البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

ضوابط تحديد المعتمد في المذهب الحنفي

ضوابط تحديد المعتمد من المصنفات

78 views

كما مهدنا سابقًا أنَّ مصنفاتِ المذهب الحنفي ليست على درجةٍ واحدة من القوَّة، بل تختلف قوتها بعدة اعتبارات، سواء كان قوة المصنف ذاته أو قوة صاحب المصنف ومكانته في المذهب، أو طريقة الكتاب ومحتواه، وغير ذلك، وفي هذا المبحث نعرض لأهم الضوابط التي من شأنها معرفة المصنفات المعتمدة في المذهب الحنفي:

الضابط الأول: طريقة التأليف:

فللطريقة التي صُنف بها الكِتاب أثرٌ كبيرٌ على مدى رواجه وقبوله داخل المذهب الحنفي، فعلى سبيل المثال فإن الفقهاء يعتمدون أحد الطرق المشهورة في التصنيف الفقهي، وهي إما التصنيف على هيئة المتن، وتكون العبارات موجزة وظاهرة يحرض مؤلفها على بيان أهم روايات المذهب وأقوال شيوخه الأوائل والراجح المعمول به، وقد تكون المصنفات من المتوسطات التي ترمي إلى شرح أحد المتون أو ابتداء كتاب يذكر فيه الأدلة والمناقشات ولكن لا على أطول وجه، وقد تكون من المطولات التي تصنف على طريقة الكتب المتوسطة إلا أنه تعتني بذكر الخلاف على أوسع وجه وبيان وجه الاستدلال والاعتراضات والانتصار للمذهب بشكل أكثر إسهابًا مما سبق.

وتلك الطرق التي درج التصنيف وفقها في الفقه المذهبي يتطرَّق الخلل إليها إذا لم توف مقصودها، فلو ذهب أحد الفقهاء لتصنيف مؤلف مطول في المذهب ثم قصر عن إيراد الاعتراضات أو الأدلة أو الجوابات عنها كان المصنف غير موف بما ألف من أجله ولم يبلغ الغاية منه، فيكون ذلك من عوامل وأسباب ضعفه وعدم اعتماده.

وقد يكون مدخل الخلل من الاختصار المخل بالفهم، وهذا النوع قد نجده في المتون التي يحاول مصنفوها الإيجار بأقصى حد، وقد ينتج عن ذلك إغلاق العبارة وعدم فهمها، ولعل كتاب النهر الفائق لابن نجيم وكتاب رمز الحقائق من الكتب التي لم يعول عليها في الفتوى داخل المذهب الحنفي لهذا السبب، فإن الإيجاز الذي تسبب في إغلاق العديد من العبارات في تلك المصنفات حال دون اعتمادها في الفتوى رغم مكانة مصنفيها بين فقهاء المذهب.

وهذا الإيجاز الذي قد يخلُّ بالعبارة والفهم هو ما يدفع الفقهاء إلى تأليف الشروح والحواشي على تلك المتون، وهذا هو ما صنعه ابن عابدين مع متن الدر المختار، وهو ما صرَّح به في مقدمة شرحه، فبعد أن أثنى على الكتاب بين قيمته وما يحويه من فوائدَ ودرر، عقب بأنه بلغ في الإيجاز حد الإلغاز، فصنف مؤلفه لبيان ما ألغز منه.

ولذلك فإنَّ تلك الشروح والحواشي قد تكون شرطًا للاعتماد على تلك المصنفات المختصرة لأنه بدونها لا يأمن الدارس أو المفتي أن يفهم من العبارة مراد المصنف.

 

الضابط الثاني: قوة الكتاب:

وهذا الضابط يعرف في الغالب بكلام الأئمة والعلماء من المذهب عليه، فأحيانًا يشتهر بين العلماء ضعف كتاب معين ويصرحون بذلك، وهذا بلا ريب من الأمور التي تجعل الكتاب من غير المعتمدات وبعكسه، ومن أمثلة ذلك كتاب مشتمل الحكام في الفتاوى الحنفية، لفخر الدين الرومي، فالكتاب لم يلْقَ قبولًا بين أوساط الفقهاء في المذهب الحنفي، ونعته البرلي بأنه من جملة الكتب المتداولة الواهية([1]). وعلى الرغم أن مؤلفه قال فيه: جمعت فيه (درر الهداية) وغررها، وأتيت بمتفرقاتها في أصل أبوابها، ليسهل طلبها، أي أن الكتاب يتضمن أهم ما في كتاب الهداية على علو قدره بين مصنفات المذهب، إلا أن ذلك لم يكن كافيًا لرفض الفقهاء لهذا الكتاب.

ولا يتوقَّف الأمر على ذلك، بل إنَّ استغناء الفقهاء عن الكتاب وعدم الرجوع إليه والعزو له يدلُّ على ضعفه في بعض الحيان، أو على الأقل يعضد ذلك ما ذكر بين الفقهاء بالضعفاء، فهذا الكتاب لا نرى من يعزو إليه من فقهاء الحنفية اللهم إلا في مواضعَ قليلةٍ في مجمع الضمانات وحاشية ابن عابدين وغيرها.

وعلى العكس تمامًا فإنَّ ثناء العلماء على أحد المصنفات وتصريحهم بأهميتها وقوتها يكسبها من القوة ما يجعلها من المصنفات التي يعتمد عليها في المذهب، مثل كتاب الهداية للمرغيناني، فقد قال عنه اللكنوي: “قد طالعت الهداية مع شروحها ومختارات النوازل وكل تصانيفه مقبولة معتمدة، لا سيما الهداية فإنه لم يزل مرجعًا للفضلاء ومنظرًا للفقهاء”([2]).

بل قد قال بعضهم فيه شعرًا، فقيل:

إن (الهداية) كالقرآن قد نسخت / ما صنفوا قبلها في الشرع من كتب

فاحفظ قواعدها واسلك مسالكها / يسلم مقالك من زيغ ومن كذب([3])

وكما قيل في المبسوط للسرخسي من قبل ابن عابدين: “واعلم أن من كتب مسائل الأصول كتاب الكافي للحاكم الشهيد، وهو كتاب معتمد في نقل المذهب، شرحه جماعة من المشايخ، منهم الإمام شمس الأئمة السرخسي وهو المشهور بمبسوط السرخسي. قال العلامة الطرسوسي: مبسوط السرخسي لا يعمل بما يخالفه، ولا يركن إلا إليه، ولا يفتى ولا يعول إلا عليه”([4]).

فالحاصل أنَّ من أهم الضوابط التي يعرف بها مدى اعتماد الكتاب من عدمه: أقوال العلماء فيه وثناءهم عليه أو تنفيرهم منه وتضعيفهم إياه.

الضابط الثالث: التحري في المادة العلمية:

والمراد بذلك أن يكون المصنف له اتجاه تحريري، فلا يضع كل ما تقع عليه يده من مادة بلا تمحيص أو فحص، فذلك من شأنه أن يضعف من شأن الكتاب، وأن يزيحه عن مرتبة المعتمدات، فلو أن دارسًا أخذ قول أبي حنيفة من أحد المصنفات، ثم علم بعد ذلك من غيره أن تلك الرواية ضعيفة، وأنها لا تصحُّ نسبتها إليه، فإنه سيعزف عن ذلك الكتاب ولا يعتمد عليه في معرفة الروايات والخلاف ونسب الأقوال ونحو ذلك.

ومن الأمثلة على ذلك كتاب القنية في الفتاوى لمختار بن محمود الزاهدي، فالكتاب قد اشتهر بين العلماء بأنه ضعيف لا يعول عليه، وإن كان كثر النقل عنه في بعض مصنفات الحنفية، إلا أنه لم يخرج عن حيز عدم الاعتبار، يقول حاجي خليفة: والقنية وإن كانت فوق الكتب الغير المعتبرة، وقد نقل عنها بعض العلماء في كتبهم، لكنها مشهورة عند العلماء بضعف الرواية([5]).

وتلك المواضع التي رجع إليها الفقهاء إلى القنية فذلك لأنه لا يقتصر في مادته على الضعيف، فهو بلا شك يضمُّ الضعيف والصحيح، إلا أنَّ الضعيف موجود بكثرة بحيث يصعب الثقة في كل ما يذكره لا سيما في الروايات، وهذا يفسر رجوع الفقهاء إليه.

الضابط الرابع: التأكد من صحة نسبة الكتاب:

فهناك بعض الكتب التي قد يطلق عليها كتب غريبة، وهي تلك الكتب التي لم يصح نسبتها لمؤلفها، وقد درج علماء المذهب لا سيما المتأخرين على النهي عن الفتوى بما في تلك الكتب مثل كتاب النوادر على سبيل المثال الذي ذكره ابن الهمام في معرض حديثه عن تلك الكتب والفتوى بما فيها، فقال:

“فعلى هذا لو وجدنا بعض ‌نسخ ‌النوادر في زماننا لا يحل عزو ما فيها إلى محمد ولا إلى أبي يوسف لأنها لم تشتهر في عصرنا في ديارنا ولم تتداول، نعم إذا وجد النقل عن النوادر مثلًا في كتاب مشهور معروف كالهداية والمبسوط كان ذلك تعويلًا على ذلك الكتاب”([6]).

وكذا إذا لم تصح نسبة المصنف إلى مؤلفه، أو اضطربت فنسب إلى غير واحد، وهذه المسألة مما قد كان انتشر قديمًا طلبًا لرواج المصنف، فقد ينسب الكتاب إلى أحد الأئمة طلبًا لانتشار ذلك الكتاب، والأمثلة على ذلك في التراث الفقهي وغيره كثيرة، ومنها في الفقه الحنفي كتاب المخارج والحيل الذي نسب إلى الإمام أبي يوسف القاضي وصحَّ أنه منحول عليه، وغير ذلك([7]).

يقول ابن عابدين في جملة الأسباب من الضعف وغيره في الكتب: “فحيث علمت وجوب الراجح من الأقوال وحال المرجح، تعلم أنه لا ثقة بما يفتي به أكثر أهل زماننا بمجرد مراجعة كتاب من الكتب المتأخرة، خصوصًا غير المحررة كشرح النقاية للقهستاني، والدر المختار، والأشباه والنظائر، ونحوها، فإنها لشدة اختصارها والإيجاز كادت تلحق بالألغاز، مع ما اشتملت عليه من السقط في النقل في مواضع كثيرة وترجيح ما هو خلاف الراجح بل ترجيح ما هو مذهب الغير مما لم يقل به أحد من أهل المذهب. ورأيت في أوائل شرح الأشباه للعلامة محمد هبة البعلي قال: ومن الكتب الغريبة منلا مسكين شرح الكنز والقهستاني لعدم الاطلاع على حال مؤلفيها، أو لنقل الأقوال الضعيفة كصاحب القنية أو لاختصار مخل كالدر المختار للحصكفي والنهر والعيني في شرح الكنز، قال شيخنا صالح الجنيني: إنه لا يجوز الإفتاء من هذه الكتب إلا إذا علم المنقول عنه والاطلاع على مآخذها هكذا سمعته منه وهو علامة في الفقه مشهور والعهدة عليه”([8]).

([1]) ينظر: كشف الظنون (2/ 1692).

([2]) ينظر: الفوائد البهية (ص 142).

([3]) ينظر: كشف الظنون (2/ 2022).

([4]) ينظر: كشف الظنون (2/ 1357).

([5]) ينظر: رد المحتار، لابن عابدين (1/ 70).

([6]) ينظر: فتح القدير (7/ 256).

([7]) ينظر: المذهب الحنفي، لابن النقيب (1/ 239).

([8]) ينظر: عقود رسم المفتي (ص 77).

اترك تعليقاً