما قاله أوَّلًا؛ ولهذا قالوا في شروط الاجتهاد: إنه لا بد فيه من معرفة عادات الناس؛ فكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان؛ لتغير عرف أهله، أو لحدوث ضرورة، أو فساد أهل الزمان؛ بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أوَّلًا للزم منه المشقة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر والفساد؛ لبقاء العالم على أتمِّ نظام وأحسن إحكام؛ ولهذا ترى مشايخ المذهب خالفوا ما نص عليه المجتهد في مواضع كثيرة بناها على ما كان في زمنه؛ لعلمهم بأنه لو كان في زمنهم لقال بما قالوا به؛ أخذًا من قواعد مذهبه. فمن ذلك: إفتاؤهم بجواز الاستئجار على تعليم القرآن ونحوه لانقطاع عطايا المعلمين التي كانت في الصدر الأول، ولو اشتغل المعلمون بالتعليم بلا أجرة يلزم ضياعهم وضياع عيالهم، ولو اشتغلوا بالاكتساب من حرفة وصناعة يلزم ضياع القرآن والدين؛ فأفتوا بأخذ الأجرة على التعليم وكذا على الإمامة والأذان كذلك، مع أن ذلك مخالف لما اتفق عليه أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد من عدم جواز الاستئجار وأخذ الأجرة عليه كبقية الطاعات من الصوم والصلاة والحج وقراءة القرآن، … ومن ذلك مسائل كثيرة؛ كتضمينِ الأجير المشترك… ومنعِ النساء عما كُنَّ عليه في زمن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من حضور المساجد لصلاة الجماعة] اهـ.

وقال أيضًا (2/ 128): [فإن قلتَ: العرف يتغير ويختلف باختلاف الأزمان، فلو طرأ عرف جديد هل للمفتي في زماننا أن يفتي على وفقه ويخالف المنصوص في كتب المذهب؟ وكذا هل للحاكم الآن العملُ بالقرائن؟ قلتُ: مبنى هذه الرسالة على هذه المسألة، فاعلم أن المتأخرين الذين خالفوا المنصوص في كتب المذهب في المسائل السابقة لم يخالفوه إلا لتغير الزمان والعرف، وعلمهم أن صاحب المذهب لو كان في زمنهم لقال بما قالوه] اهـ.

وقال في الهامش: [وقد سَمَّعْناكَ ما فيه الكفايةُ من اعتبار العرف والزمان واختلاف الأحكام باختلافه، فللمفتي الآن أن يفتي على عرف أهل زمانه وإن خالف زمان المتقدمين، وكذا للحاكم العمل بالقرائن في أمثال ما ذكرناه حيث كان أمرًا ظاهرًا] اهـ.

ثم إن القول بكراهة خروجهن إلى المسجد -سواء حُمِلَت على التنزيه أو التحريم- لا يستلزم بحال من الأحوال عدمَ تخصيص مكان لهن للصلاة في المساجد؛ لعدة أسباب:

1- أن المعتمد عند بعض المحققين مِن الحنفية عدمُ كراهية خروج العجائز في كل الأوقات أو في بعضها، وحتى في المعتمد عند المتأخرين استثنى منه الكمال بن الهمام العجائزَ المتفانية، وهذا يقتضي أن يُجعَل لهن مكان يُصلِّينَ فيه.

2- أن القول بكراهة حضور المرأة جماعة المسجد ومنعها من ذلك إنما يُقصد به منعُها من الخروج مِن بيتها ابتداءً، لا منعُها من دخول المسجد إذا خرجت، ومن المقرر في قواعد الفقه أنه “يجوز في الدوام ما لا يجوز في الابتداء”، فإذا كانت خارجَ بيتها فعلًا فلا يجوز منعُها من دخول المسجد بحال من الأحوال في أي مذهب من المذاهب الفقهية، وإلا دخل مانعُها في الظلم الذي دل عليه قوله تعالى: {وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ أَن يُذۡكَرَ فِيهَا ٱسۡمُهُۥ} [البقرة: 114].

3- أن تخصيص مكان للنساء أمر مشروع عند السادة الحنفية حتى مع قولهم بكراهة خروجهن لحضور جماعة المسجد؛ حيث نصوا على مكان وقوف النساء من جماعة المسجد، وذكرُ مكان ائتمامهن يستلزم جوازه أصالةً، وإلا لم يكن لذكر الائتمام معنًى، قال في “الفتاوي الهندية” (1/ 89، ط. المطبعة الأميرية بولاق): [ولو اجتمع الرجال والصبيان والخناثى والإناث والصبيات المراهقات: يقوم الرجال أقصى ما يلي الإمام، ثم الصبيان، ثم الخناثى، ثم الإناث، ثم الصبيات المراهقات. كذا في “شرح الطحاوي”] اهـ.

4- أن هناك فارقًا بين تحرير المعتمد في منقول المذهب وبين تحديد ما عليه العمل والفتوى التي تعتمد على تغير الأعراف والأحوال والزمان والمكان، وعلى القواعد العملية التي تحكم العلاقة في التعامل بين المسلمين بمختلف مذاهبهم الفقهية؛ كقولهم: “لا يُنكَر المختلفُ فيه إنما يُنكَر المتفقُ عليه”، وأنه “يجوز للمسلم أن يتخير من أقوال المذاهب المختلف ما هو أقرب إلى تحقيق مقاصد الشريعة”، وأن “التمذهب بمذهب معين لا يستلزم التقيد بكل مسائله حتى وإن كان ذلك خلاف المصلحة الراجحة أو كان فيه حرج على المكلف”.

5- أن الكراهة –تنزيهيةً أو تحريميةً- متوجهةٌ إليهنَّ، لا إلى غيرهن، وهذا لا يستلزم منعهن من دخول المسجد إذا خرجنَ من بيوتهن؛ ولذلك أجاب العلامة الطحطاوي في “حاشيته على مراقي الفلاح” (183، ط. بولاق) عن القول بأن الإمامَ ينوي الرجالَ والملائكةَ الحفَظَة فقط ولا ينوي النساءَ إذا قال: “السلام عليكم ورحمة الله”. بأن الجهة منفكَّة؛ فلا يلزم من كراهة حضورهن عدمُ نيةِ الإمام لهن في سلامه؛ لأن الكراهة عليهن وحدهنَّ، أما الإمام فمطلوب منه أن يَنْوِيَهُنَّ إذا صَلَّيْنَ معه.

6- أن كثيرًا من المذاهب الأخرى قالت بجواز خروج النساء للمسجد، والمسجد بيت الله الذي يجتمع فيه عباده المسلمون المصلُّون أيًّا ما كانت مذاهبهم؛ أي أن الإسلام أكبر من المذاهب الفقهية وخلافاتها، فلا ينبغي للقائمين على أمور المسلمين أن يتحجروا في هذه المسائل واسعًا، ولا أن يتشددوا في أمر اختلف فيه المسلمون، بل عليهم أن يستوعبوا إخوانهم المسلمين من بقية المذاهب الفقهية، وأن يبحثوا عن المعاني الجامعة التي تؤلف ولا تفرق، وعليهم أن يتمثلوا أدب الخلاف كما كان عليه الأئمة رضي الله عنهم: فهذا الإمام أبو حنيفة وأصحابه والشافعي وغيرهم يصلون خلف أئمة أهل المدينة من المالكية مع أنهم كانوا لا يقرؤون بالبسملة لا سرًّا ولا جهرًا. وهذا الإمام أبو يوسف يصلي خلف الرشيد وقد احتجم وأفتاه الإمام مالك أنه لا وضوء عليه، فلم يُعِد مع أنه يرى أن خروج الدم ينقض الوضوء، وكذلك الإمام أحمد بن حنبل يرى الوضوء من ذلك، فقيل له: فإن كان إمامي قد خرج منه الدم ولم يتوضأ، أُصَلِّي خلفه؟ فقال: كيف لا تصلي خلف سعيد بن المسيب ومالك؟! وهذا الإمام الشافعي يصلي الصبح بغير قنوت في بغداد، قُرب قبر الإمام أبي حنيفة فسُئِل عن ذلك فقال: أخالفه وأنا في حضرته!! وكذلك فعل أبو العباس الدغولي الشافعي حيث ترك القنوت في الصبح في غير بلده، فلما سُئِل عن ذلك قال: لراحة الجسد، وسنة أهل البلد، ومداراة للأهل والولد، كما نقله عنه الحافظ الذهبي في “سير أعلام النبلاء” (14/559، ط. مؤسسة الرسالة).

وبناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فإن ما سُطِر في كتب السادة الحنفية من منع النساء من الخروج لجماعة المسجد إنما كان في أزمنة اقتضت أعرافُها وعاداتُها ذلك، وهو لا يعني بحال من الأحوال منعَها من دخول المسجد إذا خرجت فعلًا، وأن تُوصَد أمامهن المساجد، ولا يقتضي مشروعية بناء المسجد بحيث لا يخصص للنساء فيه مكان يستترن بالصلاة فيه عن الرجال، فهذه بدعة محضة لم يعرفها المسلمون على اختلاف أعصارهم وأمصارهم، ولا علاقة لذلك بمذهب السادة الحنفية رضي الله عنهم من قريب ولا بعيد، ولا قبيل ولا دبير، ويجب منعُ مثل هذا التصرف والأخذ على يد مَن يدعو إليه، خاصَّةً في بلاد غير المسلمين؛ لِمَا فيه مِن صَدِّهم عن الإسلام، وإيغار صدورهم على المسلمين. والسادة الحنفية بَنَوْا مسألة خروج المرأة من بيتها لحضور جماعة المسجد على العُرف، وعلَّقوا الحكم فيها على تغير العرف تنظيرًا وتطبيقًا؛ بدءًا من تَخَيُّرِهم خلافَ ما كان عليه الحال في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومرورًا بتفريقهم في الحكم بين النساء وبين أوقات الصلوات، وانتهاءً بمنع متأخريهم الكلَّ في الكلِّ خلافًا لِمَا عليه الإمام وصاحباه.

وتمشيًا مع ذلك كله ومع تغير الأعراف والعادات فالذي تقتضيه قواعد المذهب الحنفي وينبغي اعتمادُه في هذا الزمان هو العودة بالحكم إلى الأصل الذي كان عليه في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من إباحة خروج النساء للمساجد مطلقًا، خاصةً في بلاد غير المسلمين؛ حيث يجددن فيها إيمانهن ويلتقين فيها بأخواتهن، ويتعلمن فيها أمور دينهن. هذا كلُّه ما لم يُؤَدِّ ذلك إلى فتنة بهن أو خوف عليهن، وما لم يُؤَدِّ إلى إخلال بحق الأسرة من تضييعٍ لحقوق أزواجهن أو أولادهن؛ وذلك لأن غالب النساء قد خرجن فعلًا من بيوتهن للمشاركة في مجالات الحياة المختلفة، وما دمن قد خرجن فعلًا فلا معنى لمنعهن من دخول بيوت الله تعالى إذا أردن ذلك، مع التنبيه في ذلك كله أن صلاة المرأة في بيتها خير لها من صلاتها في المسجد ما لم يكن ذلك لغرض آخر غير الصلاة لا يتم إلا في المسجد كمعرفة أحكام دينها التي لا تتيسر لها إلا فيه، فذهابها إلى المسجد حينئذٍ أفضل؛ لهذا المعنى لا لمجرد الصلاة.

فتوى دار الإفتاء المصرية رقم (3557) بتاريخ 17/9/2008

بعنوان إخراج زكاة الفطر أول رمضان نقدًا

واعتمدت فتوى الدار على بيان مذهب الحنفية في جواز تعجيل زكاة الفطر وإخراجها نقدا، وجاء في نص الفتوى:

تجب زكاة الفطر بدخول فجر يوم العيد عند الحنفية، بينما يرى الشافعية والحنابلة أنها تجب بغروب شمس آخر يوم من رمضان، وأجاز المالكية والحنابلة إخراجها قبل وقتها بيومين؛ لقول ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: “كانوا يعطون صدقة الفطر قبل العيد بيوم أو يومين”.

ولا مانع شرعًا من تعجيل زكاة الفطر من أول دخول رمضان، كما هو الصحيح عند الشافعية وهو قول مصحح عند الحنفية، وفي وجه عند الشافعية أنه يجوز من أول يوم من رمضان لا من أول ليلة، وفي وجه يجوز قبل رمضان.

أما عن إخراجها بالقيمة فيرى السادة الحنفية أنَّ الواجبَ في صدقة الفطر نصفُ صاعٍ من بُرٍّ أو دقيقه أو سويقه أو زبيب أو صاع من تمر أو شعير، أما صفته فهو أن وجوب المنصوص عليه من حيث إنه مال متقوم على الإطلاق لا من حيث إنه عين، فيجوز أن يعطي عن جميع ذلك القيمة دراهم، أو دنانير، أو فلوسًا، أو عروضًا، أو ما شاء؛ قال الإمام السرخسي في “المبسوط” (3/ 107-108): [فإن أعطى قيمة الحنطة جاز عندنا؛ لأن المعتبر حصول الغنى، وذلك يحصل بالقيمة كما يحصل بالحنطة، وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يجوز، وأصل الخلاف في الزكاة، وكان أبو بكر الأعمش رحمه الله تعالى يقول: أداء الحنطة أفضل من أداء القيمة؛ لأنه أقرب إلى امتثال الأمر وأبعد عن اختلاف العلماء فكان الاحتياط فيه، وكان الفقيه أبو جعفر رحمه الله تعالى يقول: أداء القيمة أفضل؛ لأنه أقرب إلى منفعة الفقير فإنه يشتري به للحال ما يحتاج إليه، والتنصيص على الحنطة والشعير كان لأن البياعات في ذلك الوقت بالمدينة يكون بها، فأما في ديارنا البياعات تجرى بالنقود، وهي أعز الأموال فالأداء منها أفضل] اهـ.

وهذا أيضًا هو مذهب جماعة من التابعين، كما أنه قول طائفة من العلماء يُعْتَدُّ بهم، منهم: الحسن البصري؛ حيث روي عنه أنه قال: “لا بأس أن تعطى الدراهم في صدقة الفطر”، وأبو إسحاق السبيعي؛ فعن زهير قال: سمعت أبا إسحاق يقول: “أدركتهم وهم يعطون في صدقة الفطر الدراهم بقيمة الطعام”، وعمر بن عبد العزيز؛ فعن وَكِيع عن قُرَّة قال: جاءنا كتاب عمر بن عبد العزيز في صدقة الفطر: “نصف صاع عن كل إنسان أو قيمته نصف درهم”، وقد روى هذه الآثار الإمام أبو بكر بن أبي شَيبة في “المصَنَّف” (2/ 398)، وهو أيضًا مذهب الثوري، وبه قال إسحاق بن راهويه، وأبو ثور، إلا أنهما قيدا ذلك بالضرورة، كما ذكره الإمام النووي في “المجموع شرح المهذب” (6/ 112)، وأجازه الشيخ تقي الدين ابن تيمية الحنبلي أيضًا للحاجة والمصلحة الراجحة حيث يقول في “مجموع الفتاوى” عن إخراج القيمة في الزكاة والكفارة ونحو ذلك (25/ 82-83): [والأظهر في هذا أن إخراج القيمة لغير حاجة ولا مصلحة راجحة ممنوع منه.. وأما إخراج القيمة للحاجة أو المصلحة أو العدل فلا بأس به] اهـ.

كما أن القول بإجزاء إخراج القيمة في زكاة الفطر رواية مُخَرَّجة عن الإمام أحمد نَصَّ عليها المرداوي في “الإنصاف” (3/ 182).

والذي نختاره للفتوى في هذا العصر ونراه أوفق لمقاصد الشرع وأرفق بمصالح الخلق هو جواز إخراج زكاة الفطر مالًا مطلقًا، وهذا هو مذهب الحنفية، وبه العمل والفتوى عندهم في كل زكاة، وفي الكفارات، والنذر، والخراج، وغيرها، كما أنه مذهب جماعة من التابعين كما مَرَّ.

فتوى دار الإفتاء المصرية رقم (4733) بتاريخ 27/2/2019

بعنوان: وضوء الطبيب إذا مس عورة المريض أثناء الكشف

وقد نصت الفتوى على جواز تقليد المذهب الحنفي في مسألة الوضوء من مس العورة في حالة الطبيب المضطر للمس عورة المريض، وجاء في نص الفتوى:

وقد اختلف الفقهاء في انتقاض الوضوء بمس العورة:

فذهب فقهاء الحنفية إلى أنَّ مس فرج الآدمي وإن كان مُعابًا، إلا أنه لا ينقض الوضوء مطلقًا، رجلًا كان أو امرأةً، قُبُلًا كان أو دُبُرًا، سواء كانت سَوْأتَه أو سَوْأَة غيره، بشهوةٍ كان أو بغير شهوةٍ، وهو مذهب أكثر الصحابة ومنهم: عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، وعمار بن ياسر، وزيد بن ثابت، وحذيفة بن اليمان، وعمران بن الحصين، وأبو الدرداء، رضي الله عنهم، وكذلك يراه من التابعين: الحسن البصري، وسعيد بن المسيب، وهو مذهب سفيان الثوري؛ قال العلامة بدر الدين العيني في “البناية شرح الهداية” (1/ 296، ط. دار الكتب العلمية): [مَسُّ الذَّكَر مَعَابَةٌ لا ينقض الوضوءَ عندنا، وهو قول عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، وعمار بن ياسر، وزيد بن ثابت، وحذيفة بن اليمان، وعمران بن الحصين، وأبي الدرداء، وسعد بن أبي وقاص عند أهل الكوفة وأبي هريرة في رواية عنه، هكذا حكاه أبو عمر بن عبد البر. ومن التابعين: الحسن البصري، وسعيد بن المسيب وهو مذهب سفيان الثوري، وقال الطحاوي: لم يُعلَم أحدٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أفتى بالوضوء منه غير ابن عمر، وقد خالفه في ذلك أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم] اهـ.

وقال العلامة أبو بكر علاء الدين السمرقندي في “تحفة الفقهاء” (1/ 22، ط. دار الكتب العلمية): [فأما مجرد مَسِّ المرأةِ لشهوةٍ أو غير شهوةٍ أو مسِّ ذَكَره أو ذَكَر غيره، فليس بحَدَثٍ عند عامَّة العلماء ما لم يَخرُجْ منه شيء] اهـ.

بينما ذهب جمهور فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة في الجملة إلى انتقاض الوضوء بمسِّ العورة، ولكلٍّ منهم تفصيلُه وشروطه.

قال العلامة الخرشي المالكي في “شرحه لمختصر خليل” (1/ 156، ط. دار الفكر): [من الأسباب النَّاقِضَة للوُضُوءِ مَسُّ ذَكَرِه نَفْسِهِ الْمُتَّصِلِ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا قَصَدَ اللَّذَّةَ أَمْ لَا، وَلَوْ عِنِّينًا لَا يَأْتِي النِّسَاءَ مَسَّهُ مِنَ الْكَمَرَةِ أَوِ الْعَسِيبِ أَوْ خُنْثَى مُشْكِلًا تَخْرِيجًا عَلَى مَنْ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ وَشَكَّ في الحَدَثِ، والنَّقْضُ بِمَسِّ الذَّكَرِ مَشْرُوطٌ بِأَنْ يَكُونَ بِبَاطِنِ كَفِّهِ أَوْ جَنْبِهِ أَوْ بِبَاطِنِ أَوْ جَنْبِ أَوْ رَأْسِ أُصْبُعٍ] اهـ.

وقال العلامة الرملي الشافعي في “نهاية المحتاج” (1/ 118، ط. دار الفكر): [الناقض الرابع: مَسُّ قُبُلِ الآدَمِيِّ ذكرًا كان أو أنثَى من نفسه أو غيره عمدًا أو سهوًا.. ببطن الكف بلا حائلٍ.. وكذا في الجديد حَلْقَة دُبُر الآدَمِيِّ] اهـ.

وقال العلامة البهوتي الحنبلي في “كشاف القناع” (1/ 126، ط. دار الكتب العلمية): [من نواقض الوضوء مسُّ ذَكَر آدَميٍّ إلى أصول الأنثيين مطلقًا سواء كان الماسُّ ذكرًا أو أنثَى بشهوةٍ أو غيرها ذَكَرَه أو ذَكَرَ غيره سواء كان صغيرًا أو كبيرًا.. ببطن كفه أو بظهره أو بحرفه.. من غير حائل] اهـ.

وبناءً على ذلك: فانتقاض الوضوء بمسِّ العورةِ من المسائل التي اختلف فيها الفقهاء؛ فجمهور المالكية والشافعية والحنابلة يرون انتقاض الوضوء بمسِّ العورةِ، أما فقهاء الحنفية وأكثر الصحابة والتابعين فيرَوْن عدمَ انتقاضِ الوضوء بمجرَّد مَسِّ العورةِ، سواء مَسَّ نفسَه أو غيرَه، ولكن ينتقض الوضوء عندهم إذا استتبع المسَّ خروجُ شيء من مُبطلاتِ الوضوء.

وفي واقعةِ السؤال: فيجوز للسائل أن يُقلِّد مذهبَ الحنفية؛ على القاعدة التي تقرَّرت: أنَّ “مَنِ ابتُلِي بشيء من المختلَف فيه فليقلِّد من أجاز”.

فتوى دار الإفتاء المصرية رقم (5213) بتاريخ 1/5/2020

بعنوان إفطار الحامل والمرضع في رمضان لظروف الوباء

فقد اعتمدت الفتوى بجواز إفطار الحامل والمرضع في رمضان بسبب انتشار الوباء، وأوجبت عليهما القضاء فقط دون الكفارة كما هو معتمد في مذهب الحنفية، وجاء في نص الفتوى:

الأصل في الحامل والمرضع وجوب الصيام على كلٍّ منهما ما دامتا مسلمتين عاقلتين غيرَ مسافرتين، وما دامتا لا يلحقُهُما ولا طفلَهما ضررٌ من الصيام، وهذا يُعرَف مِن قِبل المتخصصين، فإن لحقهما أو طفلهما ضررٌ دَخَلَا بذلك في قوله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٖ فَعِدَّةٞ مِّنۡ أَيَّامٍ أُخَرَۚ} [البقرة: 184].

فإن كان الضرر يلحق الحامل أو المرضع من الصيام أو يلحقهما مع طفلَيْهما جاز لهما الفطر، وعليهما القضاء باتفاق المذاهب المتبوعة، خلافًا لابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما اللذَيْن ألحقاهما بمن لا يُرجَى زوال مرضهم، فلم يوجبا عليهما قضاءً، وأوجبا الكفارة وحدها؛ نظرًا لتكرر الحمل والرضاع.

وإن كان الضرر يلحق طفلَهما دونَهما، فمِنَ العلماء مَنْ أوجب عليهما القضاء دون الكفارة، وهم الحنفية، وعليه الفتوى، أما عند غير الحنفية فيجب عليهما القضاء والكفارة.

ومن العلماء من لم يوجب الكفارة إلا على المرضع وحدها، وهو قول الليث، ورواية عن مالك.

قال الإمام السرخسي الحنفي في “المبسوط” (3/ 99-100، ط. دار المعرفة، بيروت):

[وإذا خافت الحامل أو المرضع على نفسها أو ولدها أفطرت؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إنَّ اللهَ تَعَالَى وَضَعَ عَنِ المُسَافِرِ شَطْرَ الصَّلَاةِ وَالصَّومَ، وَعَنِ الحَامِلِ وَالمُرْضِعِ الصَّومَ))، ولأنه يلحقها الحرج في نفسها أو ولدها، والحرج عذر في الفطر كالمريض والمسافر، وعليها القضاء، ولا كفارة عليها؛ لأنها ليست بجانية في الفطر، ولا فدية عليها عندنا.

وقال الشافعي رحمه الله تعالى: إن خافت على نفسها فكذلك، وإن خافت على ولدها فعليها الفدية. ومذهبه مرويٌّ عن ابن عمر رضي الله عنهما، ومذهبنا مروي عن علي وابن عباس رضي الله عنهم، إلا أن المروي عن ابن عمر رضي الله عنهما الفدية دون القضاء، والجمع بينهما لم يشتهر عن أحد من الصحابة.. ولنا أن هذا مفطر يرجى له القضاء، فلا يلزمه الفداء كالمريض والمسافر، وهذا لأن الفدية مشروعة خَلَفًا عن الصوم، والجمع بين الخَلَف والأصل لا يكون، وهو خلف غير معقول، بل هو ثابت بالنص في حق من لا يطيق الصوم، فلا يجوز في حق من يطيق الصوم، ولا يجوز أن يجب باعتبار الولد؛ لأنه لا صوم على الولد، فكيف يجب ما هو خلف عنه، ولأنه لا يجب في مال الولد، ولو كان باعتباره لوجب في ماله كنفقته، ولتضاعف بتعدد الولد] اهـ.

وعليه: فإن خافت الحامل أو المرضع على نفسها فلها الإفطار، وليس عليها إلا القضاء وحده، سواء خافت مع ذلك على طفلها أم لم تخف.

وإن خافت على طفلها ولم يكن عليها هي من الصوم ضرر أفطرت، ووجب عليها القضاء أيضًا دون كفارة كما هو قول الحنفية وعليه الفتوى، واستُحبَّ لها أداءُ الكفارة إن استطاعت؛ خروجًا من خلاف من أوجبها.

فإن تكرر حملها ورضاعُها وزادت أيامُ قضائِها فلْتَقْضِ ما تستطيع حال استرداد صحتها وقوتها، فإن الميسور لا يسقط بالمعسور، فإن زاد ذلك على طاقتها وضعفت مع ذلك قوتُها، ولم تَعُدْ قادرةً على القضاء التحقت بحكم من لا يُرجَى زوال مرضه، وصار عليها الكفارة وحدها.

على أن للحامل والمرضع في فطرِها ثوابَ صيامها، وفي راحتها أجر قيامها؛ لأنها معذورة مجبورة لو استطاعت الصيام صامت أو القيام قامت، فأكرم بها مِن مفطرٍ صائم، ونائمٍ قائم، قد جعلها الله للحياة منبَعًا، وللرحمة مستودَعًا، وللحنان موضِعًا، وأقامها في مهمة جليلة القدر عظيمة الشأن تنال بها جزيل الثواب وكريم الإحسان.

وبناءً على ذلك: فللحامل والمرضع الإفطار إن خافتا على نفسيهما أو على ولديهما، بل يجب عليهما ذلك إذا اشتدَّت المخافة وغلب ظن الضرر، وليس عليهما إلا القضاء وحده؛ سواء خافتا مع ذلك على طفليهما أم لم تخافا كما هو قول الحنفية وعليه الفتوى، ويستَحَبُّ لهما إخراجُ الكفارة إن استطاعتا؛ خروجًا من خلاف من أوجبها.

فتوى دار الإفتاء المصرية رقم (4220) بتاريخ 3/1/2009

بعنوان: شفط عدد من الأجنة لإعطاء فرصة لاستمرار الحمل

واعتمدت الفتوى على رأي الحنفية في جواز الإجهاض لعذر يتأكد منه خطورة على حياة الأم أو نحو ذلك، وجاء في نص الفتوى:

اتفق الفقهاء على أنه إذا بلغ عمر الجنين في بطن أمه مائة وعشرين يومًا وهي مدة نفخ الروح فيه، فإنه لا يجوز إسقاط الجنين ويحرم الإجهاض قطعًا في هذه الحالة؛ لأنه يعتبر قتلًا للنفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَوۡلَٰدَكُم مِّنۡ إِمۡلَٰقٖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُكُمۡ وَإِيَّاهُمۡۖ} [الأنعام: 151]، ولقوله تعالى: {وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۗ} [الإسراء: 33].

أما إذا لم يبلغ عمر الجنين في بطن أمه مائة وعشرين يومًا فقد اختلف الفقهاء في حكم الإجهاض: فبعضهم قال بالحرمة، وهو المعتمد عند المالكية والظاهرية وبعض الشافعية، وبعضهم قال بالكراهة مطلقًا، وهو رأي بعض الحنفية والمالكية، وقول محتمل عند الشافعية، وبعضهم قال بالإباحة لعذر فقط، وهو حقيقة مذهب الحنفية، وبعضهم قال بالإباحة مطلقًا وهو رأي بعض الأحناف وقول عند الحنابلة والرملي والشافعي إذا كانت النطفة من زنا، وقال به اللخمي من المالكية وأبو إسحاق المروزي من الشافعية قبل الأربعين يومًا.

والراجح والمختار للفتوى أن الإجهاض لا يجوز قبل نفخ الروح إلا إذا كانت النطفة من زنا، أو كان ذلك لعذرٍ كما هو حقيقة مذهب الحنفية، ونقل ابن عابدين في “حاشيته” (3/ 193) عن ابن وهبان أن من الأعذار أن ينقطع لبنها بعد ظهور الحمل وليس لأبي الصبي ما يستأجر به الظئر -أي المرضع- ويخاف هلاكه؛ قال: [فإباحة الإسقاط محمولةٌ على حالة العذر] اهـ.

وذكر الإمام الزركشي أن المرأة لو دعتها ضرورةٌ لشرب دواءٍ مباحٍ يترتب عليه الإجهاض، فينبغي أنها لا تضمن بسببه. “حاشية البجيرمي على الإقناع” (4/ 129).

وبناء على ذلك وفي واقعة السؤال: فإنه يجوز لكم شرعًا شفط عدد من الأجنة في الخمسين يومًا الأولى من الحمل لتقليل المتبقي إلى واحدٍ أو اثنين إذا كان عدمُ التدخل بذلك يترتب عليه غلبةُ الظن بتعرض حياة الأم للخطر، أو حصول إجهاضٍ لجميع الأجنة، أو حدوث تشويه خِلقي لها أو لبعضها، أو غير ذلك من ضررٍ محققٍ أو غالبٍ للأم أو لجميع الأجنة، فيجب حينئذ التدخل بشفط بعضها إبقاءً على حياة الأم المستقرة وحياة بقيتها، أو حتى بشفط جميعها؛ إبقاءً لحياة الأم المستقرة، وإيثارًا لارتكاب أخف الضررين بدفع أشدهما في الحالتين. وفي حال شفط بعض الأجنة دون بعضٍ يجب تحري القيام بذلك على أساسٍ علميٍّ ينبني على الإبقاء على الأرجى منها حياةً من الناحية النظرية العلمية، والتنازل عن الأقل رجاءً منها في ذلك.

أما في حال استواء جميع الأجنة في الاحتمالات النظرية العلمية للبقاء وعدمه فيكون اختيار ما يتم شفطه بناء على ما يكون أخف على الأم وأرفق بها، فإن كان الجميع في ذلك سواءً فإنه يُقرَع بينها للاختيار، حيث إن القرعة في مثل هذه الأحوال مما يُشرَع اللجوء إليه للتخاير بين الأفراد المستوية في الصفات والأحوال كما هو مقررٌ في موضعه من كتب الفقه الإسلامي.

فتوى دار الإفتاء المصرية رقم (2052) بتاريخ 22/8/2005

بعنوان: زواج المرأة الثيب دون ولي

وقد اعتمدت الفتوى على رأي الحنفية في زواج الثيب دون ولي ردًّا على سؤال مفاده أن امرأة ثيبًا تحمل جنسية مختلفة تزوجت من رجل كفء لها، بعقد صحيح مكتمل الشروط والأركان، وجاء في نص الفتوى:

الولاية في النكاح نوعُ رعاية كفَلها الشرع الشريف للمرأة حفاظًا عليها وهي تبدأ مرحلةً كبرى في حياتها، وقد راعى الشرع عند وضع أحكام هذه الولاية أن تقوم على معاني الشفقة على المرأة ونصرتها وعونها.

وقد رأى الإمام أبو حنيفة أن البالغة الرشيدة لا ولاية لأحدٍ عليها، وعليه: فلها أن تزوِّج نفسها بأن تباشر عقد نكاحها بكرًا كانت أم ثيبًا، وحَصَرَ الولايةَ الحقيقيةَ في الصغيرةِ غير البالغة، وجعل الولايةَ على البالغة الرشيدة وكالةً وليست ولايةً.

وقد أخذ القانون المصري بمذهب السادة الحنفية؛ فجعل للمرأة البالغة حقَّ تزويج نفسها، ويعدُّ زواجها صحيحًا إذا تزوجت مِن كفءٍ بمهرِ مثلِها.

وقد جعل الشرع البلوغ أمارة على بدء كمال العقل، وجعل أيضًا البلوغ بالسن معتمدًا عند عدم وجود العلامات الأخرى للبلوغ.

وقد اختلف الفقهاء في سنِّ البلوغ:

فرأى الشافعية والحنابلة والصاحبان: أبو يوسف ومحمد أنه خمس عشرة سنة قمرية للذكر والأنثى.

ورأى المالكية أنه ثماني عشرة سنة، ووردت تحديداتٌ أخرى في المذهب فقيل: خمس عشرة وقيل: تسع عشرة وقيل: سبع عشرة، أما أبو حنيفة فقد فصَّل؛ فجعل سن بلوغ الغلام ثماني عشرة سنة والجارية سبع عشرة.

وقد نَظَّم القانون المصري إجراءات التقاضي في قضايا الأحوال الشخصية بصدور القانون رقم 56 لسنة 1923م الذي حدد أقل سن للزواج من الوجهة النظامية والقضائية بمنع سماع الزوجية إذا كانت سن الزوجة تقلُّ عن ست عشرة سنة والزوج عن ثماني عشرة وقت الزواج إلَّا بأمر من ولي الأمر، ثم صدرت اللائحة الشرعية المرسوم بقانون 78 لسنة 1931م موافقًا لما سبق، ثم عدلت مادة 99/ 5 منه في قانون 88 لسنة 1951م بتحديد السنوات بالهجرية، ثم استقر الأمر في قانون 1 لسنة 2000م بالتحديد بالسنوات الميلادية.

وعلى ذلك وفي واقعة السؤال: فإن ما تم من عقد الزواج على المرأة المذكورة صحيحٌ شرعًا إذا كان الزوج كُفئًا لها وأعطاها مهرَ مثلِها من النساء. ومما ذكر يعلم الجواب.

فتوى دار الإفتاء المصرية رقم (5020) بتاريخ 18/8/2020

بعنوان غسل الرجل زوجته المتوفاة بفيروس كورونا

وجاءت الفتوى بجواز تغسيل الرجل زوجته، وبأن له رخصة في أن ييممها بدلًا عن الغسل في حالة انتشار الفيروس، معتمدة في ذلك على مذهب السادة الحنفية، وجاء في نص الفتوى:

شرع الله تعالى الغسل تنظيفًا لجسد المتوفى، وتكريمًا له، وغُسل الميت فرض كفاية بالإجماع؛ فإذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين، وإن لم يقم به أحد من المسلمين مع علمهم به أثموا جميعًا، فكان تمام الغسل من جانب البعض مسقطًا للإثم في حق الباقين؛ وذلك لتمام المقصود، ووجوبُ غسل المسلم كوجوب الصلاة عليه؛ لأن غسل الميت والصلاة عليه متلازمان؛ شأنهما في ذلك شأن تكفين الميت وإدخاله القبر.

والأصل في غُسل المرأة أن تغسلها النساء، وفي غسل الرجل أن يغسله الرجال، وذلك لأن النظر إلى العورة منهي عنه شرعًا، لقول الله تعالى: {قُل لِّلۡمُؤۡمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنۡ أَبۡصَٰرِهِمۡ وَيَحۡفَظُواْ فُرُوجَهُمۡۚ ذَٰلِكَ أَزۡكَىٰ لَهُمۡۚ} [النور: 30].

قال الإمام النووي في “روضة الطالبين” (2/ 103، ط. المكتب الإسلامي): [الأصل أن يُغسل الرجالُ الرجالَ، والنساءُ النساءَ، وأوْلى الرجال بالرجل أولاهم بالصلاة عليه.. والنساء أولى بغسل المرأة بكل حال. وليس للرجل غسل المرأة إلا لأحد أسباب ثلاثة: أحدها: الزوجية. الثاني: المحرمية. الثالث: ملك اليمين] اهــ.

وجمهور الفقهاء يجيزون للزوج تغسيل زوجته المتوفاة، خلافًا للحنفية؛ حيث انقطع عقد النكاح عندهم بالموت، فأصبح الزوج أجنبيًّا عنها، فلم يجز له النظر إليها ولا مسُّها، فإذا ماتت الزوجة بين رجال وكان بينهم زوجُها يمَّمها زوجُها؛ تنزيلًا للتيمم منزلة الغسل للضرورة.

جاء في “حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح” (1/ 572، ط. دار الكتب العلمية): [الرجل لا يغسل زوجته؛ لانقطاع النكاح، وإذا لم توجد امرأة لتغسيلها يـُيَـمِّمُها، وليس عليه غض بصره عن ذراعيها، بخلاف الأجنبي] اهـ.

وأما الجمهور فيستدلون على الجواز بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم للسيدة عائشة رضي الله عنها: ((مَا ضَرَّكِ لَوْ مِتِّ قَبْلِي، فَقُمْتُ عَلَيْكِ، فَغَسَّلْتُكِ، وَكَفَّنْتُكِ، وَصَلَّيْتُ عَلَيْكِ، وَدَفَنْتُكِ)) رواه الإمام أحمد في “مسنده” وابن ماجه في “السنن”، وصححه ابن حبان.

وعن أسماءَ بنتِ عُمَيْسٍ رضي الله عنها ((أنَّ فاطمةَ رضي الله عنها أَوْصَتْ أَنْ يُغَسِّلَهَا زَوْجُهَا عَلِيٌّ وَأَسْمَاءُ فَغَسَّلَاهَا)) رواه الإمام الشافعي في “مسنده”، وابن شبة في “تاريخ المدينة” والدارقطني في “سننه” وقال الحافظ ابن حجر في “التلخيص الحبير”: ورواه البيهقي من وجه آخر عن أسماء بنت عميس، وإسناده حسن.

فعند المالكية: يغسل الرجل زوجته حتى مع وجود النساء، ويُقدَّم الزوج عندهم في تغسيل زوجته، وتُقدم الزوجة في تغسيل زوجها وإن أوصى كل واحد منهما بخلاف ذلك.

جاء في “المدونة” (1/ 260، ط. دار الكتب): [قال: وسأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يُغَسِّلُ امْرَأَتَهُ فِي الْحَضَرِ وعِنْدَهُ نِسَاءٌ يَغْسِلْنَهَا؟ فقال: نعم] اهـ.

وقال العلامة الدسوقي المالكي في “حاشيته على الشرح الكبير” (1/ 408، ط. دار الفكر): [وَقُدِّمَ عَلَى الْعَصَبَةِ الزَّوْجَانِ؛ أَي: الْحَيُّ مِنْهُمَا فِي تَغْسِيلِ الْمَيِّتِ مِنْهُمَا وَلَوْ أَوْصَى بِخِلَافِه] اهـ.

وعند الشافعية: يجوز للزوج تغسيل زوجته المتوفاة على العموم دونما قيد حتى مع وجود النساء؛ لأن حقوق النكاح لا تنتهي بالموت؛ بدليل وجود الميراث، وهو أثر ترتب على النكاح، ولذلك كانت حقوق الزوجية مستمرة.

قال الإمام الشافعي في “الأم” (1/ 322، ط. دار المعرفة): [تغسل المرأة زوجها، والرجل امرأته] اهـ.

وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في “أسنى المطالب” (1/ 302، ط. دار الكتاب الإسلامي): [لِلرَّجُلِ غَسْلُ زَوْجَتِهِ وَلَوْ كِتَابِيَّةً وَإِنْ تَزَوَّجَ أُخْتَهَا أَوْ أَرْبَعًا سِوَاهَا؛ لِأَنَّ حُقُوقَ النِّكَاحِ لَا تَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ، بِدَلِيلِ التَّوَارُثِ] اهـ.

وعند الحنابلة: يغسل الزوج زوجته والزوجة تغسل زوجها.

جاء في “مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود السجستاني” (ص: 212، ط. مكتبة ابن تيمية): [سمعت أحمد بن محمد بن حنبل، سئل عن الرجل يغسل امرأته؟ قال: “بلى، ما اختلفوا فيه، لا بأس به، والمرأة وتغسل زوجها أيضًا”] اهـ.

وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في “المغني” (2/ 390، ط. مكتبة القاهرة):

[قال: “وإن دعت الضرورة إلى أن يغسل الرجل زوجته، فلا بأس”:

المشهور عن أحمد: أن للزوج غسل امرأته. وهو قول علقمة، وعبد الرحمن بن يزيد بن الأسود، وجابر بن زيد، وسليمان بن يسار، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وقتادة، وحماد، ومالك، والأوزاعي، والشافعي، وإسحاق.

وعن أحمد رواية ثانية: ليس للزوج غسلها. وهو قول أبي حنيفة، والثوري؛ لأن الموت فرقة تبيح أختها، وأربعًا سواها، فحرمت النظر واللمس، كالطلاق.

ولنا: ما روى ابن المنذر أن عليًّا رضي الله عنه غسَّل فاطمة رضي الله عنها، واشتهر ذلك في الصحابة فلم ينكروه، فكان إجماعًا.

ولأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لعائشة رضي الله عنها: ((لَوْ مِتّ قَبْلِي لَغَسَّلْتُكِ وَكَفَّنْتُكِ)) رواه ابن ماجه، والأصل في إضافة الفعل إلى الشخص أن يكون للمباشرة، وحمله على الأمر يبطل فائدة التخصيص.

ولأنه أحد الزوجين، فأبيح له غسل صاحبه كالآخر؛ والمعنى فيه: أن كل واحد من الزوجين يسهل عليه اطلاع الآخر على عورته دون غيره، لما كان بينهما في الحياة، ويأتي بالغسل على أكمل ما يمكنه، لما بينهما من المودة والرحمة.

وما قاسوا عليه لا يصح؛ لأنه يمنع الزوجة من النظر، وهذا بخلافه، ولأنه لا فرق بين الزوجين إلا بقاء العدة، ولا أثر لها، بدليل ما لو مات المطلق ثلاثًا، فإنه لا يجوز لها غسله مع العدة، ولأن المرأة لو وضعت حملها عقب موته كان لها غسله، ولا عدة عليها.

وقول الخرقي: “وإن دعت الضرورة إلى أن يغسل الرجل زوجته فلا بأس” يعني به: أنه يكره له غسلها مع وجود من يغسلها سواه؛ لما فيه من الخلاف والشبهة، ولم يُرِدْ أنه محرم؛ فإن غُسْلَها لو كان محرَّمًا لم تُبحه الضرورة، كغسل ذوات محارمه والأجنبيات] اهـ.

وهذا الخلاف بين الفقهاء في جواز غسل الرجل لزوجته المتوفاة إنما هو في الحالة المعتادة، أما حالة الوباء فهي حالة ضرورة يؤخَذ فيها بالمتاح من غير جناح؛ لأنه إذا ضاق الأمر اتسع.

وبناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فإنه يجوز للزوج أن يُغسل زوجته المتوفاة على الإطلاق؛ سواء وُجِدَتْ النساء اللاتي يُغَسِّلْنَها من محارمها أو الأجنبيات عنها أم لم يُوجَدْنَ؛ أخذًا بمذهب جمهور العلماء في ذلك، وسواء أكانت الوفاة بسبب وباء كورونا أم بسبب آخر، كما يجوز له أيضًا في حالة الضرورة -كالموت بسبب فيروس كورونا- الاكتفاءُ بأن يُـيَـمِّمَها فقط؛ أخذًا بمذهب السادة الحنفية، والأمر في ذلك واسع، مع التنبيه الأكيد على وجوب أخذ القائم بالغسل للتدابير الوقائية اللازمة والإجراءات الاحترازية؛ تحرزًا من عدوى الوباء؛ حفاظًا على صحته وحياته.

فتوى دار الإفتاء المصرية رقم (2232) بتاريخ 17/8/1946

بعنوان: نقل الزكاة من بلدة لأخرى لذوي القربى

اعتمدت الفتوى على مذهب الحنفية في القول بجواز نقل الزكاة من بلد لأخرى لذوي القرابة، وجاء في نص الفتوى ردًّا على سؤال: نظرًا لأن فقراء المدن أحسن حالًا من فقراء الأرياف، وخاصة هؤلاء الذين تربطنا بهم صلة القربى، فهل يجوز نقل زكاة المال من بلدة إلى أخرى؛ أي من الإسكندرية مثلًا إلى تلك القرية التي يقطنها هؤلاء الفقراء؟ فجاء فيها:

اطلعنا على هذا السؤال المطلوب به بيان الحكم الشرعي في نقل زكاة المال من بلدة إلى أخرى، ونفيد بأن مذهب الحنفية والحسن البصري والإمام النخعي: أن نقل زكاة المال من بلد إلى آخر مكروهٌ تنزيهًا مراعاةً لحق الجوار، إلا إذا كان النقل إلى ذي قرابة محتاج، فإنه لا يكره، بل يتعين نقلها إليه؛ لما رُوِيَ في “مجمع الزوائد ومنبع الفوائد” من قوله عليه الصلاة والسلام: ((لَا يَقْبَلُ اللهُ صَدَقَةً مِنْ رَجُلٍ وَلَهُ قَرَابَةٌ مُحْتَاجُونَ إِلَى صِلَتِهِ))، وفي نقلها إليهم تحقيق للمقصود من الزكاة وهو سدُّ خلة المحتاج، وللمطلوب شرعًا من صلة الرحم، ففيه جمع بين الصدقة وصلة الأرحام، والأفضل أن تُصْرَف للأقرب فالأقرب من ذوي القربى المحتاجين.

وكان عليه الصلاة والسلام يستدعي الصدقات من الأعراب إلى المدينة ويصرفها لفقراء المهاجرين والأنصار.

وذكر في “نيل الأوطار”: أن المروي عن مالك والشافعي والثوري عدم جواز نقلها، وأنه لا يجوز صرفها لغير فقراء البلد الذي فيه المزكي؛ أخذًا من قوله عليه الصلاة السلام لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن: ((خُذْهَا مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَضَعْهَا فِي فُقَرَائِهِمْ)).

وذهب الإمام أحمد كما في “المغني” إلى أنه لا يجوز نقل الزكاة من بلدها إلى بلد آخر بينهما مسافة قصر الصلاة، وأنه إن خالف ذلك ونقلها أجزأته في قول أكثر أهل العلم.

ومن هذا يعلم أنه يجوز ذلك رعاية لسدِّ حاجة ذوي القربى أن تتبع في ذلك مذهب الحنفية.

فتوى دار الإفتاء المصرية رقم (2051) بتاريخ 19/6/2005

بعنوان: إجبار الفتاة على الزواج من غير كفؤ لها

واعتمدت الفتوى على مذهب الحنفية في عدم تجويز الفتاة العاقلة البكر من غيرها إجبارا، وجاء في نص الفتوى:

الولاية حقٌّ منحته الشريعة لبعض الأفراد على غيرهم لِمَعانٍ مردُّها تحصيل المصالح ودرء المفاسد، ويكتسب هؤلاء الأفراد بها صفة تنفيذ قولهم على غيرهم، رضي هذا الغير أو لم يرضَ، ولقد جعل الشرع الشريف العجز وعدم الأهلية سببين للولاية على الغير، ويكفي وجود أحدهما لقيام داعيها.

ولقد ذكر الفقهاء أنواعًا للولاية، منها الولاية على النفس، والتي منها ولاية الإجبار، وهذه الولاية ينطبق عليها التعريف السابق للولاية تمامًا؛ حيث ينفذ رأي المتصف بها -الولي على المولَّى عليه- سواء رضي الأخير أو لم يرضَ؛ قال في “الدر المختار” (3/55، ط. دار الفكر): [والولاية تنفيذ القول على الغير] اهـ.

ولقد رأى السادة الحنفية أن ولاية الإجبار لا تكون إلا على الصغيرة، فَعِلَّة هذه الولاية الصِّغَر؛ ولذا لا تكون على الكبيرة البالغة بأي حال، بل الولاية على الكبيرة البالغة عندهم ولاية ندب واستحباب، ويجعلون ولاية الإجبار هذه للولي العصبة بترتيب الإرث؛ قال في “تبيين الحقائق”: [وهي -أي الولاية في النكاح- نوعان: ولاية ندب واستحباب، وهو الولاية على البالغة العاقلة بكرًا كانت أو ثيبًا، وولاية إجبار وهو الولاية على الصغيرة بكرًا كانت أو ثيبًا] اهـ. وقال في ” كنز الحقائق”: [وللولي إنكاح الصغير والصغيرة، والولي العصبة بترتيب الإرث] اهـ.

أما السادة المالكية والشافعية فقد رأوا أن ولاية الإجبار هذه تثبت على البكر صغيرة كانت أو كبيرة، ورأى السادة المالكية أنها تختص بالأب فقط، وجعلها السادة الشافعية حقًّا للأب والجد؛ قال الباجي في “المنتقى” (3/294، ط. مطبعة السعادة): [ولا يملك إجبارها -أي البكر- جدٌّ ولا غيره من الأولياء إلاَّ الأب وحده، قاله مالك] اهـ.

وقال السيوطي في “الأشباه والنظائر” (1/265، ط. دار الكتب العلمية): [واختص الأب والجد لأب بأحكام منها… ولاية الإجبار في النكاح للبنت والابن] اهـ.

وقال الخطيب في “مغني المحتاج” (4/256، ط. دار الكتب العلمية): [وللأب تزويج البكر صغيرة أو كبيرة بغير إذنها، ويستحبُّ استئذانها، وليس له تزويج ثيِّب إلا بإذنها، فإن كانت صغيرة لم تُزَوَّج حتى تبلغ، والجد كالأب عند عدمه] اهـ.

والرأي المختار للفتوى هو رأي السادة الحنفية، وبه قضت محكمة النقض في طعن رقم 56 لسنة 60ق أحوال شخصية جلسة 15 / 2 / 1994م بأن تزويج الولي للمرأة البالغة العاقلة شرط نفاذه الإذن أي إذنها والرضا وبلوغ السن. وقد ذهب الإمام الشافعي إلى عدم إجازة تزويج الرجل ابنته من مجنون؛ قال في “الأم” (5/20، ط. دار المعرفة): [ولو زوَّجها كفؤًا أجذم أو أبرص أو مجنونًا أو خصيًّا مجبوبًا أو غير مجبوب لم يجز عليها؛ لأنها لو كانت بالغًا كان لها الخيار إذا علمت هي بداء من هذه الأدواء] اهـ.

ومما سبق وفي واقعة السؤال، وإذا كان الحال كما ذُكِر: فإنه لا يجوز تزويج الفتاة البالغة ثمانية عشر عامًا بغير رضاها سواء كان هذا الزواج من كفؤ أو من غيره، ويضاف إلى المانع من صحة هذا الزواج أن يكون هذا الزواج من شخص في حكم المجنون كالمعتوه الذي عتهه متصل؛ لأنَّ الزواجَ من مثل هذا الشخص غيُر جائزٍ إلا برضا الفتاة البالغة.

**** حضور المذهب الحنفي في فتاوى دائرة الإفتاء الأردنية

التعريف بدائرة الإفتاء الأردنية:

أُسست دائرة الإفتاء في المملكة الأردنية الهاشمية في عام (1921م). وكانت منذ تأسيسها تعتمد في الفتوى المذهب الحنفي والذي كان معمولًا به في أيام العهد العثماني، وكان المفتي يُجيب الناس على أسئلتهم سواءً منها ما يتعلق بالعبادات أو المعاملات أو الأحوال الشخصية، وكان يعيّن إلى جانب كل قاضٍ مفتٍ في المدن الكبيرة والصغيرة، ويستعين القاضي بالمفتي على حل المشكلات الاجتماعية، كما أن المفتي يُحيل إلى القاضي الأمور التي لا تدخل تحت اختصاصه مما يحتاج إلى بينات وشهود.

وبقي الإفتاء على هذا الحال حتى تم تعيين الشيخ حمزة العربي مفتيًا للمملكة سنة (1941م) بإرادة سامية.

وفي سنة (1966م) صدر نظام الأوقاف الإسلامية واشتمل الفصل التاسع منه على تنظيم شؤون الإفتاء، وكان المفتي يرتبط بوزير الأوقاف، ولذا نص النظام على أن المفتي العام يعقد بالاشتراك مع مدير الوعظ والإرشاد اجتماعات دورية للمفتين لتوجيههم وتنظيم أعمالهم؛ وذلك لأن المفتين كانوا يقومون بالوعظ والإرشاد أيضًا.

ونظرًا لظهور أمور جديدة في حياة المواطنين وتعدد المسائل وكثرة المدارس الفقهية فقد اقتضت المصلحة صدور قرار بتشكيل مجلس للإفتاء برئاسة قاضي القضاة، فكان المجلس يجتمع لبحث المسائل التالية: المسائل الجديدة، والمسائل التي تعم المجتمع، والمسائل التي تُحال إلى المفتي من جهة عامة كالوزارات والشركات ونحوها، وأما غيرها من المسائل فكان يجيب عليه مفتي المملكة أو المفتون في المدن والمحافظات.

تطور نظام التنظيم الإداري لوزارة الأوقاف وتطور معه نظام الإفتاء، فتم استحداث دائرة للإفتاء سنة (1986م)، لكن بقي المفتي مرتبطًا بوزير الأوقاف والذي قد يكون في بعض الأحيان ليس من ذوي الدراسات الشرعية؛ ولذا ظل قاضي القضاة يرأس مجلس الإفتاء لأن قاضي القضاة لا بد أن يكون مؤهلًا تأهيلًا شرعيًا.

وفي عام (2006م) صدر قانون يقضي باستقلال دائرة الإفتاء العام عن وزارة الأوقاف وغيرها من الجهات الرسمية، وأصبحت رتبة المفتي تعادل رتبة وزير في الدولة، وبهذا استقل الإفتاء عن أجهزة الدولة الأخرى، وما يزال العمل جاريًا لترتيب شؤون الفتوى ودعمها بالفقهاء والمتخصصين بعلوم الشريعة الإسلامية، بحيث تقسم الواجبات فيما بينهم ويتولى كل قسم رعاية ومعالجة جانب من جوانب حاجات المجتمع.

وقد حدد القانون مهام الدائرة وواجباتها على النحو الآتي:

1-    الإشراف على شؤون الفتوى في المملكة وتنظيمها.

2-    إصدار الفتوى في الشؤون العامة والخاصة وفقًا لأحكام هذا القانون.

3-    إعداد البحوث والدراسات الإسلامية اللازمة في الأمور المهمة والقضايا المستجدة.

4-    إصدار مجلة علمية دورية متخصصة تعنى بنشر البحوث العلمية المحكَّمة في علوم الشريعة الإسلامية والدراسات المتعلقة بها.

5-    التعاون مع علماء الشريعة الإسلامية في المملكة وخارجها فيما يتعلق بشؤون الإفتاء.

6-    تقديم الرأي والمشورة في الأمور التي تعرض عليها من أجهزة الدولة.

منهج دار الإفتاء الأردنية في الفتوى: مسائل الفقه الإسلامي مسائل كثيرة ومتنوعة ومتعلقة بجميع ميادين الحياة وممارسات البشر، وقد ترك لنا علماء الإسلام ثروة هائلة من الأحكام والتشريعات التي تنير حياة الناس بأنوار الحكمة الربانية، وتبني اختياراتها الفقهية والتشريعية على أساس متين من مصادر التشريع المعتبرة، التي هي: الكتاب والسنة والإجماع والقياس والمصالح المرسلة.

وقد استقر هذا التراث الفقهي في أربعة من المذاهب الفقهية المعتبرة: الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي، ووقع الإجماع على اعتمادها واعتبارها طرائق موصلة إلى تحقيق رضوان الله عز وجل، وإلى حفظ مصالح البلاد والعباد.

ولما كانت دائرة الإفتاء العام حلقة من حلقات المسيرة العلمية للحركة الفقهية العامة، اختارت أن تعتمد واحدًا من المذاهب الفقهية الأربعة منطلقًا وأساسًا للاختيارات الفقهية المفتى بها، كي يتحقق من خلال هذا الاعتماد ما حققته الحركة الفقهية عبر التاريخ الإسلامي كله من فوائد ومصالح عظيمة، من أهمها:

1-    السلامة بين يدي الله عز وجل في موقف الحساب العظيم، فلا نبدل ولا نغير في دين الله ما لم يأذن به سبحانه.

2-    تحقيق الوسطية التي هي من قواعد الشريعة الإسلامية، والتي كانت واحدة من ميزات الثروة الفقهية الهائلة.

3-    السلامة من الأقوال المضطربة والآراء الشاذة التي تسبب الخلل في الحياة الفكرية والعملية.

4-    تحقيق انضباط الفتوى وتقليل الخلاف -غير النافع- ما أمكن.

5-    مساعدة المفتين على معرفة الأحكام الشرعية بأسهل طريق؛ فالعمر كله يضيق عن المفتي إذا ما أراد أن يجتهد في جميع ما يعرض عليه من مسائل اجتهادًا كاملًا، فكان الأخذ عن الفقهاء السابقين هو الحل الذي لا غنى عنه.

وقد وقع اختيار دائرة الإفتاء العام على مذهب الإمام الشافعي أساسًا ومنطلقًا للفتوى وهذا لا يعني التقليد التام لاجتهادات فقهاء المذهب، بل للدائرة رؤية متقدمة في طريقة الاستفادة من جميع مفردات المذاهب الفقهية ضمن المعطيات الآتية:

1-    إذا تعلقت المسألة بنازلة جديدة من نوازل العصر غير منصوص عليها في اجتهادات الفقهاء، أو كانت من المسائل العامة التي تتعلق بالمجتمع كله أو الأمة كلها، سواء في مسائل المعاملات المالية أو النوازل الطبية أو غيرها: فلا بد للدائرة حينئذ من إعداد أبحاث خاصة لدراسة المسألة في ضوء الأدلة الشرعية والقواعد الفقهية والموازنة بين المصالح والمفاسد، تخلص من خلالها إلى حكم شرعي يعرض على (مجلس الإفتاء) للبحث والتداول، ثم الوصول إلى قرار خاص بشأن تلك المسألة.

2-    إذا كان اجتهاد المذهب الشافعي في مسألة معينة لا يناسب تغير الزمان والمكان والظروف المحيطة بسؤال المستفتي، كأن يؤدي إلى حرج شديد، أو مشقة بالغة، أو اختلفت العلة التي من أجلها نص فقهاء الشافعية على ذلك الاجتهاد، أو استجد من المعلومات والحقائق العلمية ما يدعو إلى إعادة البحث في الاختيار الفقهي: ففي جميع هذه الحالات تقوم دائرة الإفتاء بإعادة دراسة المسألة في ضوء القواعد الفقهية والمقاصد الشرعية، وتستفيد من اجتهادات جميع المذاهب الإسلامية للوصول إلى الحكم الشرعي الأقرب إلى مقاصد الشريعة.

3-    وأما في قضايا الأحوال الشخصية، كالنكاح والطلاق والحضانة والميراث، فإن الدائرة تعتمد في الفتوى (قانون الأحوال الشخصية الأردني) ولا تخرج عنه، وذلك حتى لا يحدث تضارب بين الإفتاء والقضاء الشرعي في المملكة، والقانون مستمد من اجتهادات وأقوال فقهاء المسلمين، تم اختيارها وفق أسس وضوابط شرعية، من قبل لجان مختصة.

وهكذا يتعامل أصحاب الفضيلة المفتون مع المسائل الواردة إليهم من الجمهور عبر وسائل الاتصال المتنوعة، ضمن سلسلة متدرجة وآلية متقنة، تبدأ بتحديد نوع المسألة الواردة من الأنواع السابقة، وتنتهي بوصول الجواب إلى السائل في أسرع وقت ممكن، وإن وقع التأخير فإنما يقع بسبب الدراسة المفصلة التي تقوم بها الدائرة لعشرات المسائل يوميًا، وإذا علم المفتي أنه مسؤول بين يدي الله عز وجل عن كل كلمة يكتبها فإنه -ولا شك- سيؤثر التأني والتمهل على العجلة والترجُّل. والله الموفق.

نماذج من حضور المذهب الحنفي في فتاوى دار الإفتاء الأردنية:

فتوى دائرة الإفتاء الأردنية رقم (3605) بتاريخ 23/3/2021

بعنوان: حكم استخدام حليب الحمار في تصنيع مادة الصابون

واعتمدت الفتوى في قولها بالجواز على رأي الحنفية في أن العيان النجسة إذا استحالت جاز استخدامها، وجاء في نص الفتوى:

نصّ جمهور الفقهاء على نجاسة لبن أنثى الحمار الأهلي وحرمة استعماله تبعًا لحرمة لحمه، لما رواه ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: ((نَهَى يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ)) رواه البخاري.

يقول الإمام النووي رحمه الله: “لحم الحمر الأهلية حرام عندنا، وبه قال جماهير العلماء من السلف والخلف، قال الخطابي: هو قول عامة العلماء”. [المجموع شرح المهذب 9 /16].

ويعتبر لبنها نجسًا كذلك تبعًا لحكم أكلها، قال الإمام النووي رحمه الله: “حكى الدارمي في آخر كتاب السلم في لبن الأتان ونحوها ثلاثة أوجه، الصحيح أنه نجس لا يجوز بيعه” [المجموع شرح المهذب 2/ 569].

وأمّا التداوي به؛ فقد أجاز العلماء التداوي بالنجس غير الخمر عند الحاجة، بشرط أن لا يوجد بديل طاهر للعلاج، جاء في [مغني المحتاج 5 / 518]: “تنبيه: محلّ الخلاف في التداوي بها بِصرفِها، أما الترياق المعجون بها ونحوه مما تستهلك فيه، فيجوز التداوي به عند فقد ما يقوم مقامه ممّا يحصل به التداوي من الطاهرات، كالتداوي بنجس كلحم حية وبول، ولو كان التداوي بذلك لتعجيل شفاء بشرط إخبار طبيب مسلم عدل بذلك أو معرفته للتداوي به”.

فإذا كان التداوي بالنجاسة الصرفة جائزًا عند الحاجة، فمن باب أولى التداوي بما يدخل فيه نجس.

ويمكن أن يستدل أيضًا لإباحة استعمال هذا المنتج أن فقهاء الحنفية قالوا بأن الأعيان النجسة إذا استحالت إلى أعيان أخرى طاهرة بحيث تفقد صفاتها فتعدّ طاهرة، وهذه العملية تسمى في الفقه الإسلامي بالاستحالة.

قال الإمام ابن الهمام الحنفي رحمه الله: “لأن الشرع رتب وصف النجاسة على تلك الحقيقة، وتنتفي الحقيقة بانتفاء بعض أجزاء مفهومها فكيف بالكل، ونظيره في الشرع النطفة نجسة وتصير علقة، وهي نجسة، وتصير مضغة فتطهر، والعصير طاهر فيصير خمرًا فينجس، ويصير خلًا فيطهر، فعرفنا أن استحالة العين تستتبع زوال الوصف المرتب عليها” [فتح القدير 1/ 200].

وعليه؛ فلا مانع من استخدام حليب أنثى الحمار في العلاج والتداوي إذا كان في إضافة مادة هايدروكسيد الصوديوم إلى حليب أنثى الحمار تغيير في خصائصها الكيميائية بحيث تتحول من مادة إلى أخرى، ويجوز استخدامها من باب أولى، شريطة تحقق عدم حصول الضرر عند استعمالها، والمرجع في ذلك الجهات الرسمية المختصة المشرفة على تصنيع الأدوية.

فتوى دائرة الإفتاء الأردنية رقم (3556) بتاريخ 19/2/2020

بعنوان: حكم دفع أموال الكفَّارات لدعم مرضى السرطان

واعتمدت الفتوى في القول بالجواز على تجويز الحنفية إخراج قيمة الزكاة إن كان أنفع للفقير، وجاء في نص الفتوى:

شرع الإسلام الكفارة لرفع الإثم عن المكلَّف، وحدّد أحكامها وتعاليمها بالتفصيل، وأوجب الالتزام بها، ومن ذلك عدد المساكين، ففي كفارة اليمين إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، وهو أمر متّفق عليه في المذاهب المعتبرة، وذلك لأنه حكم تعبّدي محدّد في النصّ الشريف، قال الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغۡوِ فِيٓ أَيۡمَٰنِكُمۡ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ٱلۡأَيۡمَٰنَۖ فَكَفَّٰرَتُهُۥٓ إِطۡعَامُ عَشَرَةِ مَسَٰكِينَ مِنۡ أَوۡسَطِ مَا تُطۡعِمُونَ أَهۡلِيكُمۡ أَوۡ كِسۡوَتُهُمۡ} [المائدة: 89].

وقد أجاز فقهاء الحنفية إخراج قيمة نصف صاع من الطعام برًا أو أرزًا في الكفارات (1200 غم)، إذا كان هذا أنفع للفقير، جاء في [الاختيار لتعليل المختار 3/ 165] من كتب الحنفية: “ويطعم كما ذكرنا في صدقة الفطر لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث سهل بن صخر أو أوس بن الصامت: ((لكلّ مسكين نصف صاع من برّ))، ولأنه لحاجة المسكين في اليوم، فاعتبرت بصدقة الفطر، قال: (أو قيمة ذلك)، لما مرّ في دفع القيم في الزكاة”، وقال الإمام البابرتي الحنفي: “أداء القيمة مكان المنصوص عليه في الزكوات والصدقات والعشور والكفارات جائز” [العناية شرح الهداية 2/ 191-192].

ولكن ينبغي أن يوكِّل الفقراء من يقبض عنهم حتى تصحّ الكفارة من أصحابها، جاء في [الدرّ المختار 2/ 269]: “ولو خلط زكاة موكليه ضمن وكان متبرّعًا، إلا إذا وكّله الفقراء”.

وعليه؛ فلا بأس شرعًا بأن يوكِّل الفقراء مركز الحسين للسرطان بقبض الكفَّارات عنهم، ثمّ صرفها لهم، من خلال تقسيم قيمة الكفارة الواحدة على كوبونات، باعتبار أنّ كلّ كوبون منها يساوي قيمة إطعام مسكين واحد، ثم يُعطى كلّ مريض من الفقراء من الكوبونات بقيمة إطعام مسكين (نصف صاع) ليشتري بقيمتها تلك الوجبات الخاصّة.

فتوى دار الإفتاء الأردنية رقم (2919) بتاريخ 5/6/2014

بعنوان: يجوز ترك المسح على الجبيرة إذا خُشي الأذى

واستندت الفتوى إلى قول الحنفية بجواز ترك المسح على الجبيرة والصلاة إن خاف أذى، وجاء في نص الفتوى:

من وضع على جراحته جبيرة أو ضمادًا للعلاج، وكان يتأذى من مسح العضو المصاب، فيجوز أن يمسح على هذه الجبيرة أو الضماد، ويكون مسحه صحيحًا مجزئًا، بل وفي حال أنَّ مسح العصابة يفسدها أو يضر العضو فله ترك المسح وصلاته صحيحة؛ كما هو مذهب السادة الحنفية، وهذا أرفق بالناس، قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖۚ} [الحج: 78].

قال الإمام الشرنبلالي الحنفي: “كفى المسح على ما ظهر من الجسد بين عُصابة المُفتَصِد ونحوه إن ضره حلها تبعًا للضرورة؛ لئلا يسري الماء فيضر الجراحة، وإن لم يضر الحل حلها وغسل الصحيح ومسح الجريح، وإن ضره المسح تركه”. “مراقي الفلاح” (ص: 59).

ولا يشترط لجواز المسح على الجبيرة والعصابة أن توضع على طهارة، كما لا يبطل المسح عليها لتبديلها أو سقوطها ما دام العضو مصابًا، ويضره الغسل.

جاء في “نور الإيضاح”: “لا يشترط شد الجبيرة على طهر، ويجوز مسح جبيرة إحدى الرجلين مع غسل الأخرى، ولا يبطل المسح بسقوطها قبل البُرء، ويجوز تبديلها بغيرها، ولا يجب إعادة المسح عليها، والأفضل إعادته” (ص: 37).

أما لو ترك المسح على الجبيرة بلا عذر فوضوؤه باطل، والحاصل أنه يصح ترك المسح على الجبيرة في حال أنه خشي على نفسه الأذى، وأما إذا لم يخش ذلك وترك المسح، فيجب إعادة الوضوء مع المسح، وإعادة الصلاة. والله تعالى أعلم.

فتوى دار الإفتاء الأردنية رقم (2756) بتاريخ 16/12/2012

بعنوان: حكم اشتراط حلول الأقساط المتبقية في حال ترك العمل

واعتمدت الفتوى اشتراط حلول الأقساط في حال ترك العمل على فتوى السادة الحنفية بجواز حلول الأقساط عند عدم الوفاء إذا اشترط الدائن ذلك عند إنشاء العقد، وجاء في نص الفتوى:

الأصل المقرر في الفقه الإسلامي أن الأجل في عقود المعاوضات محترم، جاء في “حاشية الجمل على شرح المنهج” (3/ 76): “لو أسقط شرط الأجل بعد العقد لم يسقط”؛ لأن الأجل صفة تابعة، فهو غير مستقل، لا يفوت بالإسقاط بعد العقد، وهو حق للمدين، إلا أنه في بعض الأحيان يسقط إن رضي المدين بإسقاطه، كما ذهب السادة الحنفية إلى جواز حلول الأقساط عند عدم الوفاء إذا اشترط الدائن ذلك عند إنشاء العقد، قال ابن نجيم: “ولو قال: كلما دخل نجم ولم يؤد فالمال حال صح، والمال يصير حالًّا” “البحر الرائق” (6/ 133).

وكذلك الحكم في هذا السؤال، فصناديق الادخار في المؤسسات إنما أنشئت لخدمة موظفيها، ومن ضمن الخدمات التي تقدمها البيع بالأقساط للموظفين، وغالب هذه الصناديق هدفها التخفيف عن موظفيها لا تحقيق الربح، فتتقاضى نسبة مرابحة متدنية، فيجوز لها أن تشترط على الموظف حلول جميع الأقساط في حال ترك العمل أو فُصل منه؛ فهو بذلك لم يعد موظفًا، وتركه للعمل مظنة عدم الوفاء.

فاشتراط حلول الأقساط في هذه الحالة فيه مصلحة ظاهرة للصندوق، وعلى الموظف أن يلتزمه؛ لأنه رضي به ووافق عليه، وقد قال الله تعالى: {وَأَوۡفُواْ بِٱلۡعَهۡدِۖ إِنَّ ٱلۡعَهۡدَ كَانَ مَسۡ‍ُٔولٗا} [الإسراء: 34]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ)) رواه البخاري.

فتوى دار الإفتاء الأردنية رقم (2058) بتاريخ: 11/6/2012

بعنوان: لا زكاة على المال الموقوف على جهة عامة

واعتمدت الفتوى على تجويز الحنفية للوقف على جهات البر كالمساجد، فجاء نص الفتوى جوابا على سؤال: نحن مجموعة من الإخوة نعيش في إيطاليا، ونساهم بخمسين (يورو) شهريًّا يدفعها كل واحد منا منذ ثلاث سنين لشراء عقار ووقفه مسجدًا، والمبلغ المتحصل حتى الآن (28) ألف (يورو)، هل تجب الزكاة في هذا المبلغ؟ كالتالي:

الوقف باب عظيم من أبواب الخير، وهو من أعظم أنواع الصدقات الجارية؛ ذلك أن ثوابها دائم لا ينقطع. وقد أجاز السادة الحنفية والحنابلة في رواية وقف النقود لتُصْرَفَ في وجوه البر، قال الإمام ابن عابدين في حاشيته: “لمَّا جرى التعامل في زماننا في وقف الدراهم والدنانير دخلت تحت قول محمد المفتى به”. “رد المحتار” (6/ 434). وجاء في “الإنصاف” للمرداوي (7/ 11): “وعنه -أي الإمام أحمد-: يصح وقف الدراهم”.

ولمّا كان وقف المال مُخرِجًا له عن مِلْكِ صاحبه، فالمبلغ المتحصل عليه في السؤال وأي مساهمات أخرى لوقف المسجد لا يجوز أن تُرجع لدافعيها بأي حال، ولا بد أن تُصرف في وقف المسجد.

كما أن المال الموقوف لمصالح المسلمين لا زكاة فيه؛ لعدم تعيُّن مالكه، قال الإمام الكاساني الحنفي: “لا تجب الزكاة في سوائم الوقف والخيل المسبَّلة لعدم الملك؛ وهذا لأن في الزكاة تمليكًا، والتمليك في غير الملك لا يتصور”. “بدائع الصنائع” (2/ 9)، وكما في “مطالب أولي النهى” من كتب الحنابلة (2/ 16): “ولا تجب زكاة… في نقد مُوصى به في وجوه بر، أو مُوصى ليُشتَرى به وقف؛ لعدم تعيين مالكه”. انتهى بتصرف. وعليه فلا زكاة في هذا المال. والله تعالى أعلم.

فتوى دار الإفتاء الأردنية رقم (2017) بتاريخ 3/5/2012

بعنوان: يجوز إخراج القيمة في النذر

واستندت الدار إلى جواز إخراج القيمة في الزكاة والكفارات والنذور في تجويز إخراج القيمة في النذر، وجاء في نص الفتوى:

الأولى الالتزام بالنذر الذي تلفظت به ونويته كما هو مذهب الشافعية، وأجاز فقهاء الحنفية إخراج جميع الزكوات والنذور والكفارات بالقيمة، كما قال صاحب “رد المحتار”: “نذر أن يتصدق بهذا الدينار فتصدق بقدره دراهم، أو بهذا الخبز فتصدق بقيمته؛ جاز عندنا”.

وجاء في “الاختيار لتعليل المختار” (1/ 102): “يجوز فيها [يعني الزكاة] دفع القيمة، وكذا في الكفارات والنذور وصدقة الفطر والعشور؛ لقوله تعالى: {خُذۡ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡ صَدَقَةٗ} [التوبة: 103]، وهذا نص على أن المراد بالمأخوذ صدقة، وكل جنس يأخذه فهو صدقة، وقول معاذ لأهل اليمن حين بعثه صلى الله عليه وسلم إليهم: “ائتوني بخميص أو لبيس مكان الذرة والشعير؛ فإنه أيسر عليكم، وأنفع لمن بالمدينة من المهاجرين والأنصار”. وكان يأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يُنكر عليه” انتهى.

ونحن نختار الفتوى بجواز دفع القيمة في النذور والكفارات كما ذهب إليه الحنفية؛ استدلالًا بأثر معاذ بن جبل، وقد رواه البخاري رحمه الله في صحيحه معلقًا بصيغة الجزم.

والإطعام عند الحنفية: نصف صاع من بُرٍّ، كما قال ابن عابدين: “وكذا لو قال: لله علي إطعام مسكين. لزمه نصف صاع بُرٍّ”.

فمن نذر إطعام ستين مسكينًا لزمه إخراج ثلاثين صاعًا من البُرِّ، أو قيمتها من النقد. وقد قدر الدكتور وهبة الزحيلي الصاع عند الحنفية بـ(2.176) كغم، كما في “الفقه الإسلامي وأدلته” (1/ 142)، وقدَّره آخرون بأنه (3.25) كغم، كما في “المكاييل والموازين الشرعية” (ص/37).

ومن نذر أن يكسو ستين مسكينًا لزمه أن يشتري لكلٍّ منهم ثوبًا “يستر عامة بدنه”، ولا يقتصر على قطعة واحدة كالسراويل، ولذلك نحن نقدر قيمة هذا الكساء للمسكين بعشرة دنانير في المتوسط.

**** حضور المذهب الحنفي في فتاوى لجنة الإفتاء بوزارة الأوقاف الكويتية

التعريف بإدارة الإفتاء في وزارة الأوقاف الكويتية:

إدارة الإفتاء في وزارة الأوقاف الكويتية أنشئت عام 1987م بعدما كانت مهمة الإفتاء موكلة للجان التابعة لمكتب الإفتاء، ونظرًا للتراكمات الإدارية واتساع المهام أنشئت إدارة الإفتاء، وأُسند إليها الكثير من المهام العلمية والإدارية؛ من إصدار الفتاوى، ونشر مجموعة سلسلة الفتاوى الشرعية، والفتوى الهاتفية، وفتاوى البريد الإلكتروني.

وتعتبر هذه الإدارة المرجع الشرعي لجميع شرائح المجتمع على المستويين الرسمي والشعبي، كما تعمل على عرض البيان الشرعي فيما يعترض الناس من مشكلات حياتية، بالإضافة إلى ترسيخ المرجعية الشرعية للهيئة العامة في جهاز الإفتاء من خلال تعزيز موجبات الثقة بها، وتلبية احتياجات المجتمع في فهم أحكام الشريعة الإسلامية وحُسْن تطبيقها، وتحقيقًا لمفهوم الوسطية، وإسهامًا في القضاء على المظاهر السلبية الناجمة عن الإفتاء من جانب غير المتخصص.

وتتبع الإدارة العامة المشار إليها الوزير مباشرة، وتهدف إلى أن تكون المصدر الوطني المعتمد لإبداء الحكم الشرعي في القضايا العامة أو الخاصة، وإعداد الموضوعات والدراسات والبحوث الشرعية التي تلبي احتياجات المجتمع لمعالجة الممارسات والسلوكيات السلبية الدخيلة، كما تعمل على المحافظة على سيادة الروح الإسلامية في شتى نواحي الحياة.

وفي يوم 5/7/1995م صدر القرار الوزاري رقم (79/95) القاضي بتسمية الإدارة العامة للإفتاء والبحوث الشرعية باسم قطاع الإفتاء والبحوث الشرعية، كما سُمي السيد المدير العام لإدارة الإفتاء والبحوث الشرعية باسم السيد رئيس قطاع الإفتاء والبحوث الشرعية، وذلك ضمن التسمية الجديدة لهياكل وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية. وقد ضم هذا القطاع تحت جناحه:

  1. إدارة الإفتاء.

2.إدارة البحوث والموسوعات الإسلامية.

  1. إدارة المكتبات.

منهج الفتوى في الهيئة العامة للفتوى بالكويت: عمل اللجنة الجماعي تسوده روح الأخوة والتثبت والتيسير، كما أنها كثيرًا ما تضع قواعد إجرائية لضبط العمل وبيان طريقة إصدارها للفتاوى، ويغلب على منهج لجنة الفتوى الجانب الشرعي العملي، لا النظري الافتراضي.

وأثناء مداولات أعضاء لجنة الفتوى يدلي كل منهم برأيه -حسب علمه ومعرفته- في السؤال المعروض أمام اللجنة دون تردد؛ ولذلك فقد تطول مناقشاتها أكثر مما يتوقع السائل.

وعادة ما تأخذ اللجنة بالرأي السهل الأيسر بعد قناعتها به حتى لا توقع السائل في الحرج، ولا تشدد في الأحكام، ولا تحمل الناس على ما يشق عليهم.

وقد يخالف بعض الأعضاء رأي الأكثرية في مسألة ما -ولا حرج في ذلك- فتصدر الفتوى برأي الأكثرية، مع تسجيل رأي العضو المخالف في محضر الاجتماع.

وقليلًا ما تخرج اللجنة في فتاواها خارج إطار المذاهب الفقهية الأربعة؛ وذلك لشمول أحكام تلك المذاهب، وقوة مستنداتها، وانعقاد عمل الأمة عليها… وهذا الخروج النادر كما ذكرنا، يكون إذا رأت اللجنة في رأي ما دليلًا يُستند إليه، ومصلحة أكيدة تدفع إلى ذلك.

ومن منهج لجنة الفتوى: أن تستدعي المستفتي إذا رأت في ذلك فائدة، وغالبًا ما تستدعي زوجته إذا كان الأمر يتعلق بالطلاق أو مسائل بين الزوجين، وقد تستعين في عملها ببعض أصحاب الخبرة ممن تثق في دينهم وعلمهم، لتستوضح منهم بعض الأمور العلمية أو العملية أو الحرفية.

وتبتعد لجان الفتوى عن تناول القضايا التي تعرض في ساحة القضاء أمام المحاكم عمومًا، ولا تتدخل فيها إلا إذا طلبت الجهات المختصة منها ذلك رسميًّا، فقد تحيل إليها المحاكم أو جهات التوثيق أو إدارات العدل بعض المسائل المعروضة أمامها، إما للاستئناس برأي هيئة الفتوى وإما لمعرفة الحكم الشرعي.

فتوى لجنة الإفتاء بوزارة الأوقاف الكويتية بعنوان: يد البنك على الرهن يد أمانة أو يد ضمان، وجاء نص الفتوى:

قام أحد الأشخاص بأخذ تمويل من أحد البنوك الإسلامية مقابل أن يرهن أسهمًا لإحدى الشركات كضمان لسداد الدين، وقد أخذ البنك رهنًا يغطي 200% من قيمة الدين من تلك الأسهم، إلا أنه بسبب الأزمة المالية الحالية انخفضت قيمة الرهن إلى 30% من قيمة الدين، وأصبح البنك يطالب العميل بسداد الدين، إلا أن العميل أخبر البنك بموجب العقد المبرم بيننا كان من حق البنك بيع تلك الأسهم إذا انخفض الضمان عن قيمة الدين، ولم يمارس البنك حقه في بيع تلك الأسهم، مما سبب ضررًا بالغًا على العميل، لأنه بموجب عقد الرهن يمنع العميل من التصرف بتلك الأسهم، كما أن البنك لديه من الخبرة والدراية لما يملكه من إدارة مخاطر وإدارة ائتمان بواقع وحال الأوضاع في السوق.

والسؤال: هل يد المرتهن على الرهن يد أمانة أم يد ضمان، وهل يعد البنك مقصرًا ومفرطًا في حفظ الرهن، وبالتالي يكون ضامنًا لهذا النقص الذي حدث للرهن، وهل يسقط من الدين بمقدار النقص الذي حصل للرهن؟

وقد أجابت الهيئة بالتالي:

اختلف الفقهاء في أن يد المرتهن على المرهون يد أمانة -وهو رأي جمهور الفقهاء- أو يد ضمان، وهو رأي الحنفية. وترجح الهيئة أن يده يد ضمان، وترى أنه إذا حل أجل الوفاء بالدين، وطلب الدائن الوفاء بحقه، فإن وفاه المدين به استرد رهنه، وإن لم يوفه وأذن له في بيع المرهون كان على المدين أن يبيعه ويستوفي حقه منه، فإذا تأخر في بيعه حتى كسد المرهون، كان الدائن ضامنًا لما ترتب على تأخره من الخسارة التي تسبب فيها. واعتبر ثمن المرهون في السوق يوم أذن له المدين في بيعه هو الثمن الذي يعتد به في سداد هذا الدين منه.

فإن تساوى الدين مع هذا الثمن، كان الدائن مستوفيًا لحقه، وإن زاد الثمن عن الدين رد الدائن الزيادة إلى المدين، وإن نقص الثمن عن الدين سقط مقداره من الدين، ورجع المرتهن على الراهن بالباقي.

فتوى لجنة الإفتاء بوزارة الأوقاف الكويتية بعنوان:

الطواف من غير وضوء

وجاء نص الفتوى كالتالي:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فقد عرض على لجنة الأمور العامة في هيئة الفتوى في اجتماعها، ونصه:

ذهبت إلى الحج عام /94/ وأثناء الطواف خرج مني (ريح) من شدة الزحام، ولا أدري في أي شوط من الأشواط، وكنت أجهل الحكم، ومنذ فترة سمعت في درس في المسجد أن من شروط صحة الطواف حول الكعبة الطهارة، فما حكم ذلك؟

أجابت اللجنة بما يلي:

طواف الإفاضة ركن من أركان الحج، وكذلك طواف العمرة، فهو ركن من أركان العمرة، ولا يصح الشيء بدون وجود جميع أركانه، والطهارة من الحدثين الأصغر والأكبر شرط من شروط صحة الطواف عند أكثر الفقهاء، فلا يصح طواف غير المتوضئ، وذهب الحنفية إلى أن الطهارة واجبة في الطواف وليست شرطًا في صحته، فيصح طواف غير المتوضئ، إلا أن عليه أن يعيد الطواف بطهارة إن لم يغادر مكة، أو يذبح شاة في الحرم إن غادر مكة، توفيةً للواجب. وما دام المستفتي قد انتقض وضوؤه قبل إتمام الطواف وغادر مكة، فإن عليه أن يذبح شاة في الحرم، للخلل الذي طرأ على طوافه، وفقًا لمذهب الحنفية.

فإن ذهب إلى مكة ذبحها بنفسه أو تحت إشرافه، وإن لم يذهب إلى مكة وَكَّل من يذهب إلى مكة بذبحها عنه، وهو جائز. والله تعالى أعلم.

فتوى بعنوان: فقه التوقع

وهي فتوى تبين الحاجة إلى فقه التوقع، والفرق بينه وبين الفقه الافتراضي، واستشهدت بفتوى للحنفية في فقه التوقع، ومثلت بطريقتهم في الفقه الافتراضي.

وجاء في نص الفتوى:

ليس فقه التوقع من قبيل الرجم بالغيب في شيء، بل هو عمليات عقلية متسلسلة، يبنيها الفقيه على أساس اقتراح نماذج صالحة للمحاكاة، ثم اختبارها وامتحان النتائج الحاصلة منها، ثم تعميم الحكم في أشباهها ونظائرها، مع الاستمرار في ملاءمة تلك النتائج مع أدلة الشريعة وأصولها ومقاصدها.

فحين استشرى بين الناس شرب الخمر في عهد الفاروق، جمع الصحابة واستشارهم فكان مما قاله علي: إن المرء إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وحد الفرية ثمانون، فأرى أن يُجلد ثمانين، كان في هذا مستشرفًا للواقع القادم، صانعًا للمستقبل، بحيث استبق انتشار التقاذف والتظالم بين الناس.

كما أن هذا الفن ليس من العلوم المستقلة التي ينتظر منها أن توصلنا إلى نتائج نهائية، ولا يمكن للباحث أن يضع قواعد بالتنبؤ بالمستقبل، تضمن له تحقق ما تنبأ به، وإنما هي المقاربة، كيف وقد تفرَّد الرب سبحانه بالغيب، قال تعالى: {وَعِندَهُۥ مَفَاتِحُ ٱلۡغَيۡبِ لَا يَعۡلَمُهَآ إِلَّا هُوَۚ} [الأنعام: 59].

وعليه؛ فإن استشراف الإنسان لمستقبل أيامه ضروري لقادة الرأي، وساسة الشعوب، وأصحاب المصالح بعامة، وهو طبيعة تنزع إليها النفوس البشرية أبدًا، كما يقرره ابن خلدون بقوله: «اعلم أن من خواص النفوس البشرية التشوف إلى عواقب أمورهم، وعلم ما يحدث لهم من حياة وموت، وخير وشر، سيَّما الحوادث العامة… والتطلُّع إلى هذا طبيعةٌ، البشرُ مجبولون عليها» اهـ.

بين فقه التوقع والفقه الافتراضي:

الفقه الافتراضي هو ذلك الفقه الذي امتازت به مدرسة أهل الرأي في مقابل مدرسة أهل الحديث في عصور الإسلام الأولى؛ فقد اشتهر عن أهل الرأي أنهم كانوا يفترضون صورًا لا وجود لها في الواقع، لكن يمكن وقوعها مستقبلًا، لتتنزل أحكامهم على وقائع مفترضة، فيستعدوا لها قبل وقوعها، وليتدرب الطلاب على التعاطي مع تلك الصور، في حين كان أهل الحديث يزجرون عن السؤال عما لم يقع، ولما كان أصحاب الأسئلة الافتراضية يبدؤون مسائلهم بقولهم: أرأيت لو كان كذا وكذا، فقد سماهم أهل الحديث بالأرأيتيين.

وعن طاوس قال: قال عمر بن الخطاب وهو على المنبر: أُحَرِّجُ بالله على كل امرئ سأل عن شيء لم يكن، فإن الله بيَّن ما هو كائن، وذلك أن من سأل عما لم يقع فكأنه تعجل البلاء قبل وقوعه، فيكون مذمومًا.

وهذا إذا كان الافتراض على سبيل التنطع والتكلف، فأما الافتراض الممكن وقوعه فلم يكن بد للناس منه، ولهذا كان حذيفة يسأل النبي عما لم يقع مخافة أن يدركه، كما ثبت في الصحيح.

وممن عرف بهذا النوع من الفقه الإمام أبو حنيفة «رحمه الله»، فإن قتادة السدوسي لما دخل الكوفة اجتمع إليه الناس، فقام أبو حنيفة وسأله عن مسألة مشكلة، فقال قتادة: «ويحك أوقعت هذه المسألة؟ قال: لا، قال: فلِمَ تسألني عما لم يقع؟ قال أبو حنيفة: إنا نستعد للبلاء قبل نزوله، فإذا ما وقع عرفنا الدخول فيه والخروج منه». ذكره الخطيب في «تاريخ بغداد».

وقد ذهب بعض أهل الحديث إلى قبول هذا النوع من المسائل بشرط كونه في حيِّز الإمكان، بحيث لا يكون مستحيل الوقوع، وهذا كان موجودًا في فقه أهل المدينة، وهو ما نجده في المسائل التي أجاب عنها الإمام مالك وبعض تلاميذه في المدونة التي كتبها سحنون عن ابن القاسم عنه، وفيها أكثر من ستة آلاف مسألة.

وقد حفظ لنا التاريخ عن الفقهاء عددًا من المسائل التي كانت مستبعدة في عصرهم، ثم وقعت في الأزمنة المتأخرة؛ وذلك مثل قول الشافعية بأنه يجب على الحاج الوقوف بعرفة على الأرض، وليس لهوائها حكم قرارها في هذه المسألة عندهم، قالوا: «فلو طار فوقها، بأن ركب فوق طائر وطار به، أو ركب فوق السحاب ومر فوق عرفة لم يصح وقوفه، قالوا: وكذلك لو سعى أو طاف طائرًا لم يصح»، وهذا قبل اكتشاف الطائرات والمروحيات التي يمكن أن تمر فوق أجواء المشاعر في هذا العصر.

ومثل ذلك -مع بعض الاختلاف- ما ذكره ابن تيمية في رده على غلاة المتصوفة الذين يدَّعون أن الجن تطير بهم من العراق إلى مكة، فكان في رده عليهم -على فرض صحة دعواهم- يقول: إنهم خالفوا الشرع بعدم الإحرام من الميقات حين مرورهم به أثناء الطيران، فكان يلزمهم أن يحرموا قبل تجاوز الميقات، فهذا يشبه مرور المحرم بالطائرة فوق المواقيت.

ومن الغرائب التي تشبه اكتشاف التلفاز في هذا العصر، ما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: «من عجائب الدنيا مرآة كانت معلقة بمنارة الإسكندرية، فكان الإنسان يجلس تحتها فيرى من بقسطنطينية وبينهما عرض البحر»، إلى آخر ذلك من غرائب النظائر.

والفقه الافتراضي قريب من فقه التوقع، وإن كان الافتراضي يشتغل بافتراض الصور التي لم تقع بعد، في حين أن فقه التوقع يعالج مسائل واقعة من جهة النظر إلى آثارها ونتائجها المستقبلية.

فالبحث في حكمٍ يتعلق بشيء متخيَّل لا وجود له فيما يراه الناس، مثل سمكة تمشي على اليابسة، هذا فقه افتراضي. أما البحث المتعلق بمنتج تقني وحضاري نزل إلى الأسواق، يمكن أن تكون له آثار إيجابية أو سلبية على حياة الناس، وإمعان النظر في حكمه بناء على استشراف آثاره في الواقع والمتوقع؛ فهذا يكون من قبيل فقه التوقع، وهذا الأخير هو الذي يسميه العلامة الشاطبي في كتابه “الموافقات”: مآلات الأفعال، وهو يأتي في مقابلة: علم الحال، أو علم الحاضر، فهاهنا علمان: علم بالحال وعلم بالمآل، فالعلم بالحال التي عليها المكلف: فرض عين، فعلى كل واحد أن يعرف الأحكام المتعلقة بحاله، أما العلم بالمآل فهو من الفروض الكفائية، التي من شأن المجتهدين النظر فيها.

طرق الاستنباط التي يمكن استخدامها في فقه التوقع:

هناك طرق عديدة يسترشد بها الفقيه على الأحداث والنتائج المستقبلية، وتكون من باب الظن الراجح، وذلك مثل: العمل بقرائن الأحوال، والاستدلال بالأمور الظاهرة على ما خفي، وتتبع السنن الكونية، وعادات الاجتماع البشري، وهذه كلها لها أحكام لا تكاد تنخرم في العادة، لكن الشأن في حسن إدارة المعرفة بها، وقد قرر ابن خلدون في مقدمته كثيرًا من القواعد المعينة على توقع الحوادث واستشراف المستقبل، والإشراف على نهوض الدول وانخرامها.

كما أن ثمة تقنيات فكرية ومسالك عقلية يستعملها الفقيه في الإلحاقات الفقهية، ورسم الحكم الفقهي المناسب لكل صورة متوقعة في المستقبل.

ومن تلك التقنيات: مراعاة المتغيرات، فإذا أرادوا رسم مشهد مستقبلي (سيناريو) معين، حددوا المتغيرات الواردة في كل مشهد، ثم وضعوا الاحتمالات الممكنة، ووضعوا حلًّا فقهيًّا لكل مشهد.

مثال ذلك: ما ذكروه في ميراث الحمل، وأنه إذا مات ميت عن حمل، هو ولد للميت، فإنه يحتمل أن يكون ذكرًا أو أنثى، أو يكون توأمًا، فيضعون حكمًا مناسبًا لكل احتمال، فهنا تجد أنهم حددوا المتغيرات والثوابت، وتوقعوا الصور الممكنة.

ومن تلك التقنيات العقلية: ملاحظة الغالب والنادر، فيلحقون الصور المحتملة بما يقع غالبًا، وقد يلحق الحكم بالنادر في صور أخرى، وهي صور استثنيت بالشرع أو بالمصلحة المعقولة.

مثال ذلك: عقد الصلح مع الدولة الكافرة، مع أن الغالب استمرار الكفار على الكفر، وموتهم عليه بعد الاستمرار، ومع أن دخولهم في الإسلام ليس غالبًا في العادة، ومع هذا فقد ألغى الشارع حكم هذا الغالب، وأثبت حكم النادر وهو توقع إسلام بعضهم، فعقد الجزية والصلح والهدنة والمسالمة لذلك التوقع النادر، كما أشار إلى بعض ذلك العلامة القرافي.

ومن تلك المسالك والأدلة: الدليل المسمى سد الذرائع، وهو منع التذرع إلى الأعمال المحرمة بالطرق المباحة، بالإضافة إلى فتح الذرائع كذلك، وفتح الذريعة هو أن يكون الفعل المباح أو المشتبه وسيلة لتحقيق الخير للناس، بحيث يفضي إلى مصلحة راجحة، فيكون مطلوبًا شرعًا، كما في إباحة النظر إلى المرأة الأجنبية إذا كان قد عزم على خطبتها، فالشريعة عمدت إلى ذرائع المصالح ففتحتها كما قرره الأئمة، وهذا مبناه على التوقع الرشيد، الذي يقيس درجة الإفضاء بطريقة المقاربة، ويأخذ بالمصلحة الراجحة ويتغاضى عن المفسدة المرجوحة، رفقًا بالمكلفين.

وقد اعتنى الفقهاء بالقواعد الضابطة للنظر المصلحي، ووضعوا لذلك معايير حاكمة، ومؤشرات لقياس تلك المعايير، وسلكوا في ذلك مناهج موضوعية محايدة.

وثمة مسالك للتوقع لا يتقنها كل أحد، بل هي من علوم الخواص المعروفين بالفراسة وجودة الحدس والقدرة على الربط والاستنتاج، ومثل ذلك القيافة: وهي الاستدلال بالأثر على النسب ومكان السير، وكذلك تعبير الرؤى والمنامات، وهذا من العلوم الدينية، التي مبناها على المقايسات كقياس الشبه، وأخص منها كلها: الإلهام، وهو لا يقع إلا للقليل من الناس، ومثل القدرة على صناعة الخيال العلمي، وهذا من العلوم الدنيوية.

وبالطبع فإن لهذا التوقع حدودًا لا يتجاوزها، وتجاوز تلك الحدود يفضي إلى نتائج خاطئة، كما لو بنى حكمه على ما يخالف السنن الكونية الجارية، ومن ذلك ما ذهب إليه بعض فقهاء الحنفية من أن الرجل إذا عقد على امرأة، وهو بأقصى المغرب، وهي بأقصى المشرق، ثم جاءت بولد، فإن الولد ينسب إليه، واحتجوا بالحديث الصحيح: ((الولد للفراش))، فهذا الفهم للحديث مخالف للسنن الكونية الجارية؛ ذلك أن مورده فيما لو حصل الدخول وكان ممكنًا، فأما في الحال المذكورة فلا يمكن أن تعلق الزوجة منه بولد.

 

الشروط التي ينبغي توفرها في المشتغل بفقه التوقع:

بما أن عملية التوقع مبناها على مقاربة المستقبل بالتحليل والاستنباط، فإن القيام بهذا النوع يستلزم قدرًا زائدًا على حفظ الفروع الفقهية والمسائل الجزئية؛ فمن الضروري أن يتوفر الفقيه على ملكة الفهم والتصور الصائب للسنن الكونية، ومعرفة طبائع الاجتماع البشري، والقدرة على التحليل والتركيب، والمقايسة والتمثيل، وامتحان الفروض الممكنة، بحيث يتمكن من قراءة سلسلة الوقائع بطريقة صحيحة، خالية من المبالغة والتبسيط.

ولا يكفي لهذا النوع من العلم أن يكون عارفًا بالأقيسة الفقهية المعتادة في المجال الفروعي، فهذه وحدها غير كافية، بل قد ذكر ابن خلدون أن الإيغال في القياسات الفقهية الفرعية قد تحجب نظر الفقيه عن التبصر بالأحداث والوقائع الحالية والمستقبلية، ولهذا السبب يخفق بعض فقهاء الفروع عند دخولهم المعترك السياسي العملي، في حين سجلت نجاحات ممتازة للفقيه المتزود بأدوات النظر الأصولي والفروعي، ومن يقرأ سيرة ابن تيمية رحمه الله ويتأمل نتاجه المعرفي يوقن أنه كان يتسامى فوق بعض الاستدلالات والقواعد الشائعة، ويستأنف في بعض الوقائع نظرًا مناسبًا لائقًا بتلك الوقائع، ومثله في ذلك العز بن عبد السلام رحمه الله، فإنه حين عزم جيش التتار الرهيب على غزو مصر، قام الشيخ يقوي نفوس الناس والأمراء، وقال لأهل مصر ولسيف الدين قطز: «اخرجوا وأنا أضمن لكم على الله النصر»، وكذلك حين أقسم ابن تيمية للأمراء في وقعة شقحب بأنهم منصورون في مناجزتهم للتتار، وكان يتنقل بين العساكر الإسلامية ويتحدث بلغة الواثق الذي لا يتردد ولا يتلعثم، فقالوا له: قل إن شاء الله، فقال: «إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا»، وكانوا في ذلك قارئين جيدين لسنن الاجتماع البشري، مستضيئين فيه بالآيات القرآنية الدالة على سنن الله في كونه وخلقه، من خذلان الظلمة ونصر المظلومين، مثل قوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسۡتُضۡعِفُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَنَجۡعَلَهُمۡ أَئِمَّةٗ وَنَجۡعَلَهُمُ ٱلۡوَٰرِثِينَ} [سورة القصص (5)]، وقوله تعالى: {ذَٰلِكَۖ وَمَنۡ عَاقَبَ بِمِثۡلِ مَا عُوقِبَ بِهِۦ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيۡهِ لَيَنصُرَنَّهُ ٱللَّهُۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٞ} [سورة الحـج (60)]. هذه نماذج من فقهاء راسخين، نجحوا في ارتفاق الكون، وارتياد المستقبل بشفوف النظر المزكى بنور الآيات والسنن.

وأخيرًا: فإن فقه التوقع يتطلب من الفقيه أن يسمو بنظره فوق الزمان، ويتحرر من علائق المكان، ويتخلى عن حكم الحاضر، ويشرف على المستقبل، ومن الصعب جدًّا على العقل البشري أن يعيش في زمانٍ غير زمانه الذي عايش أحداثه، واستوعب ظروفه، وتعاطى مع أدواته.

ومن الطبيعي أنه في حال غياب العلماء المؤهلين سيتمهد الطريق لدخول أنصاف المتعلمين، الذين يقولون ما لا يعلمون، ويفسدون أكثر مما يصلحون، وهذا في الأزمنة التي يختلس فيها العلم من الناس كما في حديث زياد بن لبيد، بحيث يظنون أنهم يعلمون، والحال أنهم جاهلون، وقد أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيما رواه الشيخان من حديث عبد الله بن عمرو: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يترك عالمًا اتخذ الناس رؤساء جهالًا، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)).

 

 

  • ([1]) راجع الإفتاء المصري.

المواضيع