البرنامج الموسوعي الجامع

البرنامج الموسوعي الجامع

المبحث الأول الآداب العِلْمية

59 views

ويشتمل على عشرة مطالب:

المطلب الأول: مسؤولية المفتي عن فتواه.

المطلب الثاني: التأني في الفتوى قبل إصدار الحكم.

المطلب الثالث: تفصيل الجواب إذا كانت المسألة تستدعي ذلك.

المطلب الرابع: ذكر المفتي في فتواه الحجة والدليل.

المطلب الخامس: الاعتماد على المصادر الأصيلة للفتوى.

المطلب السادس: المشاورة عند الإشكال.

المطلب السابع: التوقُّف والامتناع عن الفتوى عند خَفَاءِ المسألة.

المطلب الثامن: وضوح الفتوى والبُعد عن الألفاظ المبهمة متعددة الاحتمالات.

المطلب التاسع: عدم إلقاء السائل في الحيرة.

المطلب العاشر: إرشاد المستفتي إلى ما ينفعه وتوجيهه.

 

 

المطلب الأول

مسؤولية المفتي عن فتواه

للإفتاء مكانة عظيمة، ومنزلة كبيرة تُجلِّيها نصوص الشرع الشريف؛ قال تعالى: {وَيَسۡتَفۡتُونَكَ فِي ٱلنِّسَآءِۖ قُلِ ٱللَّهُ يُفۡتِيكُمۡ فِيهِنَّ} [النساء: 127]، فالفتوى وفق هذه الآية تصدر عن رب العالمين، وهذا يجعل مسؤولية المفتي عن فتواه مسؤوليةً عظيمةً وشريفة، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتولَّى هذا المنصب الشريف في حياته، باعتبار التبليغ، فكلُّ ما يصدر عنه صلى الله عليه وآله وسلم ويتلفَّظ به هو وحي من الله تعالى؛ كما قال سبحانه: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلۡهَوَىٰٓ٣ إِنۡ هُوَ إِلَّا وَحۡيٞ يُوحَىٰ} [النجم: 3- 4].

بل يُعدُّ الإفتاء وإرشاد الناس إلى حكم الله من مقتضى رسالته صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك حينما كلفه الحق تبارك وتعالى بقوله: {وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلذِّكۡرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيۡهِمۡ وَلَعَلَّهُمۡ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44].

ويكفي المفتي شرفًا وفخرًا أن يقوم بأمرٍ هو في الأصل يصدر عن رب العالمين، وباعتبار التبليغ يصدر عن سيد الخلق أجمعين سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

يقول ابن القيم: “وأول من قام بهذا المنصب الشريف سيد المرسلين، وإمام المتقين، وخاتم النبيين، عبد الله ورسوله، وأمينه على وحيه، وسفيره بينه وبين عباده؛ فكان يفتي عن الله بوحيه المبين، وكان كما قال له أحكم الحاكمين: {قُلۡ مَآ أَسۡ‍َٔلُكُمۡ عَلَيۡهِ مِنۡ أَجۡرٖ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86]، فكانت فتاويه صلى الله عليه وآله وسلم جوامعَ الأحكام، ومشتملة على فصل الخطاب، وهي في وجوب اتباعها وتحكيمها والتحاكم إليها ثانية الكتاب، وليس لأحدٍ من المسلمين العدولُ عنها ما وجد إليها سبيلًا، وقد أمر الله عباده بالرد إليها حيث يقول: {فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِيلًا} [النساء: 59]”([1]).

فالمفتي خليفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أداء وظيفة البيان، وقد تولَّى هذا المنصب الشريف بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابُه الكرامُ رضي الله عنهم أجمعين، ثم أهلُ العلم بعدهم، يقول ابن القيم: “ثم قام بالفتوى بعده بَرْكُ الإسلام وعصابة الإيمان، وعسكر القرآن، وجند الرحمن، أولئك أصحابه صلى الله عليه وآله وسلم ألين الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، وأحسنها بيانًا، وأصدقها إيمانًا، وأعمها نصيحة، وأقربها إلى الله وسيلة، وكانوا بين مُكْثِر منها ومُقِل ومتوسط”([2]).

وقال أيضًا: “وكما أن الصحابة سادة الأمة وأئمتها وقادتها فَهُم سادات المفتين والعلماء”([3]).

وإنما كان المفتي مسؤولًا عن فتواه لما يلي:

أولًا: الإفتاء هو بيان أحكام الله تعالى: فالمفتي هو الترجمان عن مراد الله تعالى، لذا جعله ابن القيم بمزلة الوزير والموقِّع عن رب العالمين في كتابه “إعلام الموقعين عن رب العالمين”، حيث قال: “ولَمَّا كان التبليغ عن الله سبحانه يعتمد العلم بما يبلغ، والصدق فيه، لم تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق، فيكون عالـمًا بما يُبلِّغ، صادقًا فيه، ويكون مع ذلك حسن الطريقة، مَرْضِيَّ السيرة، عدلًا في أقواله وأفعاله، متشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله، وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا يُنكَر فضله، ولا يُجهَل قدره، وهو من أعلى المراتب السنيات، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات؟ فحقيق بمن أُقيم في هذا المنصب أن يُعِدَّ له عدته، وأن يتأهب له أُهْبَتَه، وأن يعلم قدرَ المقام الذي أُقيم فيه، ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصَّدْعِ به؛ فإن الله ناصرُه وهاديه، وكيف هو المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب فقال تعالى: {وَيَسۡتَفۡتُونَكَ فِي ٱلنِّسَآءِۖ قُلِ ٱللَّهُ يُفۡتِيكُمۡ فِيهِنَّ وَمَا يُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلۡكِتَٰبِ} [النساء: 127]، وكفى بما تولاه الله تعالى بنفسه شرفا وجلالة؛ إذ يقول في كتابه: {يَسۡتَفۡتُونَكَ قُلِ ٱللَّهُ يُفۡتِيكُمۡ فِي ٱلۡكَلَٰلَةِ} [النساء: 176]، وليعلم المفتي عمن ينوب في فتواه، وليوقن أنه مسؤول غدًا وموقوف بين يدي الله”([4]).

ثانيًا: الإفتاء منصب عظيم وخطير: وهو كثير الفضل؛ لأنَّ المفتي وارث الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وقائم بفرض الكفاية، لكنه مُعرَّض للخطأ، يقول الإمام النووي: “ولهذا قالوا: المفتي مُوَقِّعٌ عن الله تعالى، ورُوِّينا عن ابن المنكدر قال: العالِم بين الله تعالى وخلقه فينظر كيف يدخل بينهم”([5]).

وقال العلامة النووي أيضًا: “وعن مالك أيضًا أنه ربما كان يُسأل عن خمسين مسألةً، فلا يجيب في واحدة منها، وكان يقول: مَنْ أجاب في مسألة فينبغي قبل الجواب أن يعرضَ نفسه على الجنة والنار، وكيف خَلَاصُهُ، ثم يجيب. وسئل عن مسألة فقال: لا أدري. فقيل: هي مسألة خفيفة سهلة، فغضب وقال: ليس في العلم شيء خفيف”([6]).

ثالثًا: خطورة الإفتاء بغير علم: فالإفتاء من غير علم حرام يتهاون فيه كثيرٌ من طلاب الشهرة والرياسة، وقد أجمع أهلُ العلم على أن مَنْ أقدم على الإفتاء دون أن يكون مؤهلًا لذلك المنصب أثِم، فإن أصرَّ على ذلك واستمرَّ في إفتاء الناس دون علم فسق، ولم يحل قبول قوله ولا فتياه ولا قضاؤه، لذا قرَّر العلماء أنه يحرم الفتوى على الجاهل بصواب الجواب([7])، والأدلة على حرمة الإفتاء بغير علم كثيرة، فمن القرآن الكريم قوله تعالى: {وَلَا تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلۡسِنَتُكُمُ ٱلۡكَذِبَ هَٰذَا حَلَٰلٞ وَهَٰذَا حَرَامٞ لِّتَفۡتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ لَا يُفۡلِحُونَ} [النحل: 116]، فهذه الآية الكريمة تشمل بمعناها مَنْ زاغ في فتواه، فقال في الحرام: هذا حلال، أو قال في الحلال: هذا حرام، أو نحو ذلك([8]).

ومن السنة النبوية حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من أُفتي بفتيا غير ثبت، فإنما إثمه على من أفتاه))([9])، وفي رواية أخرى: ((من أفتي بغير علم كان إثمه على من أفتاه))([10]).

يقول العلامة العظيم آبادي: “((من أُفتِيَ بغير علم)) على بناء المفعول أي من وقع في خطأ بفتوى عالم فالإثمُ على ذلك العالم، وهذا إذا لم يكن الخطأ في محل الاجتهاد، أو كان إلَّا أنه وقع لعدم بلوغه في الاجتهاد حقه، قاله في فتح الودود. وقال القاري: على صيغة المجهول، وقيل من المعلوم؛ يعني كل جاهل سأل عالِمًا عن مسألة فأفتاه العالِمُ بجواب باطل، فعمل السائل بها ولم يعلم بطلانها، فإثمه على المفتي إن قصر في اجتهاده”([11]).

وحديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من أفتى الناس بغير علم لعنته الملائكة في السماء والأرض))([12])، وفي رواية أخرى: ((من أفتى الناس بغير علم لعنته ‌ملائكة ‌السماء، ‌وملائكة ‌الأرض))([13])، وأيضًا حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالِمًا اتخذ الناس رؤوسًا جُهَّالًا، فسُئِلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا))([14]).

يقول العلامة ابن حجر في هذا شرح الحديث: “وفي هذا الحديث الحثُّ على حفظ العلم، والتحذير من ترئيس الجهلة، وفيه أن الفتوى هي الرياسة الحقيقية، وذم من يُقدِم عليها بغير علم”([15]).

يقول العلامة ابن حمدان -في شأن من يتصدر للإفتاء دون أن يكون عالمـًا-: “فَمَن أفتى وليس على صفة من الصفات المذكورة، من غير ضرورة، فهو عاصٍ آثمٌ؛ لأنه لا ‌يعرف ‌الصواب ‌وضده، ‌فهو ‌كالأعمى الذي لا يقلد البصير فيما يعتبر له البصر؛ لأنه بفقد البصر لا يعرف الصواب وضده، {أَلَا يَظُنُّ أُوْلَٰٓئِكَ أَنَّهُم مَّبۡعُوثُونَ} [المطففين: 4]”([16]).

ومن أجل هذا فقد صَوَّر العلماء مِن صور الحَجْر: الحَجْر على من يفتي بغير علم، وقد أطلق العلماء اسمَ (المفتي الماجن) على كل مَنْ يفتي الناس بغير علم، أو مَنْ يفتيهم بغير وجه الصواب متعمدًا ذلك، فالمفتي الجاهل يستحقُّ الحَجْر عليه بمنعه من الإفتاء، يقول ابن حمدان في مسألة الحجر على المفتي الماجن: “ورأى رجل ربيعة بن عبد الرحمن يبكي، فقال: ما يبكيك؟ فقال: استُفْتِيَ من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم، وقال: ‌ولَبَعْضُ ‌مَن ‌يفتي ها هنا أحق بالسجن من السُّرَّاق!!”([17]).

يقول العلامة الخطيب البغدادي: “ينبغي لإمام المسلمين أن يتصفح أحوال المفتين: فمن كان يصلح للفتوى أقره عليها، ومن لم يكن من أهلها منعه منها، وتقدم إليه بأن لا يتعرض لها وأوعده بالعقوبة إن لم ينْتَهِ عنها، وقد كان الخلفاءُ من بني أمية ينصبون للفتوى بمكة في أيام الموسم قومًا يعينونهم، ويأمرون بأن لا يُستَفْتَى غيرُهم”([18]).

وقد روى الخطيب بسنده عن عبد الله بن إبراهيم بن عمر بن أبي يزيد الصنعاني، عن أبيه، قال: “كان يصيح الصائح في الحاج: لا يفتي الناسَ إلا عطاء بن أبي رباح، فإن لم يكن فعبد الله بن أبي نجيح. والطريق للإمام إلى معرفة حال من يريد نصبه للفتوى: أن يسأل عنه أهلَ العلم في وقته، والمشهورين من فقهاء عصره، ويعول على ما يخبرونه من أمره”([19]).

ومما يتعلَّق بـ”مسؤولية المفتي عن فتواه” الشِّقُّ الجنائي المترتب على فتوى المفتي: ففي حديث جابر قال: ((خرجنا في سفر، فأصاب رجلًا منا حجر فشجَّه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابَه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أُخْبِر بذلك، فقال: قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده))([20]).

فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((قتلوه قتلهم الله)) فيه نسبة القتل إلى من أفتَوه بعدم الرخصة بالتيمم، فهم متسببون في إتلاف نفس، وسبب الإتلاف الخطأ في الفتوى، وقد اعتبر الفقهاء الإتلاف سببًا من أسباب الضمان، ومن هنا نصَّ الفقهاء على مسألة تضمين المفتي إذا أخطأ في فتواه وترتب على ذلك إتلاف مال أو نفس، على اختلاف بين الفقهاء في شروط الضمان وضوابطه.

فمن أمثلة المسائل التي قد يترتب على الخطأ في الفتوى فيها إتلافٌ للمال أو للنفس: ما إذا أفتى بالمال لغير صاحبه الذي يستحقه؛ بأن أفتى بجواز ميراث الكافر من قريبه المسلم، وأخذ الكافر المال بناء على هذه الفتوى، أو أفتى بقتل معصوم ظنه مرتدًّا بما لا يحصل به حد الردة، وغير ذلك من المسائل التي تشبه ما ذكرنا.

ومسألة ضمان المفتي من حيث الورود في كتب الفقهاء قليلة الذِّكر، إلا أنه باستقراء ما كتب فيها نقول: إنه من حيث النظر إلى المسألة المُستَفتَى فيها، فإنها تنقسم إلى مسائلَ خلافية، وغير خلافية، فإذا أفتى المفتي في مسألة اجتهادية يسوغ الخلافُ فيها فلا يتعلق بذلك ضمان؛ وذلك لأن القاعدة: “أنه لا إنكار في المختلف فيه، ومعنى القاعدة أنه لا ينهى شخص غيره مُنكِرًا عليه بمجرد عمله في مسألة بمذهب فقهي يخالف مذهبه، أو ينسب قوله إلى المُنكَر مستخدمًا طرق الإنكار الثلاث المنصوص عليها في الحديث (اليد أو اللسان أو القلب) سبيلًا للتغيير، أو مجرد الاعتراض على عملٍ موافق لرأي مجتهد معتبر في تلك المسائل الخلافية، فإذا كان لا يصحُّ مجرَّد الإنكار في المسائل الخلافية، فإن الضمان غير وارد فيها ولو ترتب على ذلك تلفُ نفسٍ أو مال، وقد أفردنا مسألة الإنكار في المختلف فيه في فتوى سابقة صادرةٍ عن أمانة الفتوى، فليُرجَع إليها، كما أنَّ المفتي إذا أفتى في مسألة اجتهادية مما تتعلَّق بالنفس أو المال، وخالفه رأْي اجتهادي آخر فلا يُنقَض اجتهادُ الأول بالثاني؛ لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد، وإذا لم ينقض اجتهاده فلا ضمان عليه، أضف إلى ذلك أنَّ المسائل الاجتهادية دائرة مع الظن كما هو منصوص عليه في كتب الأصول، والظني قد يصيب حقيقة الشيء وقد يخطئها، فكيف يرتب الضمان على ما هو دائر على الظن؟!

أما إذا كانت المسألة التي خالف فيها المفتي مما لا يسوغ الاجتهاد فيها؛ بأن يخالف نصًّا أو إجماعًا، أو قياسًا جليًّا، وهو ما يعبَّر عنه بـ(ضعف المُدرَك)، فقد يكون المفتي أهلًا للفتوى، وقد لا يكون.

الحالة الأولى: أن يكون أهلًا للفتوى:

فإن كان أهلًا للفتوى -وهو أعمُّ من المفتي المُنَصَّب من قبل الحاكم أو من ينوب منابه- فقد اختلفت كلمة الفقهاء في وجوب الضمان كما يلي:

فيرى المالكية أنه لا ضمانَ على المفتي المجتهد إذا أخطأ في فتواه، وترتَّب على الخطأ إتلاف نفس أو مال.

ويرى الإمام أبو إسحاق الإسفراييني أنه يضمن المفتي المجتهد إذا أخطأ في فتواه، وترتب على الخطأ إتلاف نفس أو مال، وهو ما يراه أيضًا الإمام السيوطي الشافعي، وابن النجار الحنبلي.

يقول الدسوقي في حاشيته على الشرح الكبير([21]): “في ح: أن من أتلف بفتواه شيئًا وتبين خطؤه فيها، فإن كان مجتهدًا لم يضمن، وإن كان مقلِّدًا ضَمِنَ إن انتصب وتولَّى فعل ما أفتى فيه، وإلَّا كانت فتواه غرورًا قوليًّا لا ضمانَ فيه ويُزجَر، وإن لم يتقدم له اشتغال بالعلم أُدِّب”. ورمز (ح): إشارة إلى الحطاب.

ويقول النووي ([22]): “وإذا عمل بفتواه في إتلاف فبان خطؤه وأنه خالف القاطع، فعن الأستاذ أبي إسحاق أنه يضمن إن كان أهلًا للفتوى، ولا يضمن إن لم يكن أهلًا؛ لأن المستفتي قَصَّر”. كذا حكاه الشيخ أبو عمرو وسكت عليه وهو مشكِل، وينبغي أن يخرج الضمان على قولي الغرور المعروف في بابي الغصب والنكاح وغيرهما، أو يقطع بعدم الضمان؛ إذ ليس في الفتوى إلزام ولا إلجاء”.

ويقول الزركشي عند بيانه لمستثنيات قاعدة: إذا اجتمع السبب أو الغرور والمباشرة قدمت المباشرة، قال: “لو أفتاه المفتي بإتلاف فأتلف، ثم تبين خطؤه، فإن كان المفتي أهلًا للفتوى فالضمان عليه، وإلَّا فلا؛ لأن المستفتي مقصِّر”([23]).

وقال ابن النجار([24]): “(وإن عمل) المستفتي (بفتياه) أي بفتيا المفتي (في إتلاف) نفس أو مال (فبان خطؤه) أي خطأ المفتي في فتياه (قطعًا) أي بمقتضى مخالفته دليلًا قاطعًا (ضمنه) أي ضمن المفتي ما أتلفه المستفتي بمقتضى فتياه (وكذا) يضمن (إن لم يكن أهلًا) للفتيا على الصحيح؛ خلافًا لأبي إسحاق الإسفراييني وجمع، بل أولى بالضمان ممن هو أهل للفتيا، قال البرماوي وغيره: لو عمل بفتواه في إتلافٍ، ثم بان أنه أخطأ، فإن لم يخالف القاطع لم يضمن لأنه معذور، وإن خالف القاطع ضمن”.

وقال التسولي: “قال البُرزُلي عقب قول ابن رشد: والوصي قد أخطأ على مال الأيتام؛ يعني حيث باعه بغبن، ما نصه: يريد بعد اجتهاد فلا ضمان عليه، ويغرم من حصل تحت يده مع الفوت، كما إذا أنفق التركة على الأيتام، ثم ظهر دَيْن، ويتخرج على ما في كتاب ابن المواز من كتاب الوصايا أن الوصي هنا يغرم ولا يغرم من حصل في يده؛ لأنه جعل الوصي يغرم في الخطأ، وهو يجري على الخلاف في المجتهد يخطئ هل يُعذَر بخطئه أم لا”([25]).

ويقول الشيخ زكريا الأنصاري: “(وإن أتلف بفتواه) ما استفتاه فيه، ثم بان أنه خالف القاطع أو نص إمامه (لم يغرم) من أفتاه (ولو كان أهلًا) للفتوى؛ إذ ليس فيها إلزام”([26]).

وسبب الخلاف في المسألة يرجع إلى مدى إلزامية فتوى المفتي، فمن رأى أن فتوى المفتي مُلزِمَة ألزمه الضمان، ومن لا فلا، فمن لم يلزمه الضمان رأى أن المستفتي مخيَّر بين قبول الفتوى وردها، فهي غير ملزمة له، كما أنَّ المفتي إذا أخطأ فهو مأجورٌ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر))، فكيف يكون مأجورًا ويلزمه الضمان؟!

وقد استدلَّ من لا يرى الضمان بحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مَنْ تَطَبَّبَ وَلَا يُعْلَمُ مِنْهُ طِبٌّ فَهُوَ ضَامِنٌ))([27]).

ووجه الدلالة أنه ضمَّن المتطبب -وهو الذي لا يعرف الطب- ولم يحكم عليه إلا بالضمان، فيكون الحاذق لا ضمان عليه بمفهوم المخالفة، ويدخل فيه المفتي بالقياس.

واستدلَّ من يرى إلزامه الضمان بأن المفتي متسبب في الإتلاف الذي هو سبب من أسباب الضمان، لا سيما وأن الخطأ بمخالفة النص أو الإجماع لا يعذر فيه، والأجر الوارد في الحديث إنما حصل له على تعبه في الاجتهاد، ولا ينافي ذلك الضمان كما لا يخفى.

والذي نراه أن القول بضمان المفتي في هذه الحالة وجيه؛ وذلك لسببين:

أولًا: تخريج هذه المسألة على قاعدة التسبب والمباشرة، وخلاصة كلام الأصوليين فيها: أن المتسبب هو الضامن إذا تغلب السبب على المباشرة، وأن المتسبب لا يضمن إلا بالتعدي، سواء أكان بقصد أم لا، فشهود الزور في قتل إنسان ضامنون عند الحنفية، ويجب عليهم القصاص عند غير الحنفية؛ لأنهم تسببوا في موت المشهود عليه ولو كان القاضي هو المباشر للقتل، وفي مسألة المفتي فلا شك في تسبُّب المفتي بخطئه في الفتوى في إتلاف نفس أو مال، لا سيما إذا كانت الفتوى صادرةً ممن هو مُنصَّب من قبل الحاكم (المفتي الرسمي للبلاد) فإن فتواه ملزمة أحيانًا، وخطؤه فيها بما يخالف النص أو الإجماع إذا ترتب عليها ضرر بإتلاف مال أو نفس فالضمان عليه تسبُّبًا، فحاله كحال مَنْ دفع السكين للصبي غير المميز، فقتل الصبيُّ به نفسَه، فالضمان على عاقلة الدافع.

ثانيًا: قياس المفتي على الحاكم إذا قصَّر الحاكم في النظر في مستند حكمه: كأن يحكم بِجَلْدِ إنسان أو قطعه أو قتله بشهادة شهود، فجلد أو قتل أو قطع، فبان الشهود غيرَ أهلٍ للشهادة، ضمن الحاكم([28])، أو زاد في حد المحدود خطأ ضمن، فكذلك المفتي في مسألتنا هذه: إذا أخطأ في الفتوى وترتب على الخطأ إتلاف مال أو نفس.

الحالة الثانية: أن يكون المفتي غيرَ أهلٍ للفتوى:

يحرم على من لم تكمُل أهليته التصدرُ للفتوى وإن أصاب، فإفتاؤه غيرَه محض افتراء وتقوُّل في الدين، وهو محرَّم، قال تعالى: {قُلۡ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ ٱلۡفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلۡإِثۡمَ وَٱلۡبَغۡيَ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ وَأَن تُشۡرِكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمۡ يُنَزِّلۡ بِهِۦ سُلۡطَٰنٗا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} [الأعراف: 33]، وقال تعالى: {وَيَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ تَرَى ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى ٱللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسۡوَدَّةٌۚ أَلَيۡسَ فِي جَهَنَّمَ مَثۡوٗى لِّلۡمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: 60]، وقال تعالى: {ٱنظُرۡ كَيۡفَ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۖ وَكَفَىٰ بِهِۦٓ إِثۡمٗا مُّبِينًا} [النساء: 50]، وقال تعالى: {وَلَا تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلۡسِنَتُكُمُ ٱلۡكَذِبَ هَٰذَا حَلَٰلٞ وَهَٰذَا حَرَامٞ لِّتَفۡتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ لَا يُفۡلِحُونَ} [النحل: 116].

وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبْقِ عالـمًا اتخذ الناس رؤوسًا جُهَّالًا، فسُئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا)).

وروى أبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ أُفْتِيَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ)).

يقول ابن الصلاح رحمه الله بعد تعداده مراتب المفتين: “فمن انتصب في منصب الفتيا، وتصدى لها وليس على صفة واحد من هذه الأصناف الخمسة فقد باء بأمر عظيم، {أَلَا يَظُنُّ أُوْلَٰٓئِكَ أَنَّهُم مَّبۡعُوثُونَ٤ لِيَوۡمٍ عَظِيمٖ} [المطففين: 4، 5]، ومن أراد التصدي للفتيا ظانًّا كونه من أهلها فلْيَتَّهِمْ نفسه وليتقِ اللهَ ربَّه تبارك الله وتعالى، ولا يَحِدْ عن الأخذ بالوثيقة لنفسه والنظر لها”([29]).

فمع حرمة التصدُّر من غير أهلية، إلَّا أن الفقهاء اختلفوا في تضمينه ما يفسده بسبب فتواه من مال أو نفس: فنقل ابنُ الصلاح وغيرُه عن أبي إسحاقَ الإسفراييني أنه لا يضمن، وهو أحدُ قولَي الإمام النووي.

ويستدلُّ على ذلك بما يلي:

أولًا: حديث جابر السابق، وفيه: ((قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده)).

ووجه الدلالة: أنه صلى الله عليه وسلم أثبت خطأهم، وعنَّفهم بالدعاء عليهم، ولكنه لم يُلزِمْهُم بِدِيَة أو قصاص. يقول ملا علي القاري: “((قتلهم الله)) أي: لعنهم، إنما قاله زجرًا وتهديدًا، وأخذ منه أنه لا قَوَدَ ولا فدية على المفتي، وإن أفتى بغير الحق”([30]).

ثانيًا: أن المستفتي قصَّر بسؤاله غير الأهل، وبعدم تحريه مَنْ هُم أهل للفتوى، فالإتلاف الحاصل للمستفتي هو مَن جرَّه إلى نفسه.

ويرى ابن مفلح وابن النجار الحنبليانِ وغيرُهما أنه يضمن في هذه الحالة، ويستدل لهذا الرأي بأنَّ ضمان غير الأهل أولى من ضمان الأهل؛ لأن تصديَه لما لا يصلح له تعدٍّ وغرورٌ، فكأنه تعمد إيذاء المستفتي وإلحاق الضرر به فيضمن.

والظاهر -كما نقله الدسوقي- إلحاقُ الضمانِ بغير الأهل إن كان مُنَصَّبًا للفتوى (المفتي الرسمي) وباشر بنفسه فعل ما أفتى فيه، كأن يقضي بأحقية المال لزيد على عمرو، ويباشر بنفسه تسليم المال لزيد، ثم يَتبين أنه أخطأ في الفتيا، فحينئذٍ يضمن، أما غير المُنَصَّب فمَثَل المستفتي معه كمن يذهب إلى النجار ليداوي مرض جسده فهو أحقُّ بالضمان من النجار إن أفسد شيئًا في جسده، فشفاء العي السؤال شريطة أن يكون من أهل السؤال، وإلَّا فلا يكون شفاء بل هو عين السقام.

ومما سبق يتبين أنه إذا أفتى المفتي في مسألةٍ اجتهاديةٍ يسوغ فيها الخلافُ، ثم ترتب على فتياه إتلافُ مالٍ أو نفسٍ، فلا ضمانَ عليه، أما إذا كانت المسألةُ مما لا يسوغ فيه الخلاف والاجتهاد، فإنه إما أن يكون أهلًا للفتوى، وإما ألا يكون كذلك، فإن كان أهلًا للفتوى فالراجحُ أنَّ عليه الضمانَ، وإن لم يكن أهلًا للفتوى فالظاهرُ أن عليه الضمانَ إذا كان مُنَصَّبًا رسميًّا للفتوى في البلاد وباشر تنفيذ الفتوى بنفسه، وإلا -بأن لم يكن مُنَصَّبًا رسميًّا للفتوى- فلا ضمان عليه، بل يكون الضمان على المستفتي المقصر في تحري سؤال من هو أهل للفتوى.

 

 

المطلب الثاني

التَّأنِّي في الفتوى قبل إصدار الحكم

من المعلوم أَنَّ الفتوى تمر في ذهن المفتي بأربع مراحل أساسية، تخرج الفتوى بعدها في صورة جواب يتلقاه المستفتي، وهي مرحلة التصوير، ومرحلة التَّكييف، ومرحلة بيان الحكم، ثم مرحلة الإفتاء.

وأولى هذه المراحل وأهمها هو: «تصوير المسألة أو الواقعة في ذهن المفتي»، بل إنَّ العلماء اعتبروا هذه المرحلة الركن الأساسي في أركان الإفتاء؛ يقول إمام الحرمين الجويني: «وأول ما يجب به الافتتاح: تصوير المسألة»([31])، ويقول أيضًا: «ومن أهم ما يجب الاعتناء به: تصوير قياس الشبه، وتمييزه عن قياس المعنى»([32]).

ويقول حجَّة الإسلام الغزالي -متكلِّمًا عن علم الصحابة وعلم من بعدهم-: «فإنهم -أي الصحابة- اشتغلوا بتقعيد القواعد وضبط أركان الشريعة وتأسيس كلياتها ولم يصوِّروا المسائل تقديرًا ولم يبوِّبوا الأبواب تطويلًا وتكثيرًا، ولكنهم كانوا يجيبون عن الوقائع مكتفين بها، ثم انقلبت الأمور إذ تكررت العصور وتقاصرت الهمم وتبدلت السير والشيم، فافتقر الأئمة إلى تقدير المسائل وتصوير الوقائع قبل وقوعها ليسهل على الطالبين أخذها عن قرب من غير معاناة تعب»([33]).

فهذه المرحلة تُمثِّل التَّأني في الفتوى قبل إصدار الحكم؛ حيث يتم فيها تصوير المسألة أو الحادثة التي أثيرت من قبل السائل، والتَّصوير الصحيح المطابق للواقع شرط أساسي لصدور الفتوى بشكلٍ صَحيحٍ يتناسب مع الواقع المعيش، يقول العلامة ابن دقيق العيد -عند ذكر مسألة تعارض نصَّين كل واحد منهما بالنسبة للآخر عام من وجه خاص من وجه-: «وتحقيق ذلك أولًا يتوقف على تصوير المسألة»([34]).

وعبء التصوير أساسًا يقع على المستفتي، لكن ينبغي على المفتي أن يتحرى بواسطة السؤال عن الجهات الأربع التي تختلف الأحكام باختلافها، وكثيرًا ما يتم الخلط والاختلاط من قبل السائل بشأنها، وهي الزمان والمكان والأشخاص والأحوال؛ يقول إمام الحرمين الجويني: «المسألة إذا حُقِّق تصويرها لم يبق فيها خلاف»([35]).

كما ينبغي على المفتي أيضًا أن يتأكد من تعلق سؤال المستفتي بالأفراد وبالأمة؛ لأن الفتوى تختلف بهذين الأمرين.

ووضع الصور للمسائل والقضايا التي تحدث ليس بأمرٍ هين في نفسه، بل المفتي الذكي ربما يقدر على الفتوى في كلِّ مسألة إذا ذكرت له صورتها، ولو كُلِّف وضع الصور وتصوير كل ما يمكن من التفريعات والحوادث في كلِّ وَاقعةٍ عجز عنه، ولم يخطر بقلبه تلك الصور أصلا، وإنما ذلك شأن المجتهد، يقول العلامة ابن الصلاح: «… لأن تصوير المسائل على وجهها، ثم نقل أحكامها بعد استتمام تصويرها جلياتها وخفياتها، لا يقوم إلا فقيه النفس، ذو حظ من الفقه»([36]).

وقد نَصَّ أهل العلم على أنه: لا يجوز للمفتي التساهل في تصور المسألة، والتسرع في الفتوى قبل استيفاء النظر والفكر في المسؤول عنه، ولذا نصَّ من صنَّف في آداب الإفتاء أن المفتي عليه تأمل رقعة الاستفتاء كلمة كلمة ولتكن عنايته بتأمل آخرها أكثر، فإذا مر بمشتبه سأل عنه المستفتي ونَقَطَه وشَكلَه؛ مصلحة لنفسه، ونيابة عمن يفتي بعده، ويلزمه التوقف عن الجواب عند عدم تصور الواقعة؛ لعدم القدرة على تحقيق المناط المناسب لها، وأن يستفسر مِن السائل عن مقصوده، ويطلب منه بيان مراده؛ ليتمكن من الجواب الصحيح له([37]).

يقول الإمام النووي: «إذا لم يفهم المفتي السؤال أصلًا ولم يحضر الواقعة، فقال الصيمري: يكتب يزاد في الشرح ليجيب عنه، أو لم أفهم ما فيها فأجيب… وقال الخطيب: ينبغي له إذا لم يفهم الجواب أن يرشد المستفتي إلى مفتٍ آخر إن كان، وإلا فليمسك حتى يعلم الجواب»([38]).

وكلُّ هذه الآداب التي ذكرها العلماء والفقهاء تدل في مجموعها على وجوب التَّأني في الفتوى قبل إصدار الحكم، فالإخلال بتلك الضوابط سيؤدي حَتمًا إلى التصور الخاطئ لمحل الفتوى، فتكون النتيجة وقوع الخطأ في الفتوى، بل ويأثم المفتي إن قصَّر في التصور الكامل أو الصحيح للمسألة، لأن ذلك يعد من قبيل التقوُّلِ على الله بغير علم، وهو غير جائز؛ قال تعالى: {وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ} [الإسراء: 36].

والسؤال الذي يطرح نفسه: كيف يصل المفتي قبل صياغته للفتوى للتصور الصحيح؟

والجواب: أنَّه ينبغي على المفتي مراعاة عدة ضوابط لبلوغه عند صياغته للفتوى كمال التصور الصحيح، وهي:

1- جَمعُ أكبر قدرٍ من المعلومات عن المسألة والوَاقعةِ محل الفتوى؛ فيعرف نشأتها، وعناصرها، وأنواعها، وكيف حدثت، وخصائصها، وجوانبها، وأطرافها، وتطورها، وهذا المزيج من الجمع سهل في ظلِّ الثورة المعلوماتية المعاصرة، ولكن قد يحتاج الفقيه إلى ممارسة ومعايشة لواقع المسألة لاستكمال تصوره لها. ويتطلب هذا الجمع الرجوع إلى المختصين
لا سيما في العلوم البعيدة عن تخصصه الشرعي كالطب والاقتصاد مثلًا.

2- الاستفسار وطلب التفاصيل للمسألة، خاصة في وقائع الأعيان التي تخص شخصًا معينًا؛ بحيث يستفسر المفتي من المستفتي ما يُشكِل عليه، وينوع له السؤال من أجل الوصول للتصور الصحيح للمسألة؛ كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما لما أتى ماعز بن مالك النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: ((لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ، أَوْ غَمَزْتَ، أَوْ نَظَرْتَ))([39])، فلم يأمر برجمه حتى أقرَّ بصريح الزنا.

وأيضًا حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه، أن أباه أتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ((إني نحلت ابني هذا غلامًا، فقال: أكل ولدك نحلت مثله، قال: لا، قال: فارجعه)) ([40]). والشاهد فيه: استفصال النبي صلى الله عليه وسلم، واستفساره من أجل أن يحكم في الواقعة بعد التصور الكامل لها.

فقد يلجأ المفتي للتنويع والتشقيق عند تصور المسألة تصورًا كاملًا مع عدم معرفته بحال السائل، أو عندما تكون المسألة عامةً، فمثلًا يقول: إن كانت الصورة كذا فالحكم كذا، وإن كانت كذا فالحكم كذا… إلخ، ولهذا شاهدٌ من قضاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فعن أم هانئ رضي الله عنها، قالت: ((لما كان يوم الفتح -فتح مكة-، جاءت فاطمة، فجلست عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأم هانئ عن يمينه، قالت: فجاءت الوليدة بإناء فيه شراب، فناولته فشرب منه، ثم ناوله أم هانئ فشربت منه، فقالت: يا رسول الله، لقد أفطرت وكنت صائمة، فقال لها: أكنت تقضين شيئا؟ قالت: لا، قال: فلا يضرك إن كان تطوعًا))([41]).

3– أن يعرف المفتي أحوال الناس ويخالطهم ويعايشهم، ويدرك أساليبهم في التعامل، بحيث يقوى عنده جانب الفراسة التي تجعله يميِّز ولا يشتبه عليه الحق بالباطل، فمن استفتي في مَسألةٍ ولم يكن عالمًا وخبيرًا بواقع الناس وبعيدًا عن مخالطتهم فربما أوقعه ذلك في التصور الخاطئ؛ يقول العلامة ابن الصلاح: «لا يجوز له أن يفتيَ في الأيمانِ والأقَاريرِ ونحو ذلك مما يتعلق بالألفاظ إلا إذا كان من أهل بلد اللافظ بها، أو متنزلًا منزلتهم في الخبرة بمرادهم من ألفاظهم وتعارفهم فيها؛ لأنه إذا لم يكن كذلك كثر خطؤه عليهم في ذلك كما شهدت به التجربة»([42]).

4- فهم العلاقات البينية بين العوالم المختلفة: وهي عالم الأشياء، وعالم الأشخاص، وعالم الأحداث، وعالم الأفكار، وما يحيط بها ويربطها ببعضها وهو عالم النُّظُم، وليس هذا فحسب، بل إدراك هذا الترتيب هو الثقافة.

فيجب على المفتي أثناء قيامه بصياغة الفتوى أن يضع في اعتباره هذه العوالم المتنوعة بمناهجها المختلفة، وعلاقاتِها البينيَّةِ.

ولنضرب مثالًا على عالم الأشياء يبين مدى أهمية إدراك المفتي لفقه الواقع، وهو إذا سأل شخص ما عن حكم الشرع في منتجٍ أو سلعةٍ مُعيَّنةٍ جديدةٍ، فهذه السِّلع من عالم الأشياء وتحتاج من المفتي إلى إدراكٍ معيَّن حتى يُفتِي بحكم الله فيها، فإذا سُئِلَ عن حكم تناول “خلِّ التفاح” مثلًا؟

فينبغي على المفتي في هذه الحالة إذا لم يكن عالمًا بماهية “خلِّ التفاح” -وهو من عالم الأشياء- أن يسأل عن عدة أمور تجعله يدرك واقع هذا الشيء الجديد فيسأل عن (شكله، ورائحته، ومكوناته، ومدى تأثيره على العقل، هل يحتوي على مشتق من مشتقات الخنزير؟ هل يحتوي على كحول؟ وإذا كان يحتوي على كحول ما نوعه؟ هل هو  إيثيلي الذي يؤدي إلى الإسكار ويغيب العقل أم مثيلي؟ وما نسبته؟ …وهكذا.

وهذا الإدراك لا بد فيه من معرفة مجموعة من العلوم التجريبية كعلم الكيمياء، وعلم الفيزياء، وعلم الأحياء، وعلم الطب، وغير ذلك من العلوم التي قد يطلب معرفتها في تصور وإدراك بعض الأشياء، وهنا يجب على المفتي أن يرجع في تلك المجالات إلى أهل الذكر وهم الخبراء والمتخصصون في تلك العلوم؛ ليعرف ماهية الأمر الذي يريد أن يجيب عنه، فإذا حصل له الإدراك لواقع تلك الأشياء استطاع في هذه الحالة أن يقوم بالصياغة الإفتائية بِشكلٍ صَحيحٍ وَدَقيقٍ مُناسبٍ للوَاقع.

وهذا مثال آخر على عالم الأشخاص؛ حيث تحدث فقهاء التراث عن الشخص الطبيعي وأهليته… إلخ، لكن أصبح في واقعنا المعاصر وجود ما يُسمَّى بالشخصية الاعتبارية المختلفة تمامًا عن الشخصية الطبيعية المحدودة القاصرة([43]).

5- أن يكون المفتي عالمًا بالحكم الشرعي المفتى به يقينًا أو ظنًّا راجحًا، عن طريق جملة من الأدوات الاستنباطية التي ذكرها الأصوليون، ومنها علمه بالكتاب والسنة، والناسخ والمنسوخ، وسائر أدوات الاستنباط، فيكون قادرًا على استنباط الحكم الشرعي من دليله، ويبحث في ذلك كله عن الدليل الأقوى، ثبوتًا ودلالة، يقول العلامة الزركشي: «فالمفتي: من كان عالمًا بجميع الأحكام الشرعية ‌بالقوة ‌القريبة ‌من ‌الفعل»([44]). وعليه التَّريث والتَّأني في الفتوى باستخدام ما حصله من هذه الأدوات العلمية([45]).

6– أن يتصور المفتي المسألة تصورًا تامًّا، فيتأنى في ذلك ولا يتسرع؛ ليتمكن من الحكم على المسألة؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وعليه حينئذ طلب الاستفصال والاستفسار في موضع التفصيل والبيان، يقول العلامة البهوتي: «(‌ويحرم) ‌على ‌مفت (‌إطلاق ‌الفتيا ‌في ‌اسم ‌مشترك) قال ابن عقيل إجماعًا (فمن سئل أيؤكل) أو يشرب أو نحوه (برمضان بعد الفجر لا بد أن يقول) الفجر (الأول أو) الفجر (الثاني)»([46]).

7- أن يكون المفتي هادئ البال، مستقر الحال من كل وجه حتى يتمكن من تصور المسألة وتطبيقها على الأدلة الشرعية، فلا يفتي حال انشغاله، وتشتت ذهنه، بأي صورة من صور الانشغال؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ))لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان((([47]).

فهذا الحديث يدل على تحريم قضاء القاضي حال كونه مشوش الذهن بأي سبب من الأسباب كانت، فقد نبَّه النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الغضب دلالة على سائر الأوصاف التي يتحقق فيها مناط الغضب، وهو تشويش الذهن بما يؤثر على سلامة القضاء، وقيست الفتوى على القضاء في تحريم الفتيا حال كون المفتي مشوش الذهن بجامع وجوب التوصل إلى الحكم الصحيح؛ سواء أكان قضاء على سبيل الإلزام، أم كان إفتاء على سبيل الإخبار عن الله، وعن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

يقول العلامة ابن حجر في شرح الحديث: «قال المهلب: سبب هذا النهي أن الحُكمَ حالة الغضب قد يتجاوز بالحاكم إلى غير الحق فمنع، وبذلك قال فقهاء الأمصار.

وقال ابن دقيق العيد: فيه النهي عن الحكم حالة الغضب؛ لما يحصل بسببه من التغير الذي يختل به النظر، فلا يحصل استيفاء الحكم على الوجه، قال: وعداه الفقهاء بهذا المعنى إلى كل ما يحصل به تغير الفكر كالجوع والعطش المفرطين، وغلبة النعاس، وسائر ما يتعلق به القلب تعلقًا يشغله عن استيفاء النظر، وهو قياس مظنة على مظنة، وكأن الحكمة في الاقتصار على ذكر الغضب؛ لاستيلائه على النفس وصعوبة مقاومته بخلاف غيره»([48]).

وقال العلامة النووي في شرح الحديث: «فيه النهي عن القضاء في حال الغضب، قال العلماء: ويلتحق بالغضب كل حال يخرج الحاكم فيها عن سداد النظر واستقامة الحال كالشبع المفرط والجوع المقلق والهم والفرح البالغ ومدافعة الحدث وتعلق القلب بأمرٍ ونحو ذلك وكل هذه الأحوال يكره له القضاء فيها خوفًا من الغلط»([49]).

ويقول العلامة ابن القيم عند الكلام على الخصال التي يجب تحققها فيمن ينصب نفسه للفتيا: «الفائدة الثالثة والعشرون: ‌ذكر ‌أبو ‌عبد ‌الله ‌بن ‌بطة ‌في ‌كتابه ‌في ‌الخلع ‌عن ‌الإمام ‌أحمد أنه قال: لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال، أولها: أن تكون له نية، فإن لم يكن له نية لم يكن عليه نور ولا على كلامه نور. والثانية: أن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة. الثالثة: أن يكون قويًّا على ما هو فيه وعلى معرفته. الرابعة: الكفاية وإلا مضغه الناس. الخامسة: معرفة الناس، وهذا مما يدل على جلالة أحمد ومحله من العلم والمعرفة؛ فإن هذه الخمسة هي دعائم الفتوى، وأي شيء نقص منها ظهر الخلل في المفتي بحسبه»([50]).

فمراعاة هذه الضوابط السابق ذكرها في تصور المسألة مُؤذِنٌ بصحة التصور، والذي يبنى عليه مراحل الفتوى الثلاث الأخرى.

والذي ينبغي الالتفات إليه أنَّ من ثمرات التصور الصحيح للمسألة والتأني في عملية الصياغة الإفتائية: إبصار المفتي ووقوفه على جميع جوانب المسألة، فيشاهد ما يمكن وقوعه وإدراجه تحتها من الأحوال والاحتمالات، وقد يظهر له هذا أثناء تقسيمه وتفصيله للمسائل التي يراها غير منقسمة ومتعددة، وبهذا الإدراك التفصيلي يشعر المفتي بكافة أنواع الصور المندرجة تحت المسائل المجملة، فيقوم المفتي بإعطاء كل صورة من صور تلك المسائل ما يليق بها، مع الوضع في الاعتبار أن هناك بعض الصور بها بعض الإشكالات والخصوصيات، وبهذا يتمكن المفتي من الجواب الصحيح المطابق للواقعة والحادثة المسؤول عنها.

ومن غير التأني والتصور المحيط والشامل للمسألة قد تَرِدُ على المفتي مسألة مجملة يندرج تحتها عدة أنواع، فيذهب وهمه إلى واحدٍ منها ويذهل عن المسؤول عنها؛ فيجيب بغير الصواب؛ يقول ابن القيم: «فكثيرًا ما يقع غلط المفتي في هذا القسم، فالمفتي ترد إليه المسائل في قوالب متنوعة جدًّا، فإن لم يتفطَّن لحقيقة السؤال وإلا هَلكَ وأهْلكَ، فتارة تُورَد عليه المسألتان صورتهما واحدة وحكمهما مختلفٌ؛ فصورة الصحيح والجائز صورة الباطل والمحرَّم ويختلفان بالحقيقة، فيذهل بالصورة عن الحقيقة، فيجمع بين ما فرق الله ورسوله بينه، وتارة تورد عليه المسألتان صورتهما مختلفة وحقيقتهما واحدة وحكمهما واحد، فيذهل باختلاف الصورة عن تساويهما في الحقيقة، فيفرق بين ما جمع الله بينه، وتارة تورد عليه المسألة مجملة تحتها عدة أنواع، فيذهب وَهمُه إلى واحدٍ منها، ويذهل عن المسؤول عنه منها، فيجيب بغير الصواب، وتارة تورد عليه المسألة الباطلة في دين الله في قَالبٍ مُزخرفٍ ولفظ حسن، فيتبادر إلى تسويغها وهي من أبطل الباطل، وتارة بالعكس»([51]).

ومما يستحسن ذكره من أخبار العلماء في توضيح مدى أهمية التأني قبل إصدار الحكم والتصور المحيط والشامل للمسألة ما حَدَّث به الفضل بن غانم قال: «كان
أبو يوسف مريضًا شديد المرض، فعاده أبو حنيفة مِرارًا، فصار إليه آخر مرة فرآه ثقيلًا فاسترجع([52])، ثم قال لقد كنت أؤملك بعدي للمسلمين، ولئن أصيب الناس بك ليموتن معك علم كثير! ثم رزق العافية وخرج من العلة، فأُخبر أبو يوسف بقول أبي حنيفة فيه؛ فارتفعت نفسه وانصرفت وجوه الناس إليه، فعقد لنفسه مجلسًا في الفقه، وقصر عن لزوم مجلس أبي حنيفة.

فسأل أبو حنيفة عنه فأُخبر أنه قد عقد لنفسه مجلسًا وأنه بلغه كلامك فيه، فدعا رجلًا كان له عنده قدر، فقال سر إلى مجلس يعقوب فقل له: ما تقول في رجل دفع إلى قصار ثوبًا ليقصره بدرهم، فسار إليه بعد أيام في طلب الثوب، فقال له القصار: ما لك عندي شيء وأنكره، ثم إن رب الثوب رجع إليه فدفع إليه الثوب مقصورًا، أله أجرة؟ فإن قال له أجرة. فقل: أخطأت! وإن قال ‌لا ‌أجرة ‌له، فقل: أخطأت!

فسار إليه فسأله، فقال أبو يوسف له الأجرة. فقال له أخطأت! فنظر ساعة ثم قال: ‌لا ‌أجرة ‌له. فقال له: أخطأت!

فقام أبو يوسف من ساعته فأتى أبا حنيفة، فقال له: ما جاء بك إلا مسألة القصار، قال: أجل. فقال: سبحان الله! من قعد يفتي الناس وعقد مجلسًا يتكلم في دين الله وهذا قدره لا يحسن أن يجيبَ في مسألةٍ من الإجارات! فقال يا أبا حنيفة علمني.

فقال: إن كان قصره بعدما غصبه فلا أجرة له؛ لأنه إنما قصره لنفسه، وإن كان قصره قبل أن يغصبه فله الأجرة؛ لأنه قصره لصاحبه. ثم قال من ظن أنه يستغني عن التعلم فليبك على نفسه»([53]).

أمثلة:

  • مثال للتصور الخاطئ لموضوع الفتوى:

لو سُئِل أحد المفتين عن: «حكم وثائق التأمين التجاري».

فكان تَصوُّره للمسألة: أنها من قبيل الربا، إذ هو بيع نقود بنقود أقل منها أو أكثر مع تأجيل أحد النقدين، فهو عقد يحتوي على الربا والقمار والمراهنة، فضلًا على احتوائه على الغرر.

 والتصور الصحيح: أنَّه عقد تقوم به شركات مساهمة تنشأ لهذا الغرض، وتَمَّ وضع بنوده في إطار الضوابطِ الشرعيَّةِ للعقود، فضلًا عن تحقيقيه لمقاصد الشريعة؛ إذ هو قائم أساسًا على التكافل الاجتماعي والتعاون على البر، وأنه تبرع في الأصل وليس معاوضة، فكان الأمر على الجواز والإباحة.

  • مثال للتصور الصحيح لموضوع الفتوى:

المثال الأول:

لو سُئِل أحد المفتين عن: «حكم الاشتراك المالي بين الزوجين»، فقال في أثناء فتواه: «الاشتراك المالي بين الزوجين هو عبارة عن: دمج ثروة الزوجين مع بعضهما واستثمارهما لهذه الثروة فيما يخدم مصالح الأسرة، والذي يقوم عادة على عقد يسجله الزوجان ضمانًا لحقوقهما، ويكتفي بعضهم بمبدأ الاتفاق الشفهي بناءً على الثقة المتبادَلة بين الزوجين، وهذا المسؤول عنه معاملة حديثة وعقدٌ جديد، بدأ في الانتشار والانتقال إلى المجتمع الإسلامي من تعاملات غير المسلمين القائمة على مبدأ ديني يقوم عندهم على أساسٍ هو أبدية الحياة الزوجية، وأنها لا تنفك إلا بالموت، وعدم إمكانية الطلاق دينيًّا، وأن الطلاق المدني يتقاسم فيه المطلِّق مع مطلقته أملاك كلٍّ، وأن الجانب الأكبر من ميراث الزوج يكون للزوجة، وبالعكس، فهي نتاج منظومة خاصة. ومع اتصال العالم بعضه ببعض وتأثر أقصاه بأقصاه في ظل العولمة والتقنيات الحديثة بدأ المجتمع الإسلامي يتأثر بهذه النتاجات الإنسانية».

المثال الثاني:

لو سُئِل أحد المفتين عن: «حكم التعامل بعملة “البيتكوين”».

فأجاب في فتواه: «عملة البيتكوين من العملات الافتراضية، التي طُرِحت للتداول في الأسواق المالية في سنة 2009م، وهي عبارة عن وحداتٍ رقَمية مُشَفَّرة ليس لها وجودٌ فيزيائي في الواقع، ويمكن مقارنتها بالعملات التقليدية كالدولار أو اليورو مثلًا. والصورة الغالبة في إصدار هذه العملة أنها تستخرج من خلال عملية يُطلق عليها “تعدين البيتكوين”، حيث تعتمد في مراحلها على الحواسب الإلكترونية ذات المعالجات السريعة عن طريق استخدام برامج معينة مرتبطة بالشبكة الدولية للمعلومات (الإنترنت)، وتُجرى من خلالها جملة من الخطوات الرياضية المتسلسلة والعمليات الحسابية المعقدة والموثقة؛ لمعالجة سلسلة طويلة من الأرقام والحروف وخَزْنها في مَحَافِظَ (تطبيقات) إلكترونية بعد رقْمَها بأكواد خاص، وكلما قَوِيت المعالجة وعَظُمَت زادت حصة المستخدم منها وفق سقفٍ مُحَدَّدٍ للعدد المطروح للتداول منها.

وتتم عملياتُ تداول هذه العملة من محفظة إلى أخرى دون وسيطٍ أو مراقبٍ من خلال التوقيع الرقَمَي عن طريق إرسال رسالة تحويل مُعَرَّف فيها الكود الخاص بهذه العملة وعنوان المُستلم، ثم تُرْسل إلى شبكة البيتكوين حتى تكتملَ العملية وتُحْفَظَ فيما يُعرف بسلسلة البلوكات، من غير اشتراط للإدلاء عن أي بيانات أو معلومات تفصح عن هوية المتعامل الشخصية.

وهذه الوحدات الافتراضية غيرُ مغطَّاة بأصولٍ ملموسةٍ، ولا تحتاج في إصدارها إلى أي شروطٍ أو ضوابطَ، وليس لها اعتمادٌ مالي لدى أي نظامٍ اقتصادي مركزي، ولا تخضعُ لسلطات الجهات الرقابية والهيئات المالية؛ لأنها تعتمدُ على التداول عبر الشبكة العنكبوتية الدولية (الإنترنت) بلا سيطرة ولا رقابة.

وبناء على هذا التصور الصحيح، وبعد تكييفها والتعرض لأضرارها، أتى الجواب: أنه لا يجوز شرعًا تداول عملة البيتكوين، والتعامل من خلالها بالبيعِ والشراءِ ونحوهما، بل يُمنع من الاشتراكِ فيها».

 

 

 

 

 

المطلب الثالث

تفصيل الجواب إذا كانت المسألة تستدعي ذلك

إذا كانت المسألة تستلزم البيان والإطناب، كما في الوقائع الهامة التي تتعلق بالأمة والمجتمع، فليزم المفتي التوسع في صياغة فتواه، وذلك بتقرير الأحكام الشرعية المناسبة، وجلب النصوص المؤيدة، وذكر آراء الفقهاء وأدلتهم([54]).

يقول ابن القيم: «‌ليس ‌للمفتي ‌أن ‌يطلق ‌الجواب ‌في ‌مسألة ‌فيها ‌تفصيل ‌إلا ‌إذا ‌علم ‌أن ‌السائل إنما سأل عن أحد تلك الأنواع، بل إذا كانت المسألة تحتاج إلى التفصيل استفصله، كما استفصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ماعزًا لما أقرَّ بالزنا: هل وجد منه مقدماته أو حقيقته؟ فلما أجابه عن الحقيقة استفصله: هل به جنون، فيكون إقراره غير معتبر أم هو عاقل؟ فلما علم عقله استفصله: بأن أمر باستنكاهه؛ ليعلم هل هو سكران أم صاح؟ فلما علم أنه صاح استفصله: هل أحصن أم لا؟ فلما علم أنه قد أحصن أقام عليه الحد.

ومن هذا قوله لمن سألته: ((هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فقال: نعم، إذا رأت الماء)) فتضمن هذا الجواب الاستفصال بأنها يجب عليها الغسل في حال، ولا يجب عليها في حال»([55]).

وقال ابن القيم أيضًا: «وكذلك إذا سئل عن رجل حلف لا يفعل كذا وكذا، ففعله، لم يجز له أن يفتي بحنثه حتى يستفصله: هل كان ثابت العقل وقت فعله أم لا؟ وإذا كان ثابت العقل فهل كان مختارًا في يمينه أم لا؟ وإذا كان مختارا فهل استثنى عقيب يمينه أم لا؟ وإذا لم يستثنِ فهل فعل المحلوف عليه عالمًا ذاكرًا مختارًا أم كان ناسيًا أو جاهلًا أو مكرهًا؟ وإذا كان عالمًا مختارًا فهل كان المحلوف عليه داخلا في قصده ونيته أو قصد عدم دخوله فخصصه بنيته أو لم يقصد دخوله ولا نوى تخصيصه؟ فإن الحنث يختلف باختلاف ذلك كله. ورأينا من مفتيِّ العصر مَن بادر إلى التحنيث، فاستفصلناه، فوجده غير حانث في مذهب من أفتاه، وقع ذلك مرارًا؛ فخطر المفتي عظيم، فإنه مُوقِّع عن الله ورسوله، زاعم أن الله أمر بكذا وَحرَّم كذا أو أوجب كذا»([56]).

فالفتوى في صيغتها -من حيث الاختصار والإطناب أو الاستطراد- تختلف بحسب المسؤول عنه، فإذا كانت المسألة المفتى فيها لا تستدعي التفصيل ولا إسهاب التقرير، فإن المفتي يقتصر في فتواه على بيان ما يرفع الإشكال، ويؤدي إلى بيان الحكم بأقصر الطرق والأدلة، أما إذا استلزمت ذلك كما في الفتاوى العامة التي تمثل الأفراد والمجتمع، فليزم على المفتي التوسع في صياغة فتواه([57]).

 

 

 

 

المطلب الرابع

ذِكر المفتي في فتواه الحُجَّة والدليل

مما لا خلاف فيه بين العلماء أنه لا يجوز أن يفتي في دين الله سبحانه إلا عالم بأدلة الشريعة، ومقاصدها الكلية، وأن الفتوى بالرأي المجرد باب من أبواب الضلالة، والقول على الله تعالى بلا علم ولا بينة([58]).

وفي البداية نود أن نقومَ بتعريفِ الدليل ليتسنى لنا معرفة مدى حاجة المفتي إلى ذِكْر الدليل على فتواه.

فالدليل لغة: هو المرشد والكاشف، مأخوذ من مادة (د ل ل)، يقال: دللت على الشيء وإليه، من باب قتل وأدللت بالألف لغة، والمصدر دلولة، والاسم الدلالة بكسر الدال وفتحها، وهو ما يقتضيه اللفظ عند إطلاقه، واسم الفاعل دال ودليل([59]).

والدليل اصطلاحًا: هو الموصل بصحيح النظر فيه إلى المطلوب، قال إمام الحرمين: «ويسمَّى دلالة ومستدلا به، وحجة، وسلطانًا، وبرهانًا وبيانًا»([60]).

وقال الروياني: «الدليل ما دلك ‌على ‌مطلوبك، والحجة ما منعت من ذلك، والثاني: الدليل ما دلك على صوابك، والحجة ما دفعت قول مخالفك»([61]).

وقيل الدليل: «وقيل: هو ‌ترتيب ‌أمور ‌معلومة ‌للتأدي ‌إلى ‌مجهول»([62]).

وقد اتفق العلماء على أَربعةِ أدلة للأحكامِ الشَّرعيَّةِ، وهي: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، كما اختلفوا في أدلة أخرى، كالاستحسان، والعرف، والمصالح المرسلة، وسد الذرائع، والاستصحاب، وقول الصحابي، وشرع من قبلنا، وإجماع أهل المدينة.

ولا يخفى أن الفتوى المشفوعة بالدليل، المصحوبة بالتعليل تكون أحرى بفهم المستفتي، وقبوله لها، وانشراح صدره للعمل بها؛ من الفتوى المجردة عن الدليل أو التعليل([63]).

يقول الإمام النووي: «واعلم أن ‌معرفة ‌مذاهب ‌السلف ‌بأدلتها من أهم ما يحتاج إليه؛ لأن اختلافهم في الفروع رحمة، وبذكر مذاهبهم بأدلتها يعرف المتمكنُ المذاهبَ على وجهها والراجح من المرجوح، ويتضح له ولغيره المشكلات، وتظهر الفوائد النفيسات، ويتدرب الناظر فيها بالسؤال والجواب، ويفتح ذهنه ويتميز عند ذوي البصائر والألباب، ويعرف الأحاديث الصحيحة من الضعيفة والدلائل الراجحة من المرجوحة، ويقوم بالجمع بين الأحاديث المتعارضات والمعمول بظاهرها من المؤولات ولا يشكل عليه إلا أفراد من النادر»([64]).

وإنَّ من أفضل ما يُكسِب مهارة الموازنة والنقد لدى المفتي: هو النظر في كتب الفقهاء وكتبهم لا لتقليدهم، ولكن لتعرف طريق الاجتهاد من صنيعهم، فبذلك النظر يقف المفتي على التطبيقات الصحيحة للقواعد، فيرى كيف يستدل الفقهاء والعلماء، وكيف يجمعون بين الأدلة، وكيف يطبقون الأحْكامَ الكليَّة على الواقعات، وذلك أمر لا تغني عنه المعرفة النظرية لقواعد أصول الفقه، وبكثرة مرور تلك المسائل والفروع ترسخ لدى المفتي ملكات الاستدلال والاستنباط والتخريج، كما أن رؤية تلك التطبيقات يقرب للناظر معرفة الراجح من الخلافات الأصولية، فتنمو مهارة الموازنة والنقد في نفس المفتي؛ فالمسائل الخلافية في الأصول قد تبحث بحثًا نظريًّا منعزلًا عن الفُروعِ الفِقهيَّةِ، فإذا ما رأى المفتي والفقيه فروع ذلك الخلاف وثمرته كان ذلك أقرب إلى معرفة القول الصحيح فيه، إلى غير ذلك من المنافع.

يقول العلامة الزركشي: «ليس يكفي في حصول الملكة على شيء تعرفه، بل لا بد مع ذلك من الارتياض في مباشرته، فلذلك إنما تصير للفقيه ملكة الاحتجاج واستنباط المسائل أن يرتاض في أقوال العلماء وما أتوا به في كتبهم. وربما أغناه ذلك عن العناء في مسائل كثيرة وإنما ينتفع بذلك إذا تمكن من معرفة الصحيح من تلك الأقوال من فاسدها. ومما يعينه على ذلك أن تكون له قوة على تحليل ما في الكتاب ورده إلى الحجج، فما وافق منها التأليف الصواب فهو صواب، وما خرج عن ذلك فهو فاسد، وما أشكل أمره توقف فيه»([65]).

لكن: هل يجب أصالة على المفتي عند صياغته الجواب أن يُبَيِّن الدليل تفصيلًا؟

في ذلك خلاف على أقوال:

القول الأول: وجوب ذكر المفتي للدليل على فتواه([66]).

يقول ابن القيم: «ينبغي للمفتي أن يذكر دليل الحكم ومأخذه ما أمكنه من ذلك، ‌ولا ‌يلقيه ‌إلى ‌المستفتي ‌ساذجًا مجردًا عن دليله ومأخذه؛ فهذا لضيق عطنه وقلة بضاعته من العلم، ومن تأمل فتاوى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي قوله حجة بنفسه رآها مشتملة على التنبيه على حكمة الحكم ونظيره، ووجه مشروعيته، وهذا كما سُئل عن بيع الرطب بالتمر فقال: ((أينقص الرطب إذا جف؟ قالوا: نعم، فزجر عنه))، ومن المعلوم أنه كان يعلم نقصانه بالجفاف، ولكن نبههم على علة التحريم وسببه…».

ثم قال أيضًا: «فينبغي للمفتي أن ينبه السائل على عِلةِ الحكم ومأخذه إن عرف ذلك، وإلا حَرُمَ عليه أن يفتي بلا علم»([67]).

وذكر أيضًا أن ذكر الفتوى مع دليلها أولى، فقال: «‌عَاب ‌بعضُ ‌الناس ‌ذكر ‌الاستدلال ‌في ‌الفتوى، وهذا العيب أولى بالمعيب، بل جمال الفتوى وروحها هو الدليل…، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سئل أحدهم عن مسألة أفتى بالحجة نفسها، فيقول: قال الله كذا، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كذا…، فيشفي السائل…، ثم جاء التابعون والأئمة بعدهم فكان أحدهم يذكر الحكم ثم يستدل عليه…، ثم طال الأمد وبعد العهد بالعلم، وتقاصرت الهمم إلى أن صار بعضهم يجيب بنعم أو لا فقط، ولا يذكر للجواب دليلًا ولا مأخذًا…، ثم نزلنا درجة أخرى إلى أن وصلت الفتوى إلى عيب من يفتي بالدليل وذمه، ولعله أن يحدث للناس طبقة أخرى لا يدرى ما حالهم في الفتاوى، والله المستعان»([68]).

الرأي الثاني: لا ينبغي ذكر المفتي للدليل على فتواه مُطلقًا، وذلك لتفرقة بين الفتوى من جهة، والتصنيف والتأليف من جهةٍ أخرى([69]).

قال العلامة ابن الصلاح: «بلغنا عن القاضي أبي الحسن الماوردي صاحب كتاب “الحاوي”، قال: إن المفتي عليه أن يختصر جوابه فيكتفي فيه بأن يجوز أو لا يجوز، أو حق أو باطل، ‌ولا ‌يعدل ‌إلى ‌الإطالة ‌والاحتجاج ‌ليفرق ‌بين ‌الفتوى ‌والتصنيف، قال: ولو ساغ التجاوز إلى قَليلٍ لساغ إلى كثير، ولصار المفتي مدرسًا، ولكل مقام مقال»([70]).

الرأي الثالث: التفصيل بين كون المستفتي فقيهًا فيذكر له الدليل، وكون المستفتي عاميًّا فلا يذكر له الدليل([71]).

قال العلامة الخطيب البغدادي: «ولم تجرِ العادة أن يذكر في الفتوى طريق الاجتهاد ولا وجه القياس والاستدلال اللهم إلا أن تكون الفتوى تتعلق بنظر قاض أو حاكم فيومئ فيها إلى طريق الاجتهاد ويلوح بالنكتة التي عليها رد الجواب أو يكون غيره قد أفتى فيها بفتوى غلط فيما عنده فيلوح للمفتي معه ليقيم عذره في مخالفته أو لينبه على ما ذهب إليه فأما من أفتى عاميًّا فلا يتعرض لشيء من ذلك…»([72]).

وقال الإمام النووي: «ليس بمنكر أن يذكر المفتي في فتواه الحجة إذا كانت نصًّا واضحًا مختصرًا، قال الصيمري: ‌لا ‌يذكر ‌الحجة ‌إن ‌أفتى ‌عاميًّا ‌ويذكرها ‌إن ‌أفتى ‌فقيهًا، كمن يسأل عن النكاح بلا ولي فحسن أن يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا نكاح إلا بولي))، أو عن رجعة المطلقة بعد الدخول فيقول له: رجعتها قال الله تعالى {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ}»([73]).

الرأي الرابع: التفصيل بين كون الدليل نصًّا شرعيًّا ظاهرًا وواضحًا ومقطوعًا به؛ فيجوز أن يذكره للمستفتي العامي، وبين كون الدليل خفيًّا فيحتاج إلى إمعان النظر والاجتهاد لفهمه ومعرفته؛ فلا ينبغي أن يذكره للمستفتي العامي([74]).

قال العلامة ابن الصلاح: «‌ليس ‌بمنكر ‌أن ‌يذكر ‌المفتي ‌في ‌فتواه ‌الحجة إذا كانت نصًّا واضحًا مختصرًا مثل أن يسأل عن عدة الآية، فحسن أن يكتب في فتواه: قال الله تبارك وتعالى: {وَٱلَّٰٓـِٔي يَئِسۡنَ مِنَ ٱلۡمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمۡ إِنِ ٱرۡتَبۡتُمۡ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَٰثَةُ أَشۡهُرٖ}. أو يسأل: هل يطهر جلد الميتة “بالدباغ”؟ فيكتب: نعم يطهر، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((أيما إهاب دبغ فقد طهر)). وأما الأقيسة وشبهها فلا ينبغي له ذكر شيء منها([75]).

وقال العلامة النووي: «وقال السمعاني: لا يمنع من طلب الدليل، وأنه يلزم المفتي أن يذكر له الدليل إن كان مقطوعًا به، ولا يلزمه إن لم يكن مقطوعًا به؛ لافتقاره إلى اجتهاد يقصر فهم العامي عنه»([76]).

ويمكننا بعد عرض هذه الآراء أن نخلص إلى أنَّه: لا يجب على المفتي ابتداءً ذكر الدليل للمستفتي إن كان عاميًّا؛ إذ الأدلة تحتاج إلى نَظَر وطرق للاستنباط وقواعد يدركها المتخصصون، ويصعب على العامة استيعابها لعدم تخصصهم فيها، أما إذا لم يكن المستفتي عاميًّا، بل كان من جملة أهل العلم والمعرفة، فإنه يحتاج لذكر الدليل حتى يعرف وجه الصواب في المسألة، وتطمأن نفسه إلى الجواب؛ قال العلامة ابن الصلاح: «وذكر السمعاني: أنه لا يمنع من أن يطالب المفتي بالدليل لأجل احتياطه لنفسه، وأنه يلزمه أن يذكر له ‌الدليل إن كان مقطوعًا به، ولا يلزمه ذلك إن لم يكن مقطوعًا به لافتقاره إلى اجتهاد يقصر عنه العامي، والله أعلم بالصواب»([77]).

أما بالنسبة للصياغة الإفتائية المُؤصَّلة، فإنه يجب على المفتي أن يذكر الدليل في صياغتها؛ لأنَّه ركنٌ من أركانها، فلا يصح أن يصيغ الفتوى دون ذكر الدليل في أثنائها، لأن الفتوى المؤصلة بصفة خاصة يخاطب بها أهل العلم من الفقهاء والمفتين، حتى يقوموا بمناقشتها وفهمها والإفتاء بموجبها إذا رجحت لديهم؛ يقول العلامة النووي: «ليس بمنكر أن يذكر المفتي في فتواه الحجة إذا كانت نصًّا واضحًا مختصرًا، ‌قال ‌الصيمري: ‌لا ‌يذكر ‌الحجة ‌إن ‌أفتى ‌عاميًّا، ويذكرها إن أفتى فقيها»([78]).

ويقول ابن القيم -فيما ينبغي على المفتي-: «أن يذكر دليل الحكم، ومأخذه ما أمكنه من ذلك، ولا يلقيه إلى المستفتي ساذجًا مجردًا عن دليله ومأخذه، فهذا لضيق عطنه، وقلة بضاعته من العلم»([79])، فمما يكتمل به مقصود الفتوى هو صياغتها للمستفتي مدللة معللة مُبينًا فيها وجه الحكمة([80])؛ فجمال الفتوى وروحها هو الدليل، فكيف يكون ذكر كلام اللَّه ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وإجماع المسلمين وأقوال الصحابة رضوان اللَّه عليهم والقياس الصحيح عيبًا؟

وهل ذكر قول اللَّه ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم إلا طراز الفتاوى؟

وقول المفتي ليس بموجب للأخذ به، فإذا ذكر الدليل فقد حرم على المستفتي أَن يخالفه وبرئ هو من عهدة الفتوى بلا علم([81]).

فيجب على المفتي اتباع الحكم المفتى به بالدليل، وذلك بذكر حجته إذا كان نصًّا واضحًا مختصرًا، وخاصة إذا كان المستفتي فقيهًا عالمًا، لا عاميًّا، وبشكل أخص إذا كانت الفتوى عامة، وتعلق وتنشر على الناس([82]).

فذكر دليل الحكم هنا له جملة منافع، منها:

  • إيضاح أبعاد الفتوى؛ إذ إنَّ المبنى إذا عُرِف أساسه تحددت سعة البناء بذلك.
  • إمكان القياس عليها، إذا وقع له أو لغيره واقعة مشابهة لها([83]).
  • معرفة وقوف الأئمة المجتهدين على الأدلة والنصوص الشرعية، كالأحاديث النبوية التي تنبني عليها أقوالهم وأحكامهم، فيفتون بمقتضاها، وبعض هؤلاء الأئمة لا يبلغه هذه الأحاديث النبوية فيفتي حسب ما يوصله اجتهاده، وقد تكون الفتوى بخلاف مقتضى هذه الأحاديث التي لم تصل إليه([84])، يقول ابن تيمية -عن الجهل بالدليل-: «السبب الأول: أن لا يكون الحديث قد بلغه، ومن لم يبلغه الحديث لم يكلف أن يكون عالما بموجبه، وإذا لم يكن قد بلغه -وقد قال في تلك القضية بموجب ظاهر آية أو حديث آخر؛ أو بموجب قياس؛ أو موجب استصحاب- فقد يوافق ذلك الحديث تارة، ويخالفه أخرى. وهذا السبب: هو الغالب على أكثر ما يوجد من أقوال السلف مخالفًا لبعض الأحاديث، فإن الإحاطة بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن لِأحدٍ من الأمة»([85]).

أمثلة:

  • مثال لفتوى فيها الترتيب الخاطئ للاستدلال:

لو سُئِل أحد المفتين عن: ما حكم حجاب المرأة المسلمة؟

فأجاب كتابة: «حجاب المرأة المسلمة فرضٌ على كلِّ مَن بلغت سن التكليف، والدليل على ذلك: ما ورد عن عائشة رضي الله عنها، ((أن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقال: يا أسماء، إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا، وأشار إلى وجهه وكفيه))، فدل ذلك على فريضة الحجاب. وقال الله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّأَزۡوَٰجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ يُدۡنِينَ عَلَيۡهِنَّ مِن جَلَٰبِيبِهِنَّۚ ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَن يُعۡرَفۡنَ فَلَا يُؤۡذَيۡنَ} [الأحزاب: 59]. وقد أجمع الفقهاء على وجوب حجاب المرأة المسلمة، فقال الإمام أبو محمد بن حزم: «وَاتَّفَقُوا على أَن شَعرَ الحُرَّة وجسمها حاشا وَجههَا ويدها عَورَةٌ».

وبالنظر في هذا الاستدلال الوارد في الفتوى نجد الخطأ في ترتيب الاستدلال، إذ بدأ أَوَّلًا: بالسنة من حديث عائشة رضي الله عنها، ثم القرآن ثم الإجماع، والأصح أن يكون الترتيب هو الكتاب الكريم، والسنة النبوية، وإجماع الأمة وأقوالهم في المسألة، كما سيأتي في النموذج التالي.

  • مثال لفتوى فيها الترتيب الصحيح للاستدلال

لو سُئِل أحد المفتين: «حكم زواج المسلمة من غير المسلم».

فكان الجواب: «لا يجوز شرعًا للمرأة المسلمة أن تتزوج بغير المسلم مطلقًا؛ كتابيًّا كان -من أتباع الكتب السماوية- أم غير كتابيٍّ، وسواءٌ كان متديِّنًا بدينٍ أم غير متديِّنٍ أصلًا، وهذا حكم شرعي قطعي؛ ثابت بالكتاب الكريم، والسنة النبوية، وإجماع الأمة.

أما الكتاب:

فقول الله تعالى: {وَلَا تُنكِحُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤۡمِنُواْۚ وَلَعَبۡدٞ مُّؤۡمِنٌ خَيۡرٞ مِّن مُّشۡرِكٖ وَلَوۡ أَعۡجَبَكُمۡ} [البقرة: 221].

قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: «لا يُحِلُّ لِمَنْ لَزِمَهُ اسْمُ كُفْرٍ نِكَاحُ مُسْلِمَةٍ حُرَّةٍ ولا أَمَةٍ بحال أبدًا، ولا يختلف في هذا أَهْلُ الْكِتَابِ وغيرُهم من المشركين؛ لِأَنَّ الْآيَتَيْنِ عَامَّتَانِ»([86]).

أما السنة:

فقد وردت السنّة الفعلية بتفريق النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين كل مسلمة أسلمت مع بقاء زوجها على غير الإسلام، وإبائه الإسلام، فإن أبى فرّق بينهما، أما من أسلم منهم فقد أبقاه على النكاح؛ حتى فرَّق صلى الله عليه وآله وسلم بين ابنته السيدة زينب رضي الله عنها وبين زوجها أبي العاص بن الربيع، فلما أُسِرَ في يوم بدر أطلقه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أن يبعث ابنته السيدة زينب رضي الله عنها إليه، فلما أسلم أبو العاص بعد ذلك ردَّها النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليه.

وقال الزهري رضي الله عنه: «لم يبلغنا أن امرأة هاجرت إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وزوجها كافر مقيم بدار الكفر إلا فرقت هجرتها بينها وبين زوجها، إلا أن يقدم زوجها مهاجرًا قبل أن تنقضي عدتها» ([87]).

 

 

وأما الإجماع:

فقد نقله كَثيرٌ من أهلِ العلمِ سَلفًا وخَلفًا، من كل فقهاء المذاهب المتبوعة، وعدوه من قطعيات الدين:

قال الحافظ العيني: «(بابُ الأكْفاءِ فِي الدِّينِ) أي: هذا بابٌ في بيان أن الأكفاء التي بالإجماع هي أن يكون في الدين، فلا يحل للمسلمة أن تتزوج بالكافر»([88]).

وقال الإمام القرطبي: «وأجمعت الأمة على أن المشرك لا يطأ المؤمنة بوجه»([89]).

وقال الإمام أبو بكر بن المنذر: «أجمعوا على أن عقد الكافر على نكاح المسلمة باطل»([90]).

وقال الإمام ابن قدامة: «لا يجوز لكافر نكاح مسلمة، قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من أحفظ عنه من أهل العلم» ([91]).

وقال أيضًا: «الإجماعُ مُنعقدٌ على تحَريمِ فروج المسلمات على الكفار» ([92]).

ومن حكمة هذا التحريم: أن المرأة غالبًا ما تتبع زوجها، فكان النهي صيانة لها من التهديد المباشر لدينها، فإن زواج المسلمة من غير المسلم مدعاة لضياع أولادها وخروجها من دينها، والإسلام وإن تسامح فيما يساعد على المحبة وتجدد الروابط بين أفراد المجتمع الواحد محافظة على وحدة الصف، غير أن ذلك لا يجوز أن يكون على حساب التهديد في الدين وضياع الأبناء.

وعليه: فإنه يَحرمُ شرعًا على المرأة المسلمة الزواج من غير المسلم مطلقًا.

فنجد أنه تم ترتيب الاستدلال في الفتوى بذكر الدليل من القرآن الكريم أَوَّلًا، ثم السنة النبوية الشريفة، ثم أعقبه نقل الإجماع، ثم بيان حكمة المنع، وهذا هو الترتيب الصحيح في الاستدلال والتدليل.

 

 

 

المطلب الخامس

الاعتماد على المصادر الأصيلة للفتوى

لا بد للمفتي أن يعتمد في فتواه على المصادر الأصيلة التي تُؤخَذ منها الأحكام، وهذه المصادر قد اتفق العلماء حول بعضها، واختلفوا حول البعض الآخر. واعتماد المفتي على المصادر الأصيلة للفتوى لا بد فيه من مراعاة بعض الأمور، وهي على هذا النحو:

أولًا: لا بد أن يكون المفتي على دراية ومعرفة تامة بالمصادر الأساسية التي اعتمد عليها جمهور العلماء والفقهاء والأصوليين وهي: (القرآن الكريم، والسنة النبوية، والإجماع، والقياس)، فهذه المصادر تعد في الحقيقة الضابط لمسار الإفتاء واستنباط الأحكام الشرعية من خلالها؛ وذلك لاتفاق علماء الشريعة عليها، وأن أي مسألة تخرج عنها لا تعد في دائرة الاجتهاد والإفتاء.

يقول ابن القيم: «وقال الإمام أحمد لبعض أصحابه: إياك أن تتكلم في مَسألةٍ ليس لك فيها إمام. ‌والحق ‌التفصيل، ‌فإن ‌كان ‌في ‌المسألةِ ‌نَصٌّ من كتاب الله أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو أثر عن الصحابة لم يكره الكلام فيها، وإن لم يكن فيها نص ولا أثر فإن كانت بعيدة الوقوع أو مقدرة لا تقع لم يستحب له الكلام فيها، وإن كان وقوعها غير نادر ولا مستبعد، وغرض السائل الإحاطة بعلمها ليكون منها على بصيرة إذا وقعت استحب له الجواب بما يعلم، لا سيما إن كان السائل يتفقه بذلك ويعتبر بها نظائرها، ويقرع عليها، فحيث كانت مصلحة الجواب راجحة كان هو الأولى، والله أعلم»([93]).

ثانيًا: ينبغي على المفتي أن يعزو النقول الفقهية وغيرها من أقوال العلماء ونحوها إلى مصادرها الأصيلة من كتب الفقه والأصول وغيرها، وذلك وفق منهجية منضبطة، والتي تتمثل فيما يلي:

 

1- النقل من الكتب المعتمدة لدى أصحاب المذاهب الفقهية:

لا بد للمفتي أن يكون على دراية بالكتب المعتمدة لدى أصحاب المذاهب الفقهية، حتى يعزو إليها ما ينقله من آراء العلماء والفقهاء في عملية صياغة الفتوى، فينبغي أن يعلم أن تسلسل الكتب المعتمدة داخل كل مذهب، ولنضرب في هذا المقام بعض الأمثلة لأشهر الكتب المعتمدة داخل المذاهب الفقهية الأربعة، وذلك على النحو التالي:

أولًا: مذهب السادة الحنفية:

  1. كتاب “المبسوط”، للسرخسي.
  2. كتاب “بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع”، للكاساني.
  3. كتاب “البحر الرائق شرح كنز الدقائق”، لابن نجيم.
  4. كتاب “رد المحتار على الدر المختار”، لابن عابدين.

ثانيًا: مذهب السادة الشَّافعيَّة:

  1. كتاب “المهذب في فقه الإمام الشافعي”، للشيرازي.
  2. كتاب “نهاية المطلب في دراية المذهب”، للجويني.
  3. كتاب” المنهاج”، للنووي.
  4. كتاب “مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج”، للخطيب الشربيني.
  5. كتاب “نهاية المحتاج”، لشمس الدين الرملي.

ثالثًا: مذهب السادة المالكية:

  1. كتاب “مواهب الجليل في شرح مختصر خليل”، للحطاب.
  2. كتاب ” شرح مختصر خليل” للخرشي.
  3. كتاب “الشرح الصغير”، وكذا “الشرح الكبير” للدردير.
  4. كتاب: “التاج والإكليل” للمواق.
  5. كتاب: “منح الجليل” للشيخ عليش.

رابعًا: مذهب السادة الحنابلة:

  1. كتاب “المغني”، لابن قدامة.
  2. كتاب “الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف”، للمَرْداوي.
  3. كتاب “دقائق أولي النهى لشرح المنتهى”، للبهوتي.
  4. كتاب: “كشاف القناع” للبهوتي.

2- الإبقاء على المصطلحات الفقهية، وعدم تبديلها:

المصطلحات الفقهية الأصل فيها بقاؤها وعدم تبديلها في صياغة الفتوى؛ وذلك لأن العلماء والفقهاء على مدار العصور والأزمنة قد اتفقوا على معانيها ومدلولاتها، كمصطلح (البيع، والإجارة، والهبة، وغير ذلك)، فلا يسوغ أبدًا أن يتم استبدالها، فهذه المصطلحات قد رسخت وشاع استعمالها بين المشتغلين بالعلوم الشرعية.

أما ما يجد من اصطلاحات في استعمال عامة الناس للتعبير عن بعض مراداتهم، فالشأن في ذلك أن يحمل المفتي ألفاظهم على مقاصدهم، بقول ابن تيمية: «فكل ما عَدَّه ‌الناس ‌بيعًا وإجارةً فهو بيع وإجارة؛ وإن اختلف اصطلاح الناس في الألفاظ والأفعال انعقد العقد عند كل قوم بما يفهمونه بينهم من الصيغ والأفعال وليس لذلك حدٌّ مستمر؛ لا في شرع ولا في لغة. بل يتنوع بتنوع اصطلاح الناس كما تتنوع لغاتهم. فإن لفظ البيع والإجارة في لغة العرب ليس هو اللفظ الذي في لغة الفُرسِ أو الروم أو الترك أو البربر أو الحبشة؛ بل قد تختلف أنواع اللغة الواحدة ولا يجب على الناس التزام نوع معين من الاصطلاحات في المعاملات ولا يحرم عليهم التعاقد بغير ما يتعاقد به غيرهم؛ إذا كان ما تعاقدوا به دالا على مقصودهم وإن كان قد يستحب بعض الصفات وهذا هو الغالب على أصول مالك، وظاهر مذهب أحمد. ولهذا يصح في ظاهر مذهبه بيع المعاطاة مُطلقًا»([94]). ثم قال أيضًا: «وهذه القاعدة الجامعة التي ذكرناها من أن العقود تصح بكل ما دلَّ على مقصودها من قولٍ أو فعلٍ هي التي تدل عليها أصول الشريعة، وهي التي ‌تعرفها ‌القلوب»([95]).

فيعلم من ذلك أنَّه لا يصح للمفتي أن يغير من المصطلحات الفقهية؛ لما لها من هيبة وعظمة؛ لأنها تتضمن معانيَ شرعيةً، سواء جاءت النصوص الشرعية بهذه المصطلحات (كالصلاة، والبيع) أو اصطلح الفقهاء على اسم لها (الشراكة، والوكالة).

3: العناية بمعاني المصطلحات الفقهيَّة في صياغة الفتوى:

من الأمور التي نبَّه إليها العلماء الاهتمام بمعاني المصطلحات الفقهية، فيجب على المفتي أن يراعي ذلك في صياغة الفتوى؛ وذلك لأن المعاني هي المقصودة من تلك المصطلحات الفقهية، والألفاظ وسيلة لها، يقول الإمام الشاطبي: «الاعتناء بالمعاني المبثوثة في الخطاب هو المقصود الأعظم، بناء على أن العرب إنما كانت عنايتها بالمعاني، وإنما أصلحت الألفاظ من أجلها، وهذا الأصل معلوم عند أهل العربية، ‌فاللفظ ‌إنما هو وسيلة إلى تحصيل المعنى المراد، والمعنى هو المقصود»([96]).

فينبغي على المفتي أن يلتفت إلى معاني المصطلحات الفقهية، ويحكم على ما يعرض له من قضايا ومسائل بما يتفق مع معاني المصطلحات المستقرة عنده، لأن الناس قد يغيرون في أسماء الأشياء، ويصطلحون عليها أسماء أخرى لا تتضمن معانيها الحقيقية، فلا يحول ذلك بين المفتي وبين معرفة الأشياء على ما هي عليه، فيحكم عليها بما يناسبها، لذا قالوا: «الحكم على الشيء فرع عن تصوره»([97]).

  • أمثلة:

مثال لفتوى روعي فيه النقل عن المصادر الأصيلة للفتوى:

لو سئل أحد المفتين عن: «سقوط فدية الصيام عن المريض».

فأجاب:

«اختلف الفقهاء في لزوم الفدية على الشيخ الهرم والمرأة العجوز إذا لم يستطيعا الصوم؛ فذهب جمهورُ الفقهاء من الحَنفِيَّةِ والحَنَابلةِ وأحد القولين عند الشَّافِعيَّة إلى وجوب الفدية عليهما، وذهب المالكيَّة إلى استحبابها.

قال العلامة الكاساني في “بدائع الصنائع” (2/ 97، ط. دار الكتب العلمية): “وكذا كِبر السن حتى يُباحَ للشيخ الفاني أن يفطرَ في شهر رمضان؛ لأنه عاجز عن الصوم، وعليه الفدية عند عامة العلماء. وقال مالك: لا فدية عليه” اهـ.

قال العلامة ابن أبي العز الحنفي في “التنبيه” (2/ 932- 933، ط. مكتبة الرشد):

“لا خلاف في إباحة الإفطار للشيخ والعجوز العاجزين عن الصوم، ولكن اختلف أهل العلم في وجوب الفدية عليهما بالإطعام عن كل يوم مسكينًا، فرُوي عن علي وابن عباس رضي الله عنهما وغيرهما وجوب الفدية، وهو مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما، ومذهب مالك وغيره -وهو أحد قولي الشافعي- عدم وجود الفدية، واختاره ابن المنذر والطحاوي وغيرهما.

قال السروجي: ودليله قوي؛ فإن أصحابنا أوجبوا الفدية على الشيخ الهرم الذي لا يستطيع الصوم أصلًا، فمن لا يجب عليه الصوم أصلًا كيف يكون له بدل؟! وأقوى من هذا أن المسافر أُبيح له الفطر مع القدرة على الصوم للمشقَّة، فلو مات على حاله لا يجب عليه الفدية، والذي لا قدرة له على الصوم أصلًا أولى بعدم وجوب الفدية، فهذا واضحٌ كما ترى. انتهى” اهـ.

قال الإمام الشيرازي في “المهذب” (1/ 326، ط. دار الكتب العلمية): “ومن لا يقدر على الصوم بحال وهو الشيخ الكبير الذي يجهده الصوم والمريض الذي لا يرجى برؤه، فإنه لا يجب عليهما الصوم؛ لقوله عز وجل: {وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖ} [الحج: 78]، وفي الفدية قولان: أحدهما لا تجب؛ لأنه أسقط عنهما فرض الصوم فلم تجب عليهما الفدية كالصبي والمجنون، والثاني: يجب عن كل يوم مد طعام، وهو الصحيح؛ لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: “الشيخ الكبير يطعم عن كل يوم مسكينًا”، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: “من أدركه الكبر فلم يستطع صوم رمضان فعليه لكل يوم مد من قمح”، وقال ابن عمر رضي الله عنهما: “إذا ضعفت عن الصوم أطعم عن كل يوم مدًّا”، وروي: “أن أنسًا ضعف عن الصوم عامًا قبل وفاته، فأفطر وأطعم”” اهـ.

وقال الإمام أبو المعالي الجويني الشافعي في “نهاية المطلب” (4/ 61، ط. دار المنهاج): “وحكى العراقيون قولًا عن الشافعي أن الفدية ليست بواجبةٍ، ونسبوا القولَ إلى رواية البويطي وحرملة، ووجه هذا في القياس بَيِّن؛ فإن الهَرِم معذور، وقد قال الأئمة بأجمعهم: لو مرض الرجل مَرضًا يبيح له الفطر، ثم دام المرضُ حتى مات، لم تجب الفدية في تركته، ولا أعرف في ذلك خلافًا، فلا يبعد أن يعدَّ الهرَم عذرًا دائمًا” اهـ.

وقال الإمام الغزالي الشافعي في “الوسيط في المذهب” (2/ 552، ط. دار السلام): “أما الشيخ الهرم ففيه قولان: أحدهما: لا يلزمه الفدية كالمريض الدائم المرض إلى الموت. والثاني: يلزمه؛ لأنه ليس يتوقع زوال عذره بخلاف المريض فإنه عازم على القضاء” اهـ.

وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في “المغني” (3/ 151، ط. مكتبة القاهرة):

“(وإذا عجز عن الصَّوْمِ لِكِبَرٍ أَفْطَرَ، وَأَطْعَمَ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا) وجملة ذلك: أن الشيخ الكبير والعجوز إذا كان يُجْهِدُهُمَا الصَّوْمُ، ويشق عليهما مشقة شديدة، فلهما أن يفطرا ويطعما لكل يوم مسكينًا. وهذا قول علي وابن عباس وأبي هريرة وأنس رضي الله عنهم، وسعيد بن جبير، وطاوس، وأبي حنيفة، والثوري، والأوزاعي.

وقال مالك: لا يجب عليه شيء؛ لأنه ترك الصوم لعجزه، فلم تجب فدية، كما لو تركه لمرض اتصل به الموت. وللشافعي قولان كالمذهبين ولنا الآية، وقول ابن عباس رضي الله عنهما في تفسيرها: “نزلت رخصة للشيخ الكبير”، ولأن الأداء صوم واجب، فجاز أن يسقط إلى الكفارة كالقضاء” اهـ.

وذهب المالكيَّةُ إلى أن الشيخ الهرم الذي لا يقدر على الصيام يندب له إخراج الفدية ولا تجب عليه.

قال العلامة ابن أبي زيد القيراوني في “النوادر والزيادات” (2/ 33، ط. دار الغرب الإسلامي): “ومن “المَجْمُوعَة”، قال أشهب: والحامل، والمرضع، والشيخ الفاني، والمستعطش، كالمريض لا إطعام عليهم واجبًا” اهـ.

وقال الشيخ عليش في “منح الجليل” (2/ 120، ط. دار الفكر): “(و) ندب (فدية) أي: إعطاء مد عن كل يوم لمسكين (ل) شخص (هَرِم وعَطِش) بفتح فكسر فيهما: أي دائم الهرم والعطش الشديد الذي لا يستطيع الصيام معه في فصل من فصول السنة، فيسقط عنه أداء الصوم وقضاؤه، وتندب له الفدية” اهـ.

فإذا كان انتشار فيروس كورونا قد تسبَّب في تعذر الحالة المادية، وذلك بسبب تقليل وقت العمل، وفرض حظر جزئي على وقت فتح المحلات التجارية وعلى حركة الناس أيضًا، كإجراء وقائي للحدِّ من زيادة تفشي وانتشار الفيروس، مما كان له أثر واضح على أصحاب الأعمال ذات الأجر اليومي ممن يكتسبون قوت يومهم قدر عملهم في اليوم والليلة، وتعسر في ظل هذه الظروف أن يغطي المسلم حاجته اليومية من مأكل ومشرب وعلاج وغير ذلك، ويخرج مع كل هذا ما وجب عليه من فدية الصيام لكونه غير مطالب به لكبر سن أو مرض دائم، فإن جميع الأحكام الشرعية إنما أُنيطت بالاستطاعة، فمن عجز عنها لم يكن مكلفًا بها؛ قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَا} [البقرة: 286].

والقول بوجوب الفدية إنما هو في حالة تيسير إخراجها، فإذا لم يتيسر إخراجها لفقر أو إعسار سقطت عنه ولا تلزمه في الأولى وعليه أن يستغفرَ الله تعالى، وعلى ذلك نص الفقهاء.

قال العلامة الحصكفي الحنفي في “الدر المختار وحاشية ابن عابدين” (2/ 427، ط. دار الفكر): “(وللشيخ الفاني العاجز عن الصوم الفطر ويفدي) وجوبًا ولو في أول الشهر وَبِلَا تَعَدُّدِ فَقِيرٍ كالفطرة لو موسرًا، وإلَّا فيستغفر الله، هذا إذا كان الصوم أصلًا بنفسه وخوطب بأدائه” اهـ.

وقال العلامة الطحطاوي الحنفي في “حاشيته على مراقي الفلاح” (ص: 668، ط. دار الكتب العلمية): “فإن لم يقدر من تجوز له الفدية على الفدية لعسرته يستغفر الله سبحانه ويستقبله، أي يطلب منه العفو عن تقصيره في حقه” اهـ.

وقال العلامة الخطيب الشربيني في “مغني المحتاج” (2/ 174، ط. دار الكتب العلمية): “وقضية إطلاق المصنف أنه لا فرق في وجوب الفدية بين الغني والفقير، وفائدته استقرارها في ذمة الفقير وهو الأصح على ما يقتضيه كلام الروضة وأصلها، وجرى عليه ابن المقري، وقول “المجموع”: ينبغي أن يكون الأصح هنا عكسه كالفطرة؛ لأنه عاجز حال التكليف بالفدية وليس في مقابلة جناية ونحوها تبع فيه القاضي” اهـ.

وقال الإمام النووي في “روضة الطالبين” (2/ 248، ط. دار الكتب العلمية): “وإذا أوجبنا الفدية على الشيخ، فكان معسرًا، هل تلزمه إذا قدر؟ قولان كالكفارة. ولو كان رقيقًا فعتق، ففيه خلاف مرتب على المعسر، والأولى: بأن لا تجب، لأنه لم يكن أهلًا” اهـ.

وقال العلامة الإسنوي في “المهمات” (4/ 135، مركز التراث الثقافي المغربي): “وإذا أوجبنا الفدية على الشيخ، فلو كان معسرًا هل تلزمه إذا قدر؟ فيه قولان.. وينبغي أن يكون الأصح هنا: أنها تسقط ولا تلزمه إذا أيسر كالفطرة؛ لأنه عجز حال التكليف بالفدية، وليست في مقابلة حياته ونحوها” اهـ.

وقال العلامة ابن قدامة في “المغني” (3/ 38، ط. إحياء التراث): “والشيخ الهرم له ذمة صحيحة، فإن كان عاجزًا عن الإطعام أيضًا فلا شيء عليه، و{لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَا} [البقرة: 286]” اهـ.

قال العلامة ابن بهاء البغدادي الحنبلي في “فتح الملك العزيز” (3/ 346): “فإن كان عاجزًا عن الإطعام فلا شيء عليه، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، والمريض الذي لا يرجى برؤه حكمه حكم الشيخ فيما ذكرنا” اهـ.

وبناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فإذا كان المسلم كبيرًا في السن بحيث لا يَقْوَى على الصيام، أو تلحقه به مشقة شديدة أو تضرر وقد نصحه الطبيب بعدم الصوم، وكان مع ذلك متعذرًا ماديًّا بسبب ما تمر به البلاد من انتشار فيروس كورونا وتعطل حركة العمل، وبالأخص فيما يخص من يكتسبون أجرهم باليوم والليلة، فكان إخراج الفدية مما يتعسر عليه، أو عبئًا زائدًا على حاجته الأساسية، فإنها تسقط في حقه حينئذٍ ولا يلزمه إخراجها؛ لأنها إنما وجبت على القادر المتيسر لا على العاجز المتعسر». انتهت الفتوى.

فهذه الفتوى روعي النقل عن المصادر الأصيلة للفتوى، والعزو الفقهي بذكر النقول الفقهية لأصحاب كل رأي للفقهاء.

 

  • مثال للتوظيف الخاطئ للمصطلح في الفتوى:

لو سُئِل أحد المفتين عن: «حكم تارك الصلاة».

فأجاب كتابة: «الصلاة ركنٌ من أركانِ الإسلامِ الخمسة، ولا يجوز شرعًا تركها، والتهاون في أدائها، ومن ترك أداء الصلاة فهو كافر».

وكان الأولى أن تأتي الفتوى مُفَرِّقة بين أمرين: تارك الصلاة عن جحودٍ ونكران لها، وتاركها تكاسلًا عنها، فتارك الصلاة إن كان منكرًا لوجوبها فهو كافرٌ بإجماع المسلمين خارج من ملة الإسلام؛ لأنها من المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة، إلَّا أن يكون قريب عهد بالإسلام ولم يخالط المسلمين مدة يبلغه فيها وجوب الصلاة عليه.

أما إن ترك الصلاة تكاسلًا مع اعتقاده وجوبها -كما هو حال كثير من الناس- فإنه لا يكفر، بل يفسق ويستتاب من قِبل القضاء، وإلى هذا ذهب مالك والشافعي، قال تعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغۡفِرُ أَن يُشۡرَكَ بِهِۦ وَيَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48]، فالآية تثبت أن الذنب الوحيد الذي قطع الله عز وجل بعدم غفرانه هو الشرك بالله، أما ما دون ذلك فقد يغفره الله، وترك الصلاة تكاسلًا دون جحود ذنب دون الشرك بالله.

  • مثال للتوظيف الصحيح للمصطلح في الفتوى:

لو سُئِل عن «حكم فوائد البنوك».

فجاء الجواب: «فوائدُ البنوكِ من الأمُورِ المُختلفِ في تصويرها وتكييفها بين العلماء المُعاصِرِين، والذي استقرت عليه الفتوى أن الإيداع في البنوك ودفاتر التوفير ونحوها هو من باب عقود التمويل المستحدثة لا القروض التي تجر النفع المحرم، ولا علاقة لها بالربا، والذي عليه التحقيق والعمل جواز استحداث عقود جديدة إذا خلت من الغرر والضرر، وهذا ما جرى عليه قانون البنوك المصري رقم 88 لسنة 2003م، ولائحته التنفيذية الصادرة عام 2004م، وحكم الحاكم يرفع الخلاف، فليست الأرباح حرامًا؛ لأنها ليست فوائد قروض، وإنما هي عبارة عن أرباح تمويلية ناتجة عن عقود تحقق مصالح أطرافها، ولذلك يجوز أخذها شرعًا».

فنجد أن الفتوى جاءت بمصطلحات منضبطة المعنى واضحة المفهوم، قليلة الألفاظ كثيرة المعاني والأحكام، أدت إلى بيان الحكم الشرعي للمستفتي على نحو من اليسير والسهولة.

 

 

 

 

المطلب السادس

المشاورة عند الإشكال

ينبغي على المفتي أن يشاور أهل العلم فيما يشكل عليه من المسائل التي تعرض له، فالمشاورة من الأمور التي حث عليها الشرع الشريف، وأكد عليها خاصة في الأمور المشكلة التي تحتاج إلى إمعان نظر، وأخذ الرأي من أصحاب العلم والحكمة والمعرفة، يقول تعالى: {فَبِمَا رَحۡمَةٖ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمۡۖ وَلَوۡ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلۡقَلۡبِ لَٱنفَضُّواْ مِنۡ حَوۡلِكَۖ فَٱعۡفُ عَنۡهُمۡ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لَهُمۡ وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِۖ فَإِذَا عَزَمۡتَ فَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159]، وقال تعالى: {وَٱلَّذِينَ ٱسۡتَجَابُواْ لِرَبِّهِمۡ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَمۡرُهُمۡ شُورَىٰ بَيۡنَهُمۡ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ}  [الشورى:  38]، قال الجصاص: «هذا يدل على جلالة موقع المشورة لذكره لها مع الإيمان وإقامة الصلاة ويدل على أنا مأمورون بها»([98]).

ولا شك أن أمر الإفتاء من أعظم الأمور التي تحتاج إلى تلك المشاورة، لأن مقام الإفتاء هو بمنزلة التبليغ عن رب العالمين؛ لذلك يقول العلامة ابن الصلاح: «يستحب له أن يقرأ ما في الرقعة على من بحضرته ممن هو أهل لذلك، ويشاورهم في الجواب ويباحثهم فيه وإن كانوا دونه وتلامذته، لما في ذلك من البركة والاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالسلف الصالح رضي الله عنهم، اللهم إلا أن يكون في الرقعة ما لا يحسن إبداؤه، أو ما لعل السائل يؤثر ستره، أو في إشاعته مفسدة لبعض الناس، فينفرد هو بقراءتها وجوابها»([99]).

وقد كانت المشاورة عند الإشكال في أمور الدين ومعرفة الأحكام الشرعية للمسائل المشكلة هي منهج السلف الصالح من الصحابة رضي الله عنهم، والعلماء من بعدهم فالمشاورة هي طريقهم لمعرفة الصواب والحق، لأن أمر الإفتاء عظيم وخطير، يقول الإمام النووي -في شأن القاضي والمفتي-: «والمستحب أن يحضر مجلسه الفقهاء ليشاورهم فيما يشكل لقوله تعالى: { وَشَاوِرۡهُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِ} [آل عمران: 159]، قال الحسن: إن كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن مشاورتهم لغنيًّا، ولكن أراد الله تعالى أن يَسْتَسنَّ بذلك الحكَّام، ولأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شاور في أسارى بدر، فأشار أبو بكر بالفداء وأشار عمر رضي الله عنه بالقتل. وروى عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أن أبا بكر رضي الله عنه كان إذا نزل به أمر يريد فيه ‌مشاورة أهل الرأي والفقه دعا رجالا من المهاجرين ورجالا من الأنصار، ودعا عمر وعثمان وعليا وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل وأُبي بن كعب وزيد بن ثابت رضي الله عنهم، فمضى أبو بكر على ذلك، ثم ولي عمر رضي الله عنه وكان يدعو هؤلاء النفر فإن اتفق أمر مشكل شاورهم فيه، فإن اتضح له الحق حكم به، فإن لم يتضح أخره إلى أن يتضح، ولا يقلد غيره لأنه مجتهد فلا يقلد»([100]).

وقد نصَّ الفقهاءُ على أنه ينبغي على الفقيه والقاضي والمفتي المشاورة عند الإشكال، يقول العلامة السرخسي: «ومشاورة أولي الرأي، وفيه دليل على أن القاضي وإن كان عالما فينبغي له ‌أن ‌لا ‌يدع ‌مشاورة العلماء، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر الناس مشاورة لأصحابه رضي الله عنهم يستشيرهم حتى في قوت أهله وإدامهم، قال صلى الله عليه وسلم: “المشورة تلقح العقول”. وقال صلى الله عليه وسلم: “ما هلك قوم عن مشورة قط”، وكان عمر رضي الله عنه يستشير الصحابة رضوان الله عليهم مع فقهه حتى كان إذا رفعت إليه حادثة قال: ادعوا إلي عليًّا وادعوا إلي زيد بن ثابت وأُبي كعب رضي الله عنهم فكان يستشيرهم، ثم يفصل بما اتفقوا عليه فعرفنا أنه لا ينبغي للقاضي أن لا يدع المشاورة وإن كان فقيهًا»([101]).

ومما عُرِف من الصحابة في صورة المشاورة في الفتوى: أَنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه كانت تنزل به المسألة فيستشير لها مَن حضر من الصحابة، وربما جمعهم وشاورهم، حتى كان يشاور ابن عباس رضي الله عنهما، وهو إذ ذاك أحدث القوم سِنًّا، وكان يشاور عليًّا كرم الله وجهه وعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين([102]).

والمشاورة واستشارة أهل العلم فيما عرض على المفتي مقيدة بما ذكره ابن القيم، بقوله: «هذا ما لم يعارض ذلك -أي: المشاورة- مفسدة من إفشاء سر السائل أو تعريضه للأذى، أو مفسدة لبعض الحاضرين، فلا ينبغي له أن يرتكب ذلك، وكذلك الحكم في عابر الرؤيا، فالمفتي والمُعبِّر والطبيب يطلعون من أسرار الناس وعوراتهم على ما لا يطلع عليه غيرهم؛ فعليهم استعمال الستر فيما لا يحسن إظهاره»([103]).

ويمكن للمفتي لتفادي هذا «أَن يستعيرَ أسماء غير أسماء الأشخاص الذين استفتوه عند المشاورة، أو أي أسلوب آخر يدعو إلى الستر، وعدم الكشف عن أحوال الناس، كالتعريض ونحوه»([104]).

أيضًا ومن أساليب الممارسة للفتوى هو كثرة «المباحثة والمحاورة» مع أهل الاختصاص بها، و«البحث والتأليف» في علم الفتوى وما يتعلق به، من كتابة الكتب وإجراء الأبحاث والدراسات.

على أنَّه لكثرة الممارسة للفتوى نتائج وأهداف متعددة أهمهما:

  • حصول الملكة الإفتائية للمفتي ورسوخها في نفسه:

إذ «كلما زادت ممارسته لهذا العمل العظيم كلما ظهر إتقانه وتميزه في دقة الوصول إلى الحكم الشرعي المناسب»([105])، وكان رأي الفقيه الممارس للفتوى مزية وأفضلية على رأي الفقيه غير الممارس لها، فالحَنفِيَّةُ يقدمون في مذهبهم قول أبي يوسف على قول أبي حنيفة؛ لأن أبا يوسف كان قاضيًا، فخبرته بالفتوى والقضاء وأحكامه خبرة عملية واقعية([106])، وبكثرة الخبرة والممارسة للفتوى يقدم بعض المفتين علي بعض، حيث يبدأ المستفتي بالأكثر ممارسة ودربة منهم. يقول الخطيب البغدادي: «وإن ذكر له اثنان أو أكثر بدأ بالأسن والأكثر منهم رياضة ودربة»([107]).

  • تمكن المفتي من معرفة الواقع لإدراك وتنزيل الأحكام الشرعية المناسبة عليه:

إذا لا يتم علم المفتي بواقع الحياة وطبيعتها إلا بقدر من مخالطة الناس ومعايشتهم، وبذلك يتمكن من إدراك حاجاتهم وفهم مقاصدهم ومعرفة واقعهم، ومعرفة طرق التأثير والتغيير في حياتهم العامة والخاصة، وبهذا التطبيق تكون الخبرة والممارسة الحقيقية للفتوى، فيدرك مشكلات التطبيق ويمارس حلها ويختار آراءه علي ميدان الواقع([108]).

فهذا أبو حنيفة كان يقول: «الصدقة أفضل من حج التطوع»، فلما حج وعرف مشاقه رجع، وقال: «الحج أفضل» ([109]).

فمباشرة حياة الناس اليومية، والدخول في مواقع التأثير لديهم، بملابسة ما يزاولونه من مُعاملاتٍ وَتَصرفاتٍ يومية، ومعايشة أحوالهم وسؤالهم عنها، أمر لا غنى عنه للمفتي؛ فهذا محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله تعالى كان يذهب إلى الصباغين فيسألهم عن معاملاتهم وكيف يديرونها بينهم([110]).

 

 

  • الخبرة العلمية في الحكم على الروايات والأقوال بالقوة والضعف:

قد يكون لكثرة الممارسة والخبرة العلمية للمفتي أثر في النظر إلى بعض روايات الأحاديث والحكم عليها بالقوة والضعف([111])، وكذا أقوال الفقهاء؛ يقول ابن القيم في سياق تقويته لرواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «ولا يعرف في أئمة الفتوى إلا من احتاج إليها واحتج بها، وإنما طعن فيها من لم يتحمل أعباء الفقه والفتوى كأبي حاتم البستي وابن حزم وغيرهما» ([112]).

وكذا تكون للممارسة والخبرة العلمية للمفتي أثر في النظر إلى أقوال بعض الفقهاء ومدى نسبتها إلى أصحابها، ومعرفة مواقع الإسقاط منها وما شابه ذلك، يقول ابن الصلاح عند حديثه عن ما ينبغي للمفتي أن يعتمد عليه في فتواه: «لا يجوز لمن كانت فتياه نقلًا لمذهب إمامه إذا اعتمد في نقله على الكتب أن يعتمد إلا على كتاب موثوق بصحته، وجاز ذلك كما جاز اعتماد الراوي على كتابه واعتماد المستفتي على ما يكتبه المفتي ويحصل له الثقة بما يجده من نسخة غير موثوق بصحتها، بأن يجده في نسخ عدة من أمثالها وقد يحصل له الثقة بما يجده في الثقة، بما يجده في النسخة غير الموثوق بها، بأن يراه كلامًا مُنتظمًا، وهو خَبيرٌ فَطِنٌ لا يخفى عليه في الغالب مواقع الإسقاط والتغيير وإذا لم يجده إلا في موضع لم يثق بصحته، نظر فإن وجده موافقًا لأصول المذهب وهو أهل التخريج مثله على المذهب لو لم يجده منقولا فله أن يفتي به»([113]).

  • القدرة على الجواب عن الفتوى بطريقة علمية محكمة واضحة الأسلوب والمعنى:

إذ بكثرة الممارسة للفتوى يتمكن المفتي من الجواب عن السؤال بِطريقةٍ عِلميَّةٍ وَلُغةٍ سَليمةٍ، وأسلوبٍ واضحٍ صحيحٍ، فسلامة الأسلوب ووضوح العبارة وعدم غموضها هو مما يكسب ويعطي الفتوى رونقًا وأهمية كبيرة، وخاصة في الفتوى الكِتابيَّة؛ حيث إن كثرة الممارسة تؤهل المفتي للمزيد من الخِبرةِ والحِنكةِ بخبايا وفنون كتابة وصياغة الفتوى، وتجعل من تلك الفتاوى مَرجعًا وَمَصدرًا للمفتي نفسه أولًا ثم للمستفتي ثم لكل من يريد معرفة الحكم الشرعي لمثل تلك الفتاوى.

 

 

المطلب السابع

التَّوقُّف والامتناع عن الفتوى عند خَفاء المسألة

قد يعرض للمفتي عوارض تجعله يتوقف عن الفتوى، فلا يبدي فيها رأيًا، إما لعدم معرفته بالنص أو الدليل، أو لاعتقاده بضعفه أو عدم حجيته، أو لاشتباهه عليه، أو لتعارض الأدلة في ذهنه بغير مرجِّح، وإما لعدم وضوح الواقع بتفاصيله المعقدة أحيانًا، أو أن يَكونَ الفرع الفقهي المستفتى عنه مُترددًا بين أبواب متعددة من أبواب الفقه، فلا يستطيع المفتي أن يعزوه بسهولة إلى أحد هذه الأبواب تحديدًا؛ وهو ما يعرف بمرحلة التكييف، وقد تتضح علاقة الفرع ولكنها تكون مترددة بين بابين أو أكثر من الأبواب الفقهية، فيحتاج المفتي إلى المزيد من البحث لترجيح اتصال المسألة المبحوثة بأحد هذين البابين، وأثناء هذا البحث يتوقف المفتي للوصول إلى التكييف الصحيح.

وقد يكون الفرع المبحوث من الفروع الجديدة التي هي من مستجدات العصر فلا يمكن عزوها إلى أبواب الفقه الموروث، وهنا يحتاج الفقيه أن يجتهد في هذه المسألة اجتهادًا جديدًا مستقلا؛ مما يحوجه التوقف للقيام بالمزيد من البحث والتأمل.

فينبغي على المفتي التوقف والامتناع عن الفتوى في نحو هذه المسائل التي يخفى عليه وجه الصواب فيها.

يقول ابن القيم: «وقال الإمام أحمد لبعض أصحابه: “إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام”. ‌والحق ‌التفصيل، ‌فإن ‌كان ‌في ‌المسألة ‌نصٌّ من كتاب الله أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو أثر عن الصحابة لم يكره الكلام فيها، وإن لم يكن فيها نصٌّ ولا أثرٌ فإن كانت بعيدة الوقوع أو مقدرة لا تقع لم يستحب له الكلام فيها، وإن كان وقوعها غير نادر ولا مستبعد، وغرض السائل الإحاطة بعلمها ليكون منها على بصيرة إذا وقعت استحب له الجواب بما يعلم، لا سيما إن كان السائل يتفقه بذلك ويعتبر بها نظائرها، ويفرع عليها، فحيث كانت مصلحة الجواب راجحة كان هو الأولى، والله أعلم»([114]).

والتوقف ليس معناه أن يمتنع المفتي عن الاجتهاد والنظر في الأدلة وأقوال العلماء وبذل الوسع في الوصول إلى الحق، بل الواجب عليه أن يعيد النظر مِرارًا وَتكرارًا، وأن لا يتسرع في الحكم على المسألة، فالمراد من التوقف: هو عدم إبداء قول في المسألة الاجتهادية؛ لعدم ظهور وجه الصواب فيها للمجتهد([115]).

يقول العلامة ابن عابدين: «وفي الحقائق: أنه تنبيه لكل مُفتٍ أن لا يستنكف من ‌التوقف فيما لا وقوف له عليه إذ المجازفة افتراء على الله تعالى بتحريم الحلال وضده»([116]).

ويشير ابن عابدين أيضًا إلى وجوب توقف المفتي فيما أشكل من المسائل حتى يظهر له وجه الصواب فيها، فيقول: «(قوله: فَلْيُتَأَمَّلْ عِنْدَ الفَتْوَى) إشارة إلى إشكاله، فلا ينبغي الإقدام على الإفتاء به قبل ظهور وجهه. (قوله: كَيْفَ وَفِي الأَشْبَاهِ… إلخ) استبعاد لما في السراج وَبَيَانٌ لِوَجْهِ التَّوَقُّفِ عند الفتوى فإنه مخالف للقاعدة المذكورة»([117]).

والتَّوقفُ كما يكون في المسائل الصعبة يكون أيضًا في المسائل التي تبدو في نظر المفتي سهلة، حتى يتأكد من وجه الصواب فيها، فقد ذكر الفقهاء في آداب الفتوى أنه ينبغي للمفتي أن يتأمل في المسألة تأملًا شافيًا، وإذا لم يعرف حكمها يتوقف حتى يتبين له الصواب، ويكون توقفه في المسألة السهلة التي لا يعلم حكمها كالصعبة ليعتاد ذلك([118]).

يقول العلامة الحطَّاب المالكي: «قال ابن فرحون في تبصرته: ولا ‌يجوز التَّسَاهُلُ ‌في ‌الفتوى، ومن عرف بذلك لَمْ يَجُزْ أن يُسْتَفْتَى، وربما يكون التَّسَاهُلُ بِإِسْرَاعِهِ وَعَدَمِ تَثَبُّتِهِ، وقد يحمله على ذلك تَوَهُّمُهُ أَنَّ السُّرعَةَ بَرَاعَةٌ وَالبُطْءَ عَجْزٌ، ولأن يُبْطِئَ وَلَا يُخْطِئَ، أجمل به من أن يَضِلَّ وَيُضِلَّ، وقد يكون تساهله بأن تَحْمِلَهُ الأَغْرَاضُ الفَاسِدَةُ على تَتَبُّعِ الْحِيَلِ الْمَحْذُورَةِ تَرْخِيصًا على من يريد نَفْعَهُ، وَتَغْلِيظًا عَلَى مَنْ يُرِيدُ ضَرَرَهُ»([119]).

ولا بد من التنبيه: إلى أن هناك حالات تجعل المفتي يتوقف عن الفتوى، لكنها ليست راجعة لكونه غير عالم بوجه الصواب فيها، بل لأسباب أخرى تدور حول عدم فائدة الجواب، بناء على كون المستفتي متلاعبًا بسؤاله، وقد ذكر هذه الأسباب العلامة الشاطبي([120])، وهي على النحو التالي:

الأول: السؤال عما لا ينفع في الدين؛ كمَن سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما بال الهلال يبدو رقيقًا كالخيط، ثم لا يزال ينمو حتى يصير بدرا، ثم ينقص إلى أن يصير كما كان؟ فأنزل الله: {۞يَسۡ‍َٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَهِلَّةِ} [البقرة: 189]  الآية إلى قوله: {وَلَيۡسَ ٱلۡبِرُّ بِأَن تَأۡتُواْ ٱلۡبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا} [البقرة: 189]؛ فإنما أجيب بما فيه من منافع الدين».

الثاني: أن يسأل بعد ما بلغ من العلم حاجته، كما سأل الرجل عن الحج: أكل عام؟

الثالث: السؤال من غير احتياج إليه في الوقت، وكأن هذا والله أعلم خاص بما لم ينزل فيه حكم، وعليه يدل قوله: ((ذروني ما تركتكم))، وقوله: ((وسكت عن أشياء رحمة لكم لا عن نسيان؛ فلا تبحثوا عنها)).

والرابع: أن يسأل عن صعاب المسائل وشرارها؛ كما جاء في النهي عن الأغلوطات.

الخامس: أن يسأل عن علة الحكم، وهو من قبيل التعبدات التي لا يعقل لها معنى، أو السائل ممن لا يليق به ذلك السؤال كما في حديث قضاء الصوم دون الصلاة.

السادس: أن يبلغ بالسؤال إلى حد التكلف والتعمق، وعلى ذلك يدل قوله تعالى:
{قُلۡ مَآ أَسۡ‍َٔلُكُمۡ عَلَيۡهِ مِنۡ أَجۡرٖ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86]، ولما سأل الرجل:
يا صاحب الحوض! هل ترد حوضك السباع؟ قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
«يا صاحب الحوض! لا تخبرنا؛ فإنا نرد على السباع وترد علينا».

السابع: أن يظهر من السؤال معارضة الكتاب والسنة بالرأي، قيل لمالك بن أنس: الرجل يكون عالما بالسنة؛ أيجادل عنها؟ قال: «لا، ولكن يخبر بالسنة، فإن قبلت منه وإلا سكت».

الثامن: السؤال عن المتشابهات، وعلى ذلك يدل قوله تعالى: {فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمۡ زَيۡغٞ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ} [آل عمران: 7]، فعن عمر بن عبد العزيز: «من جعل دينه غرضًا للخصومات؛ أسرع التنقل». ومن ذلك سؤال من سأل مالكًا عن الاستواء، فقال: «الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، والسؤال عنه بدعة».

التاسع: السؤال عما شجر بين السلف الصالح، وقد سئل عمر بن عبد العزيز عن قتال أهل صفين؛ فقال: «تلك دماء كف الله عنها يدي؛ فلا أحب أن يلطخ بها لساني».

والعاشر: سؤال التعنت والإفحام وطلب الغلبة في الخصام، وفي القرآن في ذم نحو هذا: {وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعۡجِبُكَ قَوۡلُهُۥ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَيُشۡهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلۡبِهِۦ وَهُوَ أَلَدُّ ٱلۡخِصَامِ} [البقرة: 204]. وقال تعالى: {بَلۡ هُمۡ قَوۡمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58]. وفي الحديث: ((أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم)).

ثم قال الشاطبي: «هذه جملةٌ من المواضعِ التي يكره السؤال فيها، يقاس عليها ما سواها، وليس النهي فيها واحدًا، بل فيها ما تشتد كراهيته، ومنها ما يخف، ومنها ما يحرم، ومنها ما يكون محل اجتهاد، وعلى جملة منها يقع النهي عن الجدال في الدين؛ كما جاء «إن المراء في القرآن كفر».

وقال تعالى: {وَإِذَا رَأَيۡتَ ٱلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِيٓ ءَايَٰتِنَا فَأَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيۡرِهِۦ} [الأنعام: 68]، وأشباه ذلك من الآي أَوِ الأَحَادِيثِ؛ فَالسُّؤَالُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، والجواب بحسبه»([121]).

والذي يجدر الإشارة إليه أن التوقف عن الفتوى فيما أشكل من المسائل هو منهج السلف الصالح والعلماء على مدار العصور والأزمان، وهذه بعض نماذج نذكرها؛ ليقتضي بها من يتصدر للإفتاء إذا وردت عليه بعض من تلك المسائل التي تحتاج إلى توقف، ومن تلك النماذج ما يلي:

  1. قال العلامة ابن عبد البر: «لم يختلف العلماء بالمدينة وغيرها فيما علمت أنه لا ينبغي أن يتولى القضاء إلا الموثوق به في دينه وصلاحه وفهمه وعلمه، وشرطوا أن يكون عالمًا بالسنة والآثار وأحكام القرآن ووجوه الفقه واختلاف العلماء، وقد قال مالك رحمه الله: حتى يكون عالمًا بما مضى من اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأئمة التابعين بالمدينة، وقال عبد الملك بن عبد العزيز بن أبي سلمة وغيره: لا يكون صاحب رأي ليس له علم بالسنة والآثار، ولا صاحب حديث ليس له علم بالفقه، قال: ‌ولا ‌ينبغي ‌أن ‌يفتي ‌وينصب ‌نفسه ‌للفتوى إلا من كان هكذا»([122]). وقال أيضًا: «‌وعليه ‌التثبت ‌في ‌أحكامه وترك العجلة في إنفاذ قضائه إذا أشكل عليه شيء أو استرابه»([123]).
  2. قال الخطيب البغدادي: «باب الزَّجْرِ عَنِ التَّسَرُّعِ إِلَى الْفَتْوَى مخافة الزلل قال الله تبارك وتعالى: {سَتُكۡتَبُ شَهَٰدَتُهُمۡ وَيُسۡ‍َٔلُونَ} [الزخرف: 19] وقال تعالى: {لِّيَسۡ‍َٔلَ ٱلصَّٰدِقِينَ عَن صِدۡقِهِمۡ} [الأحزاب: 8]، وقال تعالى: {مَّا يَلۡفِظُ مِن قَوۡلٍ إِلَّا لَدَيۡهِ رَقِيبٌ عَتِيدٞ} [ق: 18]، وكانت الصحابة رضوان الله عليهم، لا تكاد تفتي إلا فيما نزل ثقة منهم بأن الله تعالى يُوَفِّقُ عِنْدَ نُزُولِ الْحَادِثَةِ لِلْجَوَابِ عنها، وكان كل واحد منهم يود أن صاحبه كفاه الفتوى… وعن البراء، قال: «لقد رأيت ثلاثمائة من أهل بدر ما منهم من أحد إلا وهو يحب أن يكفيه صاحبه الفتوى»([124]).
  3. ويروي الخطيب البغدادي عن ابن عيينة قوله: «أعلم الناس بالفتوى أسكتهم فيه، وأجهل الناس بالفتوى أنطقهم فيه»، قلت: وقل من حرص على الفتوى، وسابق إليها، وثابر عليها إلا قل توفيقه، واضطرب في أمره، وإذا كان كارها لذلك غير مختار له، ما وجد مندوحة عنه، وقدر أن يحيل بالأمر فيه على غيره، كانت المعونة له من الله أكثر، والصلاح في فتواه وجوابه أغلب»([125]).
  4. روى الإمام النووي عن السلف الخلف التوقف عن الفتيا في كثيرٍ من المسائل كما نقل عن الأئمةِ الأَربعةِ ومن بعدهم من الفقهاء أنهم توقفوا عن الإجابة في مسائل كثيرة([126]). قال العلامة ابن عابدين: «وفي ذلك تنبيه لكل مفتٍ أن لا يستنكف من التوقف فيما لا وقوف له عليه، إذ المجازفة افتراء على الله تعالى بتحريم الحلال وضده»([127]).

 

 

 

 

المطلب الثامن

وضوح الفتوى والبعد عن الألفاظ المبهمة متعددة الاحتمالات

من الآداب العلمية التي ينبغي أن يلتزم بها المفتي وضوح الأسلوب في الفتوى وسلامته من الألفاظ المبهمة متعددة الاحتمالات والمُلْغِزة([128])، فالفتوى صنعة، وصناعة الإفتاء من العلوم المعقدة التي تحتاج إلى حِرفيَّةٍ وَمَهارةٍ خاصة للقيام بها وإصدارها في صورة صحيحة، وتعدُّ عملية صياغة الفتوى من أعقد العناصر في هذه الصناعة، وهي آخر مراحلها؛ حيث تمر الفَتوى في ذهنِ المفتي الفقيه قبلَ أن تصدر منه بأربعِ مراحِلَ أساسية، وهي: مرحلة التصوير، ومرحلة التَّكييف، ومرحلة بيان الحكم، ثم مرحلة الإفتاء- ثم تخرج بعدها في صورتها التي يراها أو يسمعها المستفتي.

ولذا نجد الكثير من العلماء حينما تحدثوا عن آداب المفتي نصوا على أن من تلك الآداب التي ينبغي مراعاتها: أن يقوم المفتي بصياغة الفتوى صياغة صحيحة بأسلوبٍ واضحٍ حسنٍ([129]) ودقيقٍ، بحيث تخلو من الألفاظ الملغزة المبهمة متعددة الاحتمالات، والتي تجعل المستفتي في حيرة من أمره([130]).

يقول ابن الصلاح -في كيفية الفتوى وآدابها-: «وتكون عبارته-أي: المفتي- واضحة صحيحة بحيث يفهمها العامة، ولا تزدريها الخاصة»([131]).

وقال ابن حمدان: «ينبغي أن يكتب الجواب: بخط واضح وسط، ولفظ واضح حسن، تفهمه العامة، ولا تستقبحه  الخاصة»([132]).

فتكون الفتوى «بينة، موضحة للإشكال، مفصلة حين يكون التفصيل أمرًا لازمًا، ومجملة حين يجب الإجمال؛ بخط واضح، وعبارة لا توهم»([133]) وليحذر في صيغتها من الألفاظ التي يمكن تحريفها أو تصحيفها، فيتخير منها ما يكون بعيدًا عن ذلك([134]).

قال العَلْموي: «تكون عبارته واضحة يفهمها العامة، ولا يزدريها الخاصة، وليحترز عن القلاقة والاستهجان، وإعراب غريب أو ضعيف، وذكر غريب لغة، ونحو ذلك»([135]).

فإذا كان البيان مطلوبًا في الفتوى، فإنه مطلوب أيضًا فيما تعلق بالعبارة والألفاظ الموصلة إليها ([136]). فتكون واضحة لا غموض ولا إجمال ولا إبهام فيها.

فينبغي في صياغة الفتوى أن تكون ألفاظها محررة؛ وذلك حتى لا يفهم منها المستفتي وجهًا باطلًا، وهذا هو ما أَكَّد عليه الفقهاء، وضربوا الأمثلة على ذلك بما يتناسب مع عصرهم([137])، قال البهوتي: «(ويحرم) على مفتٍ (إطلاق الفتيا في اسم مشترك) قال ابن عقيل: إجماعًا (فمن سئل أيؤكل) أو يشرب أو نحوه (برمضان بعد الفجر لا بد أن يقول) الفجر (الأول أو) الفجر (الثاني) ومثله ما امتحن به أبو يوسف فيمن دفع ثوبًا إلى قصَّار فقصره وجحده هل له أجرة إن عاد وسلمه لربه، فقال: إن كان قصره قبل جحوده فله الأجرة وإن كان بعد جحوده فلا أجرة له؛ لأنه قصره لنفسه؛ ومثله من سئل عن بيع رطل تمر برطل تمر هل يصح؟ وجوابه: إن تساويا كيلًا صح وإلا فلا، لكن لا يلزم التنبيه على احتمال بعيد ومثله شروط إرث وموانعه ونحوها»([138]).

فسلامة الأسلوب ووضوح العبارة وعدم غموضها هو مما يكسب ويعطي الفتوى أهمية كبيرة؛ فالتعبير بكلماتٍ صَحيحةٍ، مُناسبةٍ، مؤدية للغرض، وبطريق مباشر، هو القانون الذهبي للكتابة الجيدة([139])، وهو شرط صياغة البحوث عامة، فالباحث الجيد هو الذي يحرص في صياغته للبحث أن يكون وفق الأساليب الإنشائية العربية الفصيحة([140]).

والملاءمة بين المعاني والألفاظ في صياغة الفتوى ونحوها هي سر البلاغة ورونقها، وهي ليست بالأمر اليسير، بل هي أمر عجز عنه الفصحاء والبلغاء([141])، وفي سلامة اللفظ وبراعته، إيضاح للمعنى وزيادة؛ يقول الآمدي: «إن حُسنَ التأليف وبراعة اللفظ يزيد المعنى المكشوف بهاء وحسنًا ورونقًا؛ حتى كأنه قد أحدث فيه غرابة لم تكن، وزيادة لم تعهد»([142]).

وفي المقابل: ففي رديء اللفظ وغموضه، إبهام للمعنى وإفساده؛ يقول الآمدي: «سوء التأليف ورديء اللفظ يذهب بطلاوة المعنى الدقيق ويفسده ويعميه حتى يحتاج مستمعه إلى طول تأمُّل»([143]).

  • أمثلة:

مثال لفتوى امتازت بوضوح الأسلوب وسلامته من الألفاظ المبهمة متعددة الاحتمالات:

لو سئل أحد المفتين عن: ما حكم التعامل بيعًا وشراءً في العملة الإلكترونية التي تسمى بـالبيتكوين؟

فأجاب:

«عملة البيتكوين(Bitcoin)  من العملات الافتراضية (Virtual Currency)، التي طُرِحت للتداول في الأسواق المالية في سنة 2009م، وهي عبارةٌ عن وحداتٍ رقَميَّة مُشَفَّرة ليس لها وجودٌ فيزيائي في الواقع، ويمكن مقارنتها بالعملات التَّقليديَّة كالدولار أو اليورو مثلًا.

والصورة الغالبة في إصدار هذه العملة أنها تستخرج من خلال عملية يُطلق عليها “تعدين البيتكوين” (Bitcoin Mining)، حيث تعتمد في مراحلها على الحواسب الإلكترونية ذات المعالجات السريعة عن طريق استخدام برامج معينة مرتبطة بالشبكة الدولية للمعلومات (الإنترنت)، وتُجرى من خلالها جملة من الخطوات الرياضية المتسلسلة والعمليات الحسابية المعقدة والموثقة؛ لمعالجة سلسلة طويلة من الأرقام والحروف وخَزْنها في مَحَافِظَ (تطبيقات) إلكترونية بعد رقْمَها بأكواد خاصة، وكلما قَوِيت المعالجة وعَظُمَت زادت حصة المستخدم منها وفق سقفٍ مُحَدَّدٍ للعدد المطروح للتداول منها.

وتتم عملياتُ تداول هذه العملة من محفظة إلى أخرى دون وسيطٍ أو مراقبٍ من خلال التوقيع الرقَمَي عن طريق إرسالِ رسالة تحويل مُعَرَّف فيها الكود الخاص بهذه العملة وعنوان المُستلم، ثم تُرْسل إلى شبكة البيتكوين حتى تكتملَ العملية وتُحْفَظَ فيما يُعرف بسلسلة البلوكات (Block Chain)، من غير اشتراط للإدلاء عن أي بيانات أو معلومات تفصح عن هوية المتعامل الشخصية.

وهذه الوحدات الافتراضية غيرُ مغطَّاة بأصولٍ ملموسةٍ، ولا تحتاج في إصدارها إلى أي شروطٍ أو ضوابطَ، وليس لها اعتمادٌ مالي لدى أي نظامٍ اقتصادي مركزي، ولا تخضعُ لسلطات الجهات الرقابية والهيئات المالية؛ لأنها تعتمدُ على التداول عبر الشبكة العنكبوتية الدولية (الإنترنت) بلا سيطرة ولا رقابة، ومن خلال هذا البيان لحقيقة عملة البيتكوين “Bitcoin” يتَّضحُ أنها ليست العملة الوحيدة التي تجري في سوق صرف العملات، بل هذه السوق مجالٌ لاستخدام هذه العملة ونظائرها من عملات أخرى غيرها تندرج تحت مسمى “العملات الإلكترونية”.

وفي هذا السياق لم يَفُتْ أمانة الفتوى بدار الإفتاء المصرية الاستعانة بالخبراء وأهل الاختصاص من علماء الاقتصاد؛ حيث قابَلَتْهم الأمانةُ، وكانت أهم نتائج النقاش معهم:

أن عملة البيتكوين تحتاجُ إلى دراسةٍ عميقةٍ لتشعبها وفنياتها الدقيقة؛ كشأن صور العملات الإلكترونية المتاحة في سوق الصرف، إضافة إلى الحاجة الشديدة لضبط شروط هذه المعاملة والتكييف الصحيح لها.

أن من أهم سمات سوقِ صرفِ هذه العملات الإلكترونية التي تميزها عن غيرها من الأسواق المالية أنها أكثرُ هذه الأسواق مخاطرة على الإطلاق؛ حيث ترتفع نسبة المخاطرة في المعاملات التي تجري فيها ارتفاعًا يصعب معه -إن لم يكن مستحيلًا- التنبؤ بأسعارها وقيمتها؛ حيث إنها متروكة إلى عوامِلَ غيرِ منضبطة ولا مستقِرَّة، كأذواق المستهلكين وأمزجتهم، مما يجعلها سريعة التقلُّب وشديدة الغموضِ ارتفاعًا وهبوطًا.

وهذه التقلبات والتذبذبات غير المتوقَّعة في أسعار هذه العملات الإلكترونية تجعلُ هناك سمة لها هي قرينة السمة السابقة؛ فعلى الرغم من كون هذه السوق هي أكبرَ الأسواقِ المالية مخاطَرَةً، فهي أيضًا أعلاها في معدلات الربح، وهذه السمة هي التي يستعملها السماسرة ووكلاؤهم في جذْب المتعاملين والمستثمرين لاستخدام هذه العملات، مما يؤدي إلى إضعاف قدرة الدول على الحفاظ على عملتها المحلية والسيطرة على حركة تداول النقد واستقرارها وصلاحيتها في إحكام الرقابة، فضلًا عن التأثير سلبًا بشكل كبير على السياسة المالية بالدول وحجم الإيرادات الضريبية المتوقعة، مع فتح المجال أمام التهرُّب الضريبي.

أن التعامل بهذه العملة بالبيع أو الشراء وحيازتها يحتاجُ إلى تشفير عالي الحماية، مع ضرورة عمل نسخ احتياطية منها من أجل صيانتها من عمليات القرصنة والهجمات الإلكترونية لفَكِّ التشفير، وحرزها من الضياع والتعرُّض لممارسات السرقة أو إتلافها من خلال إصابتها بالفيروسات الخطيرة، مما يجعلها غيرَ متاحة التداول بين عامَّة الناس بسهولةٍ ويسر، كما هو الشأن في العملات المعتبرة التي يُشترط لها الرواج بين العامَّة والخاصَّة.

أنه لا يُوصَى بها كاستثمار آمن؛ لكونها من نوع الاستثمار عالي المخاطر، حيث يتعامل فيها على أساس المضاربة التي تهدف لتحقيق أرباح غير عادية من خلال تداولها بيعًا أو شراءً، مما يجعل بيئتها تشهد تذبذبات قوية غير مبررة ارتفاعًا وانخفاضًا، فضلا عن كون المواقع التي تمثل سجلات قيد أو دفاتر حسابات لحركة التعامل بهذه العملة بالبيع أو الشراء غير آمنة بَعْدُ؛ لتكرار سقوطها من قِبل عمليات الاختراق وهجمات القرصنة التي تستغل وجود نقاط ضعف عديدة في عمليات تداولها أو في محافظها الرقمية، مما تسبب في خسائر مالية كبيرة.

أن مسؤولية الخطأ يتحملها الشخص نفسه تجاه الآخرين، وربما تؤدي إلى خسارة رأس المال بالكامل، بل لا يمكن استرداد شيء من المبالغ المفقودة جرَّاء ذلك غالبًا، بخلاف الأعراف والتقاليد البنكية المتبعة في حماية المتعامل بوسائلِ الدفع الإلكتروني التي تجعل البنوك عند الخلاف مع المستثمر حريصة على حل هذا النزاع بصورة تحافظ على سمعتها البنكية.

أن لها أثرًا سلبيًّا كبيرًا على الحماية القانونية للمتعاملين بها من تجاوزِ السماسرة أو تعدِّيهم أو تقصيرهم في ممارسات الإفصاح عن تفاصيلِ تلك العمليات ولا القائمين بها، وتسهيل بيع الممنوعات وغسل الأموال عبر هؤلاء الوسطاء، فأغلب الشركات التي تمارس نشاط تداول العملات الإلكترونية تعملُ تحت غطاء أنشطة أخرى؛ لأن هذه المعاملة غيرُ مسموحٍ بها في كثير من الدول.

ولذا لا يمكنُ اعتبارُ هذه العملة الافتراضية وسيطًا يصحُّ الاعتمادُ عليه في معاملات الناس وأمور معايشهم؛ لفقدانها الشروطَ المعتبرة في النقود والعملات؛ حيث أصابها الخللُ الذي يمنع اعتبارها سلعة أو عملةً: كعدم رواجها رواجَ النقود، وعدمِ صلاحيتها للاعتماد عليها كجنسٍ من أجناس الأثمان الغالبة التي تُتخَذُ في عملية “التقييس” بالمعنى الاقتصادي المعتبر في ضبط المعاملات والبيوع المختلفة والمدفوعات الآجلة من الديون، وتحديد قيم السلع وحساب القوة الشرائية بيسر وسهولة، وعدم إمكانية كَنْزها للثروة واختزانها للطوارئ المحتملة مع عدم طريان التغيير والتلف عليها؛ فضلًا عن تحقق الصورية فيها بافتراض قيمة اسمية لا وجود حقيقي لها مع اختلالها وكونها من أكثرِ الأسواق مخاطرة على الإطلاق.

كما يفترق هذا النوع من العملات عن وسائل الدفع الإلكترونية -ككارت الائتمان، وبطاقات الخصم المباشر- بعدم ارتباطه بحسابات بنكية دائنة أو مَدِينَة، وأنه يقوم على أساسٍ مُنْفَصلٍ عن النظام النقدي المعتمَد في أغلب دول العالم، وأنه تتحدَّد قيمتُه بناءً على حجم المضاربات وإقبال الناس على تداول هذه العملة والتعامل بها فيما بينهم كبديل للنقود العادية؛ التماسًا للاستفادة من مزاياها؛ حيث إنه لا يَغْرَم المتعامل بها أي رسوم أو مصروفات على عمليات التحويل، ولا يخضع لأي قيود أو رقابة، فضلًا عن صعوبة تجميدها أو مُصادرتها.

وعلى هذا لم تتوفر في عملة البيتكوين الشروطُ والضوابطُ اللازمة في اعتبار العملة وتداولها، وإن كانت مقصودة للربح أو الاستعمال والتداول في بعض الأحيان، إلا أنها مجهولة غير مرئية أو معلومة مع اشتمالها على معاني الغش الخفي والجهالة في معيارها ومَصْرِفها، مما يُفْضي إلى وقوع التلبيس والتغرير في حقيقتها بين المتعاملين؛ فأشبهت بذلك النقودَ المغشوشة ونفاية بيت المال، وبيع تراب الصاغة وتراب المعدن، وغير ذلك من المسائلِ التي قرَّر الفقهاءُ حرمة إصدارِها وتداولها والإبقاء عليها وكنزها؛ لعدم شيوع معرفتها قدرًا ومعيارًا ومَصْرفًا، ولما تشتمل عليه من الجَهالةِ والغش، وذلك يدخلُ في عموم ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((من غشَّنا فليس مِنَّا)).

هذا، بالإضافة إلى أن التعامُلَ بهذه العملة يترتَّبُ عليه أضرارٌ شديدة ومخاطرُ عاليةٌ؛ لاشتماله على الغرر والضرر في أشد صورهما:

والغرر هو: “ما انطوت عنا عاقبته أو تردَّد بين أمرين أغلبهما أخوفهما” كما عرَّفه العلامة البجيرمي الشافعي في “حاشيته على الإقناع” (3/ 4، ط: دار الفكر).

وقد اتفق الاقتصاديون وخبراء المال على أن هذه العملة وعقودها حَوَتْ أكبر قدر من الغرر في العملات والعقود المالية الحديثة على الإطلاق، مع أن شيوعَ مثلِ هذا النمط من العملات والممارسات الناتجة عنها يُخِلُّ بمنظومة العمل التقليدية التي تعتمدُ على الوسائطِ المتعددة في نقل الأموال والتعامل فيها كالبنوك، وهو في ذات الوقت لا يُنشِئُ عملة أو منظومة أخرى بديلة منضبطة ومستقرة، ويُضيِّق فرص العمل.

كما أنها تُشْبِه المقامرة؛ فهي تؤدي وبشكل مباشر إلى الخراب المالي على مستوى الأفراد والجماعات والمؤسسات من إفساد العملات المتداولة المقبولة، وهبوط أسعارها في السوق المحلية والدولية، وانخفاض القيمة الشرائية لهذه العملات بما يؤثر سلبًا على حركة الإنتاج والتشغيل والتصدير والاستيراد.

ولِمَا تحويه من المخاطرة الكبيرة التي تشتمل عليها هذه العملة في أصلها؛ حيث إنها تعدُّ أشدَّ العملات في الأسواق المالية خطورةً، فإن المقبلين على شراء هذه العملة يستهدفون المضاربة فيها عن طريق الاحتفاظ بها مدةً؛ أملًا في ارتفاع سعرها بشكل غير عادي، مما يؤدي إلى تضاعف الأرباح، وهو ما يكذبه تتبع أخبار ومعلومات سوق هذه العملة؛ حيث تكررت سرقة الملايين من هذه العملة، ومن ثَمَّ أدَّى مباشرة لانخفاض سعرها بِشكلٍ كَبيرٍ، ولا يمكن تحمل مثل هذه الخسارة من قِبل أي بنك أو مؤسسة مالية فضلًا عن الأفراد العاديين، وهو ما يؤدي لاستنزاف ثروات الناس وأموالهم وضياعها في شيء غير معلوم.

وأما اشتمال هذه العملة والممارسات الناتجة عنها على الضرر، فيتمثل في جهالة أعيان المتعاملين بها وهوياتهم، وإذعان العميل بتحمله الكامل لنتائج هذه المعاملة شديدة المخاطرة مع جهالة أغلب العملاء المستخدمين لهذه العملة للقواعدِ المهنية التي يجبُ اتباعُها لتخفيف احتمالات الخسائر، بل عدم وجود قواعد مهنية أو حماية قانونية كافية يمكن التحاكُم إليها، بما يعني عدمَ قدرة العميلِ على مقاضاة السمسار إذا خالف أوامر العميل أو ارتكب خطأً مهنيًّا جسيمًا ترتب عليه خسارة العميل.

بالإضافة إلى تعدي تأثير التعامل بها اقتصاديًّا حيز التأثير على مدخرات الأفراد المتعاملين بهذه العملة إلى اقتصاديات الدول؛ حيث تقف الدولُ عاجزة أمام الأضرارِ التي تقعُ على عملاتها من جرَّاء هذه الخسائرِ، بل يؤدي النظام الذي يُنَظِّم ممارسات استخدام هذه العملة حاليًّا إلى اتخاذها وسيلة سهلة لضمان موارد مالية مستقرة وآمنة للجماعات الإرهابية والإجرامية، وتيسير تمويل الممارسات المحظورة وإتمام التجارات والصفقات الممنوعة: كبيع السلاح والمخدرات، واستغلال المنحرفين للإضرار بالمجتمعات؛ نظرًا لكونه نظامًا مغلقًا يصعبُ خضوعُه للإشراف وعمليات المراقبة التي تخضع لها سائر التحويلات الأخرى من خلال البنوك العادية في العملات المعتمدة لدى الدول، والقاعدة الشرعية تقول: إنه “لا ضَرَرَ ولا ضِرَارَ”.

كما أن التعامُلَ بهذه العملة التي لا تعترف بها أغلب الدول، ولا تخضع لرقابة المؤسسات المصرفية بها والتي على رأسها البنوك المركزية المنوط بها تنظيم السياسة النقدية للدول وبيان ما يقبل التداول من النقود من عدمه -يجعل القائم به مفتئتًا على ولي الأمر الذي جَعلَ له الشرعُ الشريفُ جملة من الاختصاصات والصلاحيات والتدابير ليستطيع أن يقومَ بما أُنيط به من المهام الخطيرة والمسؤوليات الجسيمة. وجَعَلَ كذلك تطاولَ غيرِه إلى سَلْبِه شيئًا من هذه الاختصاصات والصلاحيات أو مزاحمته فيها من جملة المحظورات الشرعية التي يجبُ أن يُضرَب على يَد صاحبِها؛ حتى لا تشيعَ الفوضى، وكي يستقِرَّ النظامُ العامُّ، ويتحقَّقَ الأمنُ المجتمعي المطلوب.

وقد وصف علماء المسلمين من يُنازع ولي الأمر فيما هو له من ذلك بأنه مُفتاتٌ على الإمام؛ والافتيات هو التعدي، أو هو: فعل الشيء بغير ائتمار مَنْ حَقُّه أن يُؤتمر فيه([144]).

وضرْبُ العملة وإصدارُها حقٌّ خالصٌ لولي الأمر أو من يقوم مقامه من المؤسسات النقدية، بل إنها من أخَصِّ وظائفِ الدولة حتى تكون معلومة المصْرفِ والمعيارِ؛ ومن ثَمَّ يحصُل اطمئنانُ الناس إلى صلاحيتها وسلامتها من التزييف والتلاعب والتزوير سواء بأوزانها أو بمعيارها.

قال الوزير نظام الملك أبو علي الحسن الطوسي الشافعي([145]): “ضَرْب السِّكَّة لم يكن لغير الملوك في كل الأعصار” اهـ.

وقال ابن خلدون في “المقدمة” (1/ 261، ط: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات-بيروت): “وهي وظيفة ضرورية للملك؛ إذ بها يتميَّز الخالص من المغشوش بين النَّاس في النقود عند المعاملات” اهـ.

وهذا الذي استوعبه الفقهاءُ من الشَّرع الشريف وطبَّقوه في فتاويهم وأحكامهم هو عينُ ما انتهى إليه التنظيمُ القانوني والاقتصادي للدول الحديثة؛ حيث عمدت القوانين إلى إعطاء سلطة إصدار النقد وبيان ما يقبل منه في التداول والتعامل بين مواطنيها ورعاياها تحت اختصاصات البنوك المركزية وتصرفاتها، وفق ضوابطَ مُحْكَمة ومُشدَّدة من: طبْعها في مطابعَ حكوميةٍ، واستخدامِ ورق وحبر ورسومات مخصوصة، وفحصها لمعرفة التالف منها، ورقْمِها بأرقام مُسَلْسَلة.

وهذا التنظيم الحكيم في ضرب العملة وسَكِّها يجعلها تأخذُ القبولَ العام، ويحصلُ التعارف عليها كوسيط للنقد والتبادل بين الناس حسب العرف الغالب، وهو ضابط قرَّره فقهاء الإسلام في اعتبار العملة المقبولة؛ قال الإمام السرخسي([146]): “المتعارف فيما بين الناس هي المعاملة بالنقد الغالب، وإليه ينصرف مطلق التسمية، والتعيين بالعرف كالتعيين بالنص…؛ لأن الدراهمَ والدنانيرَ في البلدان تختلفُ وتتفاوتُ في العيار، والظاهر أن في كل بلدة إنما يتصرف الإنسان بما هو النقد المعروف فيها” اهـ مختصرًا.

وقال الإمام الماوردي الشافعي([147]): “وإذا خَلَص العَيْنُ والوَرِقُ من غشٍّ كان هو المعتبرَ في النقود المستحقَّة، والمطبوع منها بالسِّكَّة السُّلطانية الموثوق بسلامة طبعِهِ، المأمُون من تبديلِه وتلبيسه، هو المستحَقّ دون نَقَارِ الفضَّة وسبائك الذَّهب (غير المسكوكة)؛ لأنه لا يُوثَقُ بهما إلا بالسَّكِّ والتصفية، والمطبوع موثوقٌ به، ولذلك كان هو الثابتَ في الذمم فيما يُطْلَق من أثمان المبيعات وقِيَمِ المُتلَفَات، ولو كانت المطبوعات مختلفة القيمة مع اتفاقها في الجودة، فطالب عامل الخراج بأعلاها قيمةً، نظرَ: فإن كان من ضرب سلطان الوقت أُجيب إليه؛ لأن في العُدُول عن ضربِه مباينة له في الطَّاعة، وإن كان مِنْ ضَرْب غيره نظرَ: فإن كان هو المأخوذ في خراج من تقدمه أُجيب إليه؛ استصحابًا لما تقدَّم، وإن لم يكن مأخوذًا فيما تقدم كانت المطالبة به غبنًا وحَيْفًا” اهـ.

واستعمال هذه العملة في التداول يمسُّ من سلطة الدولة في الحفاظ على حركة تداول النقد بين الناس وضبط كمية المعروض منه، وينقص من إجراءاتها الرقابية اللازمة على الأنشطة الاقتصادية الداخلية والخارجية، مع فتح أبواب خلفية تسمح بالممارسات المالية الممنوعة، وذلك كلُّه من الافتيات على ولي الأمر الممنوع والمحرم؛ لأنه تَعَدٍّ على حقه بمزاحمته فيما هو له، وتَعَدٍّ على إرادة الأمة التي أنابت حاكمَها عنها في تدبير شؤونها.

قال الإمام شمس الدين الغرناطي في “بدائع السلك في طبائع الملك” (2/ 45، ط: وزارة الإعلام العراقية) -في معرض ذكر المخالفات التي يجب اتقاؤها في حق ولاة الأمور-: “المخالفة الثالثة: الافتيات عليه -أي: ولي الأمر- في التعرُّض لكل ما هو منوط به، ومن أعظمه فسادًا: تغيير المنكر بالقدر الذي لا يليق إلا بالسلطان؛ لما في السَّمْح به والتجاوز به إلى التغيير عليه، وقد سبق أن من السياسة تعجيل الأخذ على يد من يتشوق لذلك وتظهر منه مبادئ الاستظهار به” اهـ.

وبناءً على ذلك: فلا يجوز شرعًا تداول عملة البيتكوين والتعامل من خلالها بالبيعِ والشراءِ والإجارة وغيرها، بل يُمنع من الاشتراكِ فيها؛ لعدمِ اعتبارِها كوسيطٍ مقبولٍ للتبادلِ من الجهاتِ المخُتصَّةِ، ولِمَا تشتمل عليه من الضررِ الناشئ عن الغررِ والجهالة والغشِّ في مَصْرِفها ومِعْيارها وقِيمتها، فضلًا عما تؤدي إليه ممارستُها من مخاطرَ عالية على الأفراد والدول». انتهت الفتوى.

فهذه الفتوى ليس فقط قد اتسمت بوضوح الأسلوب وسلامته من الألفاظ المبهمة متعددة الاحتمالات بصياغة محكمة، بل أيضًا جمعت بين الأصالة والمعاصرة، فسهل على المستفتي والقارئ فهم ما احتوته من معلومات وأحكام شرعية.

 

 

المطلب التاسع

عدم إلقاء السائل في الحيرة

من الآداب العلمية التي ينبغي أن يلتزم بها المفتي- توضيحُ الجواب في الفتوى بحيث لا يقع السائل في حيرة وارتياب، والأسباب التي تجعل السائل يقع في تلك الحيرة بعد اطلاعه على جواب المفتي متنوعة، لكن يمكننا أن نقول إنها ترجع إلى ثلاثة أمور:

الأمر الأول (استخدام الألفاظ المبهمة متعددة الاحتمالات): وقد تقدَّمَ الكلامُ عن ذلك، فلا يصح أن يستخدم المفتي تلك الألفاظ في صياغته للفتوى؛ لئلا يقع المستفتي في الحيرة والإشكال، وقد ضرب ابن القيم أمثلة على عدم وضوح بعض الفتاوى الصادرة من أصحابها في زمانه، كالمفتي الذي سئل عن مسألة في المواريث فقال: يقسم بين الورثة على فرائض الله عز وجل وكتبه فلان.

وسئل آخر عن صلاة الكسوف فقال: تصلى على حديث عائشة. وسئل آخر عن مسألة فقال: فيها قولان، ولم يزد([148]).

فهذه الفتاوى ونحوها، فتاوى مجملة مبهمة، توقع الحيرة في نفس المستفتي، وليس مقصوده أن يكون الجواب عن سؤاله بهذا الشمول والإشكال([149]).

قال أبو محمد بن حزم: “وكان عندنا مفتٍ إذا سئل عن مسألة لا يفتي فيها حتى يتقدمه من يكتب، فيكتب هو: جوابي فيها مثل جواب الشيخ، فقدر أن مفتيين اختلفا في جواب، فكتب تحت جوابهما: جوابي مثل جواب الشيخين، فقيل له: إنهما قد تناقضا، فقال: وأنا أتناقض كما تناقضا، وكان في زماننا رجل مشار إليه بالفتوى، وهو مقدم في مذهبه، وكان نائب السلطان يرسل إليه في الفتاوى فيكتب: يجوز كذا، أو يصح كذا، أو ينعقد بشرطه، فأرسل إليه يقول له: تأتينا فتاوى منك فيها يجوز أو ينعقد أو يصح بشرطه، ونحن لا نعلم شرطه، فإما أن تبين شرطه، وإما أن لا تكتب ذلك”([150]).

فيجب على المفتي في صوغه لفتوى المستفتي أن يجيب عليه بجواب “يبينه بيانًا مُزيحًا للإشكال”([151]) والالتباس بعبارة واضحة صحيحة تفهمها العامة.

قال ابن القيم: “لا يجوز للمفتي إلقاء المستفتي في الحيرة… بل عليه أن يبين بيانا مزيلا للإشكال، متضمنا لفصل الخطاب، كافيا في حصول المقصود، لا يحتاج معه إلى غيره”([152]).

ويقول البركتي: “الواجب على المفتي في هذا الزمان المبالغة في إيضاح الجواب؛ لغلبة الجهل، فلا يجيب على الإطلاق والإرسال، وكذا يجتنب عن الألغاز، لكن ينظر ويتفكر فإن كان من جنس ما يفصل من جوابها فليفعل وليُجِبْ حرفا حرفا”([153]).

الأمر الثاني (عدم الدقة في التعبير والاستطراد): والاستطراد -كما عرَّفه الجرجاني هو: “سَوْقُ الكلام على وجه يلزم منه كلام آخر، وهو غير مقصود بالذات بل بالعرض”([154]).

وقال المناوي: “الاستطراد: ذكر الشيء في غير موضعه، وقولُهم: وقع ذلك على وجه الاستطراد، مأخوذ من: الاجتذاب؛ لأنك لم تذكره في موضعه، بل مهدت له موضعا ذكرته فيه”([155]).

فالاستطراد في الكلام هو: ذكر الشيء في غير موضعه بالانتقال من معنى إلى معنى آخر متصل به لم يُقصد المتكلم بذكر الأول التوصل إلى ذكر الثاني([156])، أي أن الشخص يأخذ في غرض من أغراض الكلام، فيخرج منه إلى غرض آخر، ثم يعود إلى الغرض الأول مرة أخرى.

والاستطراد في مجال صياغة البحث العلمي والإفتاء هو من آفات الصياغة وعيوبها التي يقع فيها كثير من الباحثين المبتدئين([157])، وسواء أكان الاستطراد في الأسلوب والتعبير أم في زيادة باب أو فصل في البحث، أو غير ذلك([158])، مما يؤدي إلى تشتت أفكار القارئ ، وعدم الترابط بين فقرات البحث وفصوله وأفكاره([159]).

لذا فإنه يجب على الباحث “تكثيف الجُهْد في إطار موضوع البحث، بعيدًا عن الاستطراد، والخروج عن موضوع البحث إلى نقاط جانبية هامشية”([160])، فيتجنب الباحث الاستطراد الذي يخل بالموضوع وكذا الإطناب الذي لا محل له في الموضوع.

أما عن الاستطراد الذي لا يخل بالموضوع ولا يؤدي إلى تشتت القارئ فلا مانع منه، كنحو تمهيد لفتوى غير مألوفة للناس، أو فتوى متعلقة بالمجتمع؛ يقول ابن القيم: “وإذا كان الحكم مستغربًا جدًّا مما لم تألفه النفوس، وإنما أَلِفَتْ خلافه فينبغي للمفتي أن يوطئ قبله ما كان مأذونًا به، كالدليل عليه والمقدمة بين يديه”([161]).

فمن الآداب العلمية الواجب على المفتي مراعاتها في صياغة الفتوى للمستفتي أن تكون بأسلوب واضح ودقيق من غير إطناب واستطراد، فيكون جوابه غالبًا مختصرًا بحيث تفهمه العامة فهمًا جَليًّا([162]).

إلا أنه لا ينبغي الاقتصار في صياغة الفتوى على قول: “نعم أو لا” أو “يجوز أو لا يجوز”؛ لأن ذلك لا يليق، ففضول الناس يستدعي مزيد بيان([163])، وإن عد بعض العلماء أن من آداب الفتوى الاختصار في الجواب، حتى ورد أن بعضهم قال: يقول المفتي: “يجوز أو لا يجوز” أو “حق أو باطل”([164]).

الأمر الثالث (تخيير السائل في الجواب): فلا يجوز للمفتي تخيير السائل وإلقاؤه في الإشكال والحيرة، وذلك نحو أن يعرض المفتي الآراءَ الفقهية في المسألة التي سأله عنها المستفتي دون ترجيح بين تلك الأقوال والآراء الفقهية، فيؤدي ذلك إلى وقوع السائل في الحيرة، فلا يدري بأي الآراء يعمل، يقول العلامة ابن الصلاح: “إذا اقتصر في جوابه على حكاية الخلاف بأن قال: ‌فيها ‌قولان أو وجهان، أو نحو ذلك من غير أن يبين الأرجح، فحاصل أمره أنه لم يُفْتِ بشيء”([165]).

ويقول أيضًا: “وأذكر أني حضرت بالموصل الشيخَ الصدر المصنف أبا السعادات ابن الأثير الجزري رحمه الله، فذكر بعض الحاضرين عنده، عن بعض المدرسين: أنه أفتى في مسألة، فقال: ‌فيها ‌قولان، وأخذ يزري عليه. فقال الشيخ ابن الأثير: كان الشيخ أبو القاسم بن البزري، وهو علَّامة زمانه في المذهب إذا كان في المسألة خلاف واستُفْتي عنها يذكر الخلاف في الفتيا، ويقال له في ذلك، فيقول: لا أتقلد العهدة مختارا لأحد الرأيين مقتصرا عليه، وهذا حيد عن غرض الفتوى، وإذا لم يذكر شيئا أصلًا فلم يتقلد العهدة أيضا، ولكنه لم يأتِ بالمطلوب حيث لم يُخَلِّص السائل من عمايته”([166]).

وعلى هذا فإنه ينبغي على المفتي أن يبين للمستفتي الرأي الراجح في المسألة خاصة في تلك المسائل التي تتعدد فيها أقوال الفقهاء والعلماء، أو يجيب عليه بما يناسب حاله، حتى يحصل المقصود من الفتوى.

 

المطلب العاشر

إرشاد وتوجيه المستفتي إلى ما ينفعه

من الآداب التي ينبغي أن يتحلى بها المفتي إرشاد المستفتي إلى ما ينفعه في دينه ودنياه، وتقديم النصح له، لأن المفتي في مقام التبليغ عن رب العالمين؛ فلا بد أن يكون البلاغ مصاحبًا لما فيه الصلاح والنفع.

وإرشاد المستفتي إلى ما ينفعه له عدة أمور لا بد من مراعاتها أثناء قيام المفتي بعملية الإفتاء، وأهم تلك الأمور ما يلي:

الأول: “إذا كان المستفتي ‌بعيد ‌الفهم، فينبغي للمفتي أن يكون رفيقًا به صبورًا عليه، حَسَنَ التأني في التفهم منه والتفهيم له، حَسَنَ الإقبال عليه، لا سيما إذا كان ضعيف الحال، محتسبًا أجر ذلك فإنه جزيل”([167]).

الثاني: إذا ظهر له أن الجواب على خلاف المستفتي وأنه لا ‌يرضى ‌بكذبه في ورقته فليقتصر على مشافهته بالجواب([168]).

الثالث: ليحذر أن ‌يميل ‌في فتياه مع المستفتي أو مع خصمه، ووجوه الميل كثيرة لا تخفى ومنها: أن يكتب في جوابه ما هو له، ويسكت عما هو عليه([169]).

الرابع: ليس له إذا استُفتِي في شيء من المسائل الكلامية أن يفتي بالتفصيل، بل يمنع مستفتيه وسائر العامة من الخوض في ذلك أصلًا، ويأمرهم بأن يقتصروا فيها على الإيمان جملة من غير تفصيل، ويقولوا فيها وفيما ورد من الآيات والأخبار المتشابهة: إن الثابت فيها في نفس الأمر كل ما هو اللائق فيها بجلال الله وكماله وتقديسه المطلقين، وذلك هو معتقدنا فيها، وليس علينا تفصيله وتعيينه، وليس البحث عنه من شأننا، بل نَكِلُ عِلْمَ تفصيله إلى الله تبارك وتعالى، ونصرف عن الخوض فيه قلوبَنا وألسنتَنَا، فهذا ونحوه عند أئمة الفتوى هو الصواب في ذلك، وهو سبيل سلف الأمة، وأئمة المذاهب المعتبرة، وأكابر الفقهاء والصالحين، وهو أصون وأسلم للعامة وأشباههم، ممن يدغل قلبه بالخوض في ذلك، ومَنْ كان منهم اعتقد اعتقادًا باطلًا تفصيلًا، ففي إلزامه بهذا صَرْفٌ له عن ذلك الاعتقاد الباطل بما هو أهون وأيسر وأسلم”([170]).

وهذه أهم الأمور التي إذا التزمها المفتي كانت الفتوى مصاحبة لإرشاد المستفتي وتوجيهه لما فيه النفع والصلاح له في دينه ودنياه.

([1]( إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم (1/ 9)، مرجع سابق.

([2]( إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم (1/ 9، 10)، مرجع سابق.

([3]( إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم (1/ 12)، مرجع سابق.

([4]( إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم (1/ 8، 9)، مرجع سابق.

([5]( المجموع شرح المهذب، للنووي (1/ 40)، مرجع سابق.

([6]( المجموع شرح المهذب، للنووي (1/ 40- 41)، مرجع سابق.

([7]( صفة الفتوى والمفتي والمستفتي، لابن حمدان (ص 6)، مرجع سابق.

([8]( أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح (ص 85)، مرجع سابق.

([9]( أخرجه ابن ماجه في سننه (1/ 20).

([10]( أخرجه أبو داود في سننه (3/ 321).

([11]( عون المعبود شرح سنن أبي داود، للعظيم آبادي (10/ 65)، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية، سنة 1415هـ.

([12]( أخرجه ابن عساكر في معجم الشيوخ (1/ 547)، ط. دار البشائر، دمشق، الطبعة الأولى، سنة 1421هـ- 2000م.

([13]( أخرجه ابن الجوزي في تعظيم الفتيا (ص 128)، ط. الدار الأثرية، عَمَّان – الأردن، الطبعة الثانية، سنة ١٤٢٧هـ – ٢٠٠٦م.

([14]( أخرجه البخاري (1/ 32).

([15]( فتح الباري، لابن حجر (1/ 195)، ط. دار المعرفة، بيروت، سنة 1379هـ.

([16]( صفة الفتوى والمفتي والمستفتي، لابن حمدان (ص 24)، مرجع سابق.

([17]( صفة الفتوى والمفتي والمستفتي، لابن حمدان (ص 11)، مرجع سابق.

([18]( الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي (2/ 324).

([19]( الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي (2/ 325).

([20]) أخرجه أبو داود في سننه، كتاب: الطهارة، باب في الجروح يتيمم، برقم (336)، (1/ 93)، والبيهقي في السنن الكبرى، كتاب: الطهارة، باب: الجرح إذا كان في بعض جسده دون بعض، برقم (1075)، (1/ 347)، والدارقطني في سننه، كتاب: الطهارة، باب جواز التيمم لصاحب الجراح مع استعمال الماء وتعصيب الجرح، برقم (729)، (1/ 349).

([21]) الشرح الكبير، (1/ 20).

([22]) المجموع، للنووي، (1/ 45، 46).

([23]) المنثور، للزركشي، (1/ 134).

([24]) الكوكب المنير، لابن النجار، (4/ 514).

([25]) البهجة، للتسولي، (2/ 177).

([26]) أسنى المطالب، للشيخ زكريا (4/ 286).

([27]) أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الديات، باب فيمن تطبب بغير علم فأعنت، برقم (4586)، (4/ 195).

([28]) راجع: حاشية الدسوقي، (4/ 355)، والمغني لابن قدامة (10/ 229)، وحاشية القليوبي (4/ 210).

([29]) أدب المفتي، ص 101، ط. مكتبة العلوم والحكم.

([30]) مرقاة المفاتيح، لملا علي قاري، (2/ 484).

([31]( البرهان في أصول الفقه، للجويني (2/ 233).

([32]( البرهان في أصول الفقه، للجويني (2/ 53).

([33]( المنخول، للغزالي، (ص 608)، مرجع سابق.

([34]( إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام، لابن دقيق العيد (ص 289).

([35]( البرهان في أصول الفقه، للجويني (2/ 256).

([36]( أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح، (ص 100)، مرجع سابق.

([37]( أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح، (ص 137)، مرجع سابق.

([38]( آداب الفتوى والمفتي والمستفتي، للنووي، (ص 63)، مرجع سابق.

([39]( أخرجه البخاري (8/ 167).

([40]( أخرجه البخاري (3/ 157).

([41]( أخرجه أبو داود في سننه (2/ 329).

([42]( أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح، (ص 115)، مرجع سابق.

([43]( الشخصية الاعتبارية في الفقه الإسلامي والقانون الوضعي، للدكتور سيد عبده بكر، (ص115).

([44]( البحر المحيط في أصول الفقه، للزركشي (8/ 359)، ط. دار الكتبي، الطبعة الأولى، سنة ١٤١٤هـ- ١٩٩٤م.

([45]( الموافقات، للشاطبي (4/ 89- 95)، ط. دار ابن عفان، الطبعة الأولى، سنة ١٤١٧هـ- ١٩٩٧م. وشرح منتهى الإرادات، للبهوتي (3/ 483)، ط. عالم الكتب، بيروت، الطبعة الأولى، ١٤١٤هـ- ١٩٩٣م. وأدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح (ص21-42)، مرجع سابق. وآداب الفتوى والمفتي والمستفتي، للنووي (ص19)، مرجع سابق.

([46]( شرح منتهى الإرادات، للبهوتي (3/ 484)، مرجع سابق.

([47]( أخرجه البخاري (9/ 65).

([48]( فتح الباري، لابن حجر (13/ 137)، مرجع سابق.

([49]( شرح صحيح مسلم، للنووي (12/ 15)، مرجع سابق.

([50]( إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم (4/ 152)، مرجع سابق.

([51]( إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم، (4/ 147)، مرجع سابق.

([52]( استرجع: من الاسترجاع، وهو قول: «إنا لله وإنا إليه راجعون»، وأصله حديث أم سلمة رضي الله عنها، أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ، فيقولُ ما أمَرَهُ الله: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيۡهِ رَٰجِعُونَ} [البقرة: 156]، اللهم أجرني في مصيبتي، وَأَخْلِفْ لِي خَيرًا مِنْهَا، إِلَّا أَخْلَفَ اللهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا)) أخرجه مسلم (2/ 631).

([53]( أخبار أبي حنيفة وأصحابه، لأبي عبد الله الصَّيْمَري (ص 29). والفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي، (2/ 78)، مرجع سابق.

([54]) أصول الفتوى والقضاء في المذهب المالكي، للدكتور محمد رياض، (ص 240)، مرجع سابق.

([55]( إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم (4/ 143)، مرجع سابق.

([56]( إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم (4/ 144)، مرجع سابق.

([57]) أصول الفتوى والقضاء في المذهب المالكي، للدكتور محمد رياض، (ص 240)، مرجع سابق.

([58]( مقالات في الفتوى والإفتاء، (ص 31)، ط. وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية- الكويت، سنة 1434هـ- 2013م.

([59]( العين، للخليل بن أحمد الفراهيدي، (8/ 8)، مرجع سابق، والصحاح، للجوهري (4/ 1698)، مرجع سابق. والمحكم والمحيط الأعظم، لأبي الحسن بن سِيدَه، (9/ 270)، مرجع سابق. والمصباح المنير في غريب الشرح الكبير، للفيومي (1/ 199). ومختار الصحاح، للرازي (ص 106)، مرجع سابق. وتهذيب اللغة، للأزهري (14/ 48)، مرجع سابق. والفروق اللغوية، لأبي الهلال العسكري (ص 68). ولسان العرب، لابن منظور، (11/ 248)، مرجع سابق.

([60]( البحر المحيط، للزركشي، (1/ 51)، مرجع سابق.

([61]( بحر المذهب، للروياني (11/ 155).

([62]( إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، للشوكاني، (1/ 22)، مرجع سابق.

([63]( مقالات في الفتوى والإفتاء، (ص 31)، ط. وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية- الكويت، سنة 1434هـ- 2013م.

([64]( المجموع شرح المهذب، للنووي، (1/ 5)، مرجع سابق.

([65]( البحر المحيط، للزركشي، (8/ 266)، مرجع سابق.

([66]) إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم، (4/ 123- 124).

([67]( إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم، (4/ 123- 124).

([68]( إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم، (4/ 200)، مرجع سابق.

([69]) أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح، (ص 141)، مرجع سابق.

([70]( المرجع السابق (ص 141).

([71]) المجموع شرح المهذب، للنووي، (1/ 52)، مرجع سابق.

([72]( الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي، (2/ 406)، مرجع سابق.

([73]( المجموع شرح المهذب، للنووي، (1/ 52)، مرجع سابق.

([74]) أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح، (ص 151)، مرجع سابق.

([75]( أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح، (ص 151)، مرجع سابق.

([76]( المجموع شرح المهذب، للنووي، (1/ 57)، مرجع سابق.

([77]( أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح، (ص: 171)، مرجع سابق. وصفة الفتوى والمفتي والمستفتي، لابن حمدان، (ص: 84)، مرجع سابق.

([78]( المجموع شرح المهذب، للنووي، (1/ 52)، مرجع سابق.

([79]) إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم، (6/ 49)، مرجع سابق.

([80]) الفتيا ومناهج الإفتاء، للأشقر (ص 75).

([81]) إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم، (4/ 200)، مرجع سابق.

([82]) الوجيز في أصول الفقه، للزحيلي، (2/ 397)، ط. دار الخير للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق– سوريا، الطبعة الثانية، سنة ١٤٢٧هـ- ٢٠٠٦م.

([83]) الفتيا ومناهج الإفتاء، للأشقر (ص: 75).

([84]( تبصير النجباء بحقيقة الاجتهاد والتقليد والتلفيق والإفتاء، للدكتور محمد إبراهيم الحفناوي، (ص 14)، ط. دار الحديث القاهرة، الطبعة الأولى، سنة: 1415هـ- 1995م.

([85]( رفع الملام عن الأئمة الأعلام، لابن تيمية (ص 9)، ط. الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض- المملكة العربية السعودية، سنة: ١٤٠٣هـ- ١٩٨٣م.

([86]) الأم، (5/ 169).

([87])أخرجه مالك في “الموطأ”، (2/ 544).

([88]) عمدة القاري، (20/ 83).

([89]) الجامع لأحكام القرآن، (3/ 72).

([90]) الإشراف على مذاهب العلماء، (5/ 253).

([91]) المغني، (10/ 32).

([92]) المرجع السابق، (10/ 10).

([93]( إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم، (4/ 170)، مرجع سابق.

([94]( مجموع الفتاوى، لابن تيمية (29/ 7).

([95]( مجموع الفتاوى، لابن تيمية (29/ 13).

([96]( الموافقات، للشاطبي، (2/ 138)، مرجع سابق.

([97]( مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، للخطيب الشربيني (3/ 498).

([98]( أحكام القرآن، للجصاص (5/ 263)، ط. دار إحياء التراث العربي – بيروت، سنة 1405هـ.

([99]( أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح (ص 138)، مرجع سابق. وصفة الفتوى والمفتي والمستفتي، لابن حمدان (ص 58)، مرجع سابق.

([100]( المجموع شرح المهذب، للنووي (20/ 138)، مرجع سابق.

([101]( المبسوط، للسرخسي (16/ 71)، ط. دار المعرفة– بيروت، سنة ١٤١٤هـ- ١٩٩٣م.

([102]) إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم، (4/ 197)، مرجع سابق.

([103]) المرجع السابق.

([104]) أصول الفتوى والقضاء، لمحمد رياض، (ص 238)، مرجع سابق.

([105]) وسائل تنمية ملكة الإفتاء، (ص 711)، مرجع سابق.

([106]) رد المحتار على الدر المختار، لابن عابدين، (5/ 376)، مرجع سابق. والملكة الفقهية، (ص417)، مرجع سابق.

([107]) الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي، (2/ 379)، مرجع سابق.

([108]) الملكة الفقهية، (ص 413)، مرجع سابق.

([109]) رد المحتار على الدر المختار، لابن عابدين، (5/ 376)، مرجع سابق.

([110]) البحر الرائق شرح كنز الدقائق لابن نجيم، (6/ 288).

([111]) الملكة الفقهية، (ص 417)، مرجع سابق.

([112]) إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم، (1/ 87)، مرجع سابق.

([113]) فتاوى ابن الصلاح، (1/ 52).

([114]( إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم، (4/ 170)، مرجع سابق.

([115]( رد المحتار على الدر المختار، لابن عابدين (3/ 569)، ط. مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، الطبعة الثانية، سنة ١٣٨٦هـ- ١٩٦٦م.

([116]( رد المحتار على الدر المختار، لابن عابدين (3/ 801)، مرجع سابق.

([117]( رد المحتار على الدر المختار، لابن عابدين (6/ 37)، مرجع سابق.

([118]( المجموع شرح المهذب، للنووي (1/ 48)، مرجع سابق.

([119]( مواهب الجليل في شرح مختصر خليل، للحطاب (1/ 32)، ط. دار الفكر، الطبعة الثالثة، سنة ١٤١٢هـ- ١٩٩٢م.

([120]( الموافقات، للشاطبي (5/ 388 – ٣٩٢)، مرجع سابق.

([121]( الموافقات، للشاطبي (5/ 392)، مرجع سابق.

([122]( الكافي في فقه أهل المدينة، لابن عبد البر (2/ 952)، ط. مكتبة الرياض الحديثة، الرياض، المملكة العربية السعودية، الطبعة الثانية، سنة ١٤٠٠هـ-١٩٨٠م.

([123]( الكافي في فقه أهل المدينة، لابن عبد البر (2/ 955)، مرجع سابق.

([124]( الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي (2/ 349)، مرجع سابق.

([125]( الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي (2/ 350)، مرجع سابق.

([126]( المجموع شرح المهذب، للنووي (1/ 47- 50)، مرجع سابق.

([127]( رد المحتار على الدر المختار، لابن عابدين (3/ 801)، مرجع سابق.

([128]) الكلام المُلْغِز: هو الكلام المبهم أو الملتبس، يقال: ألغز الشخص الكلام: أخفى مراده منه
-تكلم بكلمات مخفية- ولم يبين مراده ويظهر معناه.

قال ابن منظور: «أَلْغَزَ الكلامَ وأَلْغَزَ فيه: عمَّى مراده وأضمره على خلاف ما أظهره… واللُّغْزُ واللُّغَزُ واللَّغَزُ: ما ألغز من كلام فشبه معناه… واللُّغَزَ: الكلام الملبس. وقد أَلْغَزَ في كلامه يلغز إِلغازًا إذا ورى فيه وعرض ليخفى، والجمع ألغاز مثل رطب وأرطاب. واللُّغْزُ واللَّغْزُ واللُّغَزُ واللُّغَيْزَى والإِلْغازُ، كله: حفرة يحفرها اليربوع في جحره تحت الأرض، وقيل: هو جحر الضب والفأر واليربوع بين القاصِعاءِ والنَّافِقاءِ، سُمِّيَ بذلك لأن هذه الدواب تحفره مستقيمًا إلى أسفل، ثم تعدل عن يمينه وشماله عروضا تعترضها تعميه ليخفى مكانه بذلك الإلغاز، والجمع ألغاز» لسان العرب، لابن منظور، (5/ 405- 406)، مرجع سابق. وينظر أيضا: الصحاح، للجوهري، (3/ 894)، مرجع سابق.

([129]) صفة الفتوى والمفتي والمستفتي، لابن حمدان، (ص 246)، مرجع سابق. وضوابط الفتوى في الشريعة الإسلامية، (ص 94)، مرجع سابق.

([130]) الموسوعة الفقهية الكويتية، (32/ 40)، ط. وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية– الكويت. وصناعة الإفتاء، (ص 59).

([131]) أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح، (ص 139)، مرجع سابق. وآداب الفتوى والمفتي والمستفتي، للنووي، (ص48)، مرجع سابق.

([132]) صفة الفتوى والمفتي والمستفتي، لابن حمدان، (ص 246)، مرجع سابق.

([133]) أدب الفتيا، للسيوطي، (ص 38)، ط. دار الآفاق العربية.

([134]) الفتيا ومناهج الإفتاء، للأشقر (ص 79).

([135]) العقد التليد في اختصار الدر النضيد، للعلموي، (ص 198)، ط. مكتبة الثقافة الدينية، الطبعة الأولى ١٤٢٤هـ- ٢٠٠٤م.

([136]) أصول الفتوى والقضاء في المذهب المالكي، للدكتور محمد رياض، (ص 240)، ط. مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة: الأولى، سنة 1996م.

([137]) صناعة الإفتاء، (ص 58)، مرجع سابق.

([138]) شرح منتهى الإرادات، للبهوتي (3/ 484)، ط. عالم الكتب- بيروت، الطبعة الأولى، سنة ١٤١٤هـ- ١٩٩٣م.

([139]) كتابة البحث العلمي صياغة جديدة، لعبد الوهاب بن إبراهيم أبو سليمان، (ص 188)، ط. دار الشروق للنشر والتوزيع، الطبعة السادسة، سنة ١٤١٦هـ- ١٩٩٦م.

([140]) أصول كتاب البحث العلمي وتحقيق المخطوطات، للدكتور يوسف المرعشلي، (ص 75)، ط. دار المعرفةـ بيروت، الطبعة الأولى، سنة 1424هـ- 2003م.

([141]) كتابة البحث العلمي صياغة جديدة، لعبد الوهاب بن إبراهيم أبو سليمان، (ص 188)، مرجع سابق، ومما يُحكى عن المبرد قوله: ليس أحدٌ في زماني إلا وهو يسألني عن مشكل من معاني القرآن، أو مشكل من معاني الحديث النبوي، أو غير ذلك من مشكلات علم العربية، فأنا إمام الناس في زماني، وإذا عرضت لي حاجة إلى بعض إخواني، وأردت أن أكتب إليه شيئًا في أمرها أحجم عن ذلك؛ لأني أرتب المعنى في نفسي، ثم أحاول أن أصوغه بألفاظ مرضية؛ فلا أستطيع ذلك.

([142]) الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري، لابن بشر الآمدي، (1/ 425)، ط. دار المعارف، ومكتبة الخانجي.

([143]) المرجع السابق (1/ 425).

([144]) انظر: الشرح الكبير للشيخ الدردير، 2/ 228، ط. دار إحياء الكتب العربية، مع حاشية الدسوقي، التوقيف على مهمات التعاريف للمناوي ص 57، ط: عالم الكتب.

([145]) انظر: “سير الملوك”، (ص 233، ط: دار الثقافة، بتصرف يسير).

([146]) انظر: المبسوط، (14/ 18، ط: دار المعرفة -بيروت).

([147]) انظر: “الأحكام السلطانية”، (ص 198، ط: دار ابن قتيبة -الكويت).

([148]) إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم، (4/ 136)، مرجع سابق.

([149]) أصول الفتوى والقضاء في المذهب المالكي، للدكتور محمد رياض، (ص 240)، مرجع سابق.

([150]) إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم، (4/ 136)، مرجع سابق.

([151]) أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح، (ص 134)، مرجع سابق.

([152]) إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم، (4/ 136)، مرجع سابق.

([153]) قواعد الفقه، للمجددي البركتي، (ص 582- 583)، ط. الصدف ببلشرز – كراتشي

الطبعة الأولى، سنة ١٤٠٧هـ- ١٩٨٦م.

([154]) التعريفات، للجرجاني، (ص 20). ط. دار الكتب العلمية بيروت -لبنان، الطبعة الأولى، سنة ١٤٠٣هـ- ١٩٨٣م.

ومثل للاستطراد: بأن يذهب الرجل إلى موضعٍ مخصوصٍ صائدًا، فعرض له صيد آخر فاشتغل به وأعرض عن السير إلى ما قصد من الصيد الأول، وأشباه ذلك. ينظر: فتوح الغيب، للطيبي (12/ 625)، ط. جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم، الطبعة الأولى، سنة ١٤٣٤هـ- ٢٠١٣م. وكشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، للتهانَوِي (1/ 156)، ط. مكتبة لبنان ناشرون – بيروت، الطبعة الأولى سنة ١٩٩٦م.

([155]) التوقيف على مهمات التعاريف، للمناوي، (ص 48)، ط. عالم الكتب، القاهرة، الطبعة الأولى، سنة ١٤١٠هـ-١٩٩٠م.

([156]) بغية الإيضاح، لعبد المتعال الصعيدي، (4/ 591)، ط. مكتبة الآداب، الطبعة السابعة عشرة، سنة ١٤٢٦هـ-٢٠٠٥م.

([157]) منهج البحث العلمي بين الاتباع والإبداع، للدكتور أحمد الخطيب (ص 131)، ط. مكتبة الأنجلو المصرية.

([158]) البحث الأدبي بين النظر والتطبيق، لعلي صبح، (ص 101)، ط. الطبعة الأولى.

([159]) كتابة البحث العلمي صياغة جديدة، لعبد الوهاب بن إبراهيم أبو سليمان، (ص 27)، مرجع سابق.

([160]) كتابة البحث العلمي صياغة جديدة، لعبد الوهاب بن إبراهيم أبو سليمان، (ص 27)، مرجع سابق. والبحث العلمي أساسياته النظرية وممارسته العملية، للدكتور رجاء وحيد دويدري، (ص 440)، ط. دار الفكر المعاصر-بيروت-لبنان، دار الفكر-دمشق-سورية، الطبعة الأولى سنة ٢٠٠٠م.

([161]) إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم، (4/ 125)، مرجع سابق.

([162]) العقد التليد في اختصار الدر النضيد، للعلموي، (ص 202)، مرجع سابق.

([163]) الفتيا ومناهج الإفتاء، للأشقر (ص 75).

([164]) أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح، (ص 141)، مرجع سابق. وصفة الفتوى والمفتي والمستفتي، لابن حمدان، (ص 251)، مرجع سابق.

والسبب في ذلك، كما ذكره الماوردي: “ولا يعدل إلى الإطالة والاحتجاج؛ ليفرق بين الفتوى والتصنيف، ولو ساغ التجاوز إلى قليل لساغ إلى كثير، ولصار المفتي مدرسًا، ولكل مقام مقال” أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح، (ص 141)، مرجع سابق.

وذكر ابن الصلاح في رده على منع الاستدلال في صياغة الفتوى: “ليس بمنكر أن يذكر المفتي في فتواه الحجة إذا كانت نصًّا واضحًا مختصرًا مثل أن يسأل عن عدة الآيسة، فحسن أن يكتب في فتواه: قال الله تبارك تعالى: {وَٱلَّٰٓـِٔي يَئِسۡنَ مِنَ ٱلۡمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمۡ إِنِ ٱرۡتَبۡتُمۡ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَٰثَةُ أَشۡهُرٖ}.

وفيما وجدناه عن الصيمري قال: لم تجرِ العادة أن يذكر في فتواه طريق الاجتهاد، ولا وجه القياس والاستدلال، اللهم إلا أن تكون الفتوى تتعلق بنظر قاضٍ فيومئ فيها إلى طريق الاجتهاد، ويلوح بالنكتة التي عليها بنى الجواب، أو يكون غيره قد أفتى فيها بفتوى غلط فيها عنده، فيلوح بالنكتة التي أوجبت خلافه ليفهم عذره في مخالفته.

قلت: وكذلك لو كان فيما يفتي به غموض فحسن أن يلوح بحجته، وهذا التفصيل أولى مما سبق قريبًا ذكره عن القاضي الماوردي من إطلاقه القول: بالمنع من تعرضه للاحتجاج، وقد يحتاج المفتي في بعض الوقائع إلى أن يشدد ويبالغ فيقول: هذا إجماع المسلمين، أو لا أعلم في هذا خلافًا، أو فَمَنْ خالف هذا فقد خالف الواجب وعَدَلَ عن الصواب، أو فَقَدْ أَثِمَ وفَسَقَ، أو: على ولي الأمر أن يأخذ بهذا ولا يهمل الأمر وما أشبه هذه الألفاظ على حسب ما تقضيه المصلحة وتُوجِبُه الحال”. ينظر: أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح، (ص 151)، مرجع سابق.

([165]( أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح (ص130)، مرجع سابق. وصفة الفتوى والمفتي والمستفتي، (ص 44)، مرجع سابق. وإعلام الموقعين عن رب العالمين: (4/ 177- 179)، مرجع سابق.

([166]( أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح (ص130- 131)، مرجع سابق.

([167]( أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح (ص 135)، مرجع سابق. والمجموع شرح المهذب، للنووي (1/ 48)، مرجع سابق. وصفة الفتوى والمفتي والمستفتي، لابن حمدان (ص 58)، مرجع سابق.

([168]( أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح (ص 213)، مرجع سابق.

([169]( أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح (ص 153)، مرجع سابق. وصفة الفتوى والمفتي والمستفتي، لابن حمدان (ص 67)، مرجع سابق.

([170]( أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح (ص 153- 154)، مرجع سابق. وصفة الفتوى والمفتي والمستفتي، لابن حمدان (ص 44- 45)، مرجع سابق.

اترك تعليقاً